تصور الكاتبة العراقية الشابة بأسلوب سلس الفعل البطولي لعراقية تقع في أسر قوى الظلام وقت احتلالها لثلث الأراضي العراقية متخذة المكان الأكثر حيوية في العراق الموصل وسهلها الذي تمتزج فيه الأعراق والأديان في قرى متداخلة متجاورة، فنتعرف على ماجرى من عين بطلتها "إيفن" التي تتعرضت للأسر والاغتصاب والإذلال في سجون وبيوت المتطرفين، وتتمكن من الإفلات لتقاتلهم في صورة نضالية مرسومة بإنسانية وشغف.

أيفن

مريـم جـلال

 

من بعيد أتيتُ وأنا ألثمُ الريح العليل. نسيم أسرني في هواه. أسرعتُ خطاي للوصال، وجدتهُ شاباً في مقتبل الحياة. وجدته مبتسماً ساخراً، في عينيه إصرارٌ لأذلال الموت. ابتسم ابتسامةً أعقبتها ألف حسره، ثم فارق الحياة. كل من كان هناك اطلق الهلاهل. سمعتهم يقولون:

- هلهلوا للشهيد!.

زوجته تضرب خديها، تنثر شعرها. وأمه تبكي بدموعٍ مثل نهر على الخدود تردد هاذيةً:

- أبلغْ سلامي لأخوتك الذين سرقتهم الحرب مني، أخبرهم ان وقت اللقاء قريب.

إبنته البالغة من العمر ثلاث سنين تقول:

- وداعا يا أبي!.

ووضعتْ وردة حمراء على صدره لم أعد استطيع تمييز لونها من دمه. قبّلتهُ من جبينه وهي تبكي. جفت الدموع من عينيّ راضخةً لعهدي وعادت بيّ الذكريات إلى وقتٍ ليس ببعيد؛ كنتُ الفتاة الوحيدة لوالديَّ، كنتُ فتاةً جميلةً لا تعرف الشقاء، رقيقة، تخاف من عتمة الليل. كانت الحياة بالنسبة لي أجمل من أي حلم. كنت اشعر التعب، اليوم كان طويلا جدا. أردتُ أن أنام لكن لم استطع، بدأت ذكرياتي تتسلل إليّ، كيف استطعت حمل السلاح لأول، لكن لم أستطع تحّمل دوي الطائرات و صوت اطلاق النار، قاتلتُ في الصفوف الامامية وحافظتُ على سلاحي، كيف لا بعد ما مررتُ بهِ من أسى. فعدتُ لا أخشى شيئاً سوى فقد والديَّ. كنتُ أريد أن أصل اليهما بأي وسيلة. فمنذ أسري من قبل قوات "داعش" لم اعلم عنهما اي شيء. غفوتُ دون أن أشعر حتى الفجر.
ذهبت الى البناية القديمة كي اجهز سلاح القناص الخاص بي
- صباح الخير أفين
- صباح النور علي
- يبدو انك اليوم متحمسة جدا
- نعم أرغب بشده ان تنتهي هذه المعركة في القريب لقد اشتقت الى وَلِدَيَّ
استمر القصف ما يقارب الثلاثة أيام فحوصرنا وفقدنا الكثير من رفاقنا، وأستطعنا بعناء الدخول إلى المدينة. لم يكن المنظر جديداً أو غريباً بالنسبة لي. الدمار سيد المشهد أجساد القتلى من الطرفين تغطي المكان. رائحة الموت، الاجساد المحروقة، الدم، في كل مكان. أسرعتُ بالبحث عن أي دليل يقودني إلى والديَّ. كان السكان يخشون الخروج، لكني حاولتُ جاهدةً العثور على أي دليل، وأخيراً رأيت جار لنا فسألتهُ بلهفة، فنظر نحوي مستغرباً وقال:
- من أنت حتى تسأل عنهما؟!.
- ألم تعرفني يا عم؟!.
كان محقا هيئتي كانت تشبه الرجال ارتي البدلة العسكرية والقبعة العسكرية تغطي ما بقي من شعري
-انا أيفن يا عم
- حقا انت

