ينسج الروائي العراقي إبراهيم أحمد روايته الممتعة بحبكة متينة متتبعاً حدثا تاريخيا معروفا وهو أختفاء الكاتبة الرواية المعروفة "أجاثا كريستي" في بغداد من الفندق الذي تقيم فيه مع زوجها عالم الأثار الأنكليزي، فيجوب بنا في عمق التاريخ العراقي والأمكنة من خلال علاقة باحث أثار الزوج عن حياة سكان الأهوار.

رواية العدد

قيثارة أجاثا كريستي

إبراهيم أحمد

 

اختفت أجاثا كريستي في بغداد، وما زال اللقلق في برج القشلة!

استيقظ عالم الآثار الإنجليزي ماكس مالوان صباحا؛ لم يجد زوجته أجاثا كريستي بجانبه، أو أمام آلتها الكاتبة في زاوية من حجرتهما في الفندق، هرع متلهفاً إلى الشرفة؛ فلم يجدها. قدر إنها سبقته إلى المطعم؛ فقد طال نومه. هي على الأغلب لا تهبط إلى المطعم دون أن يرافقها؛ فيجلسان إلى مائدة الطعام غير متقابلين، بل متجاورين ليتبادلان لقمة أو لقمتين باليد على طريقة العراقيين، فهما قد عاشا بينهم طويلا، وأخذا بعض ما وجداه جميلا من عاداتهم.

لكنها حين تقدر أنه سيستيقظ متأخرا، تهرع وحدها لتتجول على شاطئ النهر، ثم تأتي نشيطة تجلس مسرعة إلى الآلة الكاتبة؛ لتدون ما خطر لها من أفكار وحوارات، هي تعتقد أن أهم وأخطر الأفكار، بوليسية كانت، أو فلسفية؛ تهل مع الخيوط الأولى للشمس، وحين يكون الرأس خفيفا لا تثقله معدة ممتلئة. تخشى أن توقظ ماكس تكات حروفها المسرعة؛ فتضرب عليها بهدوء ورقة، مستعملة كعادتها أصابع ثلاثة فقط، أو تحملها إلى منضدة صغيرة في الشرفة، وقد تنزل بها لتجلس في زاوية من المطعم قريباً من شباك كبير تتدفق منه شلالات نور عبر النهر، فتستغرق في الكتابة، لا تتوقف حتى ينقطع سيل أفكارها. عند الكتابة تنسى كل شيء حتى ماكس، لا تكترث له أن يكون قد نزل وجلس على مائدتهما المفضلة، محاذرا الاقتراب منها! كثيرا ما يفتح عينيه في فراشه من حلم جميل ليدخل معها حلماً آخر حين يجد وجهها وهي ترمقه بعينين حانيتين تلمع فيهما عاطفة الأمومة والعشق الزوجي. كانت تكبره بثلاث عشرة عاما تقريباً، كان يفكر وبكلمات مختلفة في كل مرة: هي لا تهبط إليه درجات عمرها بل تأخذه، إلى قمة المرتقى العالي من عمرها كأم حل لها المحرم، فتحتضنه كطفل يحتاج دفئها الجسدي والروحي معا،وتجعله يطل على الزمن الفسيح من برج عمرها المتقدم، وهو عليه أن يرتقي درجات الزمن من شبابه الفج المتعثر بحجارة السفح وحشائشه؛ إلى ذروة عمرها الغني بالتجارب، كشجرة ثرية بالزهر والثمر.ويقول لها بصوت خطابي، بعيدا عن همس العشاق:

ـ هكذا أنت يا حبيبتي أجاثا، قمة الروح في تألق الجسد، ذروة التجربة في خضم النهر المتدفق ، جمر متوهج دائما حين يحاصرنا الزمن بالرماد!

وترد عليه ضاحكة:

ـ أخشى أن تكون قد أخذت كلماتك هذه من ألواح الموتى!

ـ إنها من قلبي! وحتى لو اقتبستها من ألواح الموتى؛ فأنها معك ستدخل أوراق العشاق الأحياء المراهقين والمسنين!

وتكتب في يومياتها: " أجمل ما ينبغي أن يتحقق بين الزوجين، هي الرفقة الحميمة، أن يضع أحدهما يده بيد الآخر، ويسيران في الحقول الخضراء على أرصفة شوارع المدن حتى لو كانت مهجورة ، فيها يلتقي قلباهما في عناق ساحر أبدي يتلاشى أمامه الموت، والنسيان".

لم تكن تغادر الحجرة لوحدها إلا حين تتأكد إنه لا يستطيع مشاركتها جولتها الصباحية المبكرة المعتادة على شاطئ دجلة، أو شوارع المدينة قبل أن تزدحم بالمارة والبضائع، ولم تتبدد منها رائحة خبز الأفران المشتعلة مع الفجر. وما تزال بائعات القيمر والباقلاء المسلوقة جالسات قريبا من أبواب المخابز . لكنها أرادته أن يستمتع بنومة طويلة؛ مقدرة إنه متعب لما بذله من جهد طويل، في التنقيب وفي جرد المستخرج الكبير وتحليل سماته، ووضع فهارسه، وتحديد قيمته التاريخية. بدا صباح بغداد متألقا يغري بالتجوال، حاول تهدئة قلقه،ومع ذلك لم يستغرق طويلاً في استحمامه، فهاجس غيابها يلح عليه، ويقلقه رغما عنه. زاد شكوكه إنه وجد غطاء آلتها الكاتبة محكم الإغلاق. حين تستعملها صباحا تبقيها غير مغطاة بإحكام؛ فهي ستعود للكتابة عليها بعد قليل. جفف شعره الطويل الأشقر، وبسرعة ارتدى ثيابه الربيعية الأنيقة، بنطلون وقميص وبلوزة خفيفة. وسارع إلى الدرج! هما في الفندق لأنهما ملا السكن في بيت الآثار. أحبا هذا الفندق كثيرا، وصار لهما عشا لأيام عسل متجددة، اختطا فيه عادات وطقوسا سعيدة. لم يجدها في صالة الطعام، سأل جبرائيل عامل المطعم عنها فأبدى دهشته، قال إنه كان ينتظر هبوطهما فقد أعدوا لهما فطورا شهيا خاصا؛ أوصت عليه ليلة أمس. جبرائيل شاب كلداني يحب أجاثا ويتلهف لتقديم أية خدمة لها فهو مغرم برواياتها المترجمة؛ يعيد قراءتها. ماكس يلمح في نظراته هياما بوجهها وقامتها الممشوقة ويضحك في سره، سأله:

ـ هل رأيتها تخرج من الفندق؟

هز رأسه باستغراب :

ـ لا، لم أرها هذا اليوم!

