بعد أن قدمت (الكلمة) من قبل بعض كراسات بيرلمان عن الحجاج، تقدم هنا ترجمة لكراسته الثالثة التي يتناول فيها الخطوط العامة لنظرية الحجاج. والتي تقدمها الباحثة العراقية بعدما ترجمتها وأرفقتها بعدد من الشروح الكاشفة عن خلفياتها الفلسفية والمعرفية، وارتباطاتها بدراسات المنطق المختلفة.

كراسات في الحِجاج البلاغي

شاييم بيرلمان

ترجمة: أنـــــوار طاهـــر

 

ملخص:
قدّم فيلسوف البلاغة الجديدة ش. بيرلمان سلسلة من المحاضرات حول فلسفة المنطق في خمسينيات القرن الماضي، وقد تمّ جمعها، فيما بعد، في ثلاث كراسات نُشرت عام 1959 وأُعيد طبعها سبع مرات. اشتملت الأولى والثانية منها على مقدمة تاريخية في الفلسفات القديمة للعصر الإغريقي؛ وللعصور الوسطى وللأزمنة الحديثة. أما الثالثة فقد تضمنت قسمين: الأول حول عناصر المنطق الشكلاني؛ والثاني احتوى على الخطوط العامة في نظرية الحِجاج الذي تمّ ترجمته في نصنا هذا، إضافة إلى ترجمة مُقدِمة المؤلِف للكراسة الثالثة. وسوف نقوم بترجمة ونشر الكراسات الأخرى تباعاً.

اعتبارات أولــــــــــيّــة
على الرغم من تعدد مفاهيم المنطق وتنوعها، إلا إنها ترتبط جميعاً بفكرة الإثبات. فالمنطق هو دراسة طرق الإثبات في الاستدلال. واياً كانت الفكرة التي لدينا عن الإثبات، فهو مفهوم يتعلق دائماً بأطروحة موضوعة في شكل صيغة معبر عنها بلغة معينة. وهذا ما لا ينطبق على الحالات السايكولوجية التي تمر بها النفس الإنسانية، مثلاً، فهي حالات نختبرها ونشعر بها، لكنها ليست موضوعة في شكل صيغة محددة، ولا يمكن إثباتها. من هنا، جرى حسم دور لغة العامة القابلة للتواصل بسهولة، بل وكان اقل الميزّات تنازعاً عليها في المنطق.

إن المنطق الكلاسيكي* لكل من أرسطو وبورت رويال* (باريس 1662)، وكذلك لأعمال بعض الفلاسفة المعاصرين (راجع بالأخص هوسرل: بحوث منطقية؛ الخبرة والحكم)، كلها أصبحت تتضمن في مقرراتنا التعليمية، على اعتبارات تتعلق بتكوين وتطوير فِكْرنا. وإن كانت لهذه التطورات أهمية فلسفية لا يمكن إنكارها، فمن المهم مع ذلك، تمييزها عن نظرية الإثبات حصراً. ففي المنطق الكلاسيكي، كلها تمثل موضوع المنطق المادي*. إما نحن، فنفضل دمج تلك التطورات مع نظرية المعرفة التي تناولناها بالبحث في الجزئيين السابقين من هذه المحاضرات.

وقد كرسنا هذا الجزء الموسوم بـ (المنطق الشكلاني ونظرية الحِجاج)، لدراسة طرق الإثبات. لكن، ماذا نعني بكلمة إثبات؟ بالنسبة لأندريه لالاند (معجم الفلسفة)، كلمة إثبات هي: «عملية تقود الذكاء [بوصفه يشمل وظائف الشعور والذاكرة والربط بين المعاني والخيال والذهن والفهم والوعي، التي غايتها المعرفة المفاهيمية والعقلانية] وبطريقة لا لبس فيها، ومقنِعة كلياً (على الأقل في القانون)، إلى تمييز صدق عبارة كانت في موضع شك». وعلى هذا النحو، فأن الإثبات عند جون ستيوارت ميل ليس هو منْ يحدد معنى الاعتقاد، وإنما هو منْ يجب عليه وضع حدود تعريف الاعتقاد بجعله مطابقاً للواقعة. هذان التصوران، اللذان يعرضان لوجهة نظر فيلسوف عقلاني وآخر تجريبي حول هذا الموضوع، يتشابهان في أكثر من نقطة واحدة. فالاثنان يؤكدان على الخاصية المعيارية* للإثبات؛ وليس على الطريقة التي نستدل بها، وإنما على تلك التي ينبغي الاستدلال بواسطتها لنوجه أفكارنا جيداً وبالشكل الذي يجعلها تتوافق مع مظهر من مظاهر الواقع، أو مع بعض الوقائع أو مع حقيقة بعض العبارات. هذا الجانب المعياري للمنطق يجعله قريباً من علم النفس، لان دور المنطق يكمن في توجيه أفكارنا وبالهيئة التي تسمح أيضا بالتمييز بين بعضها البعض، لان الشيء المهم بالنسبة لمثل هذا التصور للمنطق، في واقع الأمر، هو ليس الطريقة التي نستدل بها، وإنما تلك التي ينبغي علينا أن نقود أفكارنا بواسطتها لغرض الاستدلال بشكل صائب، أي وفقاً لقواعد المنطق.

هذه الخاصية المعيارية للمنطق، تجعله جزءا لا يتجزأ عن نظرية للمعرفة سيكون دورها متمركزاً على تبرير المكانة الخاصة التي نسندها لقواعد المنطق في توجيه تفكيرنا؛ وللعثور على الأسباب التي ينبغي من اجلها أن تكون قواعد المنطق مقبولة من جميع الناس لكونهم كائنات تنعم على الأقل بمَلَكَة العقل؛ بالإضافة إلى توضيح السبب الذي ينبغي علينا لأجله استبعاد كل أولئك الذين يشككون بقواعد المنطق. هكذا، أمكن للخاصية المعيارية أن تسير جنباً إلى جنب مع الحكم المؤكِد على وجود مَلَكَة مشتركة بين جميع الناس، والمتمثلة في العقل [أي في مَلَكَة الاستدلال المتعلقة بتشييد علاقات منطقية ضرورية بين الوقائع والمفاهيم، لغرض صياغة أنظمة من المبادئ العامة والمشتركة] وهي مَلَكَة لا تحتاج إلى التثبت بالدليل في تمييز بداهة مبادئ المنطق. وجرى النظر في المنطق الكلاسيكي لمبادئ المنطق ولقوانين الاستدلال العقلانية بوصفهما متطابقين. فكل منهما بدهي؛ ويجب أن يستخدم في البرهنة على قضايا لا تحمل القدر نفسه من البداهة والوضوح.

غير انه يمكن لأولئك الذين يسعون إلى فصل دراسة المنطق عن نظرية للمعرفة المسبقة؛ ولا يتوفرون على الثقة الكافية في ذلك الحكم المؤكِد على وجود قوانين استدلال عقلانية بدهية وثابتة غير متغيرة، أن يلفتوا النظر إلى أن الوظيفة المعيارية التي ننسبها للمنطق، هي مستقلة عن دراسة مبادئ المنطق؛ والى انه يمكن لنا، مثلما تمنى الفيلسوف ليبنتز، دراسة العلاقات القائمة بين القوانين المنطقية، بصرف النظر عن مدى إمكانية إثراء البحث بصدد هذا الموضوع. وحتى يمكن تحقيق هذا الأمر، سيكون من الضروري التوفر على مجموعة من الاستدلالات التي تعتبر نماذج في هذا الشأن؛ والقيام بتحليلها لغرض التوصل إلى طرق في الإثبات يمكن لها أن تؤلف مبادئ للمنطق.