- نعم
_ لكن لِمَ أنت بهذه الهيئة

- إنها قصة طويلة ارجوك اخبرني اين يمكنني العثور عليهما؟
- لا اعلم لكني أعتقد أنهما في إحدى المناطق التي لم تحرر بعد. آسف لأني لا استطيع مساعدتك!.
شعرت بخيبة أملٍ كبيرة لكني حاولتُ إقناع نفسي بأني سوف أجدهما.
دخلتُ بنايةً كبيرةً تحوي العديد من الغرف، أشبه بفندق. رأيت مجموعة كبيرة من الجنود مجتمعون أمام باب بطرف الممر، لم أستفسر منهم، فهم سيتجاهلون أسئلتي ككل مرة. فتحت باب الغرفة ودخلت. وجدت مشهداً جعل كل قواي تنهار. مأساة أحاول أن أنساها لكنها سبب قوتي. الآن علمت ان هذه البناية كانت سجنا لنساءٍ تتراوح أعمارهن بين إثنتا عشر وخمس وعشرين سنة. فتيات كان الجمال بادي عليهن بالرغم ما كان قد حلَّ بهن؛ الكدمات الزرقاء تملأ أجسادهن، كن شبه عاريات وأنينهن يدوي بأذني لم أتمالك نفسي، أسرعت بالفرار خارج ذلك المبنى، وجدتُ زاوية فارغة. جلست فيها. تركت سلاحي يسقط إلى جانبي وبعد أن تأكدت أن لا أحد يراني. رأسي بدأ يؤلمني، مشاهد حاولت نسينها لكنها عادت قوية واضحةً. رأيتهم مرة أخرى كيف دخلوا بيتنا وامسكوا بي. ارادوا أخذي. توسلت بهم أمي فضربوها. أبي يصرخ:

- خذوني بدلا عنها!.

أخذوني بعد أن عصبوا عيني إلى مكان أجهله تماماً. حجزوني في غرفة تشبه تماما تلك التي رأيتها قبل لحظات. كنتُ ارتعش من الخوف وأبكي، فمن أكبر مخاوفي الظلام وأنا الآن في غرفةٍ شبه مظلمة، ويأتي الآنين من كل مكان. كدتُ أجن حينما فتحَ باب الزنزانةِ رجلٌ وامسك بيدي. لم أستطع في تلك لحظات تمييزَ
ملامحهِ. كان يسحبني في ممر مظلمٍ طويلٍ إلى أن وصلنا غرفة جانبية، فتح بابها. أدخلني وأغلق الباب. الغرفة مضيئة قليلا بما يكفي لرؤية ملامحه، كثيف الحاجبين، عينيه سوداوين صغيرتين، أنف كبير وأسنانه العلوية بارزة كبيرة. الشعر يغطي وجهه ويلتحك مع شعر راسه الكثيف، كأنه لم يحلق منذ سنه. ما أخافني هو الشرر القادح من عينيه وهو يقترب مني أكثر فأكثر حتى شممت رائحته الكريهة، كانت لا تطاق. دفعتهُ بكل ما
أُوتيتُ من قوةٍ. لم يتحرك سوى بضع خطوات لكن تلك الحركة أثارت غضبه بشدة. دفعني بقوة سقطتُ على السرير. جثى فوقي. كان جسده كبيراً جداً. شعرت أنهُ بحجم فيلٍ. أمسك بيدي. حاولت المقاومة. لم أقدر. قلبي يخفق بسرعةٍ. ارتفعتْ حرارة جسدي. وانفجرت ببكاءٍ وعويل ثم صرختُ بشده. كان يستمتع بصراخي غارزاً خنجراً في وسطي، كانت ليلة من ليالي جهنم. لم يكن وحده، بل دخل خلفه أربعة يشبهونه إلى حد كبير؟. فعلوا ما فعلهُ ففقدت الوعي. لم أعد أشعر بما يدور فوجدتُ نفسي في زنزانة وفتاة في العشرين من عمرها حسنة الوجه

بعينين خضراوين لامعتين كحقلٍ أخضر توقظني. نهضتُ مرعوبة منهكةً امسكتُ بيدها ورحتُ أصرخ:

- ماذا تريدين مني اتركيني ما ذنبي!.

أجابت بكل هدوء:
- لا أريدُ شيئاً وجدتكَ فاقدة الوعي حاولت إيقاظك!.

