إذا كان الكثيرون ممن تناولوا مذبحة المصلين في مسجد مدينة صغيرة في نيوزيلندا قد توقفوا عند الظواهر فإن كاتبة هذا المقال التونسية، تحذر النخبة العربية المثقفة من الوقوع في شرك ترويجِ الدّعاية البلهاء كي لا تشارك في تعميق اللُّبْسُ، وتدعوها للتفكير فيما وراء تلك الأحداث من مخططات صهيونية مدمرة.

الإرهابُ الدّينيُّ خطّةٌ صهيونيّةٌ

فوزيّة الشّطّي

تؤكّدُ مجزرةُ مسجديْ "النّور" و"لينوود" الّتي نُفِّذتْ يومَ الجمعة 2019.03.15 في نيوزلندا أنّ الصّهيونيّةَ العالميّةَ أخذتْ تكثّفُ مِن العمليّاتِ الإرهابيّة الـمُقنَّعة بالعداء العقائديّ كي تُسرّعَ نسقَ الحربِ الدّينيّة والطّائفيّة بين المسلمين والمسيحيّين. أمّا السّذّجُ فيكتفون بإدانةِ المذبحة وبتحميلِ المسلمين مسؤوليّةَ العنفِ المضادّ الّذي يكتوُون بناره. وأمّا الغُلاةُ فيصفّقون لـ"بطولات" القتلة ويحرّضونَ طلبا للثّأرِ أو لاستئنافِ ما يُسمُّونه "الجهادَ ضدّ الكفّار". وأمّا العملاءُ، مِن الإعلاميّين والسّياسيّين والحقوقيّين المموَّلين مِن جهاتٍ غامضة مشبوهة والمدرَّبين عادةً لدى منظّماتٍ دوليّة تمتهنُ الجريمةَ المنظَّمة، فيرفّعون درجةَ الحقدِ "المصنوعِ صُنعا مخبريّا" بحججٍ وهميّة مِن قبيل: صدامِ الحضارت، أو نهايةِ التّاريخ، أو عراقةِ التّوحّش لدى المسلمين، أو أصالةِ الهيمنة لدى الصّليبيّين ... وعندما تشتركُ 'النّخبةُ المثقّفةُ' في ترويجِ هذه الدّعاية البلهاء يكون الأثرُ أعمقَ واللُّبْسُ أوسعَ والدّمارُ أشنعَ.

تعملُ الدّعايةُ الّتي تُؤمِّنُها إمبراطوريّاتٌ إعلاميّة غربيّة محكومةٌ صهيونيّا على إقناعِ الرّأي العامّ العالميّ بأنّ هذه العمليّاتِ الإرهابيّةَ المنسوبةَ، زُورا وبهتانا، إلى غُلاةِ المسلمين والمسيحيّين هي شرٌّ لا بدَّ منه، حتَّمه التّعصّبُ العقائديّ لدى الطّرفيْن، والحقدُ المتنامِي جرّاءَ النّزاع التّاريخيّ المديدِ، والصّدامُ بين حضارتيْن ضِدّيْن جوهريّا. وتلقَى هذه الدّعايةُ المسمومةُ مَن يجادلُها صباحَ مساءَ إثباتا أو تعديلا أو تفنِيدا. بيدَ أنّ مجرّدَ انشغالِ جمهور المواطنين شرقا وغربا بهذا الجدلِ العبثيّ العقيم السّقيم يُعَدُّ نجاحا باهرا للقتلةِ الحقيقيّين المتخفِّين وراء حكوماتٍ مُنصَّبة عبر "اللّعبةِ الانتخابيّة الصُّندوقيّة" (نسبةً إلى صندوقِ الاقتراع الّذي يغتالُ الدّيمقراطيّةَ سِلميّا) لتكونَ واجهةً تحميهم مِن الانفضاحِ الـمُربكِ، ومِن المساءلةِ القانونيّةِ المعرقِلةِ، ومِن الغضبِ الشّعبيّ العارم. بهذا التّخفّي وراءَ مؤسّساتِ الرّئاسة والحكومة والبرلمان والقضاء والإعلام والأمن والعسكر وغيرها، ينعمُ تنظيمُ الماسونيّةِ الصّهيونيّةِ بالبراءةِ والمناعة والشّرعيّة الأخلاقيّة: إنّه يستبيحُ دمَ ضحاياه جميعِهم، دون أن تتلوّثَ يداه، ثمّ يُدِينُهم دون أن يُدانَ، أو يُشار إليه بإصبع الاتّهام.