إلا انه، ومنذ إقليدس، بدا أن المنهج الهندسي هو من يوفر مثل ذلك الهيكل الصارم من الاستدلالات، وان التقدم الذي أحرزته علوم الرياضيات، بعد ديكارت، جعل من الممكن النظر إلى البرهان الرياضي بوصفه أفضل تحقق لمثال المنطق الدقيق. هكذا، ومنذ ظهور أعمال الرياضيين أمثال ج. بول (التحليل الرياضي للمنطق) و أ. دو مورغان (المنطق الشكلاني) في عام 1847، اخذ المنطق بوصفه نظرية للإثبات، يقتصر على دراسة الاستدلال الاستنباطي، خصوصاً على ذلك المستخدم منه في علم الرياضيات. وتحققت الانجازات الأساسية في المنطق، على يد علماء الرياضيات: الأمريكي ش. س. بيرس؛ والألمانيين إ. شرودر وغوتلوب فريغه؛ والايطالي ج. بيانو، وجرى فيما بعد التوليف بين تلك الأعمال في الكتاب الضخم لبرتراند راسل ووايتهيد (مبادئ الرياضيات) (نُشر في 1910-1913). وبعد الحرب العالمية الأولى، كانت المراكز الرئيسية للمنطق متواجدة بألمانيا في مدرسة عالم الرياضيات هيلبرت الذي نشر مع معاونه أكرمان سنة 1928 كتاب (مبادئ المنطق النظري)، ومع أفضل طلابه برنايز، في وقت لاحق، كتاب (أسس الرياضيات) (نُشر في 1934-1939). وكذلك في بولونيا حيث جرى تطوير نظرية الاستنباط بشكل ملحوظ من قبل علماء المنطق: لوكازيفسكي؛ ليزنيفسكي، وتارسكي. وبعد الحرب العالمية الثانية، كان المركز الرئيسي للمنطق الشكلاني في الولايات المتحدة الذي عمل فيه العديد من المناطقة الأوربيين، وليس هذا فحسب، بل أفضى تأثير المناطقة أمثال: تشرتش ولويس وكواين وتلاميذهم، إلى أن أصبح المنطق أحد الفروع المألوفة لجميع الفلاسفة الأميركيين.

  • يترتب، من كل ما سبق ذكره أعلاه، أن المنطق الشكلاني* كما هو مفهوم حالياً، هو منطق ظلّ يشتمل فقط على دراسة طرق الإثبات المستعملة في البرهان الرياضي، أي في الواقع، على دراسة الاستنباط الضروري الإلزامي. ودون الحديث هنا عن الإثبات التجريبي [المتعلق بما هو مكتسب في المعرفة، أي بما هو فطري منسوب للعقل] الذي يثير مشكلة العلاقات بين العبارات وأشياء أخرى غيرها، ويمكن بهذا النحو، دراسته ضمن نظرية المعرفة، علينا أن نتساءل، هل يعني أن طرق الإثبات الوحيدة التي نمنحها قيمة، هي فقط تلك المستعملة في الرياضيات؟ علماً، إن طرق الإثبات المستعملة في العلوم الإنسانية، وفي القانون والفلسفة، ذات طبيعة مختلفة تماماً؛ وهي لا تنحدر عن نظرية في الاستنتاج الضروري، وإنما بالأحرى عن نظرية الحِجاج.

لقد تمّ إهمال دراسة نظرية الحِجاج في الحضارة الغربية منذ ديكارت. لأنها حضارة ظنت بشدة أن بمقدورها أن تدرك المعرفة البشرية على ضوء المعرفة الرياضية، وأن تستبعد تماما كل ما هو محتَمل الصدق. إن الحِجاج لا يعطينا سوى أدلة إثبات غير قسرية/غير إلزامية [غير منغلقة على سلسلة من ثنائيات هرمية تراتبية صارمة تعمل على إلزام المتكلم والمخاطب على التصرف ضد إرادتهما]، وهذا هو السبب الذي من اجله أهمل علماء المنطق نظرية الحِجاج تماماً، لا سيما بعد تجديد المنطق الشكلاني في منتصف القرن التاسع عشر. ومع ذلك، لا يمكن للناس ابداً، التخلي عن ممارسة الحِجاج، ولهذا السبب لديكم هذا الانطباع بأن المنطق الشكلاني هو بعيد من أن يستوفي ذلك المجال الواسع الذي يبدو أن علينا تغطيته بدراسة طرق الإثبات. وهكذا، سيجري تقسيم هذا الجزء الثالث من المحاضرات إلى قسمين: الأول حول عناصر المنطق الشكلاني؛ والثاني يحتوي على الخطوط العامة في نظرية الحِجاج.

  • استكمال عرضنا الخاص بالمنطق الشكلاني، أحيلكم إلى هذه المؤلفات: دروس في المنطق الشكلاني لجوزيف دوب؛ والى مقدمة في المنطق المعاصر لروبرت بلانشي؛ والى الأعمال الانجليزية لتارسكي (مقدمة في المنطق)، وكواين (المنطق الرياضي... مناهج المنطق). أما فيما يتعلق باستكمال الخطوط العريضة لنظرية الحِجاج، فلا يمكنني إلا أن أحيلكم إلى أعمالي الخاصة (بالتعاون مع زميلتي السيدة لوسي اولبرخت – تيتكا): البلاغة والفلسفة؛ ورسالة في الحِجاج (البلاغة الجديدة).

خطوط عامة حول نظرية الحِجاج
-البُرهان والحِجاج
نتيجة للتقدم الحاصلِ امتداداً للنزعة العقلانية الديكارتية في اوروبا، تمّ تقليص المنطق الذي يدْرس طرق الإثبات، وعلى نحو متزايد، في المنطق الشكلاني أي في دراسة التقنيات [مجموعة الإجراءات المشيدة على معارف علمية للتوصل/لإنتاج معرفة محددة] البرهانية للمختصين في الرياضيات. فكل تسلسل من الرموز يمكن الوصول إليه بآلية حسابية تقوم على عدد من العمليات المطابقة للنظام المتوخى، أصبح قابل للإثبات بكل تأكيد. وكذلك، فأن النموذج المثالي، من وجهة نظر تجريبية، سيكون في استبدال معطيات إحساساتنا بالبيانات الإحصائية الآلية الضابِطة للظواهر المدروسة. وهكذا، فأن المفاهيم الكلاسيكية للعقلانيين والتجريبيين، التي تُطلق مصطلح «الإثبات» على تلك العملية التي ينبغي أن تقود الذهن [مجمل الميول والاستعدادات الفكرية والأخلاقية للفرد الخاصة بإنتاج الحُكم] المُرَكَّب والمُتشكِل عادة [وبصورة متطابقة مع المعايير والقواعد العامة والسائدة في إنتاج الأحكام القيمية]، إما لتمييز قيمة صدق/صواب/حقيقة عبارة معينة (وجهة نظر العقلاني)؛ وإما لجعل الاعتقاد متسق مع الواقعة (وجهة نظر التجريبي)، هي كلها مفاهيم تفترض في نهاية المطاف، وجود مَلَكَة مشتركة بين جميع الناس – وهي العقل أو الحساسية [الخاصة بسرعة التحسس تجاه مختلف الانطباعات؛ بالإدراك؛ التمثل؛ التقويم الدقيق للموقف ورد الفعل] – والتي تسمح لهم بالوصول إلى الاستنتاجات نفسها. ولغرض التأكد من حصول الاتفاق بشأنها، سنسعى جاهداً إلى استبدال هذه المَلَكَة البشرية التي يمكن أن تتعرض للانحراف عن وظيفتها بسبب تدخل الفرد، بآلة تضمن الوصول لنتائج أكثر موضوعية.

  • ماذا نفعل، عندما تكون الاستنتاجات التي نصل إليها بهذه الطريقة، غير كافية لتحديد أسباب قناعاتنا؟ هل يجب أن نترك للقوى غير العقلانية، قيادة الشؤون الإنسانية في جميع المجالات التي لا يستطيع فيها المفهوم التقليدي للإثبات ألقيام بشيء لدعَّم اعتقاداتنا، وهنا حيث ما زلنا مترددين، هل ينبغي أن نسمح لأنفسنا أن تنْقاد لرغبات القوى المسيطرة علينا، دون أن ننشد بأنفسنا نحن لإعطاء مبرر معقول بعض الشيء على الأقل ؟ ولاحظ معي أنه عندما تخفق طرق الإثبات بالتجربة والحساب تحديداً، يكون علينا أن نتداول وان نتخذ قرارًا لأنه يقع خارج أي تحكم آلي، يبدو لنا انه قرار شخصي ويستدعي الالتزام نحوه.

ونتيجة إخضاع دراسة طرقنا الخاصة بالإثبات لتقنيات برهانية مُتحكم فيها آلياً، تقلّص إلى حد كبير نطاق ما يوصف تقليدياً بـ"العقلاني"، وكان لهذا الأمر خطورته الكبيرة بحيث أن التصورات الحديثة لمفهوم الاستنباط لم تقتصر على تجنب الاستعانة بمفهوم البداهة الديكارتية وهو المصدر الذي تطورت منه النظرية الحديثة للعقل برمتها، بل وأفضت كذلك إلى نتيجة غير متوقعة وهي أن النزعة الشكلانية لا يمكن أن تكون مكتفية بذاتها، ودائماً ما يجب تفسيرها بفضل تفكير أصله حدسي بدهي. وهكذا وصل الفكر الغربي، وبعد منعرج طويل، إلى الإقرار بأطروحة أرسطو التي طوّرها في كتابه (الطوبيقا)، والقائلة أن النقاش حول المبادئ الأولى لكل علم من العلوم والذي هو، بطبيعة الحال، نقاش جدلي ذو طبيعة فلسفية، لا يمكن أن يستعين إلا بطرق الإثبات الجدلية المحتَملة الصدق، أي بالحِجاج.