- كيف اتيت الى هنا ؟
- أتى شخص ورماك هنا ثم خرج.
كان التعب قد نال مني لم أكن قادرة على الوقوف. جسدي الضعيف كان بأمس
الحاجة إلى الغذاء. تذكرتُ ما جرى معي ليلة أمس. كرهتُ نفسي. تمنيت الموت لكن
ما من مهرب، تكرر حدوث نفس الشيء معي مده شهر، لو ان ذاكرتي لم تخني كنت
في احدى الليالي اتلوى من الألم، كنتُ أشعر أن شيئاً ما بداخلي يتقطع. شيءٌ
سوفه يقتلني، حرارتي كانت مرتفعة جداً. كنت غير واعية أو شبه مدركه لما كان يجري داخل
الزنزانة حينما دخل رجلٌ أراد مضاجعتي، لكنه تراجعَ عندما رأى حالي. لا أدري ما لاحظه عليّ وجعله يغير رأيه، فهم في العادة لا يأبهون للمريضة أو المتعبة، كل هدفهم هو إشباع غريزتهم، كانوا أشبه بوحوشٍ متعطشةٍ للجنس. عندما خرج أقبلتْ امرأة نحوي. أذكر أنها صرختْ على كل من كنَّ موجودات:

- ساعدني.. أنها تجهض!.

لم أعد أدرك ما جرى بعدها، فتحتُ عينيَّ وأنا شبه عاريةً ملقاة في مكان بدا لي انه مكب نفايات. هممت بمسح دموعي كي لا يبدى عليَّ أي شيء فأنا فتاة قوية عاهدت نفسي على أن لا أجعل الماضي نقطة ضعفي بل جعله مصدر قوتي، هؤلاء النساء مثلي هنَّ بأمس الحاجة لي يجب أن أساعدهنَّ.

جمعّتُ كل ما يمكنني جمعهُ من ملابسٍ وأقمشةٍ. أمسكتُ ببندقيتي. عدتُ مسرعةً إلى ذلك السجن. لا زال الجنود متجمعين أمام باب الزنزانة المفتوحة والبنات مازلن في داخلها مكومات على بعضهت يترجفن بصمت وينظرن بعيون مذعورة نحونا. صرختُ بهم غضباً:

- ما بكم تقفون هكذا أما أن تساعدوني أو تخرجوا!.
رأيتهم ينظرون نحوهن باشمئزاز وأحتقار. عيونهم تنطق بكلماتٍ أشّدَ من الموتِ. صرخت بهم ثانية معيدةً نفس جملتي لكن بغضبٍ هذه المرة، فصرخ أحدهم في وجهي غاضباً:
- أنت عار بالنسبة لنا، وهنَّ عار على المجتمع. كان يجب أن تموتي منذ وقت طويل، أنت تبحثين عن أهلك، ههههه هم سوف يقتلونك. ضيعتي شرفهم!.

وأشار إلى البنات المرعوبات بطرف الغرفة وأكمل:

- هذني عار، منبوذات أن لم يمتن الآن فغداً!. لذا ل نتعب أنفسنا

- أنت ومن معك تحاربون "داعش" وما تقوله لا يختلف عما قاموا به، هذا كلام إرهابي!.
- كيف تجرئين على نعتي بهذه الصفة!.
- أنت تكمل ما بدأ هم به، اغتصبوا أجسادنا وأنتم تغتصبون أرواحنا!. تعلمون علم اليقين أن لا ذنبْ لنا، أنا ذاهبة إليهنَّ. لا أحتاج مساعد من أحدٍ!.

تركتهم ودخلتُ إلى الزنزانة. كن جالسات لا يتحركن. قلت لهن:
- هيا البسن سوف نخرج من هنا!.

ردت واحدةً:

- إلى اين سنذهب لا نعلم شيئاً عن عوائلنا.
كانت فتاة في الخامسة عشر من عمرها، وأي فتاة!. كان لها عينين جميلتين أرى البحر من خلالهما، ووجهٍ جميل بالرغم من بقع الضرب الزرقاء.
- لا عليك سوف أتدبر أمرك
صرخت إحداهن:
- ماذا بوسع فتاة مثلك أن تفعل!.
وقالت أخرى بصوت مكسور

- إن عثر عليّ أحد أفراد عائلتي سوف يقتلني. لقد جلبت العار لهم!.

خاطبتهن:

- هل كنتن راضيات عما فعلوه بكنَّ!. لستن مذنبات، كانوا وحوش بشرية، أتوسل إليكنَّ، كنَّ قويات من أجل أن
تعشنَّ بكرامةٍ. الأمر ليسَ سهل. أنا عانيت مثلكن عشت ما عشتن، لكني تخليتْ عن شعري انظرنَّ!.

