يكتب القاص السوداني بلغة آسرة صافية تستخدم العامية بحذاقة أعطت نكهة مميزة محلية لتفاصيل الحدث، مصوراً كيف تتجلى الخرافات في مجتمعاتنا العربية حيث يجري ترسيخها من خلال لعب وحيل يقوم بها شخص ما لخداع الناس البسطاْ والنصب عليهم.

براءة أبوشَرا من ذهب نفيسة

قمرالدين علي محمد

 

يا اب شرا تعمي عيون البنات كلهن من حسَّان ود علوية وتعمي عيونه منهن كلهن الا أنا ، يا اب شرا زراعتي السنة لو ختاها الكعوك بجيبْ لَكْ اردب سمسم ، يا اب شرا خلي الراجل المغضوب دا يطلق المرا الفتّانة دي ، يا اب شرا تفِك ساجوري وتجيب لي ود الحلال قبل العيد ، يا اب شرا تفتح لي باب الرزق ، يا اب شرا تجمع لي بي بقراتي الانسرقن ، يا اب شرا تـ............

كل مطالب الشعب وجدوها مكتوبة على جدران القبة من الداخل بلغة عامية بسيطة ، وفي مركزها ضريح الشيخ يوسف أبوشرا المتوفى قبل أكثر من قرنين من الزمان وهو عبارة عن سياج حديدي محيط بالقبر ومغطى من الجوانب ومن أعلى بخامة سميكة من قماش أخضر ، تجولوا حوله لمدة تزيد عن خمس دقائق بحثاً عن ذلك الشيء الذي يجعل الدراويش لا يكفون عن الصياح والبكاء كل ما دخلوا لكنهم لم يجدوا شيئاً فخرجوا وهم على يقين أن الدراويش ليسوا إلا أنصاف عاقلين .

قال ناجي : رايكم شنو نمشي نعوم في النيل طالما المواصلات اتعكّسَت ؟

قال كرفاس : أنا موافق .

قال بشير : فكرة حلوة لكن أنس المصيبة دا وين اختفى ؟

وضع كرفاس بُنصُر وإبهام يده اليمنى في فمه ليصفِّر لأنس فالصّفَّارة هي أداة النداء المتعارف عليها بينهم لكن السيارة التي توقفت بلا صوت على بعد خطوات منه جعلته ينسى يده في فمه دون أن يفعل بها شيئاً ، نزل منها أربع نساء وصل عطرهن إلى أنفه قبل أن تلتقط عيناه بريق وجوههن ، اتجهن نحو الباب الذي خرجوا منه ، لم يصفّر ولن يفعل فقد أسالت فتاة من بين النسوة لعابه فسقط الأصبعان من فمه دون أن يشعر .

دخل النسوة وأحطن بالضريح كما يحيط السوار بالمعصم وبدأت كل واحدة منهن تشكي نوائب دهرها على حدا ، وبعد أن أنهين تلاوة مطالبهن وصمتْنَ سمعن صوتاً أجشّاً وواضحاً داخل الضريح :

أبشرن بالخير أغراضكن كلها انقضت أبشرن .

صرخت الفتاة فاحتضنتها المرأة التي بجانبها وزغردت فخرج البقية من رهبتهن وزغردن معها ، جاء ناجي وبشير وكرفاس مهرولين ليروا ما حدث بالداخل ، سألوا امرأة كانت تحتضن الضريح عمّا حدث فزغردت وأخبرتهم أن الشيخ أبوشرا خرج من قبره وتحدّث أليهن ، وأردَفت أخرى : الشيخ اتبيَّن وانا هسة سامعة أنفاسو برة القبر !

في تلك اللحظة أدخلت إمرأة أخرى يدها من تحت القماش لتأخذ حفنة من تراب القبر لتتبرك به فشعرت بأحد قبض يدها وسمع الجميع ذات الصوت الأجش الواضح :

ما تخافي يا فقيرة واقري الورقة دي .. وابشرن بالخير أغراضكن كلها انقضت .

زغردت مرة أخرى وصرخت الفتاة مرة أخرى ، تزايدت الزغاريد بوتيرة متصاعدة كلحن أوبرالي ، فتحت المرأة الورقة ويدها ترتجف وهي تزغرد وصوتها يرتجف أيضاً ، قرأت المكتوب فيها وألقتها على الأرض وبدأت بالصياح :

- يا كرفاس .. كرفاس كرفاس .

سمعها كرفاس من ندائها الأول لكن الدهشة ألجمت لسانه ، وقال في نفسه من أين عرفت إسمي ؟ ، ولما لم يجبها ضربته على كتفه وسألته :

- انت مش اسمك كرفاس ؟

- وانتي من وين بتعرفيني ؟

- الشيخ اب شرا وصفك وقال نديك الكرامة وانا دي نفيسة بت جادين دهبي كلو ليك والنسوان ديل اي واحدة منهن بتديك كرامتها .

وضع كلتا يديه على رأسه واتجه للخارج ، فإذا بهن يلحقن به ومن خلفهن ناجي وبشير بعد أن أخذ الورقة الملقاة على الأرض وقرأها وابتسم خلسة وهو يدسُّها في جيبه .

لم يستطع أحد أن يمنعهن من تنفيذ أمر صاحب الضريح ، أعطين كرفاس عدداً مقدراً من الأساور والسلاسل الذهبية والنقود وركبن سيارتهن ومضين وهن يزغردن .

ذهب كرفاس ورفيقاه وهم ما يزالون موغلون في الصمت .

فجأة تذكر كرفاس أن الفتاة احتضنته وقبّلته في عنقه فلمس عنقه بباطن يده فالتقطت بقايا قبلتها وبعض اللون الذي سقط من شفتيها ... جثا على ركبتيه وقال : يارب ليه طلعتني من الجنة بعد ما دخلتني فيها !

ضحك بشير وناجي وواصلا سيرهما وهو خلفهما يحاول عبثاً لعق عنقه بلسانه .

أخذوا وجهتهم من الناحية الأخرى للقبة فإذا بهم يجدوا أنس يجلس بانتظارهم قرب نافذة القبة الخلفية وهو يتصبب عرقاً ومترَّب كأنه ميِّتٌ بُعِث للتَّو !

*****
5/نوفمبر/2017