راح يحدق به، أين تكون أجاثا الآن؟ هل طارت من الشرفة وراء أحد أبطال روايتها المجنونة المستغرقة بوضع تفاصيلها في رأسها، وترفض أن تحدثني عن تفاصيلها مكتفية بالقول ستكون مفاجأة لك، ستهزك كما لو خابية أثرية قديمة مملوءة بحلي ومجوهرات وأخبار ملوك سومر وآشور؛ شعر بشي من الغضب منها أنها تركت الفندق، دون أن تعلمه.عرض عليه جبرائيل أن يعد له الفطور:

ـ لا تقلق ربما هي خرجت تتسوق بعض الأشياء!

كان من عادة أجاثا، كلما جاءت بغداد، أن تدخل مكتبة مكنزي، القريبة من الفندق، كل يوم، تتصفح الكتب الجديدة، تشتري كتابا أو كتابين، تسأل عن مدى الإقبال على رواياتها بالإنجليزية، وتتنسم أخبار الكتب ورواياتها في لندن وأوربا، ثم تذهب إلى الشورجة تشتري أعشابا وتوابل، تتحدث أن بعضها تنشط الذهن، تثير الأخيلة الروائية، البوليسية! كيف تبعث الزهور الجافة رؤى الجريمة؟ تقول: ثمة أعشاب وزهور غامضة تدغدغ مناطق سرية في النفس فتوقظ نوازعها الشريرة! لكنها عادة تعلمه أنها ستخرج، وتتركه يتصفح كتبه التاريخية أو سجلاته التي لا يكف عن التمعن بها. طفق يفتش في كل مكان قريب يعتقد أنها ذهبت إليه.ربما هي في جولتها الصباحية على النهر أو الشارع الطويل تتفقد أزقته وحواريه في دنيا آمنة لم يسمع حتى الآن عن تعد على الأجانب فيها. أكثر من ثلاث ساعات وهو بين انتظار وتطلع، وعودة للبحث ، مع عمال الفندق الذين قلقوا وجدوا في البحث معه دون أن تلوح أية بارقة أو إشارة تهدي إليها، كلما مر الوقت يتفاقم قلقه ويغدو مشدوها. وجد نفسه في يأس، وإعياء شديدين. داخله هاجس رهيب أن زوجته قد اختفت تماما،وربما اختطفت! وعليه أن يسارع لإعلام السلطات العراقية، والسفارة البريطانية بذلك، ودون إبطاء آخر، ولكنه فجأة أزاح هذا الخاطر الرهيب عن ذهنه ، لا ! هي بخير، وثمة التباس ما قد حصل لها جعلها تتأخر، وستعود ، ما عليه سوى أن ينتظر!

حل ماكس مالوان وزوجته في فندق تايكر بالاس، منذ ليلتين، كانا قد نزلا فيه مرارا على مدى سنوات، كلما جاءا إلى بغداد يقصدانه كأنه بيتهما الآخر. يعد الفندق من أرقى فنادق العاصمة ، فهو جميل وآمن وخدماته جيدة وممتازة، يقع في شارع الرشيد، قلب بغداد، والذي يضج نهارا وليلا بخطى وأصوات المتزاحمين على غاياتهم الكثيرة المتلاحقة!

فتح الوالي العثماني خليل باشا، هذا الشارع لينطلق جيشه منه ويواجه الجيش الإنجليزي القادم من الجنوب، بعد فترة قصيرة كان الإنجليز يدخلون منه إلى بغداد، شيدوا فيه سفارتهم وشجعوا على ملئه بالفنادق ومقرات شركاتهم! وبسرعة صار يعج بالإنجليز وأصدقائهم من الدول الأخرى الذين وجدوا في البلد الكثير مما يغري للاستثمار، ومقايضة مصنوعاتهم من السيارات والنسيج والأدوات الكهربائية والمشروبات الكحولية، بالكثير من الحبوب والجلود والتمر. وبعد بدء الشركات الإنجليزية استثمارها لنفط البلاد الغزير صارت أضواء هذا الشارع لا تنطفئ إلا حين يسطع ضوء الشمس. كان فندق تايكر ضخما، يأخذ الجانب المحاذي للنهر من الشارع، بنته دائرة السكك الحديدية، على النمط الإنجليزي، حجراته واسعة بسقوف عالية، وشرفات واسعة تطل على دجلة. طابقه السفلي يشغله البهو، ومطعم كبير، وبار يضاهي بارات فنادق أوربا برفوفه المكتظة بزجاجات الخمور الفاخرة، والسجائر المتنوعة، مما يوحي إنه قد أفلح في انتزاع نفسه من جاذبية هذه الأرض المزدانة بالقباب والمآذن! تولاه مستثمر عراقي، لكنه ظل يحمل نقش التاج الملكي الذهبي على أطباقه وكؤوسه وملاعقه!

