الحياة اليومية التي يعيشها الروائي العالمي المليئة بالرؤى والتصوّرات والإثارة الجمالية، وبالطروحات والأفكار والفلسفات الشخصية، يركز عليها هذا الكتاب المكون من حوارات طويلة وجامعة بارعة ومهمة،أجراها عدد من الصحافيين والكتاب المعروفين مع جمهرة واسعة من الروائيين العالميين.

فيزياء الرواية وموسيقى الفلسفة

حوارات مختارة مع روائيات وروائيين

هاشم شفيق

 

ليس ثمة من شغف أخاذ في الحياة الروائية، وفي عالم المُتخيَّل، أكثر من الغوص في حياة الروائي نفسه، وليس شخصياته، وابتكار أجواء حالمة وغامضة وسحرية وواقعية وفنطازية، ذلك أن كل ما يكتب وينجز من سرديات ومحكيات وأقاصيص خيالية وما ورائية، سواءً غاصت في تيار الواقعية السحرية، أو الأنماط الباروكية والكلاسيكية أو الواقعية والشكلانية، وما جلبته تيّارات وموجات وأساليب الحداثة السردية وما بعدها، أو في غيرها من الفن السردي، يعود إلى المُبتكر والخلاق والمُبدع، ألا وهو الروائي، ساردُ المرويات، ومؤلفها وصانعها وناسج الحبكات، وحابك عناصر التشويق، ومازجها في لغة تعبيرية روائية، تُمتع وتُلفت وتُدهش من يَطلع عليها، فهو مَن يستكنه الحوادث، والوقائع، والمجريات داخل النص الروائي، ليعيش في المُتخيَّل المحكي والمروي والمسرود بطريقة فنية، تحتمل الإغواء، أي إغواء القارئ إلى الدخول في عالمها المُتعدِّد الطبقات والشخصيات، واللافت في زمانه ومكانه وإحداثياته وتفاصيله الكثيرة المتناثرة بين سطور الرواية.
لكن الأمر لا يسير دائماً على نحو بارع وباهر وجميل، فثمة نصوص روائية وسردية وحكايات قد تكون عرضة للملل والإشاحة، ولا تثير مخيال القارئ الذكي واللبيب والمُتفحِّص والمُلم بخفايا السرود الروائية، وما أكثرها في عالم اليوم. فهناك روايات لا تحصى، عربية وأجنبية، مترجمة من مختلف بقاع الأرض، بعضها يمرُّ على اللغة العربية، ليضحي مترجماً بين يد القارئ العربي، هذا ناهيك عن السوق العربي المتخم اليوم بالرواية العربية.
جديدنا في هذا المجال، وكما أسلفنا في المطالع، هو الحياة اليومية التي يعيشها الروائي العالمي، كيف هي وكيف تكون؟ وهل ثمة أسرار لدى الشروع في كتابة رواية؟ وما هي الحوافز والدوافع والحاجات لكتابة رواية؟ أسئلة كثيرة تثير فضول القارئ حيثما كان للتعرف على الروائي مبدع النصوص الخيالية، من أمثلة كيف تكون حياته، وطرائق عيشه ووسائله في الكتابة وعاداته اليومية؟ عدد الساعات في الكتابة اليومية، متى يكتب؟ وأين؟ وفي أي بلدة وقرية وساحل بحري يكون أثناء لحظات الكتابة؟ وهل الكتابة وظيفة لها دوام رسمي محدَّد بساعات؟ كما يصف ذلك حائز جائزة نوبل الروائي التركي أورهان باموك هذه الحال، على أنها وظيفة، وثمة دوام يومي وجلوس يمتدّ لقرابة العشر ساعات يوميّاً، في شقة اشتراها لهذا الغرض، تُطل على البوسفور، وتبعد عن منزله قرابة النصف ساعة مشياً على الأقدام، فهناك حسب قوله يجد نفسه، وحياته، ويجد السعادة كاملة، حين يكون في شقته هذه، يعيش بين الكتب وبين شخصياته التي تتكاثر وتحاصره في هذه الشقة، كلما كثرت رواياته ازدادت شخصياته، لتنام وتأكل وتشرب معه، وتتقاسم وإياه هواجسه وأفكاره وحياته الشخصية والعائلية، وهو يكتب هناك على طاولته، في مكتبه الشخصي المُطل على أجمل منظر في العالم.
