في كلمات روزا ياسين حسن حول رحيل الفنانة السورية مي سكاف في منفاها الباريسي، تأكيد على أن رحيل مواطنتها لا يتعلّق بالحديث عن ممثلة مرموقة تحدّت المؤسسة الثقافية الرسمية وممثليها فحسب، بل برحيل معارضة رسّخت حضور الفن في الثورة السورية.

مي سكاف: نلتقي يا عزيزتي في عالم أجمل!

روزا ياسين حسن

في منفاها في باريس، حيث تقطن منذ أعوام قليلة، رحلت الفنانة السورية مي سكاف عن عمر 49 عاماً. لم ترحل وحيدة ولكن حزينة ومتعبة على الرغم من المشاريع الكثيرة التي كانت تحضّر لها.

فالأمر لا يتعلّق بالحديث عن ممثلة لطالما تحدّت المؤسسة الثقافية الرسمية وممثليها فحسب، بل برحيل معارضة رسّخت حضور الفن في الثورة السورية، وذلك بمشاركتها فيها منذ اندلاعها في آذار 2011، حين شكّلت مثالاً من أمثلة الحرية والشجاعة، الأمر الذي جعل الكثير من الشباب السوري الذي أحبها، وأحب حضورها المحبب، يطلق عليها: "أيقونة الثورة" أو "الثائرة الحرة". لم تكن مي على الرغم من الخيبات المتتالية يائسة، بل كانت تحاول المواصلة في المنفى إن عبر عملها مع الكثير من السوريين هناك، كما حصل مع (تظاهرة الكيماوي) التي أطلقتها في حديقة لوكسمبورغ بباريس، أو عبر مجموعة من المشاريع الفنية، كانت آخرها مسرحية تجسّد معاناة السوريات المغتصبات لم يقدّر لها أن ترى الضوء.

العنفوان والتحدي الذي جبلت عليه مي سكاف، هو ما جعلها تؤسس معهد تياترو لفنون الأداء المسرحي في دمشق العام 2004، وقد بدأ بصالة صغيرة في حي الشهبندر الدمشقي استأجرته على حسابها الخاص، الأمر الذي قام به قليل من الفنانين السوريين، قبل أن ينتقل بسبب التضيقات الأمنية عليه إلى حي القنوات، ثم إلى جرمانا، حتى أغلق تماماً في بدايات العام 2012.

لم تدرس مي الفن أكاديمياً، لكن موهبتها الواضحة جعلت المخرج ماهر كدو يختار تلك الطالبة الشابة، التي كانت تؤدي دوراً مسرحياً على خشبه المعهد الثقافي الفرنسي بدمشق، لتفوز ببطولة فيلمه (صهيل الجهات) في العام 1991، كذلك اختارها المخرج عبد اللطيف عبد الحميد لفيلمه (صعود المطر). لتتوّج أدوارها السينمائية في فيلم المخرج محمد عبد العزيز (نصف ملغ نيكوتين) في سنة 2007. أما في المسرح فعلى الرغم من المشاريع الكثيرة التي عملت مي سكاف عليها إلا أنها عرضت مسرحية واحدة على مسرح القباني العام 2002-2003 بعنوان "الموت والعذراء"، للتشيلي أرييل دورفمان، وفيه جسّدت دور ناشطة تمّ اعتقالها واغتصابها في زمن بينوشيه.

في الأعمال التلفزيونية لم تكن أدوار مي سكاف طاغية وبطولتها مطلقة، ولكنها كانت متميزة للغاية خصوصاً في مسلسل العبابيد لبسام الملا 1996 والذي تأخذ فيه دور "الحسناء تيما" في مملكة تدمر، ومسلسل "جريمة في الذاكرة" 1992 لمأمون البني، والذي كتبه الراحل ممدوح عدوان عن رواية لأجاثا كريستي. وفي العام 1998 تألقت بدور يشبه شخصيتها المتمردة والحرة في مسلسل خان الحرير2 لهيثم حقي. مروراً بمسلسل "ربيع قرطبة"، "الأرواح المهاجرة"، "أهل الغرام"، "عمر" و"قيود روح"، وقد تكلّلت تلك المسيرة بآخر دور مؤثر أدته في مسلسل أوركيديا 2017: "العرافة كاف".

منذ انطلاقة الثورة السورية وقفت مي سكاف بكل قوتها وعنفوانها لنصرة ثورة اعتبرتها ثورتها، فوقّعت على ما سمي (بيان الحليب) لنصرة درعا المحاصرة، وقد تعرّض الكثير من الفنانين الموقّعين عليه، ومنهم مي، إلى حملة مقاطعة وتشهير قادها نجدت أنزور. كما شاركت في الكثير من تظاهراتها السلمية (في تلبيسة وحماة مثلاً) وتجمعاتها المدنية (كتجمع سوريات لدعم الانتفاضة)، وتطوّعت مادياً، لتعتقل في ما سمي "مظاهرة المثقفين" في حي الميدان في تموز/يوليو 2011. ولم يطل اعتقال مي كثيراً ولكنها عانت الكثير من المضايقات الأمنية التي أعقبت ذلك، والتهديدات الدائمة التي طالتها وعائلتها. فقد تمت إحالتها إلى "محكمة الإرهاب" وأقرّ قاضي التحقيق بتأكيد التهم الأمنية المنسوبة إليها من نشر أنباء كاذبة والاتصال بقنوات أجنبية. ولكن مي لم تقرّر الخروج من الوطن هي وابنها جود، إلا بعد اعتقالها الثاني العام 2013 ليخرجا إلى الأردن أولاً، ثم إلى المنفى الباريس لتموت فيه في 23 تموز 2018.

مي سكاف فنانة حقيقية حلمت بعالم أجمل، بوطن يكبر ابنها فيه دون أن يكون رئيسه الطاغية بشار الأسد، وبسوريا يملكها السوريون وليس حزب البعث. آمنت بالثورة، حلمت بالحرية والعدالة، حلمت بالديمقراطية والمساواة، وكانت تأمل أن تعود إلى وطن يقدّر الجمال والفن الذي تعشقه، وكانت ماتزال تفكّر بالكثير لإنجازه لكن الموت كان أسرع، فغادرت دنيانا لتبقى روحها في الذاكرة مثالاً وقدوة وجمال.

الجميلة الحرة مي سكاف: نلتقي يا عزيزتي في عالم أجمل!