ويتميز هذا الحِجاج الذي يستعمل طرق إثبات، نفضل أن ندعوها بطرق إثبات بلاغية عوضاً عن جدلية – بسبب المعاني المختلفة لكلمة ((جدلي)) في الفكر الغربي – بكونه ليس ضرورياً ولا قسرياً إلزامياً، ولا يعرض لخاصية البداهة التي لطالما سعى إليها ديكارت. وهو أكثر أو اقلّ فاعلية مؤثرة بقدر ما تسمح فيه بكسب أو تعزيز تأييد* أذهان المخاطَبين نحو فرضيات/ أطروحات/ اعتقادات/ آراء مطروحة للنقاش في سبيل الوصول لاتفاق عام بشأنها.

-البلاغة ونظرية الحِجاج
نحن نعلم أن دراسة وسائل الإقناع بالخطاب، كانت تمثل عند القدماء موضوع البلاغة التي تصوروها إنها فن الكلام علناً أمام الناس بطريقة اقناعية. لكن، إذا ما أخذنا وجهة نظر المنطقي، فأن الطريقة التي يتم بها التواصل مع الجمهور المستمع* لن تكون لها أهمية بالمرّة. فما يهم هو الحِجاج، سواءً كان شفاهياً أو كتابياً.

من ناحية أخرى، إذا كان الحِجاج يفترض جمهور مستمع معين، فأن منْ نستهدفه بحِجاجِنا؛ ونسعى لاقناعه، ليس من الضروري أن نقصره، كما فعل القدماء، على مجرد حشد من الناس مجتمِع في ساحة عامة. إن مثل هذا الجمهور، وبعيداً عن أن يميز لوحده دراستنا؛ هو لا يمثل سوى جانباً بسيطاً ومحدداً للغاية، وبالتأكيد ليس هو الأكثر إثارة للاهتمام للمنطقي. في الواقع، أن البلاغة، كما نتصورها، هي نظرية عامة في الحِجاج، تبحث في الحُجَج التي نستعملها في مداولة حميمة؛ تماماً مثل تلك المستعملة عندما نفترض أننا نتوجه للإنسانية جمعاء.

  • المعلوم، أن حصر البلاغة على دراسة الحُجَج المخصصة لجمهور جاهل، كان قد افقد البلاغة لمصداقيتها في عيون الفلاسفة، وكان أفلاطون على حقّ في محاورة غورغياس، عندما اعتبرها غير جديرة بإنسانٍ فاضل*. لكنه قبل ذلك، كان قد حَلُم في محاورة فايدروس، ببلاغة جديرة بالفلاسفة يمكن لحُجَجها أن تقنع الآلهة أنفسهم. عندما يتغير الجمهور المخاطَب، يتبدل الطابع العام للبلاغة تماماً. وإذا كانت كل بلاغة تنزع نحو إحداث فعل مؤثر في أذهان جمهورها المخاطَب، فلابد وان نوعية هذه الأذهان التي مكنتها من التثبت والاقتناع العقلاني بالرأي المطروح للنقاش، تجعل من الممكن تمييز البلاغة المحمودة عن المذمومة منها.

إن طبيعة هذا الجمهور [الذي يُستدعى مباشرة، بمجرد التفكير بخطاب مكتوب أو شفاهي]، هي التي تسمح لنا بالتمييز بين حِجاج عقلاني يرمي إلى التثبت المنطقي بصبغة برهانية؛ عن حِجاج مضمونه الإقناع. ويمكننا القول أن الحِجاج هو عقلاني حينما يهدف إلى كسب تأييد ما نطلق عليه بالجمهور الكوني* المتألف من جميع الكائنات العاقلة والذي يعبر في الواقع عن فكرة أننا جميعا لدينا عقل. وهذا العقل، المتجسد سواءً في فكر كائن كامل أو في فكر إنسانية عاقلة، لا يُعرف ابداً بطريقة تجريبية؛ انه مجرد تصور في أذهاننا، وتعميم استقرائي انطلاقاً من حدسنا ومعرفتنا الخاصة بالناس الآخرين. وللبشر أفكار متنوعة عن العقل وفقاً لاختلاف الحقب الزمنية والأماكن وحتى للأفراد أنفسهم.

إذا كان على أي حِجاج التمسك بمجموعة من الفرضيات/ الأطروحات/ الاعتقادات/ الآراء التي تقرّ بها بعض الأذهان، انطلاقاً من حقيقة انه موجه نحو أذهان/ أبنية ثقافية معينة، يجعله يؤلف بذلك لحُجَّة ما يتجه صوب الإنسان ad hominem [وهو تعبير لاتيني يشير إلى ما يعود للإنسان بشكل عام. وتعرّف بوصفها حُجَّة تتعلق بجميع القيّم والوقائع التي يتفق/ ويسلّم الفرد مع الآخرين بصدقها، اي هي حُجَّة ترتبط بمجال الرأي والاعتقادات]، فأن حقيقة ما يمثله الحِجاج للجمهور الكوني، هي التي تجعل من الممكن تحديد الخاصية الموضوعية في هذا المجال. وإذا كنا نعارض بين حُجَّة ما يتجه صوب الإنسان وبين حُجَّة ما يتجه صوب الشيء نفسه ad rem [هي حُجَّة تعبر عن كل ما له صلة بحقيقة vérité الأشياء المصرح بها عند الجواب عن سؤال أثناء التحاجج بخصوص قضية إشكالية، وبمعزل عن صدق القضية أو كذبها، يأتي الجواب معبراً عن مشروعية ترتبط بتلك المسألة. على سبيل المثال: الجواب بـ ابيض؛ احمر؛ جميل، سيء ...الخ. فهي حُجَّة لا علاقة لها بمجال الرأي المتعدد والمتنوع]. فلا يمكننا، مع ذلك، التمييز بين الحُجّتين الأولى والثانية، لا سيما وان هذه الأخيرة أي حُجَّة ما يتجه صوب الشيء هي حُجَّة تتصل بمجال الحقائق المتطابقة والسارية المفعول عند الإنسانية العاقلة، وتضع الجمهور الكوني نصب عينيها، وبالتالي، فهي حُجَّة تؤسس، في الواقع، لحُجَّة ماهو إنساني ad humanitatem [التي تتجنب استعمالات الحُجَج المرتبطة بجماعات وثقافات محددة، وتضع بعين الاعتبار كل ما هو عام ومشترك من القيّم بين البشرية جمعاء]. هكذا، سوف يكون بالإمكان ضمان قيمة الحِجاج ليس فقط من خلال كفاءة فاعليته وحسب، بل ومن خلال مَلَكَة التمييز وحسن التصرف عند الجمهور بحكم انه تجسيد للعقل النقاشي المداولاتي، وليس ألبرهاني. ولو لم يكن الحِجاج الفلسفي موجه دائماً نحو الجمهور الكوني، لما استطاع أن يقدم للفكر الإنساني، أفضل النماذج في حقل الفلسفة.

-بعض التَوْجيهات في التقنيات الحِجاجية
يجب أن يتوافق أي حِجاج مع الجمهور المخاطب الذي يتوجه إليه بالخطاب. ولذلك، فأن نقطة انطلاقه لن تتكون بالطبع من فرضيات/أطروحات/اعتقادات/ آراء يعتبرها المتكلم صادقة، وإنما من تلك التي يقبلها الجمهور. فلا جدوى من افتراض الصحة لأطروحة نعتبرها صادقة من الأساس، إذا تمّ الطعن بها من المحاوِر. وقد يكون الأمر كذلك، لو كان الغرض الجوهري من النقاش هو الحصول على قبول الآخر بالقضية التي تبدو للمتكلم بدهية واضحة. وفي هذه الحالة، مجرد افتراض التسليم بالقضية يمثل خطأ حِجاجي معروف بأسم المصادرة على المطلوب إثباته. هذا الخطأ على صلة متلازمة مع الحِجاج وليس مع البرهان الذي يتمّ فيه إدراج البديهيات منذ البداية. وإذا كان جون ستيوارت ميل، قادراً على الاعتقاد أن مثل هذا القياس المنطقي (على سبيل المثال: كل الناس فانون، ولما كان سقراط إنسان، إذن سقراط فانٍ) هو مصادرة على المطلوب إثباته، لان صحة الحد الأكبر في المقدمة الأولى تفترض صحة النتيجة وهو ما يشير بالضبط إلى الإثبات ألبرهاني، فهذا إنما يعود إلى أن ميل خلط بين تقنية البرهان مع تلك الخاصة بالحِجاج.