وأن تختفي امرأة إنجليزية فجأة من هذا الفندق المحاط بعساكر الإنجليز ودبلوماسيهم ورجال مخابراتهم، فهو تحدٍ سافر لهيبة بريطانيا وضربة موجعة لنشاطها الاقتصادي وطموحاتها في هذا البلد! آخر مرة رأى ماكس فيها أجاثا حين كانت واقفة في شرفة حجرتهما في الطابق الثاني والمطلة على النهر، بثوب النوم الوردي الرقيق؛ تستمتع بفجر ربيعي يصعد سماء بغداد محتضناً قرص الشمس؛ متوهجاً ببطء، وثمة ضباب خفيف يتصاعد من الماء، وصفوف النخيل تمتد كأذرع طويلة تبتهل بخشوع للسماء، ففرح أنها تحلق كما في كل فجر مع سعادتها الشرقية الغامرة. هي كما تقول تقرأ في سماء بغداد تاريخ الشرق، وتستلهم منه أطياف وأشباح رواياتها، تلك متعتها العميقة. كانت تقول له دائما: "أعظم متعة يجنيها الكاتب؛ هي ابتداع حبكات رواياته ومسرحياته، وأحلامه الليلية" عندما رآها ماكس في الشرفة؛ كان خارجا من الحمام شاعرا أنه لا يزال مرهقاً ناعساً؛ فعاود النوم مسرعاً. يتذكر إن ذلك كان في الساعة الخامسة أو الخامسة والنصف، كانت مولية ظهرها المتين الطويل لباب الحجرة المفضي إلى الشرفة، لم تشعر بحركته، أو أنها قدرت أنها عادية، وتتعلق بحاجته إلى الحمام، وسيعاود النوم، فبقيت على وقفتها ساهمة، مستغرقة في تطلعها السماوي. كانت تعرف أنه في الليلة الفائتة قد آوى إلى فراشه متأخراً، بعد يوم عمل طويل جدا، هو يريد تسليم كل شيء وتبرئة ذمته من تراب الآثار، ورائحة الموتى القدامى، فكرا بسفرة إلى أعالي الفرات قبل سفرهما إلى حلب.حيث سيبدأن حملة تنقيب طويلة في أرضها الغنية بالكنوز الهامة. قرر ماكس أن يذهب إلى بيت الآثار علها تكون هناك،نسيت بعضا من أوراقها أو كتبها، أو لج بها شوق إليه رغم أنهما لما يغادراه سوى قبل يومين، فأحمد الحارس ما زال هناك ولم تبدأ إجازته بعد. قال لجبرائيل:

ـ سأذهب إلى بيتنا في الكرادة، إذا عادت أجاثا لا تدعها تخرج، قل لها أن تنتظرني!

ماكس يسمي بيت ومخزن الآثار "بيتنا". هو بيت قديم مكون من طابقين على الضفة الثانية من النهر، يطل على دجلة في الكرادة، خصص لإقامة الآثاريين الأجانب، وهو وأجاثا وزملاؤهما يستعملونه للاستراحة أيضاً،كلما قدما من الموصل،كما إن إدارة المتحف الوطني جعلت جانبا منه مخزنا لما يأتي من لقى وألواح أثرية تستخرجها فرق التنقيب في وادي نينوى، أو بابل وأور. يقيم فيه ماكس وأجاثا أحيانا حفلات شاي لزملائهما. ورغم إن البيت واسع ومريح ولا يكلفهما شيئا، إلا إنهما أحيانا ينتقلان إلى فندق تايكر أو "ريجينت"، أو" زيا" ليقيما بعيدا عن رائحة الآثار، ويعيشان أجواء سياحية يختلطان فيها بمسافرين رائحين غادين من بلدان العالم. أرادا قضاء استراحة قصيرة في الفندق ينقطعان فيها عن أجواء العمل، ريثما يتوجهان إلى حلب لبدء حملة تنقيب أخرى، في وادي الرافدين! الفندق يجعلهما يشعران أنهما في إجازة ، لكنه عاد يتمتم: "أوراق الكشوفات التي حملتها معي لم تجعلني اشعر بالإجازة، وجعلتني أغفل عن أجاثا، ولا أدري ماذا حصل لها!" كان ماكس الدقيق في شئونه متأكدا أنهم حملوا من البيت كل مقتنياتهم الشخصية. ومع ذلك قال ربما لأجاثا حاجات صغيرة نسيتها هناك، خرج مسرعا. سار في شارع الرشيد متلفتا،متطلعاً في الوجوه. كان الشارع قد بدأ يزدحم، أغلب المحلات فتحت أبوابها، عرج على مكتبة مكنزي، وجد الشاب فريد ،وهو كردي فيلي،آلت المكتبة إليه بعد موت صاحبها الأسكتلندي، ويود ماكس وأجاثا. قال انه لم ير أجاثا هذا اليوم،مضيفا:

ـ وصلتني روايات جديدة لها، مساء أمس!

ـ هي ستسر كثيرا بذلك.

قالها ماكس كأنه يهدئ نفسه. جال في الشورجة. لم يجدها، قرر عبور الجسر مشيا عله يصادفها في الطريق، فهي مولعة بالتجوال في نواحي بغداد القديمة تتأمل الجدران المقرنصة، قباب المساجد ، الأسواق المكتظة، تتنسم رائحة الخضر والفاكهة. تجد بدخان الشواء المتصاعد من أسياخ لحم الضأن على الجمر كما تقول "رائحة الطعام الأول الذي أعده الإنسان دون تزويق ولا تعقيد". رأى ماكس أن ملامح الفاقة والحزن في وجوه الناس توحي بطمأنينة، لم ير فيها سمات وحشية قد تكون آذت أجاثا. نزل إلى الشاطئ، طالعه المجرى ممتلئاً عكرا، كان دعبول وقاربه الرشيق أمامه، ملاح ماهر يعبران معه دجلة عادة، يسليهما بحكاياته وغنائه الشجي، رغم فقده لولده قبل عام، هو أيضا مغرم بأجاثا، ( ومن يرى أجاثا؛ ولا يغرم بها؟)، هي رغم بلوغها التاسعة والخمسين هذا العام، لكنها تبدو في الأربعين، امرأة ناضجة جذابة،يقول ماكس لها:

ـ كلما رأيت رسومات وأيقونات إلهات وملكات وادي الرافدين أتخيلك واحدة منهن،جئت لعصرنا لتكوني إلهة الرواية، فيكتمل مجلس الآلهة!

ـ حتى في غزلك تبقى رجل آثار!

ويضحكان، ويمرحان! هل سيضيع كل ذلك؟ هل اختفت أجاثا نهائيا؟ كان دعبول يغني مثبتا عينيه على وجهها، يغني لها وحدها،وأنا أضحك في سري من هذا الرجل الخمسيني، الأسمر الطويل النحيف. كأنه اليوم في انتظاري:

