يسعى الكاتب المغربي هنا إلى التعرف على سر الاهتمام الشعبي بيوم عاشوراء، ويرصد مختلف أشكال الاحتفاء به، وكيف تجتمع فيها النقائض. بصورة تكشف لنا عن أهمية هذا اليوم في التقويم الهجري منذ أيام الرسول، وقبل أن يتركز على طقوس الندم الدامية على التخلي عن الحسين عند الشيعة.

«عاشوراء» في المغرب بين الشعوذة والعادة والعبادة

الكبير الداديسي

 

في العاشر من شهر محرم الحرام الذي صادف هذه السنة 20 شتنبر يحتفل المغاربة كما باقي المسلمين في مختلف البقاع بيوم عاشوراء، فإذا كان يوم العاشر من محرم الحرام حسب العديد من المصادر، قد شهد أحداثا عظيمة معظمها له دلالات دينية لدرجة قد يحتار العقل كيف كتب لكل هذه الأحداث أن تقع في اليوم العاشر من محرم، وإذا صح بعضها استحق هذا اليوم أن يكون أعظم أيام السنة دون منازع. فمما يروى عن هذا اليوم كونه اليوم الذي تاب الله فيه على آدم، وهو اليوم الذي نجى الله فيه نوحا وأنزله من السفينة، وفيه أنقذ الله نبيه إبراهيم من نمرود، وفيه رد الله يوسف إلى يعقوب، وهو اليوم الذي أغرق الله فيه فرعون وجنوده ونجى موسى وبني إسرائيل، وفيه غفر الله لنبيه داود، وفيه وهب سليمان ملكه، وفيه أخرج نبي الله يونس من بطن الحوت، وفيه رفع الله عن أيوب البلاء وهو اليوم الذي قُتل فيه حفيد النبي وثالث أئمة آهل البيت الإمام حسين بن علي في كربلاء.

وإذا كانت كل هذه الأحداث وغيرها قد وقعت في هذا اليوم فإنه يستحق أن يكون الاحتفال به إنسانيا وعالميا وليس مقصورا على المسلمين وحدهم ... ونظرا لما لهذا اليوم من شحنات دينية فالمغاربة جعلوا هذا من هذا اليوم ملتقى لكل التناقضات: الفرح والحزن، والماء والنار، العبادة والشعوذة، الالتزام والحرية، السنة والشيعة .... فأين يتجلى كل ذلك في احتفالات المغاربة بعيد عاشوراء؟

أهم احتفال دون عطلة:
على الرغم من الاحتفالية العارمة التي يشهدها الشارع فالمغاربة لا يعتبرون عاشوراء عيدا دينيا رسميا لأن الأعياد الدينية في المغرب ثلاثة (عيد الفطر، عيد الأضحى وعيد المولد النبوي) كما أن يوم 10 محرم ليس يوم عطلة .. ومع ذلك فهم يولون هذا اليوم مكانة لا يحظى بها غيره من الأعياد الوطنية والدينية، فتمتلئ الأسواق ببضائع لا تعرض إلا في عاشوراء، وتوزع الزكاة، وتعم الاحتفالات، وقد تدوم هذه الاحتفالات طيلة عشرة أيام الأولى من محرم (العواشر) ليلا ونهارا تتعطل فيها العديد من الأعمال المنزلية دون الأعمال الإدارية. ويكثر فيها الرواج التجاري. وتظهر تجارة موازية خاصة بالآلات الموسيقية والفواكه الجافة والحلويات وغيرها من البضائع المرتبطة بالحفلات.

النار والماء:
ما يميز عاشوراء عند المغاربة (الشعالة) و(زمزم)؛ ففي ليلة 9 محرم يتم إشعال النار في مختلف الأحياء والمداشر في المدن والقرى، وقد يستعد الأطفال والمراهقون للشعالة أياما، يبدأ مع فاتح محرم أو قبله بجمع الحطب وفروع الأشجار البرية: يجتمع صبيان وفتيان وشبان الدوار ويصعدون الجبل ولقطع أغصان الأشجار (السدر والطلح والزيتون البري ..) وهم يرددون عبارات مرتبطة بالحدث مثل (طايفة تمشي وتجي على قبر مولاي علي) وليلة التاسع من شهر محرم تخرج بعض القبائل عن بكرة أبيها للاستمتاع بالشعالة والتباهي بأكبر شعالة، وبمن يستطيع القفز فوقها والعمل على إطالة أمدها مشتعلة. وكثيرا ما يظل الأفراد في بعض القبائل يسمرون بالقرب منها إلى أوقات متأخرة من الليل، وفي صباح اليوم الموالي ينقلب الوضع من النار إلى الماء يطلق المغاربة على الظاهرة اسم (زمزم) وهو طقس لا علاقة له بالبئر زمزم إلا من جهة الماء، وهو طقس دأبت عليه عدة مدن وقرى بالمغرب يسمح فيه للناس برش بعضهم بعضا بالماء: فمن الأمهات من توقظ أطفالهن برشهن بالماء، وقد يبدأ التراشق بالماء داخل الأسر أو بين الجيران قبل أن تنتقل عدواه لكل الأزقة والدروب. وقد يتخذ شكل تحرش بالفتيات والنساء خاصة وقد يحول إلى انتقام من بعضهن، فترى المياه تصب على المارة من فوق السطوح أو من النوافذ لكن هذا الطقس بدأ يتراجع في السنوات الأخيرة.