إحدى اكبر الصعوبات في الحِجاج، إنما تتمثل في انه لا يجري عادة تحديد ما هو مقبول ومسلّم به من طرف المحاوِر والجمهور المخاطَب بصورة صريحة، وأن هناك دائماً طريقة للهروب من الدخول في الحِجاج من خلال إنكار المقدمات التي ينطلق منها. لهذا السبب، من المهم أن يكون بمقدورنا، إذا أمكن، تأسيس الحِجاج على نظام علمي في البداية. إذ عندما لا يعبر الأشخاص الذين نتوجه إليهم بخطابنا وبوضوح عن تأييدهم وتمسكهم بالمقدمات التي ننطلق منها، وهم لا يشكلون جزءًا من جماعة محلية متحدة ومترابطة بمجموعة من الأطروحات القائمة على دعامة القيّم والاعتقادات، فلن توجد طريقة لمنعهم من الوقوع في التناقض، لأنهم سوف يكونون دائماً في وضع يسمح لهم برفض احد الطرفين المتناقضين. غير أن هذا الرفض لن يمر دون عقاب، إنه يفسح المجال للسخرية التي هي سلاح رئيسي في الحِجاج. الوقوع في السخرية يحدث مع كل من ينكر ، دون مبرِّر justification، لقاعدة معينة أو لتصور مسلّم به داخل البيئة أو الوسط الذي هو جزء منه. وفي هذه الحالة، يكون الضحك هو جزاء عدم الامتثال الغير المبرَّر لكل ما هو سويّ، وهو بهذه الطريقة، يحوِّل مظهر ما هو عادي/سويّ إلى ما هو معياري، أي من ما تمَّ عمله إلى ما الذي يجب القيام به.

فمنْ يؤكد على انه تحت أي ظرف من الظروف لن يُقدِم على قتل كائن حيّ عمْداً، يعرِّض نفسه للسخرية، إذا أصرَّ في قوله على تعبير "في جميع الظروف". فأمام أسئلة مثلاً: هل تعارض عملية تعقيم مسكنك الذي اجتاحته البراغيث؟ وهل ترفض العلاج بالبنسلين لبثورٍ غير مرغوب فيها، خشية أن يسبب هذا في الحدِّ من عمل جهاز المناعة؟ إذا شعر المحاوِر بعدم الارتياح، يمكن أن يتجنب التعرض للسخرية من خلال الحدِّ من نطاق تصريحه أو قوله. غير انه من المستحيل التنبؤ مسبقاً بكيفية القيام بذلك، إذ يمكن لهذا المحاوِر أن يعدِّل من هذا العنصر أو ذاك من مكونات فرضيته/أطروحته/رأيه وبالطريقة التي تجعلها أكثر معقولية. مع ذلك، ليس هناك ضرورة منطقية تلزمه بالتصرف بهذه الطريقة تحديداً، فهناك حالات عديدة تحدى الناس فيها السخرية، ولنا في ديوجين القابع في جوف برميله مثالاً معروفاً. تضع السخرية هيبة الشخص الذي يتحداها في اختبار شاق، وكل منْ يخرج منه منتصراً، سيُضعف، في النهاية، من القاعدة التي عارضها في البداية. كان يجب أن تكون هيبة غاندي عظيمة، حتى لا يصبح مثيراً للسخرية عند حضوره إلى لندن بقطعة قماش حول الخاصرة ومعه ماعزه، فلا يستطيع سوى الذين يتخذون من الوحي الإلهي مصدر تباه وتبجُّح، القبول بعقائد غير عقلانية. وعلى صعيد اقلّ، تعرض لنا ظاهرة الموضة كيف يمكن للتقليعات الجديدة أن تتسلل وتدخل إلى المجتمع، شريطة أن تستلزم هيبة/مقاماً تُفضي إلى تقليدها وليس إلى السخرية منها.

إذا كان الإنكار من دون سبب، لتصور مسلّم به، يجلب السخرية، فهناك سبيل لتجنب ذلك بتقديم مبرر لتصرفنا. ويمكن أن يتمّ هذا التبرير فقط من خلال إظهار أن القاعدة أو الأطروحة المرفوضة تعارض قواعد أو أطروحات أخرى مقبولة بشكل متساوٍ ومشيّدة بصورة أفضل من تلك التي جرى رفضها. بهذه الطريقة، وبأسم تحقيق أعلى درجات الاتساق في الفكر الإنساني، قُدمت مفاهيم جديدة في العلم كما في الفلسفة؛ في القانون كما في الأخلاق. وهكذا، استطاع اينشتاين إجراء تعديل كبير في المفهوم الكلاسيكي للتزامن عن بُعْد، برفضه الأطروحة القائلة أن سرعة الضوء غير محدودة، وإثباته إنها سرعة تقدر بـ (300.000) كيلومتر في الثانية.

  • قمنا بأجراء تعديل على أُطُر تفكيرنا، فأننا نقوم، في حقيقة الأمر، بتغيير معنى كلمة واحدة أو عدة كلمات من لغتنا. كما ويتبدل المعنى أيضا في كل مرة يجب فيها تطبيق مبادئ معينة على وقائع جديدة، إما لأن هذه الوقائع لم تكن موجودة في الوقت الذي كان يجري فيه استعمال الكلمات بمعناها القديم؛ وإما لأننا سكتنا عن أخذ تلك الوقائع بعين الاعتبار من قبل.

طالما كانت أُطُر تفكيرنا جامدة، والوقائع التي نُطبّقها عليها لم تُظهر جوانب يمكن أن نعتبرها جديدة، فالمشكلة الرئيسية التي يواجهها المنطقي هي مشكلة تكوين [أي الصياغة ضمن شكل لغوي معين] لمبادئ/مفاهيم تبدو متطابقة مع الفروق الطبيعية للأشياء. والمشكلة الوحيدة التي تؤخذ بعين الاعتبار هي تصنيف classification تلك المفاهيم ضمن مقولات قيّمية معينة. وبالطبع، داخل عالم متسق كهذا، فأن مسألة ترشيح qualification [المعطيات وإدراجها ضمن مراتب تلك المقولات]، بمعنى، تطبيق المفاهيم على موضوع الخطاب في الواقع، لا تمثل أي صعوبة، خصوصاً وان الأمر يتعلق بمبادئ/مفاهيم مكوّنة ومصاغة كما ينبغي وبالشكل الذي يجب أن يتمّ الترشيح فيما بينها بطريقة لا تقبل الجدل والنقاش ولا حاجة فيها لأي عمل إبداعي من جانب العقل البشري. في مثل عالم كهذا، حيث تبدو أُطُره مُعرَّفة ومحدَدة بشكل قطعي ويُفترض فيه من حيث المبدأ على الأقل، أن حقيقة الوجود معروفة من قبل عقلٍ غير متناهٍ، تهيمن فيه النزعة الواقعية الفلسفية التي ترى أن المبادئ/المفاهيم متطابقة مع الوقائع المعطاة مسبقاً، وأنها بطبيعة الحال، ليست إلا صورة طبق الأصل.

في مقابل ذلك، عندما تتغير مقولاتنا، وتظهر على السطح مشاكل ترشيح المعطيات من المفاهيم لتكشف عن صعوبات لا يمكن حلّها بطريقة ميكانيكية. وعندما نعتقد، مثل المتصوفة العرفانيين، أن أُطُر تفكيرنا التي تشكلها الأفكار العامة، هي ليست مجرد نسخة/صورة عن الواقع، نكون عندها مثل أصحاب مذهب الاسميين ونقرّ بوجود مقولات من ابتكار العقل الإنساني، ويمكن تصميمها بالطريقة التي تحلو للجميع. إن التعريفات الواقعية الصادقة أو الكاذبة وفقاً لمطابقتها أو عدم مطابقتها للواقع، تتعارض مع التعريفات الاسمية الاعتباطية تماماً، والتي لا يمكن لمشكلة الحقيقة أن تكون ولو مطروحة فيها.

في عالمٍ لا يمكن لمقولاته أن تُعتبر ثابتة، يكون لمشكلات ترشيح معطيات المفاهيم، انعكاساتها على التصور الذي لدينا عن هذه المقولات نفسها. فكلما كان علينا تطبيق هذه المقولات على شيء جديد، تُثار مشكلة كيفية تكوينها وتنظيمها وتعديلها وبالشكل الذي لم تعد تبدو فيه أنها غير قابلة للتبدُّل.