ونزعتُ القبعة العسكرية وأكملتُ:

- شعري كالحرير لونه كشعاع الشمس تخليتُ عنهُ في سبيلِ أن أصل لما أريد هذا ما أستطيع أن أقدمه، لكن والخيار الاخير!.
وتركت الزنزانة. خرجتُ كان المساء قد حلَّ. جلستُ أحدق في السماء متأملة نجومها العاليات، فعادتْ لي بعض الذكريات؛ كيفَ كنتُ لا أقوى على حمل السلاح، نحيفة، قصير القامة، كنتُ أريد الأنتقام، أريد أن أرى أمي وأبي، كم أنا مشتاقة لهم، وها أنا أحمل سلاحي أينما ذهبتْ، كنتُ سابقاً لا أتحمل رؤية الدم، وهاهو يسيل امامي أراه في كل مكان، أتذكر كيف التقيت أمر اللواء الذي تطوعت فيه أول مره رجوته أن يعطيني سلاحاً أقاتل، رفض طلبي قال:

- عملك الاداري يكفي لا اريدك تموتين!.

- في كل الاحوال سنموت أرجوك أسمح ليّ بالقتال!. المشكلة كوني امرأة أعدك بأني سأتعلم على السلاح بسرعة وسأرتب شكلي!.
وأمسكت مقصاً قصصت به شعري:

- أرجوك أسمح لي!.

فَقَبِلَ بعد ما رأى أصراري. كانت هيأتي في الملابس العسكرية يرثى لها فالبدلة كبيرة والحذاء ثقيل، والجنود يعاملوني ومازالوا بنفس الحد والقسوة كأني السبب في بعدهم عن ديارهم. أتذكر أول معركة كم كانت صعبةً، الحذاء الثقيل والسلاح الثقيل أيضاً أحمله بعناء والبدلة الكبيرة الحذاء الكبير وصوت الرصاص والسماء ترعد، لم أفعل شيئاً سوى المراقبة بدأوا بالانسحاب لكني تأخرت، فلم أشعر إلأ بشخصٍ له صفات الشخص الذي أغتصبني أو رأيته بتلك الهيئة رفعت سلاحي بوجهه كان يضاء ببرق السماء الخاطف وفي ملامحه سخرية ني، يظن اني لا أقوى على إطلاق النار، صار قريباً كان يريد مسكي، وعلى ضوء برق ضغطت على الزناد فتكوم على بعد ثلاث أمتار مني، سقط جثة هامدةً، أفزعتني أول وهلة بركة الدم المتوسعة على لمح الضوء لكنني شعرت بنشوة بنشوة الانتقام ممن دمرني. استجمعت قوايّ ولحقت برفاقي. كنت فخورةً بما فعلت شاعرةً بنفسي قويةً، قادرة سخر أحدهم مني قائلاً
- نقاتل عنكم لنحرر أرض الوطن، سنجد والديك، عليك أن تجلسي في مخيم وتنتظري أما عن الانتقام نحن سننتقم لك، النساء ليس لحمل السلاح والأختلاط بالرجال، عليك أن تتحجبي وتستتري وتستغفرين ربك كي يغفر لك خطيئتك!.
- عن اي خطيئة تتكلم أنا لم اخطئ، أنا يزيدية ونحن لا نرتدي الحجاب، فأن أجبرتني فلا فرقَ بينكَ وبينهم. لستُ ضعيفة أو عاجزة عن أن أجد ولديَّ أو أن أنتقم لنفسي. لي علاقة مع ربي لا دخل لك فيها او لأي غيرك. لا يهمني ما تقولوه لن انثني عما قررته.
واثقة بأنهما يفتخران بي لأني أقاتل من أجلهما.. أذكر كيفَ ذهبتٌ في صباح اليومْ التالي إلى قائد اللواء وطلبتُ منه حمل بندقية القناص، فاستغربَ من طلبي. أمضيت الليلة الفائتة في التفكير بها. رفضَ في بادئ الامر لكني اصررتُ. وحينما قرأ الجدية في عيني وصوتي وافقَ. وكلف "علي" الشاب الجنوبي بتدريبي فاستطعت أتقان الرمي بسرعة جعلته يتعجب، وعانيت كثيراً في المعارك وخصوصا حينما أصوب نحو هدفاً قبل الضغط على الزناد قائلةً مع نفسي:

- أنه نفس.. انه إنسان يا ربي.. إنسان، وأنا لا أريد ان أكون قاتلة!.