يثبتُ التّاريخُ غيرُ الرّسميّ أنّ واضعِي "بروتوكولاتُ حكماءِ صُهيون" قد رسمُوا الخططَ المفصَّلةَ لهذه الحروبِ الدّينيّة المفتعَلة، ونفّذُوا فصولا مأساويّة منها منذ قرون عدّة. تجلّى ذلك حديثا في الحربيْن الكونيّتيْن الأولى [1914-1918] والثّانيةِ [1939-1945] اللّتيْن خطّطوا لهما مع مُجنَّدِيهم المندسِّين داخل الأجهزة الغربيّة الحاكمة. ثمّ موّلُوا جميعَ الأطرافِ المتقاتِلة بنفسِ السّخاء والخفاء والحِرفيّة. أشهرُ صهاينةِ الصّفِّ الأوّلِ هؤلاء هو المستشار الألمانيّ: "أودولف جاكوب هتلر" Adolf Jacob Hitler [1889-1945]، الأبُ الحقيقيُّ للكيان الصّهيونيّ والّذي فرضَ تهجيرَ يهودِ ألمانيا كي يستوطنوا 'أرضَ الميعاد' المزعومة. وهكذا كانت الحملاتُ الصّليبيّةُ [1096-1291] التّبشيريّةُ دعائيّا، الاستعماريّةُ غايةً، الماسونيّةُ تخطيطا، المسيحيّةُ تنفيذا. اِجتاح "فرسانُ الهيكل"، وهُم في الأغلب مسيحانيّون متطرّفون، دولَ المسلمين والوثنيّين السّلاف (الصّقالبة) والمسيحيّين الرّوس والأرثوذكس اليونانيّين. اِتّخذوا "الصّليبَ" شعارا يضلِّل المقاتلين الأتباعَ الجياعَ الماضين إلى حتفهم باسمِ الجهاد المقدَّس. واتّخذوا "هيكلَ سليمان" اسما وهويّةً وغايةً خفيّة.