لنأخذ على سبيل المثال مبدأ الديمقراطية؛ فقد تغيّر معناه وانسجم كلما تمّ تطبيقه على وقائع جديدة. لقد ولد هذا المبدأ من رَحِم الصراعات السياسية في اليونان القديمة التي أعطتنا أول انموذج للديمقراطية من خلال نظام الحكم الديمقراطي الأثيني في القرن الخامس. فالديمقراطيون كانوا معارضين للتصور الارستقراطي في حكم المدينة. ولاحظوا بالحال، انه يمكن الإشارة للمفاهيم نفسها بمصطلحات مختلفة من جانب الطرفين، فالمعارضون للديمقراطية الأثينية كانوا مناصرين للنظام الارستقراطي أي حكومة الأفضلية [في القيادة السياسية والمحصورة على فئة صغيرة تحمل امتيازات خاصة تؤهلها لحكم الأكثرية]، فيما أطلق عليه الديمقراطيون بنظام الأوليغاركية أي المتأسس على حكم الأقليّة [حيث تسيطر فئة محدودة على إدارة أمور الدولة وفق مصالحها الخاصة ولا تحترم حقوق الأكثرية]. وهكذا، نرى أن هذا المفهوم نفسه ظهر بمظهر كيفي من قبل مؤيديه، وبمظهر كمي من قبل خصومه. وعلى هذا الغرار، كان النظام السياسي نظام ديمقراطي عند أنصاره، بينما وصفه المعارضون بالديماغوجي أو حكومة الدَهْمَاء.

  • ما كان يميز الديمقراطية الأثينية هو المشاركة المباشرة في السلطة من قبل المواطنين [المولودين عن أب وأم أثينيين] في هذه المدينة، باستثناء الأجانب métèques [غير المولودين في أثينا] والنساء، وبانتقال حقّ المواطنة في المدينة عن طريق صلة القرابة. أما أصحاب السلطة وموظّفُو الحكومة فيتم تعيينهم إما من قبل الشعب، وإما بنظام الاقتراع. ومنذ اللحظة التي نريد فيها تطبيق مبدأ الديمقراطية على وضع سياسي آخر، على مدينة يونانية أخرى مثلاً، تظهر مشكلة معرفة إلى أي مدى يُذكِّر نظامه بالديمقراطية الأثينية. سنلاحظ دائماً وجود بعض الاختلافات بينهما، نكتفي أن نورد منها تلك المتعلقة بوجود سلطة تتناقل بالوراثة، أو بتعيين الموظفين من قبل سلطة عليا. فهل سننظر إلى هذه الفروق كثانوية أو مهمة بالقدر الكافي كي لا نعترف لهذا النظام انه ما يزال يشير إلى الديمقراطية؟ هذه المشكلة تطرح نفسها في كل مرة نريد تطبيق المبدأ نفسه على حالات مختلفة أكثر بكثير. على سبيل المثال، إلى أي مدى كان هناك رهان ديمقراطي في نضال المدن الفلمنكية بالمملكة البلجيكية؟ فهذه الحركة ولدت من النضال ضد طغيان الارستقراطيين النبلاء، لكنه نضال قادته نقابات ناهض زعمائها من الأغنياء فكرة منح بعض الامتيازات لصالح الطبقات الشعبية. وماذا يمكن أن يقال عن ديمقراطية القرن الثامن عشر التي نادت بفكرة أن جميع السلطات تنبع عن الأمة، وعارضت الملَكَية أي سلطة القانون الإلهي. وماذا عن الجمهورية الفرنسية حيث تختلف بعض مفاهيم الحرية اختلافاً كبيراً عن تلك التي كانت سائدة في أثينا حيث كان غالبية السكان هم من العبيد. وبعد الحرب العالمية الأولى، كانت الديمقراطية تتصدى للأنظمة التوتاليتارية، بينما هي اليوم لم تعد نظاماً سياسياً معارضاً لتصورات أخرى، بل هي أصبحت النظام المثالي بذاتها.
  • الديمقراطية في تطبيقاتها واستعمالاتها المختلفة معانٍ جديدة. هكذا، أصبحنا نستطيع اليوم الحديث عن مَلَكَيات ديمقراطية، وهي فكرة لم يكن يمكن حتى تصورها في القرن الثامن عشر. ولم يصبح هذا ممكناً، إلا لان الديمقراطية فقدت طابعها في معارضة المَلَكَية الذي كان صفة جوهرية لها في القرن الثامن عشر. ويترتب على ذلك، أننا إذا ما وضعنا بمستوى واحد، جميع المعاني للكلمة نفسها خلال تطورها التاريخي، فأننا نخاطر بإدخال اللُّبس والارتباك في اللغة، لذلك من الضروري اختيار بعض الصفات لا سيما الأساسية منها للكلمات ليكون لما نقوله معنى. وهذا هو السبب الذي ستلعب فيه مسألة ترشيح المعطيات من المفاهيم لتطبيقها على موضوع الخطاب في الواقع، دوراً مهماً للغاية. إذ طبقاً لمنح موافقتنا أو لإنكارنا ترشيح واقعة معينة، فسوف ندرجها أو نستبعدها عن مجال المفهوم، وبناءً على ما إذا كنا ننظر للمفهوم بالمعنى الضيق أو بمعناه الواسع الرحب، سوف نعدّل من امتداده [وبالطريقة التي تجعل مجاله يضيق على/أو يتسع لـ: بعض الفئات من المجتمع؛ بعض الأشياء؛ بعض المواقف؛ بعض الأفكار]. وهكذا، على سبيل المثال، من اجل نقد مبدأ العقلانية بشكل أفضل، سيأخذ معارضوه احدّ الأمثلة التاريخية ليجمّده ويحصره ضمن زاوية محددة، في مقابل ذلك، سيعتبر أنصاره أن أوجه القصور فيه ليست جوهرية، ويعملون على تطهيره. بهذه الطريقة، تظهر لعبة المبادئ/المفاهيم، إنها تشير إلى مجرد مغالطات، إذا كان للكلمات معنى ثابت غير قابل للتغيير.

عندما نعارض واحداً من التصورات بآخر، فمن المعتاد أن نميّز بين ماهو حقيقي وماهو ظاهر. فهذه تقنية/إجراء نلجأ لاستعمالها بشكل روتيني. لنأخذ، على سبيل المثال، حالة مِجْداف القارب في الماء، فهو يبدو لنا وكأنه مكسور، في حين يكفي سحبه من الماء حتى يتسنى لنا أن نراه مستقيماً من جديد. لذلك هناك متناقضات معينة تمنعنا من الحفاظ على جميع التصورات التي تقع تحت حواسنا. إذ يجب أن نختار جانباً واحداً ونعطيه الأولوية، لنقول بعدها: هذا هو الجانب الحقيقي الذي يستثني الجانب الآخر عن التأهل للترشيح ضمن المعطيات من المفاهيم لتطبيقها على موضوع الخطاب في الواقع.

وهذه التقنية موجودة أيضاً في استعمال الكلمات، فنحن نتعامل وفق التصور التقليدي لفكرة المظهر، ونعتبر أن المعنى الجديد للكلمة هو الصادق ونحيَّد القديم. لكن، كيف يمكن أن نستبعد عن مبدأ معين معنىً ما؟ يمكننا أن نقوم بذلك بمقدار ما نبرز حالة عدم الانسجام أو التنافر الحاصلة بسبب التراكم المتزامن لبعض الأبنية المتنافرة اصلاً داخل المبدأ الواحد، والتي نسلّم بها جميعاً في وقت واحد. وهكذا، إذا كنا نقصد بالديمقراطية ذلك النظام الذي نؤيده لأنه يحقق المساواة بين المواطنين ويكفل حريتهم، فأننا سنعارضه بذلك مع أوضاعٍ توصف بالديمقراطية دون أن تسود فيها لا الحرية ولا المساواة، وسنقول إنها ديمقراطية في الظاهر فحسب.

في كل مرة نقوم فيها بتبديل معنى مبدأ/مفهوم معين، يجب أن نبرر التصور الجديد بواسطة تقنيات الحِجاج البلاغي. فلا يمكننا تغيير شيء دون الاستناد على شيء آخر نفترض أنه تمّ قبوله. إذ يجب أن يكون أحد عناصر التنافر أو عدم الانسجام بين فرضيتين محددتين، إما مسلَّم به؛ وإما راسخ ثابت.

لقد رأينا، فيما سبق، أن النزعة الواقعية ترى أن للكلمات معنى حقيقي محدد. ولا يمكننا، بالطبع، قبول هذا الرأي، لان معاني الكلمات تتطور، وهي ليست ثابتة. من ناحية أخرى، وخلافاً لما تقرّه النزعة الاسمية، فأن معاني الكلمات ليست اعتباطية، لأنه يجب علينا تبرير جميع التغييرات والتعديلات الحاصلة في معاني الكلمات، وإذا كانت معاني الكلمات اعتباطية، فلن يمكن للناس أن يفهموا بعضهم البعض.