لاحظ "علي" ذلك عليَّ فراح يذكرني محرضاً:
- لا تنسي ما فعلوه بك وبأهلك وبأبناء وطننا هؤلاء لا تستحقون الحياة!.

- هذا سبيلك الوحيد للانتقام!.

لم انس فضلة ما حييت.

حلَّ الصباح وكنا في معركة شرسة، قصدت موضعي، وكنت قد تمرست وتعودت على البسطال العسكري الثقيل واللباس العسكري، لم أشعر بسلاحي ثقيلاً بعد مرور ثلاثة أشهر.

بدأت الطائرات بالقصف كانت معركة طويلة لم استطيع النوم، فبدأ النعاس يتسلل الينا، قال علي:
- أيفن يجب أن لا تغفي.

- وأنت أيضا.

فجأة توقفت الطائرات عن القصف وتوقف إطلاق النار لكن حالة الإنذار ما زالت مستمرة، تلقينا أوامر بالبقاء في موقعنا والأستمرار في المراقبة وأطلاق النار عند أي تحرك للعدو، رغبتُ بالنوم بشدة قلت:

- كم أتمنى النوم ولو للحظات!

قال علي:
- كم أتمنى سماع صوت خطيبتي أشتقت اليه، لم أسمعه منذ وقت طويل بسسب ضعف التغطية!.
- "علي" لماذا تطوعت لتقاتل هنا وأنت من مناطق آمنة وخطيبة تنتظرك؟!.
- أليست الموصل جزء من العراق، ولدي شعور وطني الحمد لله، وثانيا البطالة، دون التطوع لا أستطيع الزواج من زينب الحلوة وبناء أسرة!.

سألته:

- يبدو أنك تحبها كثيراً

- حاربت الدنيا كلها لكي أظفر بها!.

سكت قليلا ثم سألني:

- أيفن ما حبيتي بحياتك؟!.
- بلى أحببت حب استمر طويلاً أبن قريتي "باسل" ومن المفترض أن نتزوج وقبل شهر وقعت في الأسر ولا ادري عنهُ أي شيء. وأحتمال انه قُتِلَ!.
- لا تيأسي فالدنيا كبيرة وانشاء الله تحضين به قريباً.
- تباً لهذه الحرب البائسة كم فرقت عشاق وشتت عوائل وسفكت دماء!.
فيما كنا نتكلم بدأت الشمس بالطلوع. عاد بمستطاعي رؤية وجه "علي" كان شارداً
متبسم يتذكر ماضيه. وفجأة بدأ إطلاق النار كثيف جعلني أرمي بجسدي إلى الأرض، وحينما رفعت رأسي رأيت "علي" ساقطا على ظهره سابحاً بدمه النازف من صدرة. أسرعتُ نحوه وحاولت وقف النزف براحة يدي. كان يذوي وقبل ان يغمض عينيه أوصاني كي أبلغ أمه وخطيبته السلام. جمد متبسماً فشعرتُ بألمٍ شديدٍ في صدري. لقد كان صديقي وأنيسي في محنتي ساعدني كثيراً الوحيد الذي صدقني كان يقول لي أني بريئة وضحية يجب تأخذي حقك بيدك. كان يدعمني حين أضعف أمسكت سلاحي وبدأت اقاتل حتى قليل نفدت ذخيرتي فاستخدمت ذخيرة علي وظللت أقاتل حتى قدوم المساء.
بدءوا بالانسحاب الى ان اخلوا تلك المنطقة بالكامل أخبرت القائد بأستشهاد "علي". كان من ضمن قائمة طويلة من الشهداء الذين قتلوا. أوصيت من كان مسؤول عن ايصال الجثث الى ذويها برسالته وتركتهم. كنتُ حزينةً جداً حلَّ الليلُ، لا أستطيع أن أتحرى عن أي شيء. أردتُ النومَ فقط. تناولتُ كسرة خبز وخلدت إلى النوم. كنتُ منهمكة نفسياً وجسدياً. أتى الصباح مسرعاً. جهدتُ في بحثي طيلة اليوم لم أعثر على ضالتي. أصابني اليأس من العثور على والديَّ. جلستُ قربَ شجرةٍ أفكر بما يجب عليَّ فعله. وفيما كنتُ غارقة بالتفكير رأيت شيخاً مقبلاً من بعيد نحوي، ألقى علي التحية وسألني:
- لم يبدو عليكٍ الحزن يا بنتي؟!.