ـ هل عبرت أجاثا معك اليوم؟

ـ لم أرها هذا اليوم، أنت تدري، رؤيتي لها تعني صيدا وفيرا، وزبائن أكثر، رغم إنهم لا يعطونني شيئاً، السمك يعطيني نقودا أكثر من الناس! انطلق تارة يلقي نكاتا، وتارة يغني، يريد أن يؤنسه. لم يكن لخياله مهما اشتط أن يتوقع ما يعانيه ماكس الآن. ماكس درس العربية، ويتكلمها بلهجة عراقية، لكنه لم يكن في مزاج يستطيع به مجاراة دعبول في ثرثرته اللطيفة، لا يوجد يوم يحتاج فيه هذه اللغة مثل هذا اليوم، حتى لتبدو له أجاثا مختبئة داخل هذه اللغة التي مهما تعلمها فهو لا يجيدها تماماً ولا يعرف كيف تصير طلاسم على أفواه أهلها، وجدارا سميكا بينه وبينهم! أيمكن للغة أن تختطف امرأة غريبة وتغيبها داخلها؟ وأية امرأة؟ أجاثا كريستي؟ التي طالما اختطفت هي نفسها أناسا كثيرين وطحنتهم وعجنتهم برواياتها داخل مصائب شتى، ثم تكشف الحقيقة بعد طول معاناة وترقب! ارتقى جانب النهر مسرعا. وتلقفته الصدمة من باب البيت الكبير! كان موصدا من الخارج بصفيح حديدي طويل على شكل سيف، وبمقابض متينة ما يؤكد أنه اقفل من قبل الحارس، ولا أحد في داخله. الباب الخشبي الكبير المرصع برؤوس مسامير ثقيلة يقف أمامه كأول أمل يتهاوى ويوحي أن اختفاء أجاثا أصعب مما تصور. خرج عليه رجل أشيب من البيت المجاور كان يعرفه، قال:

ـــ الحارس سافر إلى أهله في الشرقاط!

ـــ متى ؟

ـــ ظهر أمس، أعلمني إنه سيسافر صباح هذا اليوم لقضاء إجازته مع عائلته!

مضيفاً وهو يتلمس معه صفيحة الحديد الطويلة التي تزنر الباب من الخارج:

ـ هو الذي قفله، ولا أحد في البيت طبعا!

ـ ألم تر أجاثا؟

هز الرجل رأسه نافيا، متطلعا في وجهه مستغرباً. عاد ماكس إلى الشاطئ ، شاحبا، ظل دعبول في انتظاره:

ــ أجاثا اختفت يا دعبول!

ضحك دعبول مطمئنا:

ـ لا تخف بلدنا آمن ،أنظر هناك إلى اللقلق فوق برج القشلة، ما دام هو هناك يطل فوق بغداد فإن أجاثا بمأمن وبخير!

بناية القشلة على ضفة الرصافة، قلعة عسكرية تركية قديمة، أضحت اليوم تضم دواوين وزارات، ابتنى على برجها وفوق ساعتها الكبيرة لقلق عشا يرى من بعيد: كان اللقلق واقفا في عشه كالأمير، حاول ماكس أن يطمئن. ركض باتجاه الفندق عل أجاثا تكون قد عادت. وجد أمامه نظرات جبرائيل الفارغة المتسائلة!هرع إلى تلفون الاستعلامات، اتصل بمسكن صديقتهما عائشة السلام، متوقعا أن تكون عندها، دهشت حين عرفت:

ـ لا أدري أنكما في بغداد، كيف تأتيان ولا تخبرانني!

لم يمض ماكس معها في عتبها، وجده ثقيلا، بينما أجاثا قد اختفت، عائشة تتصوره مجرد غياب قصير وتفاوت بينهما. حين أكد لها جدية اختفائها، قالت:

ـ سأقلب الدنيا؛ حتى أجدها،أجاثا ليست للإنجليز فقط ،هي لنا نحن العراقيين وللإنسانية كلها!

كلما أراد أن يطمئن أحس بشيء ثقيل غامض يطعنه. أدار رقم تلفون المغنية الحسناء عفيفة اسكندر، كانا قد ترددا على صالونها،التقوا فيه بأدباء وشعراء يتحدثون الإنجليزية. كانت عفيفة يونانية الأصل؛ محبوبة من العراقيين، مقربة من رجال كبار في الدولة، تحب أجاثا ومعجبة برواياتها و تناقشها حولها، استمعا في صالونها لغنائها، ولمغنين وملحنين بغداديين، طال رنين الجرس لكنه ظل ممسكا السماعة لا يدري لماذا خيل إليه أن أجاثا عندها، ربما لأن بيتها لا يبعد كثيرا عن الفندق، أو لأن أجاثا أحبت آلة يعزف عليها الشاب ناظم نعيم في صالونها يقول أنها مستوحاة من القيثارة السومرية،وبجانبه شعوبي يعزف على "الجوزة"، وقد ذهبت لترتب هناك أمسية موسيقية نودع بها بغداد، هل ستسمع من جديد الموسيقى التي أحبتها؟.أم إنها غابت دون رجعة؟ جاءه صوت عفيفة تعتذر أنها كانت في الحديقة تسقي زهورها وتطعم قطتها،تغير صوتها و شهقت حين سمعت ما قاله ماكس،لكن صوتها عاد ببحته الدافئة:

ـ أين تكون ذهبت؟ إنها في بغداد، دار السلام ، اطمئن، سأتصل بمعارفي من المسئولين وسنجدها حتما، لا تقلق!

جلس على أريكة في البهو، تذكر إنهما ليلة أمس تحدثا عن رغبتهما في سفرة إلى أيس في أعالي الفرات، يستعيدان ذكرياتهما فيها، قالت أجاثا: الآن أحس رذاذ نواعيرها الناعم البارد يغسل وجهي،أود أن نعود نسلم نفسينا للصبيان المتضاحكين يقودوننا كما قبل سنوات وسنوات بين بساتينها ،ونواعيرها، يشعلون لنا عيون القار، أمد ساقي في مائها الكبريتي الدافئ، نأكل "ألذ كباب في العالم" في مطعم حمد، وليتنا نجد الوقت لسفرة أخرى إلى الأهوار مع ولفريد ثيسجر المدله بغرام عجيب لفتاة جميلة تدعى بنت المعيدي، لم يلقها ولم يرها، شاهد صورتها فقط. رجل ظريف مثقف، لا يمكن معرفة الأهوار دون الاستماع لأحاديثه عنها! كيف نست كل ذلك واختفت اليوم؟ لابد أنها تعرضت لحادث خطير!

هناك في بغداد أوراق الحكاية كلها، هل سأجدها يوما؟ هل سأجد بغداد؟ هل سأجد نفسي؟ أم سيكون كل شيء هباء؟

عدت إلى بغداد في شباط عام 2007، بعد إقامة موحشة باردة في السويد امتدت ثمانية وعشرين عاما تقريبا! كان معي هذا الفصل من الرواية، لم أمض في كتابتها هناك؛ توقفت؛ قلت " يجب أن أحصل على تلك المعلومات والوثائق المتعلقة باختفاء أجاثا كريستي". كنت قد تركت أوراقي وديعة في بغداد لدى أحد أصدقائي عندما نزحت بجلدي من العراق عام 1979. هجرت عملي في الرواية سنين طوال، حتى كدت أنساها، تذكرتها حين أخذت أحضر نفسي للعودة. واليوم وأنا في بغداد عليّ أن أجد أوراقي، وأرى إن كنت أستطيع مواصلة كتابتها.