الفرح والحزن:
إذا كان يوم عاشوراء في عدد من البلدان المشرقية مرتبط بالحزن والبكاء (عند الشيعة خاصة الذين يعتبرونه يوم العزاء في الحسين) فإن المغاربة يمزجون بين الفرح والحزن في هذه المناسبة: يظهر الحزن في بعض الأهازيج التي تبكي على (بابا عاشور) الذي ذهب ليصلي وسقط في النهر (بابا عاشور مشى يصلي وداه الواد) وترك كالعذارى تبكي عليه (واحي على عيشوري، عليك نتفت شعوري، وشعوري قد النخلة = آه عليك يا عاشور بكاء عليه نتفت شعري) مع الإشارة أن النساء كن يشخصن بابا عاشور في شكل قصبة مزينة بلباس امرأة.

وقد تتجلى بعض مظاهر الحزن في زيارة المقابر لكن حزن المغاربة منحصر في الغناء والأهازيج فقط، إذ مظاهر الحياة أيام عاشوراء تعج بالأفراح والهدايا والآكل وتزين النساء بالكحل وبأحلى الملابس، ويخضبن أيديهن وأرجلهن وشعرهن بالحناء (عيشوري عيشوري وعليك دليت شعوري) كما تغص الأزقة والدروب ليلا ونهارا بمجموعات من الشابات والشبان يضربون بالتعاريج والدفوف والبنادر (التي تحقق أعلى مبيعات لها) يردون أغاني خاصة بالمناسبة، دون أن يفرض على الفتيات أي قيد أو شرط فالمناسبة مناسبة حرية الفتاة (هذا عاشور ما علينا الحكام أللا .. فعيد الميلود كيحكمو الرجال أللا = لا حكم على النساء في عاشوراء وفي عيد المولد النبوي يحكم الرجال…)

الصوم والأكل:
ثنائية أخرى تميز عاشوراء بالمغرب هي الصوم والأكل. ففي الوقت الذي يفضل فيه البعض صيام يوم عاشوراء، يكون لليوم مأكولات خاصة حيث تمتلئ الأسواق بالتمور والفواكه الجافة من تين وتمر وجوز ولوز وكاكاو وحمص وحلوى، وهذه الفواكه معروفة عند عامة الناس في المغرب بـ“الفاكية”، ويخلق إقبال الناس على شرائها رواجا كبيرا؛ حيث يعتبر اقتناؤها لدى الأسر المغربية أحد لوازم الاحتفال. ويعد استهلاكها وتفريقها على الأهل والجيران وأطفال الحي مظهرا من مظاهر الاحتفاء بعاشوراء. بالإضافة إلى الفواكه الجافة يخص المغاربة المناسبة بأكلات خاصة أهمها الذيالة والكسكس بسبع أخضاري، أو هربر والتريد والدجاج البلدي والرفيسة .والقديد والكرداس وبذلك تكون عاشوراء مناسة للأكل وفي ذات الوقت مناسبة للصيام.

الدين والشعوذة:
على الرغم من كون يوم عاشوراء يوم دين بامتياز لارتباطه بعدة أحداث تاريخية، فإنه يعرف أيضا إقبالا كبيرا على الشعوذة والسحر، فإذا كان الدين يتجلى في الصوم وإخراج الزكاة (تزكية المال والأنعام بالتصدق بعشر الأموال التي مر عليها حول كامل) فإن مظاهر السحر والشعوذة في هذا اليوم متنوعة إذ يكثر الإقبال على العطارين وبائعي البخور، وتكون الشعالة مناسبة للإحياء بعض هذه الطقوس. "إذ تستغل بعض النسوة هذه الفرصة بالذات من كل سنة ليلقين مواد غريبة في النار المشتعلة، وتكون غالبا عبارة عن بخور ووصفات تشتمل على طلاسم وتعويذات، حتى يضمن بلوغ أهدافهن ويحققن مرادهن إلى أن تحل عاشوراء السنة الموالية، وأغلب تلك الأعمال والصنائع السحريــــة تتركز إما رغبة المرأة في "ترويض" زوجها وإجباره على طاعتها، وإما البحث عن رجل بالنسبة لغير المتزوجة أو العانس؛ إذ تلقي العانس جزءا من أثر الرجل الذي تريده زوجا لها (شيء من ثيابه أو شعر رأسه أو جسده، أو حبات تراب وطئتها قدمه..) في النار الملتهبة .. ومن الفتيات من يرغبن في كسب شَعر جميل وقوي، يدخلن طرفا من شعورهن في خاتم فضي، ويقطعن ما فضل منه، ويرمينه في نار ”شعالة ويوم عاشورا هو اليوم المفضل لحرق (الشرويطة) والمغاربة يعرفون جيدا معنى الشرويطة.

