السؤال الذي يطرحه الكتاب: هل هناك فرق بين شخصيتي الفتوة والبلطجي كما طرحتهما السينما؟ ومن أجل أن تكون عملية الفرز بين الشخصيتين دقيقة، وحتى لا يسقط القارئ في منطقة غامضة، كان لا بد للمؤلفة أن تستعراض آراء عدد من المؤرخين والنقاد، كما حاولت الكشف عن طبيعة المعالجات التي انساقت إليها السينما المصرية مع شخصية الفتوة، خاصة وأنها وجدتها قد أمست في مرحلة تاريخية ومن وجهة نظر شعبية معادلا لشخصية الحاكم الرسمي.

الفتوة في السينما المصرية

مروان ياسين الدليمي

ترمز شخصية الفتوة من وجهة نظر المؤرخين إلى المستبد العادل الذي يسعى لتطبيق قوانين القوة والعدالة حسب منظومته القيمية الخاصة بما يتوافق مع طبيعة أهل الحارة التي يحكمها، بمعنى أنه يمثل شخصية حاكم شعبي فرض نفسه بالقوة على الناس.
ناهد صلاح في كتابها “الفتوة في السينما المصرية” تستعين بما كتبه عدد من المؤرخين المصريين حول شخصية الفتوة، ومن هنا أوردت أسماء عدد من الفتوات الذين شهدهم تاريخ مصر من الرجال والنساء على حد سواء، كما عادت إلى معاجم اللغة العربية التي وضعت هذه الشخصية بين طوري المراهقة والرجولة.
السؤال الذي يطرحه الكتاب في هذا المسار البحثي: هل هناك فرق بين شخصيتي الفتوة والبلطجي كما طرحتهما السينما؟ ومن أجل أن تكون عملية الفرز بين الشخصيتين دقيقة، وحتى لا يسقط القارئ في منطقة غامضة، كان لا بد للمؤلفة أن تستعراض آراء عدد من المؤرخين والنقاد، كما حاولت الكشف عن طبيعة المعالجات التي انساقت إليها السينما المصرية مع شخصية الفتوة، خاصة وأنها وجدتها قد أمست في مرحلة تاريخية ومن وجهة نظر شعبية معادلا لشخصية الحاكم الرسمي، على اعتبار أن شخصية الفتوة باتت حاجة ملحة لضبط ميزان الأمن والأمان في مجتمع افتقد السلطة العادلة. وبناء على ذلك طرَحت سؤالا يبدو بسيطا وبديهيا لدى القراء: من هو الفتوة؟
هذا السؤال في جوهره تجده المؤلفة أكثر اقترابا من الواقع، لأنه يخترق الظواهر الاجتماعية والسياسية، ويصل بنا إلى تقديم تفسير واقعي لعالم اليوم الذي اتخذ من القوة شعارا وفلسفة تبتلع ما عداها من مفاهيم. وخلاصة ما تطرحه يضعنا أمام صورة الفتوة كفرد ومفهوم، باعتباره قد لعب دورا بارزا في فترات مهمة من تاريخنا، وأصبح أيقونة في التراث الشعبي.

https://www.alquds.co.uk/wp-content/uploads/2019/04/%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%AA%D9%88%D8%A91.jpg

يشير الكتاب إلى مسؤولية الولايات المتحدة الأمريكية في انتشار ظاهرة العنف عالميا في ظل هيمنتها المطلقة على مقدرات الشعوب الأخرى، انطلاقا من مفهوم القوة بعد فوزها “بالنبوت” على القطب الثاني في الحرب الباردة، وحملها مسؤولية تصدير ثقافة العنف لمجتمعاتنا المحلية، عبر السينما الهووليودية منذ وقت مبكر من عمرها الإنتاجي، والبداية كانت مع أفلام الكاوبوي في أربعينيات القرن الماضي.