هذه العادات والتفاصيل اليومية، المليئة بالرؤى والتصوّرات والإثارة الجمالية، وبالطروحات والأفكار والفلسفات الشخصية، كلها سنقرأها في كتاب «فيزياء الرواية وموسيقى الفلسفة» الذي نقلته إلى العربية الروائية لطفية الدليمي. وهو عبارة عن حوارات طويلة وجامعة بارعة ومهمة، سنطلع عليها عبر أسئلة مثيرة، من قبل صحافيين وكتاب معروفين، أجروا حوارات مع جمهرة واسعة من الروائيين العالميين المشهورين، والمعروفين، وبعضهم نال جوائز رفيعة، كبيرة ليس أقلها جائزة نوبل. فالروائية البريطانية المشهورة، وغزيرة الإنتاج أريس مردوخ التي تستبعد سقوط السيرة الذاتية على أعمالها، نجدها تكتب بانتظام يومياً، وتخطط للكتابة، وتكتب ملاحظات، وتدوِّن أشياء وتفاصيل كثيرة عن عملها قبل الشروع بالكتابة، ويمتد أحياناً لمدة عام، وثمة مخطط تفصيلي لكل فصل، ومدوّنات لكل حوار.
أما «المرحلة الثانية في كتابة الرواية، فهي انك ينبغي أن تجلس بهدوء، وتدع الأشياء تكشف نفسها، منطقة في الخيال تقود لأخرى، تفكر مثلاً في حدث ما، ثم يقتحم شيء غير متوقع أجواءك، وبعدها ترى ان المسائل الجوهرية التي يحوم حولها العمل تكشف عن نفسها وتترابط مع بعضها، حتى ليمكن القول إن الأفكار تتطاير معاً، وتولد أفكاراً جديدة، والشخصيات تولد شخصيات».
الروائي الأمريكي المعروف بكتابة رواية الخيال العلمي، راي برادبوري، العصامي الذي يجد المكتبة العامة هي جامعته وكليته ومدرسته، فهو ينتقد في حواره أهمّ روائيَّيْن عالميَّيْن وهما جويس صاحب رائعة «يوليسيس» وبروست مبدع رواية «البحث عن الزمن الضائع» قائلاً «حاولت أن أقرأ بروست وأدرك جمال اسلوبه، لكنه يدفعني دوماً للنوم، لا محالة في كل مرة أقرأ عملاً له، ونفس الشيء ينسحب على جويس الذي لا أرى له أفكارا عديدة فيما يكتب، وأنا بطبيعتي ميال إلى عالم الأفكار، ولا أطيق وجودي في عالم لا أدهش بما يدور فيه من أفكار».
أما بخصوص الأدب الروسي، ذلك الأدب العظيم الذي ترك لنا إرثاً جمالياً مؤثراً وعالمياً، وأثر في مجمل التجارب الروائية العالمية، كأعمال تولستوي وديستويفسكي وتشيخوف وغوغول وتورغينيف، العمالقة الذين لا يمكن لأي أدب عالمي تجاهله أو عدم الاطلاع عليه، ولسليل هذه النخبة نقرأ لفيلاديمير سيروكين الأكثر شهرة، ومقروئية، والأكثر انتشاراً بين الكتاب الروس الحاليين الذين وسِمَتْ تجاربهم بالجديدة، وما بعد حداثية، ورواياته الديستوبية تحاكي القاع السفلي، في عوالم روسيا وتجارب السنوات الماضية التي تركت ظلالها على المجتمعات الروسية، والتي عُرِفَتْ في كتاباته بالواقع المرير. وعن هذه الصفة يقول: «مع نشر روايتي ثلاثية الثلج، يمكن وصف أعمالي اللاحقة لها بهذا الوصف ـ أي الواقع المرير ـ مع أنني لم أكن أرمي لهذا منذ شرعت في الكتابة. كانت غايتي عند البدء في معظم أعمالي هي إعادة النظر في تاريخ القرن العشرين من منظور غير متوقع، لأنني أرى أن هذا التاريخ ينطوي على الكثير من الكليشيهات الجاهزة والتي تضفي ضبابية على وقائع التاريخ المعروفة».
بينما الروائي النيجيري الشهير شينوا اتشيبي الذي يوصف بأب الأدب الأفريقي، فهو لا يجد من الضروري أن يلتزم بانضباط صارم في الكتابة، فهو يكتب متى ما وجد الرغبة في ذلك، وليس لديه وقت محدد للكتابة، ويعتبر الوقت المبذول لكتابة رواية كاملة يشبه عقوبة السجن لمدة قصيرة، وهو يكتب بالقلم والورقة، ويتجنب أو لا يعرف الكتابة بالكمبيوتر وما شابه. وعن سؤال حول مسألة الحبكة في الرواية يقول: «متى ما شعرت أن الرواية تمضي في سبيلها، وأنها قابلة للنمو فليس علي أن أقلق حينها حول الحبكة وثيمات الرواية، لأنهما سيأتيان بطريقة آلية تقريباً، لأن الشخصيات هي من يدفع الرواية قدماً إلى الأمام».
اتشيبي هو عكس الروائية ذائعة الصيت توني موريسون، حائزة جائزة نوبل، التي تنهض قبل الفجر من أجل الشروع بالكتابة، تكتب بالقلم الرصاص، وتشد العمل في تلك الأثناء، ومن ثم يتم نقل العمل إلى جهاز الكمبيوتر وكذلك يجري التنقيح على الجهاز نفسه.