الشيعة والسنة:
الأكيد أن عددا من المسلمين يدركون الطقوس الشيعية في هذا اليوم؛ خاصة ما يرتبط بالحزن والبكاء على الحسين ومسرحة أحداث مقتله. وإن كان هذا الحزن عند الشيعة يتخذ مظاهر تتجاوز الحزن إلى جلد الذات، فإنه في بلد سني كالمغرب يقتصر الحزن على الأهازبج وبعض أغاني المحتفلين، مع حضور قوي لمظاهر الفرح، خاصة فرح الأطفال، فتكاد تكون عاشوراء مناسبة الأطفال بامتياز، ومناسبة تجمع بين احزن الشيعي، والفرح السني الهادف في بعض مظاهره إلى عدم مشاركة الشيعة أحزانهم.

الإسلام واليهودية:

على الرغم من كون عاشوراء تبدو اليوم مناسبة مرتبطة بالمسلمين والإسلام فهي موجودة قبل الإسلام فقد جاء الإسلام ووجد اليهود يخلدون نجاة موسى وغرق فرعون بصيام عاشر محرم قال (ص) (نحن أحق بموسى منكم)، وبالتالي فباحتفالنا بعاشوراء نحتفل بأعياد ديانات أخرى، ولا زالت بعض المناطق في المغرب تحضر بعض الأكلات اليهودية التي أصبحت جزءا من الهوية المغربية.

تاسع أو عاشر (تاسوعاء وعاشوراء):
ارتبطت عاشوراء بيوم العاشر من محرم، ومنها اشتقت العواشر عند المغاربة، لكن خوف المسلمين من الاتهام بالتشبه باليهود والنصارى اختار رسول الله (ص) قبيل وفاته، صيام تاسع محرم، لكنه توفي قبل تنفيد وعده، فقد روى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ، قَالَ فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رواه مسلم .. ولا زال في المغرب إلى اليوم خلاف بين من يفضل صيام عاشوراء ومن يفضل تاسوعاء وبين من يجمع بين اليومين.

الحلال والحرام:
إذا كان معظم أهل السنة يفضلون صيام يوم عاشوراء سيرا على سنة الرسول فإن بعض الشيعة يحرمون صيام عاشوراء، وحجتهم في ذلك أنه ليس فرضا وإنما كان الأمويين يصومنه ويظهرون فيه مظاهر الفرح شماتة بمقتل الحسين.

بين الزكاة والتسول:
يخصص المغاربة يوم عاشوراء لإخراج الزكاة لكن الكثير أطفالا وشيوخا يستغلون المناسبة للتسول كل يختار الطرقة المناسبة لذلك، بين من يعرض عليك عظمة كتف خروف العيد وقد زينها ببعض الحناء، وبين من يطالبك بحق بابا عاشور.

عاشوراء والألعاب:
لا نعرف سببا واضحا لارتباط هذه المناسبة بالألعاب والمفرقعات خاصة، فالأطفال المغاربة توارثوا اللعب بالمفرقعات أيام عاشوراء وإن اختلفت نوعية هذه المفرقعات ففي القديم كان الأطفال يلعبون بمادة يطلق عليها (الكاربون) يتم حفر حفرة صغيرة في الأرض يصب قليل من الماء وتوضع قطع الكاربون تغطى الحفرة بكأس قصدير (غالبا ما كان معبئات حليب بوريسما أو معلبات بعض المصبرات) يثقب، يتم إقفال الثقب والانتظار دقائق وبعد أن يشتد الضغط بالداخل يشعل الثقاب ويوضع على الثقب لينفجر الكاربون قاذفا بالكأس القصديرية بعيدا محدثا صوت انفجار ليتسابق الأطفال بحثا عن الكأس ومعاودة المحاولة، لكن اليوم مع توفر الأموال تنوعت المفرقات الصينية .... كما تغلغلت في التقاليد المغربية ربط مناسبة عاشوراء بشراء الألعاب والهدايا الآلات الموسيقية والألعاب الإليكترونية .. للأطفال بدرجة تعادل احتفال النصارى برأس السنة الميلادية.

هذه بعض مظاهر احتفال المغاربة بعيد عاشوراء، ويصعب إيجاد مبرر منطقي أو تاريخي لكل مظهر، ولكنها تبين أن المغاربة يأخذون بخاطر كل محتفل فهم يجمعون بين الفرح والحزن، بين السنة والشيعة، بين التحرر والتقييد، بين الجد والهزل، بين الزكاة والتسول، بين الماء والنار، بين الصوم والأكل .. وإن كان من يرى في ذلك تناقضا فليس إلا تعبير عن سماحة شعب وتنوع روافد ثقافته وحضارته وانصهرت لتشكل جزءا من الهوية المغربية.