السينما سبقت الرواية:
في إطار البحث عن البدايات التي طرحت فيها شخصية الفتوة في النتاج الإبداعي المصري، تتوصل المؤلفة إلى أن السينما المصرية كانت قد خرجت منها شخصية الفتوة، ومنها انتقلت إلى عالم الأدب، بمعنى أن البداية كانت في السينما، ولمّا نجح هذا النموذج فتحت الرواية أبوابها له ودخلها منتصرا، واعتبرت فيلم “فتوات الحسينية” عام 1954 إخراج نيازي مصطفى، إشارة انطلاق الفتوة في روايات نجيب محفوظ، فكان هذا الفيلم بمثابة بروفة في الكتابة عن هذا العالم قبل ظهور روايته “الحرافيش” التي تعد الأبرز في تناول السيرة الشعبية لفتوات الحارة المصرية وتاريخهم في منتصف ستينيات القرن الماضي، وتدور مجملها حول شخصيات تسعى لتأسيس قيم العدل. ومن بعدها صارت أفلام الفتوات جزءا أصيلا من واقعها وتاريخها. بمعنى أن هذه الشخصية تم اقتباسها من العالم الروائي للكاتب نجيب محفوظ الذي نقلها بدوره من حياته الأولى التي عاشها في الحارة القاهرية، فضلا عن سماعه لحكايات هذا العالم من كبار السن.

وتذكر المؤلفة عناوين أشهر الأفلام التي تناولت شخصية الفتوة ويقف خلفها الروائي نجيب محفوظ وهي: “الشيطان يعظ” 1981 و”فتوات بولاق” 1981 و”المطارد” 1985 و”شهد الملكة” 1985 و”الحرافيش” 1985 و”سعد اليتيم” 1985 و”الجوع” 1986 و”التوت والنبوت” 1986 و”أصدقاء الشيطان” 1988.

سخط النقاد
تستعرض ناهد صلاح رأي النقاد السينمائيين حول هذا الموضوع، فقد عبر بعضهم عن استهجانه إزاء هذا النمط من الأفلام. فمن وجهة نظرهم أن السينما المصرية قد استثمرتها كنوع من أفلام الحركة والأكشن لأجل تحقيق نجاح جماهيري. في هذا السياق كتب الناقد السينمائي سامي السلاموني: “ان الفتوة في أعمال نجيب محفوظ وخاصة الأخيرة التي تتميز بكثافة شديدة وبناء فني معين تكمن دلالته العميقة تحت السطح وليس على السطح الشكلي السهل”. وفي مقال آخر عبر عن استفزازه من تحويل “حرافيش” نجيب محفوظ إلى سلسلة من الأفلام التي استهلكت هذا الموضوع إلى حد الابتذال. ويرى السلاموني أن “منتجين اشتروا أعمال نجيب محفوظ دون أن يفهموا مغزاها أو حتى يقرأوها، فقط سمعوا بانه يكتب روايات جميلة، وتعاون معهم كتاب سيناريو لم يفهم غالبيتهم ما أراده محفوظ حين عاد إلى الماضي وتوغل في عالم الفتوات والحرافيش، واكتفى هؤلاء بتقديم رؤية سطحية وساذجة، لتتحول ملحمة نجيب محفوظ (الحرافيش) إلى مجموعة من الأفلام التافهة”.
استعرض الكتاب أيضا فقرات مهمة استلها من دراسة للناقد أحمد يوسف حملت عنوان “فريد شوقي…الفنان والإنسان” وصف فيها هذا الممثل بانه الفتوة المصري على الشاشة، واعتبر فترة خمسينيات القرن الماضي المرحلة الملائمة لظهور هذا الممثل / الفتوة القادر على أن ينتزع حقه بيده، وتجسد ذلك في عدد من الأفلام منها “حميدو” إنتاج 1953 و”أبو الدهب” 1954 و”فتوات الحسينية” 1954 و”رصيف نمرة خمسة” عام 1956 و”سواق نص الليل” 1958 و”أبو حديد” 1958. وفي كل هذه الأفلام كان هناك تأكيد على فكرة محورية دائما ما تتردد في الأدب الشعبي المصري بأن الخير ينتصر على الشر مهما طالت المعركة، لكن لا بد ان يتسلح الخير بالقوة وأن يتجسد في صورة الفتوة.