من تلك الحملاتِ خرج التّحالفُ بين الإنجيليّةِ (أي البروتستانتيّةِ المحافِظة) واليهوديّةِ التّلموديّة، وهو التّحالفُ الّذي أسّسَ الماسونيّةَ الصّهيونيّةَ لاحقا أواسطَ القرنِ 17م، بثروةٍ طائلة وبخبرةٍ عسكريّة وسياسيّة واستخباراتيّة اِستثنائيّة، سيتدخّل بفضلِهما في الشّأن الدّاخليّ الأوروبيّ تدخّلا ثقيلا حاسما. وما نراه اليومَ مِن نفوذٍ جبّار تتمتّعُ به جماعاتُ الضّغط (اللّوبيّات Les lobbys) اليهوديّةُ في البلدان الغربيّة، خاصّة منها الولايات المتّحدة الأمريكيّة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا والبلدان المنخفضة (بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ)، ليس وليدَ اللّحظة. إنّما هو ثمرةُ عملٍ طويل دؤوب متسلسل بدأ مع "فرسان هيكل سليمان" في مملكةِ القدس اللاّتينيّة أواخرَ القرن الحادي عشر، ليصلَ إلى 'المنظّمة الصّهيونيّة العالميّة' المعلَنة رسميّا عامَ 1897 في بازل السّويسريّة. وكما تعاونَ فرسانُ الهيكل الغزاةُ في الشّام وفارس مع دولةِ "الحشّاشين" (مِن هذا الاسم اقتَبستْ اللّغاتُ اللاّتينيّةُ كلمةَ Assassin) الإرهابيّةِ الّتي اغتالت الخلفاءَ والأمراء والوزراء وروّعَت المواطنين وزعزعت أركانَ الخلافتيْن العبّاسيّةِ والفاطميّةِ المتنازعتيْن، تعاونت الصّهيونيّةُ المعاصرةُ مع الوهّابيّة (نسبةً إلى الإمام الحنبليّ التّكفيريّ "محمّد بن عبد الوهاب" 1703-1791) ومشتقّاتها مِن قبيل: "القاعدة"، "أحرار الشّام"، "الجيش الحرّ"، "جبهة النُّصرة"، "بوكُو حرام"، "داعش" (دولة الخلافة في العراق والشّام) وغيرها لِتدمير الدّولِ المطلوبِ نهشُ أراضيها ونهبُ إرثها الحضاريّ وإبادةُ نسبةٍ هامّة مِن شعوبها "الغُويِيم" (مصطلح عبريّ يُسمَّى به الأغيارُ أيْ غيرُ اليهود). في سياقِنا التّاريخيّ هذا لا تسمِّي عبارةُ 'تعاونتْ' الأشياءَ بأسمائها لأنّ الحقيقةَ هي أنّ التّنظيمات الوهّابيّةَ الفاشيّةَ مَدينةٌ للمافيا الصّهيونيّة بكلّ شيء: نشأةً وتخطيطا وتمويلا وتجنيدا وقيادة ودعاية. مهمّتُها أن تنخرَ الجسدَ العربيّ الإسلاميّ المتهافتَ نخْرَ السّوس للخشب، وأن تكويَ الجسدَ الغربيّ بين الفينةِ والأخرى، كلّما شرع يَشكّ في الرّوايات الرّسميّة، بصدمةٍ "إرهابيّة" ممسرَحة حتّى يعودَ سريعا إلى حالة الرُّهاب الجماعيّ.

إلى الأجنحةِ السّرّيّة العنكبوتيّة (المتنوِّرون Illuminati، كابالا Kabbalah، عبدة الشّيطان Lucifériens) مِن هذا التّنظيمِ المعقَّد الّذي يتزعّمُ "النّظامَ العالميَّ الجديدَ"، ينبغي أن تُوجَّه أصابعُ الاتّهام كلّما جدّتْ جريمةٌ إرهابيّة في حقِّ المسيحيّين أو المسلمين أو اليهود الخارجين عن الصّراط الصّهيونيّ أو غيرهم. فالمشروعُ الاستعماريُّ المسكوتُ عنه "إسرائيلُ الكبرى" الّذي يخطِّط لالتهامِ كلِّ فلسطين وأجزاءٍ مِن الأردن ولبنان وسوريا ومصر والعراق والكويت وتركيا والعربيّة السّعوديّة، لن يتمَّ عمليّا إلاّ بواسطةِ حربٍ ينشغلُ فيها المسلمون والمسيحيّون بتذبيحِ بعضِهم بعضا بأقصَى درجاتِ العنف، وفي أطولِ مدًى زمنيّ ممكن. وإنْ امتنعُوا عن الوقوعِ في فخِّ الفتنِ الدّينيّة المفتعَلة، أدّى "أحبّاءُ صهيون" هذا الدّورَ نيابةً عنهم مُستعينِين بأشرسِ المرتزقة المستورَدين مِن كلِّ فجّ. كيْ يُجبَر الشّعبُ الأمريكيُّ على القبولِ بغزو العراق غزوا فيتناميّا في مارس/آذار 2003، وجبَ أن تَرتكِبَ المخابراتُ المركزيّةُ المتصهينةُ هجماتِ 2001.09.11 (أثناءَ غيابِ ألف موظَّف يهوديّ في برجيْ مركز التّجارة الدّوليّة بمنهاتن) ثمّ تُطلِقَ صيحةَ فزعٍ تردّد صداها في إعلامِ التّجهيل والتّضليل والتّحريض: «ما دام الإرهابُ الإسلاميّ يضربُ في عقرِ دارَنا. فلا مفرَّ مِن أنْ نحاربَه في عقرِ داره لنجتثَّه مِن جذوره».