الواقعية والاسمية تقسمان الاستدلال إلى قسمين: الواقعية تمثل نقطة الانطلاق في الاستدلالات، بينما تنشغل الاسمية غالباً بالاستنتاجات. وفي حِجاج مادي غير تجريدي، نحن بحاجة إلى الاعتماد على استقرار مبادئ/مفاهيم معينة لكي نتمكن من خلالها تغيير مفاهيم أخرى؛ وعلى إمكانية التبُّدل الموجودة في هذه المفاهيم الأخيرة. نحن نعيش في كون ليس جامداً ولا اعتباطياً بالكامل. وهناك بعض من الثبات في اللغة يتيح لتكوين جماعات محلية، وهناك بعض من المطاوعة والمرونة تسمح بالتطور.

وهذا التصور يتعارض بالطبع مع الواقعية والاسمية أيضا، لأن هاتين النظريتين تضعان الإنسان في مواجهة الكون برمته، متناسين أن تشييد فكرة المجتمع نفسه تجد مكانها المناسب بالاندراج بين الإنسان والكون. لقد تكوّن الإنسان وتشكّل من خلال انتمائه لمجتمع محدد، بغض النظر عن حقيقة مدى إدراكه لهذا الأمر، وهو ما يسمح بتصور تقليد ثقافي من ابتكار بشري، ويمكن تغييره من قبل الإنسان بمفرده منذ اللحظة التي يواجه فيها صعوبات بتطبيق أُطُر تفكير وسطه أو بيئته على مواقف معينة.

إن مشكلة اختيار المقدمات التي تطرح نفسها للوهلة الأولى على الشخص المُحاجِج، هي ذات أهمية قصوى، لان هذا الاختيار هو الذي سيحدد ما هي العناصر التي سوف يعرضها للجمهور المخاطَب، ويمنحها حضوراً présence غالباً ما يكون تأثيره في الحِجاج حاسماً. الحضور هو ذلك العامل الذي يستدعي انتباه المستمعين وتركيزهم على هذا الجانب أو ذاك من الواقع؛ على هذا التفسير أو ذاك للمعطيات، ولترشيح عناصر منها، في النهاية ، أي لإدراجها داخل النظام الذي يزوّدنا باللغة.

  • يتعلق بتفسير المعطيات، دعونا نميز في البداية بين العلامات signes وبين الإشارات indices. ونقصد بالعلامة كل ظاهرة تدل على شيء آخر، وندين للصلة الموجودة بين العلامة والمدلول المراد منها، إلى إرادة التواصل، فالعلامات هي لِسانية في الأساس، لكن ليس بشكل حصري. أما الإشارة، فنعني بها كل ما يشير لشيء آخر، دون أن تكون الصلة بين الإشارة وتفسيرها مشيّدة على رباط إرادي حرّ، إنها تدل على صلة إما طبيعية؛ وإما معتادة مألوفة، مثلما يكون الدخان إشارة على وجود النار، أو أن تكون طريقة معينة في الحديث هي إشارة على أصل معين.

من جهة أخرى، أن إشكالية عرض المعطيات وإدراجها ضمن مقولات لسانية محددة، تؤسس لعلاقة وثيقة الصلة للغاية بين نظرية الحِجاج والبلاغة: فالأسلوب وصوره البلاغية يمكن أن تهدف كلها، في المقام الأول، إلى إنتاج آثار حِجاجية معينة.

تتطلب دراسة شاملة لجميع طرق الحِجاج، إعداد رسالة ضخمة. ويجب أن نقتصر هنا، على بعض الأمثلة العامة وعدد من النماذج.

إن التقنيات الحِجاجية تظهر إما كروابط/الربط أو فواصل/الفصل. وقد المحنا إلى هذه الأخيرة عندما تكلمنا بخصوص التمييز الشائع بين المظهر والواقع، والذي ينتج عن الفصل بين عناصر تبدو إنها تشكل وحدة متكاملة.

أما طرق الربط الحِجاجية، فهي تهدف إما إلى هيكلة عناصر من الواقع في أبنية وإدراجها ضمن أُطُر جديدة، وإما إلى استخدام الأُطُر القائمة لننقل من الواحد إلى الآخر، عناصر تبدو إنها تدعم ثبات بعض الخصائص أو بعض التقييمات.

وتتطلب هيكلة عناصر للواقع داخل أُطُر جديدة، الاستعانة بالمثال؛ والإيضاح من خلال الاستشهاد بأقوال أو بحكايات معينة؛ والأنموذج، والمماثلة.

يهدف استعمال الحِجاج بواسطة المثال exemple أو الإيضاح بالاستشهاد illustration، إلى إما التأسيس لقاعدة عامة، وإما لتعزيز التأييد لها. بالنسبة للحِجاج بواسطة المثال، فهو يتكوّن إما داخل تعميم يبدأ من حالة أو من عدة حالات معينة؛ وإما خلال العبور من حالة معينة معروفة إلى أخرى غير معروفة. كل نظرية الاستقراء وقواعدها عند جون ستيوارت ميل ليست سوى تطوير للحِجاج بالمثال. أما الحِجاج بالاستشهاد، فهو يفترض أن قاعدة معروفة ومسلّم بها بالأصل، ويرمي، في المقام الأول، إلى مضاعفة حضور هذه القاعدة في وعي الجمهور المخاطَب.

بينما يحثنا الحِجاج بالأنموذج modèle إلى الاستلهام من أفعال ماضية، ومن طريقة سلوك الشخصيات المرموقة وصاحبة المقام الاجتماعي، لتقليدهم قدر الإمكان. فمن خلال ما يلعبه الحِجاج بالأنموذج من دور مميز، يمكن لطريقة تصور شخوص مقدسة وبطولية، أن تعطي طابعاً مميزاً لحضارة معينة.

نلاحظ، من جهة أخرى، أن استعمال الحِجاج بالمماثلة analogie هو أمر لا غنى عنه، عندما يجد المرء نفسه أمام حالة لا يوجد فيها مثال في الميدان المنظور فيه. وهذا ما يتطلب منا البحث عن طريقة في الاستدلال مع إجراء التعديلات اللازمة. فبينما يمكن في الاستدلال بالمثال، مقارنة حالة جديدة ج مع حالة قديمة ق، طبقاً للقاعدة ع:

=

نلاحظ في الاستدلال بالمماثلة، أنه يتم التأسيس لنوع من التناسب بين حالة جديدة ضمن مجالها م الخاص، وبين حالة قديمة ضمن مجالها م الخاص أيضا:

=

دعونا نأخذ هذا المثال. في العصور الوسطى، ومن اجل شرح العلاقة القائمة بين الفَضْل الإلهي والحرية الإنسانية، غالباً ما كانت تُستخدم المماثلة لضوء الشمس والعين الإنسانية التي تحتاج له لتبصِّر، لكن يمكن أن تغمضها ليزول تأثيره. وهذه حالة لمماثلة لا يمكن التحقق منها، لكن العلوم تمكنت من استخدام مماثلات بوصفها افتراضات إجرائية تخضع للمراقبة التجريبية، كالمماثلة بين التيار الكهربائي والتيار الهيدروليكي.

تمثل الروابط الحِجاجية المشيدة على أُطُر موجودة سواءً أكانت بشكل أبنية منطقية أو أبنية طبيعية، هي جوهر الحِجاج.

تستمد الحُجَج شبه-المنطقية قوتها حالياً من العلاقات التي قد تكون لها مع الأبنية المنطقية والرياضية. فالحُجَج التي تقدم قولين متنافرين غير متوافقين، تستلزم أن يكون الاختيار بينهما مشابهاً لذلك الاختيار الذي يستدعيه وجود تناقض معين. فيما نجد أن استعمالات التعاريف أو التحليلات تدعونا وفقاً لمبدأ الهوية إلى اعتبار أن المعرَّف به مساوياً للتعاريف أو أن الواقعة الخاضعة للتحليل مساوية لنتائج التحليل. في حين يتطلب اللجوء إلى قاعدة العدالة، أن نتعامل بنفس الطريقة مع جميع الأجزاء المنتمية لنفس الفئة. حتى توصلنا، وبوحي من قاعدة إدراج الجزء ضمن الكل، إلى تبرير تفوق الكل على جميع أجزائه.

أما الحُجَج المبنية على الواقع، فسوف تستخدم إما روابط التتابع،وإما روابط المعيَّة.

فمن جهة، بفضل العلاقة السببية، سوف يكون من الممكن إبراز تلك الحُجج المتعلقة بالصلات القائمة بين الغاية والوسيلة؛ والفعل وعواقبه. وسوف نقيَّم الفعل بناءً على نتائجه، تماماً مثلما سيكون من الممكن منح قيمة لوسائل معينة بقدر ما تسمح فيه ببلوغ الغاية المرجوة. كما وسوف يمكن تثمين هدف ما، تقديراً للتضحيات المبذولة في سبيله.