قراءات المخرجين
من الملاحظات المهمة التي وردت أن موضوعة الفتوة تم التعامل معها سينمائيا من منظور شكلي، فقد اعتمد بعضهم على المواصفات الشكلية للبطل الذي يأخذ حقه بذراعه وعضلاته، ما يثير إعجاب جمهور المظلومين الباحثين عن نصر أو بطل يسترد لهم حقوقهم الضائعة ولو من خلال أوهام الحكايات الخيالية على الشاشة، وهو أمر يحرك العواطف الشعبية المكبوتة. في مقابل ذلك نتوقف أمام قراءة نقدية في تجربة المخرجين كمال سليم، وصلاح أبو سيف، وكيف تعاملا بواقعية مع هذه الموضوعة، لتكتسب بالتالي أفلامهما قيمتها الفنية انطلاقا من القضية المطروحة في الفيلم ومدى أهميتها للمجتمع في لحظة تاريخية. هناك أيضا قراءة لفيلمين مهمين بتوقيع المخرج أشرف فهمي، حيث استحوذت شخصية الفتوة على محوريهما الرئيسيين، الأول بعنوان “الشيطان يعظ ” والفيلم الثاني “سعد اليتيم” وقد كتب يسري الجندي معالجة الفيلم الثاني محملا إياه نزعته اليسارية المعروفة عنه، فتوسع في استخدام الإسقاط المباشر وعكس الواقع الاجتماعي والسياسي المعاصر بحرفية تصل أحيانا إلى حد المطابقة الساذجة بين الجو العصري وخريطة القوى والقضايا المطروحة في الزمن الحاضر، وبين الجو الشعبي الذي يدور في حواري القاهرة الشعبية في النصف الأول من القرن الماضي. ومن التجارب السينمالية المهمة التي تناولها أيضا فيلم “الجوع” للمخرج علي بدر خان الذي عده الملحمة الأشمل لموضوعة الفتوات وأحد الأفلام المتميزة، واعتبره خطوة جريئة على مستوى الشكل والمضمون نحو صناعة سينمائية جادة، حيث ركز على فكرة محورية أشار فيها إلى أن الخلاص من الظلم لأهالي الحارة لن يأتي إلا بالوحدة والتوحد في مواجهة الفتوة الظالم المستبد الذي يرجمونه بالحجارة حتى القتل، وبذلك يكون قد ناقش فكرة صناعة الطاغية، وبقدر ما حمل الجماهير المستسلمة مسؤولية صناعته، حملها مسؤولية الخلاص من هذا النموذج.

المرأة والفتوة:
العلاقة بين المرأة والفتوة تبدو لنا من بين أهم ما تم تناوله في هذا الإصدار، حيث يشير إلى أن المعالجات السينمائية لم تخرج عن الصورة النمطية التي اعتادت أن تقدمها السينما المصرية عبر تاريخها الطويل، فهي الخائنة والراقصة اللعوب وفتاة الليل وتاجرة المخدرات والفتاة الريفية الساذجة والخادمة، وغير ذلك من النماذج النمطية التي صاغت صورتها وقللت من قيمتها لأنها تعمدت أن تتعامل معها في الغالب وكأنها غيمة عابرة على هامش الأحداث. وأفلام الفتوات لم تخرج عن هذه الصورة المكرّسة، على الرغم من أن بعض النماذج كانت تبدو ظاهريا وكأنها فاعلة ومحركة للأحداث كما في فيلم “فتوات بولاق” الذي كتب له السيناريو وحيد حامد عن إحدى قصص مجموعة “حكايات حارتنا” لنجيب محفوظ وأخرجه يحيى العلمي. كذلك فيلم “الحرافيش” للمخرج حسام الدين مصطفى. وفيلم “الشيطان يعظ” للمخرج أشرف فهمي. وجميع هذه الأفلام قدمت نموذج المرأة وفقا لمفهوم اللعنة الشائع في الوعي الشعبي الجمعي، الذي يحملها مسؤولية أي مصيبة وكارثة تحدث.
يُختَتَم هذا الإصدار بعدد من الحوارات حول ظاهرة أفلام الفتوات اجريت مع مجموعة مهمة من العاملين في اختصاصات مختلفة في الإنتاج السينمائي، على سبيل المثال الممثل نور الشريف، والمخرج علي بدر خان، والسيناريست يسري الجندي، ومدير التصوير محمود عبد السميع، والكاتب وحيد حامد.

 

ناهد صلاح: “الفتوة في السينما المصرية”
منشورات وزارة الثقافة، الموسسة العامة للسينما في الجمهورية العربية السورية، دمشق2017
136 صفحة.

 

جريدة القدس العربي