- كيف عرفتَ أني فتاة فهيأتي لا توحي بذلك.

- ليس الامر بصعب على من في عمري.
سألته عن والديَّ لعله يعرف عنهما شيئاً وذكرت له أسميهما وقريتنا، ففكر قليلا. كان متردداً وبعد دقائق حسم الأمر إذ قال:
- تعالي معي يا ابنتي.
سرتُ معهُ. طول الطريق كان يحدثني عن أمور فلسفية لم أستطع فهم جميعها بسبب ما كنتُ عليه من حزن وتعب لكن جلَّ ما فهمته أن الموت يأتي في أي وقتٍ هو أمرٌ خارج عن القدرة البشرية. قادني إلى مكان يشبه مقبرة حديثة وأوقفني أمام قبرين حديثين. تساءلتُ في نفسي ما الذي يريد إيصاله، وما هذا المكان؟!. بعد صمتٍ طويل قال:
- يا أبنتي لقد قتل وَلِدّيكِ قبل بضعة ايام وهذا قبرهما فليكن الله في عونك!.
تركني وذهبَ. وقعتُ على الارضِ، وبدأت الدموع تنهمر من عينيّ.. أمس فقدتُ "علي" واليوم والديَّ. ظللت ألوم نفسي لِمَ تأخرتُ في انقاذهما، ووجدت نفسي أصرخ:

- أنا السبب.. انا السبب.. أنا السبب!.

جلست طوال الليل جوار قبريهما أتكلم معهما كأنهما حيان ويسمعانني. حكيتُ لهما كل ما جرى معي. أخبرتهم أني بريئة مغتصبة. ورويت ماجرى لي في الجيش. مكثت حتى لاح الفجر. كان عليّ أن أختار أما الأستمرار في القتال أو الانسحاب فقد كنت أحارب لكي أجدكما وأنتقم، أما الآن فَلِمَ أحارب؟. وجدتُ إجابة معقولة ساستمر من أجل أخذ بثأر أمي وأبي علي وكل من سُفِكَ دَمهِ من الأبرياء. من أجل تحرير بنات جلدي الأسرى لدى داعش. عدت وقاتلتُ في الصفوف الامامية ببندقية عادية، لم أعد أخشى شيئاً. كنتُ أريد الموتَ، لكنني نجوتْ وأصبح الجنود ينادونني بأختي. كُسِرَ حاجز كوني امرأة بعد أن أدركوا أنا مثلهم أتحمل الأيام العصيبة جداً، حيث يكون أكبر حلم؛ تناول قطعة شكولاتة، أو النوم لربع ساعة وقت أشتداد المعارك.

مرت ثلاث سنين حتى تحررت "الموصل" أعلن "النصر". الجميع مبتهج يهوس أشعارا ويرقص إلا أنا، لم اشعر بأي فرحٍ لم أعد فتاة. كلُ شيءٍ فيَّ تحول. لا يمكن أن أعود فتاة عادية كما كنت قبل الحرب.

كيف للنصر أن يتحقق والدمار يعم المدينة بأكملها والنفوس

كيف يعلن النصر والكثير من العراقيات لم يزلن قيد الأسر

أي تحرير والاطفال دون تعليم، دون مأوى يتوزعون مه عوائلهم في مخيمات داخل مجمعات.

الحرب لم تنتهِ بالنسبة لي والنصر مازال بعيداً.

تطوعتُ مع فرق مختصة بمساعدة سكان المدن المخربة، عملت بكل ما اوتيت من قوة في مساعدة الشباب في جمع ما تبقى من كتب وإنشاء مكتبات، ورحنا ندور ونقيم محاضرات لتوعية الأطفال من سموم بثتها "داعش" في عقولهم، وفي أسعاف الأسيرات المحررات اللواتي ممرن بتجربة مثل تجربتي لإعادة الثقة وتخطي الأزمة، وتوعية المجتمع بواجب تقبلهن إلى أن دهني المرض فأهلكني بالرغم من مقاومتي الشديدة له.

الآن أرقدُ في سريري أنتظر الموتَ الذي فارقني حينما كنتُ أريده وداهمني في وقتٍ لا أريده.

السؤال هل انتصرت؟؟
في الجمعة، 22 يونيو 2018