ومن جهة أخرى، يبدو أن أفضل طريقة لتمييز روابط المعيَّة واستيعابها، إنما تكون من خلال الصلة القائمة بين الشخص وأفعاله. فإذا كان من الصعب الحكم على شخص ما بشكل مستقل عن أفعاله، فغالباً ما يتم الحكم على الأفعال بناءً على ما نظنه بحق أصحابها، والنية المنسوبة إليهم من جانبنا، ستلعب لهذا الغرض الأساسي. ويمكن أن نعثر على هذا التفاعل المتبادل كذلك في علاقات فرد مع الجماعة التي يمثلها؛ لمؤَلف ما بالنسبة لعصر معين ولأسلوب معين؛ لايديولوجيا مفهومة تبعاً لموقف طبقة معينة. أما في الفلسفة، فقد أدت جميع هذه العلاقات، إلى ظهور جدلية الجوهر والفعل.

وفي كثير من الأحيان، نجد أن العلاقة نفسها مبنية على أساس الضمان الذي نمنحه لآراء شخص نقرّ له بالسلطة والأهلية. فما أن اخذ تأثير حُجَّة السلطة يزداد عن حده بشكل مفرط، لم تعد تحظى هذه الحُجَّة بتقدير كبير لدى العقلانيين والتجريبيين على حد سواء.

ولاحظ بهذا الصدد، أنه يمكن أن لا يلعب التفاعل المتبادل بين الشخص-الفعل نفس الدور في حالات معينة: عندما يتعلق الأمر مثلاً بقول حقيقة شيء ما، فليس هناك ثمة شك في إهماله لأنه يصدر عن شخص مُزْدَرى في الأصل؛ وبالعكس، إن كل ما يمكن أن يصدر عن شخص نفترض له صفة الكمال، لا ينتقص منه هذه الصفة ولو على سبيل الفرض. وكلتا الحالتين تمثلان خروجاً عن قاعدة التفاعل المتبادل التي يجب أن تحكم في الحالات المتوسطة. ويمكننا استكمال هذه الأمثلة عن الحُجَج، بالحديث عن حُجَّة الهرمية المضاعفة double hiérarchie. وفيها نستنتج من تفوق بعض الكائنات على أخرى (الإنسان على الحيوان؛ الإله على البشر؛ الكبار على الصغار)، تفوق السلوك الخاص بأولئك الكائنات الأولى على ذلك الذي يطبع تلك الثانية.

كل تلك الاستدلالات ليست قسرية إلزامية، لأننا نستطيع على الدوام أن نعارضها باستدلال في الاتجاه المعاكس، ويمكننا دوماً إثبات الجوانب التي تقع لصالح أطروحة ما أو ضدها، وهذا لا يعني ابداً أن للجانبين نفس القيّمة. وإذا كان الأمر كذلك، كيف يمكن لقاضٍ يجب عليه دائماً الاستماع لنسختين اثنتين للقضية نفسها من طرفي الدعوى، النطق بالحكم؟

-الحِجاج وأُطُره الفلسفية
من المستحيل بالنسبة لنا ضمن نطاق هذه المحاضرات، مواصلة البحث في التقنيات الحِجاجية. ونشير للراغبين بالاستزادة فيها، بالرجوع إلى أعمالنا المنشورة في هذا الموضوع والمذكورة في المقدمة أعلاه. لكننا، لا نود إنهاء سلسلة المحاضرات هذه، دون تقديم بعض الاعتبارات العامة عن الأُطُر الفلسفية التي تُدرج فيها نظرية الحِجاج.
  • التصور الديكارتي للعقل والحرية الإنسانية متلازماً مع نظرية الاستنباط ونظرية المعرفة الديكارتية، وقد اتخذ من الاستدلال الرياضي أنموذجه المثالي. فيجب علينا أن لا نُسلّم إلا بالبداهة، وبقدر ما نُخضع أنفسنا للأفكار الواضحة والمتميزة، نكون كائنات عقلانية حرّة. أما الحرية في المداولة؛ في الاختيار، وفي القرار، فهي ليست إلا نتيجة لجهلنا ولغموض أفكارنا النابع عن الأهواء، وللتشويه الذي يصيبها نتيجة لمَلَكَة الخيال. وكل فعل حرّ غير متطابق مع الأفكار الواضحة والمتميزة، يعبر عن ضعف.

وبحسب هذا التصور الديكارتي، يُنظر للعقل على انه ابدي ومستقل عن التاريخ، ولا قيمة للتقاليد الاجتماعية والثقافية تستدعي الحفاظ عليها، بل يجب رفضها مثلها مثل العديد من الأخطاء. لكن، ما العمل في جميع الحالات التي لا حصر لها، حيث لا تكون فيها أفكارنا واضحة ولا متميزة؛ ولا تفرض نفسها على الجميع بنفس المستوى من البداهة ؟ هل يجب علينا، حينئذ، أن نسلّم أنفسنا لما هو غير عقلاني نابع عن أهوائنا أو عن خيالنا؛ أو عن المؤسسات الاجتماعية التي هي، وفقاً لديكارت، غير عقلانية كذلك؟ وإذا كان قد عبّر ديكارت وخلفائه عن ثقتهم بأن جميع المشاكل الإنسانية هي قابلة للحل العقلاني من حيث المبدأ، لأنها، في الواقع، واضحة ومتميزة مسبقاً في مَلَكَة فِهم إلهي تصلح في الفكر الرياضي لأن تكون بمثابة الأنموذج المثالي المقترح على الإنسان في جميع الحالات، فأن التحليل الحديث للفكر الاستنباطي يدعونا لِزاماً إلى مراجعة هذه التصورات.

لا يمكن للمنهج الاستنباطي أن يكون مُطبّقاً بطريقة دقيقة إلا داخل نظام مُصورَن formalisé يفترض ابتكار لغة صُنْعية ثابتة غير قابلة للتغيير. ولا يمكن للنظام البديهيّ axiomatique المُصورَن أن يمدنا سوى بترسيمات يستدعي تطبيقها، من قبل، اللجوء لصيغ غير شكلانية. والفِكْر المُصورَن الصارم كالذي يمكن أن تحاكيه مختلف العمليات الحسابية وغيرها بواسطة الآلات، لا يمكن أن يتم اعتباره انموذجاً صالحاً في جميع المجالات، انه يمثل مجرد استثناء. صحيح، أن لهذا الاستثناء قيمة لا تقدر بثمن في حضارتنا التي يمكننا القول أن علم الرياضيات وتطبيقاته يمثلان سمة متميزة فيها، إلا انه من المهم ألا نرى فيهما الأنموذج الكلي. فلابد من تحديد موضع الفِكْر المُصورَن/الشكلاني داخل نطاق فِكْر لم ولن يكون شكلانياً ابداً.

عندما يُنظر إلى الفِكْر كالمُرشد الموجِّه للفعل؛ والمشرف الذي يُدير ويُنظم مداولاتنا ونقاشاتنا، ويُحدد قراراتنا ويُبرر اختياراتنا، لا يمكن للنموذج الديكارتي حينها، أن يُقدم تفسيراً لبنية استدلالاتنا ابداً، لأنه في جميع هذه الحالات، نحن لا نتعامل مع فِكْر برهاني، وإنما مع فِكْر حِجاجي. وإذا كان الحِجاج لا يقع ضمن أُطُر التصور الديكارتي، فهذا لا يعني انه غير منطقي، فهو أيضا يتوفر على أبنية وتقنيات خاصة يمكن اعتبارها موافقة لما هو عقلاني يتجاوز المعنى الشكلاني لهذه الكلمة. ولا يشير هذا قطعاً إلى العقل الأزلي الثابت غير القابل للتغيير، وإنما إلى كل ما له علاقة بالعقل البشري المتعين ضمن أُطُره الاجتماعية والزمانيَّة التاريخية. إن الأسباب الواردة في حُجَّة معينة، والتي كانت ما تزال وفق باسكال مُفرَطة في الديكارتية «فلا يعرفها العقل» بعد، هي أسباب تعتمد على التقليد والمحيط والثقافة التي تُشكِّل معاً الشخص المُحاجِج وجمهوره على حد سواء. وبدونها، سيكون العالم خالٍ من المعنى، وستغدو الأسباب الوحيدة المحرِضة على الفعل هي فقط غرائزنا وأهوائنا. لكن، إذا كان التقليد يوفر نقطة ارتكاز للفعل الإنساني، وهذا التقليد هو عمل إنساني، ويمكن بالتالي تعديله من قبل الإنسان نفسه. وهذا ما يحصل في الحِجاج، فلا يمكن لعملية الاستدلال عن الأحكام القيّمية أن تكون نسخة طبق الأصل من العقل الأزلي، أنها مُبتَكرَة تحمل علامة صاحبها.