صديقي حميد الذي أودعت لديه الأوراق عثروا على جثته قبل سنتين في الشارع بين عشرات الجثث، حيث كانوا يجدون كل يوم ما يزيد على مئة جثة ملقاة في شتى الأماكن من بغداد، قتلوه وقد بلغ القتل الطائفي ذروته. حتى الآن ما يزال القتل والاغتيالات والتفجيرات في الشوارع والأماكن العامة متواصلاً، أشخاص يتحولون فجأة إلى جثث وأرقام باردة متعفنة مخيفة، تبتلعهم المدينة بصمت، دون غصة أو سوء هضم. لكن ليس هذا ما يجعلني أتردد وأؤجل الذهاب إلى بيت حميد، السبب الأقوى هو إنني لا أحتمل أن أجد بيته قد خلا منه، ماذا سأقول لزوجته وابنه الوحيد زيد؟ "جئت لأسلم عليكم، وآخذ أوراقي" كم هي كلمات بائسة أنانية ثقيلة بعد موت صديقي الطيب. كنت بشكل ما، أحس بالذنب أنني من المسئولين عن قتله، ألم أكن قد شاركت في العمل السياسي الذي قاد في نهاية المطاف إلى هذا الحال المريع؟ لماذا التهرب من الحقائق؟ هل بقيت أوراقي كما تركتها لديه؟ ما تزال كلمات حميد بصوته الواثق الحزين تتردد في سمعي "راح أضمها لك بقلبي ، فقط لا تتأخر علينا؟" هل أنا الذي تأخرت أكثر من ربع قرن؟ أم الدنيا والسماء وقد نسيتانا طويلا؟ عدت إلى البيت الذي كنت أسكنه قبل خروجي من العراق، وأنا في الخارج حرصت أن أرسل لوالدتي إيجاره، توفيت الوالدة بعد سنتين من رحيلي، والآن شقيقتي ليلى أضحت عجوزا، وقبل أن أسألها عن أوراقي الأخرى وكتبي حدثتني :

ـ أيام حملات التفتيش، واقتحام البيوت فجرا، أحرق الناس صور وأوراق أبنائهم المهاجرين والمختفين،أو الموتى، ومع ذلك كان من يسمونهم رجال الأمن؛ لا يصدقونهم ويتهمونهم بالتستر على متآمرين مجرمين، ويؤذونهم كثيرا!

لم يكف رجال الأمن عن التردد على البيت يبحثون عني،فتولت أختي حرق صوري وأوراقي، لم تطق أمي أن ترى صوري تحترق! منذ سنوات المنفى الأولى كنت أسمع من كثيرين يتحدثون عن صورهم وأوراقهم وقد التهمتها النار بأيدي أحبتهم! كيف أريد لأوراقي لدى حميد أن تبقى؟ وهل ألومه لو عرفت إنه كان قد أحرقها؟ ولماذا أنا مهتم هكذا بكتابة رواية عن اختفاء أجاثا؟ ألا يبدو موضوعها لكثيرين بعيدا عن هموم الناس في هذه الأيام الدامية الحالكة؟ لماذا لا أكتب عن حميد الذي وجدوا جثته في كومة جثث في حديقة عامة؟ كثيرون كتبوا عن هذا الموت، وعن الزهور المتعفنة تحت الجثث، حسنا فعلوا ، ولكن من قال أن ثمة طريقا واحدا إلى الجثة البريئة المنتهكة، والأزهار التي لن تنبت بذورها أبدا، بعد أن اختنقت بالدم البشري؟ في روايات أجاثا ، شخص واحد يقتل، ويستنفر المحققون والمفتشون للبحث عن الجاني، وهنا آلاف يقتلون وتسجل ضد مجهول، هنا حدثوني بما هز بدني: لا القاتل يعرف لماذا يقتل، ولا الضحية تعرف لماذا قتلت، ولا الناس تريد أن تعرف! هل ثمة زمن تعيس كهذا في أي مكان آخر من العالم؟ روايتي عن أجاثا كريستي قد تحدث صدمة مفارقة تدعو لصحوة ما. أو نزهة مستحيلة ومستراحا في ذلك الزمن الذي صرنا نراه جميلا بعد زواله؟ أو نفحة من القلب لصديقي وللقتلى الآخرين الذين رقدوا على العشب ليال دون عابر سبيل يأخذ بأيديهم، ربما ستكون في صلب هموم هذه الأيام إذ ليس الحاضر سوى طفل شرعي أو غير شرعي للماضي! الكتابة الحقيقية تنشد الإنصاف،والعدل، حتى لو كانت عن الفراشات الهائمة! انتفاضة روح ولا تدري كيف تكون خلجاتها ولا علي أي شاطئ تستكين. لكن كيف سأجد أوراقي تحت هذا الركام والأنقاض والرماد الهائل الذي آلت إليه بغداد،بعد الحروب والصراعات الدموية بين الطوائف والأعراق؟ يبدو ذلك مستحيلا! من بين أوائل الأماكن التي أردت الوقوف عندها كان بيت الآثاريين، لي فيه ذكريات غالية! يقع في الكرادة، كان فخما وجميلا مطلا على النهر.استأجروه من ثري يهودي في الثلاثينات! كان نزلا للمنقبين وعلماء الآثار الأجانب، ومخزنا لآثار ووثائق وأضابير قديمة للمتحف الوطني! سنوات السبعينات، لم يعد ينزل فيه خبراء أجانب. صاروا يفضلون عليه طبعا الفنادق الفخمة التي نهضت بطوابق عالية حول النهر. فصار مخزنا لبعض الآثار. أردت التجوال في شارع الرشيد، ومحاولة الدخول إلى فندق تايكر بالاص مسرح الرواية. دخلت بيت الآثاريين أول مرة عام 1970 حين تعرفت على حارسه أحمد ناصر الذي صار مدير البيت، وحارس محتوياته التي لا تقدر بثمن. تعرفت عليه مصادفة في مقهى شعبي يقع خلف البيت، نشأت بيننا بسرعة صداقة ومودة، كان أحمد يكبرني بأكثر من عشرين سنة، اقتربت منه حين قال لي أنه في حقبة الأربعينيات اشتغل مع أجاثا كريستي وزوجها عالم الآثار ماكس مالوان في نينوى، خلال عمليات التنقيب عن آثارها الشهيرة! وكان يرافقهما في زيارتهما إلى بغداد، ويعيش معهما في هذا البيت، يسهر على خدمتهما، وكانت أجاثا تفرح حين يناديها (ماما)!