في هذه الجرائم لا تكتفي السّلطةُ الإعلاميّةُ بأداء دورِ "السّاكتُ عنِ الحقّ شيطانٌ أخرس". إنّما تُنطقُ شياطينَها بكلِّ باطل قادر على إلهاءِ الجماهير، وتشتيتِ الانتباه، وتزويرِ الوعي الجمْعيّ. وتتكفّلُ سلطةُ المال المكدَّس في بنوكِ رُوتشيلد Rothschild ورُوكفيلر Rockefeller وسُورس Soros وإخوانِهم (الأخُوّةُ مصطلحٌ ماسونيّ) بشراءِ الذِّمم الرّخيصة واستدراجِ الحالمين السّذجِ وقطعِ الألسنة المكابِرة. ثمّ يعتلي سَاسةُ الدُّمى المتحرّكةِ خشبةَ المسرح ليُضفُوا الشّرعيّةَ على ما قرّرتْ حكومةُ العالمِ الخفيّةُ حربا كان أو سلما، حِكمةً كان أو هذيانا. فقد زُرِعُوا في مناصبِهم تلك ضدّ إرادةِ شعوبهم، بل تكريسا لإرادةِ الماسونيّةِ الصّهيونيّةِ الّتي هي مافيا عابرةٌ للقارّات، ومستقوِيةٌ بمنظّماتٍ "دوليّة" عميلةٍ، تحمِي لها مصالحَها وتوسِّعُ نفوذَها وتوفّر الغطاءَ الأمنيّ لجميعِ جرائمها الاستعماريّة والإرهابيّة والمعادية للإنسانيّة.

إذا كان التّمسّكُ عنْ جهلٍ وعمى بصيرة بإنكار وجود هذا التّنظيمِ السّرّيّ المافيوزيّ يَدَعُنا مجرّدَ قرابين بشريّة على مذابح الهيكل المزعوم، فإنّ الوعيَ بمدَى تحكّمِه في اللّعبة السّياسيّة هو الضّامنُ الرّئيسُ لنجاتنا مِن الفخاخ المتقنَة المصنَّعة على المقاس. وليس مِن حلٍّ أمام العالميْن الإسلاميّ والمسيحيّ إلاّ أنْ يتحالفا حتّى يقاوما الأخطبوطَ الصّهيونيَّ الّذي يندسُّ أينما وجدَ ثغرةً، ويمدُّ مجسّاته السّامّةَ حيثما استطاعَ إلى ذلك سبيلا.

الهامش:

للتّعمّق في هذا الموضوع، يُستحسَنُ الرّجوعُ إلى هذه الكتبِ الثّلاثة العظيمةِ القيمة:

- "بروتوكولاتُ حُكماءِ صُهيون"، عجاج نويهض، مجلّدان، الطّبعة الثّامنة، دار طلاس للدّراسات والتّرجمة والنّشر، دمشق، 1998.

- "حكومةُ العالمِ الخفيّةُ"، تأليف: شيريب سبيريدوفيتش، ترجمة: مأمون سعيد، تحرير وتقديم: أحمد راتب عرموش، الطّبعة السّابعة، دار النّفائس، بيروت، 1986.

- "فرسانُ الهيكلِ والمحفلُ الماسونيّ"، تأليف: مايكل بيجنت وريتشارد لي، ترجمة وتعليق: محمّد الواكد، مراجعة وتدقيق: د. حسن الباش، الطّبعة الثّالثة، دار صفحات للدّراسات والنّشر، دمشق، 2016.

 

تونس: 2019.03.18