  • لا تكون الأسباب الواردة في الحِجاج قسرية إلزامية ابداً، نجد أن الخصم المعارِض يصمت أمام البداهة، أما في الحِجاج فهناك دائماً بجانب الأسباب التي تقع لصالح الأطروحة موضوع النقاش، أسباب تقع بالضد منها. لكن، هذا ليس بسبب يجعلنا نمتنع عن اتخاذ قرار بشأنها، لأنه يجب ألا نعطي لهذه الأسباب المتخالفة فيما بينها، نفس القيمة بالضرورة. فالقاضي مثلاً لا يصدر الحكم في الدعوى القائمة، إلا بعد سماع المرافعات والتداول بشأنها. وقراره ليس ناتج عن عملية حسابية –رغم انه من الروتين في كثير من الأحيان– بل انه يستدعي حسَّه النقدي، وروحه من البَرَاعة والنزاهة، هو قرار يضع حريته كإنسان على المِحكّ، حينما تجد احياناً انه من الضروري إتباع النماذج المقدَمة عن سوابق قضائية وليس عن عقل الهي؛ وعندما تكون، في أحيان أخرى، حرية مُبتكرِة خلاَّقة لتمثل منعرجاً في فقه القانون. على أي حال، في الحِجاج، وتحديداً لأنه ليس قسرياً بالكامل، يتعهد الإنسان بالالتزام أثناء اتخاذه القرار؛ فمسؤوليته معرضة للاختبار دائماً؛ وعقله لم يعد منفصلاً عن مجمل تكوينه الشخصي. فالعقل والحرية الإنسانية اللذان يمثلان شرط الحِجاج البلاغي، وكذلك التأييد لأطروحات المتكلم أو رفضها، كلها تختلف تماماً عن الأنموذج الديكارتي الأبدي الثابت غير القابل للتغيير. فهي تنظر بعين الاهتمام للفرد والقيّم الخاصة به، ولن يغيب عنها أن تضعه ضمن جماعته المحلية التي صاغته وشكلته، وبدونها سيكون عاجزاً تماماً.

*باحثة ومترجمة في الدراسات الفلسفية والحجاجية

[] ما بين القوسين يعود للمترجمة

* هو رمز مثبت على مفاهيم محددة ضمن متن النص، يُشير إلى إمكانية الاستزادة حولها، بالعودة لقائمة مسرد المصطلحات والمفاهيم.

مسرد المصطلحات:

-المنطق الكلاسيكي: هو منطق يختلف عن المنطق التقليدي أي الأرسطي. وهو جزء مركزي في المنطق المعاصر. ويشير في الأصل إلى النظرية التي طورها فلاسفة المنطق المعاصر غوتلب فريغة؛ وبرتراند راسل، في نهاية القرن التاسع عشر.

- منطق بورت رويال هو الاسم المعتاد أطلاقه على كتاب أنطوان ارنولد وبيير نيكول والموسوم بـ: المنطق أو فن التفكير، والصادر في باريس عام 1662 بدون اسم الكاتب.

- المنطق المادي: يشير إلى مجموعة من القواعد التي ينبغي إتباعها من اجل تنظيم مادة أفعال الذكاء البشري لغرض الحصول على نظرة علمية متكاملة عن الأشياء المحيطة بالإنسان. وينقسم المنطق المادي إلى ثلاث أقسام: مادة المفاهيم concepts؛ مادة الاستدلالات raisonnements، ومادة العلوم أو مناهج العلوم Méthodologie.

-الخاصية المعيارية : أي ما يمكن أن يشكل بوصفه انموذجاً مثالياً المعيار والقاعدة للفعل و السلوك الإنساني، فيجري إصدار أحكام القيمة بالقياس عليها.

-المنطق الشكلاني: هو حقل من حقول المعرفة يعمل على تجريد abstraction مادة الشيء الذي ينشغل به التفكير. وهو بهذه الطريقة، لا يهتم سوى بدراسة الأشكال formes لغرض التوصل إلى تعيين أشكال الاستدلالات الصائبة وغير الصائبة. للمزيد، يُنظر:

Dictionnaire de la Langue Philosophique, Par Paul Foulquié, avec la collaboration de Raymond Saint-Jean, PUF, 1962, pp. 286-292.

-مصطلح التأييد l’adhésion [وليس التسليم خضوعاً وإذعاناً كما هو شائع خطأ في اغلب الترجمات والمؤلفات في البلاغة العربية] يشير استعماله غالباً إلى الموافقة المعطاة لمبدأ أو لعقيدة أو لايديولوجيا مسيطرة. وهذا يعني أن التأييد يستدعي المشاركة والانضواء تحت الطريقة نفسها في النظر والإدراك لمعايير الأخلاق، لهذا يمكن أن يكون التأييد هو أيديولوجيا لها من القوة والتأثير المماثل لتلك الخاصة بسلطة مشيدة وراسخة. بعبارة أخرى، أن التأييد هو مشاركة في صناعة الآراء والاعتقادات doxa لان آثار تأييد وتصديق رأي معين ستضع القيّم المحمولة فيه موضع صيرورة دائمة. للمزيد، يُنظر:

Le Dictionnaire du Littéraire, Sous la direction de Paul Aron & Denis Saint-Jacques & Alain Viala, PUF, 2e éd., 2010, pp. 6-7.

- كانت فكرة جمهور مستمَع auditoire هي احد الأفكار التي احتفظ بها بيرلمان عن البلاغة القديمة، إضافة إلى مصطلحات الخطاب والمتكلم. لكنه، لم يقصُر استعمالها على معناها التقليدي المتداول في سياق البلاغة اليونانية القديمة أي "جمهور مستمع" [وهو تعبير ساد خطأً في اغلب مؤلفات البلاغة العربية]، وإنما امتدت حسب تعبيره، لتشمل مختلف أشكال الجمهور المخاطَب الذي نتوجه إليه بخطاباتنا المكتوبة والشفاهية على حد سواء. للاستزادة حول هذا الموضوع، يُنظر:

Chaïm Perelman et L. Olbrechts-Tyteca : Traité de l’argumentation… La nouvelle rhétorique, tome premier, PUF, Paris, 1958, p-p. 7, 8-10.

-لقد كان للباحثة الفرنسية المختصة في الفلسفة السفسطائية باربارا كاسان وجهة نظر تحليلية ونقدية تجاه موقف بيرلمان الذي ظلّ متأرجحاً في كتاباته بين أن يكون مع أو ضد فلسفة بلاغة أفلاطون؛ وبالطريقة التي كانت تجعله فيلسوف بلاغة مشابهاً لموقف أفلاطون ضد الآخر السفسطائي. حول هذا الموضوع، يُنظر:

Barbara Cassin : L’effet Sophistique, la valeur de la rhétorique : De Platon À Perelman, Gallimard, 1995, p-p. 411-435.

- وصف ببرلمان مفهوم الجمهور الكوني auditoire universel بأنه جمهور مركب من عدة أبنية ثقافية، يجب على المتكلم أن يعمل على تفكيكها الواحدة تلو الأخرى. انه جمهور أشبه بتجمع برلماني ينبغي عليه أن يأخذ القرار ويصدر الحكم بالطريقة المرضية لجميع الأحزاب ولمرجعياتها الأيديولوجية. ويعد هذا المفهوم واحدًا من المفاهيم المثيرة للجدل بين الباحثين، والتي تعرضت كذلك للنقد بشكل كبير، حتى جرى على إثرها مقاربة بيرلمان مع كانط في مرحلته العقلانية المثالية المبكرة ومع هابرماس أيضا. للمزيد، يُنظر:

Emmanuelle Danblon : La Nouvelle Rhétorique de Perelman et la question de l’auditoire universel, un article dans le livre : Perelman le renouveau de la rhétorique, Coordonné par Michel Meyer, PUF, Paris, 2004, p-p. 21-37.

وللمزيد حول مفهوم الجمهور عند بيرلمان:

Chaïm Perelman et L. Olbrechts-Tyteca : Traité de l’argumentation… La nouvelle rhétorique, tome premier, 1958, p-p. 40-46.

* Chaïm Perelman : Cours de logique … Logique Formelle et Théorie de l’argumentation (Pro manuscripto), 3 fascicules, PUB, 1959, 7e éd. 1964. Premier fascicule, Introduction historique…Antiquité. Deuxième fascicule, Introduction historique…Moyen âge et Temps modernes.