كنت مهتما بروايات أجاثا كريستي، أعيد قراءتها وأتمعن أسرارها، وأراها قصص حياة عميقة آسرة، وبفحوى فلسفي أكثر مما هي قصص بوليسية مثيرة. فلم أصدق أنني ألتقي برجل كان قد عمل معها، وعرف الكثير من تفاصيل حياتها! حصل بيننا شيء من تبادل المصالح الصغيرة، فأحمد قد انشد لي حين عرف أنني صحفي أعمل في جريدة كان يرسل لها قصائده الشعبية فلا تنشر، استطعت أن أنشر له بعضها بعد بعض التعديلات، حققت له حلما ظل يراوده لسنوات طويلة. أن يرى قصيدة له منشورة مع صورته في صحيفة، بالمقابل حصلت منه على نافذة أو بوابة أطل منها على أجاثا كريستي وزوجها عالم الآثار، وهما يجوسان ماض جميل كانت تتكشف فيه شواهد وآثار من حضارتنا القديمة! لسنوات بقينا نلتقي في حجرة أحمد في البيت الكبير كل أسبوعين أو كل شهر، نقضي أمسيات هادئة نحتسي فيها الشاي، أو العرق أحيانا، يقرأ أحمد قصائده البدوية المتداولة بين عشائر الموصل،ونتحدث حولها، كنت أجدها تحمل خبرة المبدعين الفطريين المفعمة بالشجن. كان يسمعني قصائده بصوت مغن بدوي مغمور يغنيها بحرقة. طاف بي كثيرا في أرجاء البيت، يريني محتوياته ويحدثني بحنين: هنا على هذه الأريكة كانت تجلس أجاثا كريستي تحوك جوارب لزوجها ماكس، هنا كانت تجلس لتكتب، وهذه الآلة الكاتبة التي خرجت منها روايات معروفة، ويمضى بي إلى حجرة متربة يعلو سريرها العريض فراش تراكم عليه الغبار،وهنا كانا ينامان. ينزل بي إلى المطبخ؛ بهذه القدور طبخنا الأكلات العراقية لأجاثا وزوجها وضيوفهما، خاصة ولفريد ثيسجر الذي كان يأتي أحيانا ومعه السمك وطيور الخضيري من الهور، بهذه الصحون أكلوا، هذا طبق أجاثا كريستي مع السكين والشوكة.ويشير بصمت إلى آثار متربة موزعة على الزوايا والأركان،وقد أهملت أو نسيت، أو لم يحن الوقت لدراستها لكثرة ما يكتشف من آثار كل يوم! كان هناك ألواح كثيرة مثلها مركونة مهملة في حديقة المتحف الحديث في الصالحية أخذت تتهشم وتتفسخ تحت المطر والشمس، وينظر إلى أحمد ليسألني من الضروري أن تكتب في الجريدة مطالبا بحفظها جيدا، وأقول لقد كتبت ولم أجد أية استجابة، فيهز رأسه بضيق وحزن، كانت الدولة تدير ظهرها لتاريخ البلاد القديم مهووسة بشعارات قومية براقة عن أمة عائمة فوق الشعارات ! أرى نفسي في هذا البيت كأنني في معبد سومري قريبا من جذور شجرة الذاكرة! فأحس بسعادة وقلق معا! في كل لقاء كنت أدفع الحديث إلى ذكريات أحمد عن ماضيه البعيد مع أجاثا كريستي والمنقبين الأجانب، لأعرف المزيد مما عاشه معهم ورآه من حياتهم وتجاربهم في نينوى وبغداد، وما سمع منهم أو عنهم. كنا مساء جالسين في حديقة البيت وأمامنا زجاجات بيرة مثلجة، فالصيف في ذروته فوجئت به يسألني :

ـ أسمعت بحادثة اختفاء أجاثا كريستي من فندق تايكر بالاص في بغداد؟

:ـــ لا ، أبداً، متى كان ذلك؟ أعرف أنها اختفت في لندن أيام شبابها!

ـــ كان ذلك ربيع عام 1949، كيف لم تعرف، لقد هزت حادثة اختفائها في حينها بغداد كلها!

ضحكت ، كنت طفلا ، أبحث عن أعشاش العصافير، لا أخبار الجرائم، مضيت أصغى له وهو يحدثني عن تلك الواقعة التي تحولت في حينها إلى لغز،وقضية هزت البلاد، وأحمد يجيبني مقترا مقتصدا ويتحول إلى شهرزاد، وجاء الصباح فسكتت عن الكلام المباح ، في كل أمسية، صرت أسأله: كيف اختفت؟ هل خطفت؟ من الذي خطفها؟ ماذا حدث لها تماما؟ لماذا طالت الأحزاب والسياسيين؟ ويجيب أحمد؛ يوما :

ـ جنون الكتاب يا عزيزي!

مازحا ضاحكا:

ـ نزوة عاطفية، غرامية يا أخي!

حزينا متأسيا في يوم آخر:

ـ أيام راحت! ولن تعود،كنا نخالط الأجانب دون خوف أن نعدم بتهمة التجسس أو العمالة!

من كل كلامه الطويل الشيق، لم أضع يدي على التفاصيل الجوهرية لما حدث لأجاثا! كنا في حجرته عدت أنبش وأستحثه على الكلام فيجيبني كعادته منتشيا بحكاياته الكثيرة المتنوعة، ، سكت ليقول ضاحكا، "والله نشفت ريقي"، بدا أنه الآن فقط تذكر شيئا مهما:

ـ ولماذا أتعبك وتتعبني؟ ثمة أوراق، تركتها أجاثا وزوجها، في البيت عندما سافرا، احتفظت بها للذكرى!..