وعن سؤال عما إذا أخرست إحدى شخصياتها التي تمادت تجيب: نعم لقد فعلت هذا في أحايين كثيرة، ولا تعود بعدها تلك الشخصيات تتحدث بصوت عال يشوش عليّ، ومن الضروري دوماً فعل هذا حتى لا تتغوّل الشخصيات وتتمدد على حساب الشخصيات الأخرى في العمل.
بيد أن نظيرها الفرنسي لوكليزيو الكاره للإعلام، بالضد من موريسون الناشطة في كل مكان، والموجودة الدائمة في المؤتمرات، هذا الرحالة والمغامر والمُحب للأقوام المهملة والمنسية، من القبائل والجماعات البدائية، يعتبر وجود البشر بين الطبيعة حقيقتهم الوحيدة، فهو لا يُحسن العيش إلا في البلاد المشمسة، ويُفضِّل الكتابة في القطارات التي تسير ببطء، كقطارات المكسيك مثلاً، هذا رغم أن كتابات لوكليزيو تتسم بالإيقاع والتموّجات الموسيقية.
لعل الحوارات التي تكشف شخصية الكتاب والروائيين، تعد من المتع القليلة، فثمة روايات لكتاب مشهورين لا تستطيع قراءتها لغموض رؤيتها، أو لتماديها في الشطح السريالي والفنطازي وإفلات الزمام أمام الخيال ليروي ويكتب ويقص، وعلى سبيل المثال الياباني هوراكي موراكامي، والمشهور برواياته العدمية، والتي تعمل في حقل الفنطازيا وكل ما يمت للكافكوية بصلة، ونستثني هنا روايته «الغابة النرويجية» المكتوبة بحس واقعي وكلاسيكي محكم وصارم، فهو كاتب مشهور وله قراؤه، ولكن له حياته الخاصة الخالية من الصداقة، فليس ثمة صديق له، وفي بداية حياته الأدبية كان له ناد للجاز يقدم فيه الكوكتيلات من المشروبات الروحية مع السندويتشات، ولكنه كتب الرواية في مطبخ البيت ونجح فيها، فهو يعتبر هذا الأمر هبة إلهية، وعليه أن يتواضع دائماً، فتخلى عن مهنته السابقة ليتفرغ إلى الكتابة، لتكون هي مُعينه الأول، فهو ينام في التاسعة ليلاً، لينهض في الخامسة فجراً ويشرع بعد ذاك في الكتابة. وهو مختلف عن مواطنه كازو ايشيغورو الذي نال نوبل هذا العام، فهو يختلط بالناس، فرواياته المكتوبة بحس مرهف تتحدث «عن الندم المشوب بروح تفاؤلية رقيقة وحاذقة»، وهذا الحس يبدو أنه متأت من كتابته للأغنية، فهو كاتب أغان معروف، اشترى اسطوانات أغانيه الملايين من المعجبين.
لكلّ طريقته وعمله في الكتابة، التركية أليف شافاق، صاحبة رواية «قواعد العشق الأربعون» فهي منضبطة في الكتابة، وتعزو للموهبة 12 في المئة وللصبر والدأب ومواصلة الكتابة بجَلَد 80 في المئة، أما الثمانية الباقية فتعزوها للحظ وللطاقات التي تقع خارج الإرادة البشرية. بينما الأمريكي فيليب روث يعد الكتابة جحيماً مطلقاً، أن تقضي طيلة حياتك تكتب منعزلاً عن العالم وبشكل يومي، ومن هنا اعتزاله لها في السنوات الأخيرة، وهو ينصح الشباب أن يجدوا مهناً أخرى غيرها، ويبتعدوا عنها.
بيد أن مبدعين آخرين يجدون فيها عزاءهم اليومي، وخبزهم أيضاً، ولهم حكايات جميلة وممتعة عن طرائق الكتابة بشكل يومي ودؤوب، فمثلاً بول أوستر، الأمريكي من أصل روماني، يكتب بقلم الحبر، ويُصحِّح بقلم الرصاص، ويرتعب من الكتابة على أجهزة الكمبيوتر، فهو يجد ثمة رابط فيزيائي بين القلم الذي يحفر في الورقة، والروح، ويحس أن الكلمات تخرج من أعماقه حين يكون على تماس مع الورقة.
أتسم الكتاب بالتنوع الأسلوبي والجندري والجغرافي، ولضخامته اتسع لأسماء عديدة، فتجد أحيانا حوارين للروائي نفسه، غير مكرّرين، ولكل حوار صيغته البنائية، وأجوبته المختلفة، السلسة والمثيرة.

 

حوارات مختارة مع روائيات وروائيين:
«فيزياء الرواية وموسيقى الفلسفة»
ترجمة لطفية الدليمي
دار المدى، بيروت 2016
582 صفحة


جريدة القدس العربي