يصور القاص العراقي في نصه القصير ما يحيط فعل عاصف كالإقدام على الانتحار احتجاجا على قيم مجتمعٍ مغلق يسمح بكل شيء العنف والكراهية ولا يسمح بالحب. هذه البيئة تعامل وتهمل مثل هذه الأفعال التي تحاول تحرك بركة القيم والعادات التي توخمت وعادت ضد الوجود البشري.

نعمة النسيان

 

انتحرت شابة في العشرين تقريبا. بالطبع ، انتشرت بعض الاشاعات حول هذا الفعل المروّع، لكن لا أحد أورد سببا مؤكدا وواضحا.

وفي الحقيقة، لم تكن هذه الواقعة، هي الأولى، لقد هزت مثل هذه الحوادث المدينة مئات المرات، إنها أشياء تشبه الفقاعات، تتأرحج في الهواء لفترة وجيزة، يتفرج السكان عليها باضطراب أولا، ثم يهمس البعض بأشياء لاتبدو مريحة، هناك من يصيبه الضجر بسبب النقاشات العقيمة، بعضهم يتحمس، بعضهم يتعاطف، ثم تنفجر الفقاعة أخيرا، وهذه اشارة عن انتهاء الحفلة، ثم ينسى الجميع كلّ شيء .

ولم تكن الواقعة في ذلك النهار، من النوع الذي يترك أثرا. في الواقع لاشيء يترك أثرا في قلوب سكان هذا الجزء من العالم، حتى الوقائع الفاصلة، تلك التي تحرق في مرورها الأخضر واليابس، لاتمكث الا بمقدار من الوقت، هي فترة الإسترخاء الذي تسبق وصول عاصفة جديدة.

ومن بين الإشاعات في ذلك اليوم، قالوا انها عاشقة، ولم يقل أحد انها عاهرة ، ربما احتراما لوقع الموت، قالوا أيضا: شابة فكرت مع نفسها بالهروب مع حبيبها، وهذا لايصح أبدا.

وفي الواقع، هي لم تفكر وحسب، قالت شيئا غامضا لأختها. ثم وجدوها في الحمام ، وجدوها متفحمة ، لقد أحرقت نفسها، أو ربما قام أحد بمساعدتها بدافع تسهيل الأمر عليها، من يدري، حتى لايتسلل إلى قلبها الخوف فتتراجع في النهاية عن قرارها، لقد ساعدوها وحسب، هذا كل شيء.

وعلى كل حال، كانت الواقعة مؤثرة بدرجة ما، في أول وقوعها، على الأقل لأن فعل الهروب لم يتحقق، بل كان مجرد فكرة جريئة فقط، دارت في الرأس دورتين او ثلاث ولم تقم البنت بحركة واقعية لتنفيذها

- الحب اعمى!.

قالت امرأة من الجيران، ثم أطلقت تنهيدة ، لكنها انتبهت أن جملة مثل هذه لايجب أن تقال. الجو كان عاطفيا جدا، ومليئا بالحماسة المكتومة، انها في الواقع حادثة شديدة الحساسية رغم تكرارها، ولكن ينبغي الالتزام رغم ذلك بأعلى درجات ضبط النفس عند التصريح بخصوصها.

لم يذع التلفزيون المحلي الخبر، لم يكتب أحد في الصحف شيئا. ثم نُقِلَتْ الجثة المتفحمة بعد ساعتين بصمت في سيارة وحيدة الى المقبرة. اعتقلت الشرطة الأخ الصغير للبنت من أجل التحقيق. وفي فترة مابعد الظهر، غرق الجيران بمشاغلهم.

وعند الساعة الخامسة، حل الظلام، الامهات انشغلن باعداد العشاء، في الساعة التاسعة عاد االأزواج من المقاهي، وكان الأولاد فد أنهوا واجباتهم المدرسية، ثم بدأ المسلسل التلفزيوني.

الحقيقة كان الناس يتابعون بحماسة الأعمال الفنية، هذا المسلسل خاصة، كان عملا رائعا بالفعل، ومثيرا، حيث تحرك فيه العشاق بحرية وخفة أمام أبصار الآباء والامهات السعداء. كل شيء في الحوار كان طبيعيا وغير مثير للإستنكار، على العكس، كان الجميع متفقين على أن الحب شيء عادي ، عاديّ تماما ورائع ، لكن في الأفلام والمسلسلات فقط، وليس في الواقع، هذه هي الفكرة الآمنة التي يجب فهمها.

ثم بدأت تمطر، انطلقت ضحكات عالية من أحد البيوت. مر سكران في الزقاق، كان يغني شيئا يتضمن كلاما بذيئا كما عبر عنه أحد الرجال. وفي اول الزقاق توقف شاب لفترة وجيزة، كان مبللا، تحرك عشر خطوات، ثم سقطت ورقة مطوية مغلفة بكبس نايلون من شباك في الطابق الثاني لأحد البيوت.

وعند منتصف الليل، نام الجميع، الجيران بل وسكان المدينة الذين سمعوا بواقعة الانتحار جميعهم، ناموا لساعة ثم حلموا بصراخ يأتي من مكان ما في قاع العالم، صراخ ورائحة لحم مشوي، فزوا مرات عديدة، شربوا الماء وتعوذوا من الشيطان ثم عادوا الى أسرّتهم.

وفي صباح اليوم الثاني، ذهب الرجال الى العمل، النساء الى السوق، الاطفال الى المدارس. لم يتحدث أحد بشأن واقعة الانتحار، في الحقيقة أن هذه المدينة محظوظة بالفعل ، فقد أنعم الله عليها بشيء رائع هو النسيان.