وضع كأس العرق، ونهض، رفع سريره قليلا، وسحب من تحته صندوقا خشبيا، فتحه وأخرج رزمة أوراق وصورا، سلمها لي قائلا:

ــــ أنا لا أقرأ الإنجليزية، تحدثت بها مع أجاثا وزوجها بالقدر الذي كنت نحتاجه أو أستطيعه في العمل والمسائل اليومية. أتمنى أن تجد في هذه الأوراق ما تنشده عن اختفاء أجاثا وما حدث لها وزوجها فترة وجودهما في نينوى وبغداد، وهاهي، لتكن من نصيبك!

شعرت إنه وضع في يدي ثرة عظيمة، شكرته كثيرا، ورحت أقلبها، لكن أحمد طلب مني أن أكف عن ذلك الآن،وأن أستمع منه لقصيدة جديدة. يتغزل فيها بامرأة غريبة أحبها.

ــــ هل أحببت يوما أجنبية من الجميلات اللواتي كن يعملن في التنقيب، أو يأتين إليكم سائحات عندما كان العراق قبلة السياح!

ــــ لا، لم تأت للتنقيب فتاة جميلة، حتى الجميلة منهن تصير فورا حفارة قبور، ويعلو وجهها وشعرها غبار الموتى! كانت لي علاقات عابرة مع سائحات بين الأطلال! الأجنبية ما أن تنتهي منها حتى تدير وجهها مشيحة عنك كأنك قد صرت إناءً فارغا من طعام شهي التهمته بشراهة وأصيبت بالسأم! وأحيانا لا ترد عليك السلام في اليوم التالي! كانت لي مغامرات لطيفة وسعيدة مع فتيات عربيات وكرديات وآشوريات. كن ساخنات وحنونات!

حاولت استفزازه ليعود للحديث عن أجاثا:

ـ ولكن أجاثا كانت جميلة!

ـ نعم، ومهيبة أيضاً، مهما تبسطت معك تبقي بينك وبينها مسافة محددة، وكنت أناديها: ماما!

ونمضي في الحديث عن الحب وذكرياته وما لدينا من ذكرياته، فأنا غير متزوج، وكنت غارقا بحب فتاة جميلة جدا من أسرة غنية، بينما أنا من أسرة فقيرة معدمة، وأكاد أكون بلا أمل في الزواج منها، لكن بنفس الوقت لا أستطيع تصور حياتي بدونها،واثقا من حبها لي، كنت أغرق نفسي بالقراءة والكتابة والكحول والتدخين والثرثرة بالسياسة. وأحمد فارق زوجته في الشرقاط، وأبناؤه كبروا، وصارت له في بغداد نزوات وأشواق وذكريات!

لم أجد صعوبة بقراءة الأوراق،فأنا خريج الآداب فرع الإنجليزية، ثمة صفحات كتبتها أجاثا على الآلة الكاتبة. وأخرى كتبت باليد،بحروف ناعمة ممزوجة،متراصة تقتضي قراءتها بتأن، وببط، كانت موقعة باسم ولفريد ثيسجر، رحلته في الربع الخالي. وإقامته الطويلة في الأهوار! أعادتني إلى رحلة لي إلى الأهوار قبل سنوات! وكيف أنساها؟ تذكرتها آنذاك، وأتذكرها اليوم كأنها حدثت البارحة! حملني قارب بخاري من ناحية السلام إلى وسط هور الصحين. كان رذاذ الموج يغسل وجهي وينعشني، .اقترب مني شاب نحيف بوجه شاحب مصفر، وصار يحدثني بمسكنة، قال إنه عاطل رغم إنه لدية شهادة دراسية، عائلته لا تجد ما تأكله، والده مريض ولا يستطيع عرضه على طبيب، تألمت لحاله واستغرقت معه في الحديث، وعدته بمساعدته لو جاء إلى بغداد باحثا عن عمل، أعطيته رقم تلفوني. ما أن هبطنا من القارب وصرنا على رصيف طيني حتى فوجئت به يشهر مسدسا بوجهي ويأمرني بالسير أمامه إلى مركز الشرطة،لم أعرف ماذا أقول، ارتبكت خطاي، استسلمت والألم يعتصرني،ثم ضحكت مع نفسي، أن من بكيت لحاله هو شرطي أمن! أجروا معي تحقيقا طويلا كاد ينتهي بإرسالي مخفورا لمركز محافظة العمارة حيث كان يمكن أن تتعقد القضية كثيرا. فهذه المستنقعات الشاسعة المكتظة بأدغال القصب والحلفاء كانت قد شهدت قبل سنوات نشاطا لبؤر ثورية يسارية متطرفة، قادها مثقفون وفدوا إليها من بغداد ومدن أخرى، وأحد قادتهم ويقال إنه كان سكرتيرا لبراتراند رسل جاء من لندن ليثقف رعاة الجاموس بالماركسية،والتروتسكية، والماوية ويجعلهم ثوارا مثل كاسترو وجيفارا. والآن أنا مشكوك بي كأحد هؤلاء وقد جئت لأعيد تنظيم صفوف الثوار علهم هذه المرة ينتصرون، بعد أن فشلوا وقتلوا في المرة السابقة! سمح مفوض الشرطة لي بإجراء اتصال تلفوني مع مسئول بعثي كبير في اتحاد الأدباء، وكنت عضوا فيه،كان متفتحا فكريا وبيننا مودة، فأجرى اتصالاته بوزارة الداخلية وأطلقوا سراحي بعد ساعات طويلة من التوقيف والترقب المرير! نزلت بضيافة عائلة فقيرة طيبة،لم يكن لديهم ما يقدمونه لمنامي أكثر من حشية قديمة مهترئة متعفنة، دامت جولتي يومين. اعتقدت إنني عدت إلى بغداد سالما، بعد يومين ظهرت على جلدي وتحت كل شعرة على جسمي حبيبات حمر شخصها الطبيب أنها قراد الهور،التقطته من الفراش المتسخ. خضعت لعلاج طويل، واغتسال يومي بمطهرات، حتى تخلصت منها، سألت نفسي آنذاك هل التحقيق الصحفي الذي عدت به مطالبا بتحويل الأهوار إلى منطقة سياحية تبنى فيها فنادق ومنتجعات عالمية،ولم يلتفت إليه أحد، يستحق كل هذا العناء؟ ذكريات بعيدة أضحت كما الغبار في الريح، أتذكر أن أوراق أجاثا وماكس وثيسجر غنية بالخبرات والأفكار، رغم أن بينها قصاصات تتعلق بأعمال تنقيب، وتعكس مسار تنقلاتهما! صفحات من روايات لأجاثا كنت قد قرأتها مترجمة إلى العربية، أخرى لم أقرأها من قبل، رسائل وملاحظات حولها أو حول قضايا أخرى! وصفحات لم أعرف شيئا عم تتحدث. والأهم هي أوراق كثيرة تتحدث عن حادثة اختفاء أجاثا! رسائل ولفريد ثيسجر زادت اختفاء أجاثا غموضا وإثارة!

كثيرا ما نتحدث عن آلام الحب لدى آخرين؛ بينما نحن نقصد آلمنا في حب غائر في الأعماق!

وكيف أنسى ما حدث لي مع حبيبتي عواطف في بيت الآثار؟ ذلك الجرح الذي ظل ينزف في قلبي طيلة سنوات المنفى! كان أحمد يعاملني كابن له، يحنوا عليّ حقا، يحرص أن يقدم لي شيئا، كان قد عرف بحبي لعواطف، ورغبتي في الزواج منها لكنني ما كنت أستطيع ذلك لأسباب كثيرة، وتقتصر علاقتنا على مكالمات تلفونية ورسائل متباعدة ولا نجد مكانا نختلي فيه كحبيبين يريدان تدبر أمرهما عن قرب، لا للمتعة العابرة! عرض علي أن أأتي بها إلى حجرته ونقضي فيها لوحدنا وقتا مناسباً،كانت قريبة من الباب الخارجي، ومطلة على الحديقة قال:

ـ هنا الجيران محترمون ولا ينظرون إلى ما يفعل جيرانهم، وأنت لا تفعل أمرا شائناً.

مضيفا وهو يضحك كعادته:

ـ الحجرة كما ترى صغيرة وأثاثها قديم!

أتذكر إنني تلعثمت وأنا أعرض ذلك على عواطف، قالت إنها تثق بي ومن المفيد، أن نعرف بعضنا أكثر، ونتحدث عن قرب حول مستقبلنا، رحب أحمد بها عند الباب الخارجي، كان الوقت صباحا، سألني إن كان الوقت من الآن وحتى العصر أو الغروب يكفينا، ليعود، فوافقته شاكرا، ومع ذلك ترك عندي المفاتيح،سألته :

ـ هل أستطيع أن أريها جوانب البيت وما فيه من آثار؟

ـ ثقتي بك كبيرة، هنا لا توجد أسرار، ولكن أشياء حساسة،لا تقبل اللمس!

أتذكر الآن، بعد كل هذه السنين التي ربما أحالت جبالا إلى سهول ، ما جرى بدقة، جلست "عواطف" بجانبي تتطلع إلي بلهفة، عطرها ملأ قلبي،كان رقيقا منعشا،عيناها تحومان كفراشتين ظامئتين،تحلقان دون مستقر، تحدثت همسا، كانت حزينة معذبة هي أيضا تشعر باليأس من وضعنا الصعب وقصتنا المستعصية دون أفق، كانت تريد أن ترتمي بأحضاني،ربما فقط لتبكي ، وتستريح، كيف لم أفهم ذلك؟ فجأة ولا أدري ماذا حدث لي قطعت كل شيء قائلا:

ـ هيا لأريك ما في هذا البيت الغريب!

انكمشت فجأة، صارت اصغر من حجمها، وكانت قد كبرت بجانبي، أنا حبيبها، أحنت رأسها صامتة ذاهلة، نهضت منكسرة،هل أحست بأنها أخطأت في شيء؟ هل فكرت أنني ترفعت عن لهفتها وشوقها لي؟ هل صارت تشك بنفسها وجمالها؟ كانت باهرة الجمال ، سمراء فارعة ممتلئة دون ترهل، وجه ناعم باسم،يلثمه النسيم، عينان واسعتان مكحلتان دون كحل، شعر فاحم منسدل على كتفين مكتنزين عليهما نمش خفيف يزيدها فتنة، اعتنت بزينتها وثيابها الراقية الأنيقة. تعثرت عند باب الحجرة ولم أكن بجانبها لأسندها، استندت على ذراع مكنسة طويلة مركونة عند الباب، وأنا كالأهبل أركض أمامها لأريها ما كنت أسميه: تراث الأسلاف! تبعتني شاردة الذهن، ببطء، بدأت تشاركني رغبتي أن أريها شيئا مهما أو جميلا، ننتهي منه بسرعة ونعود للحجرة لنخلو لنفسينا، وماذا لو أخذتها بأحضاني بعد طول حرمان، أو عانقتها أو قبلتها؟ لكنني مضيت أحدثها كدليل سياحي، أشرت لها إلى أريكة جميلة قديمة نصل طلاؤها وتهرأ حضنها القديفة:

ـ هنا كانت تجلس أجاثا كريستي كاتبة القصص البوليسية، تحوك لزوجها ماكس مالوان جوارب صوفية، من هذه الآلة الكاتبة أخرجت روايات هزت العالم، ألم تقرئي لها؟ لا يجوز الجهل بأجاثا، هي كاتبة عالمية عظيمة! طرحت عليها سؤالاً أكثر غباء:

ـ هل ستحيكين لي يوما جوارب صوفية مثلها؟

ظلت صامتة، وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة مرتبكة . صعدت درجا رخامية، ملتوية، تبعتني إلى حجرة واسعة تطل على النهر، أشرت إلى سرير عريض، عليه فراش وثير قديم، بشرشف مورد:

ـ وهنا كانا ينامان!

رمقتني بنظرة سريعة غاضبة،ومدت يدها بحركة لا شعورية تمسح الغبار عن الفراش، نظرت إليها مستفهما، أعادت النظر إلي الآن وبعد ما يقرب من ثلاثين عاما، أدرك أنها كانت توشك أن تجذبني إلى الفراش لا لتعانقني ؛ بل لتضربني على مؤخرتي كطفل لا يكف عن بعثرة الأشياء! لكن أصواتا صاخبة جاءت من الطابق الأرضي، وضجيج أشياء تسقط بقوة جعلتنا نجفل، ونخرج مسرعين، نظرنا تحت مسند الدرج متحفزين، نزلنا مسرعين. وجدنا قطة سوداء كبيرة أسقطت قدورا من على طاولة المطبخ، قلت مواصلا حديثي:

ـ هنا كانت أجاثا كريستي وزوجها وصديقنا أحمد يطبخون الطعام!

هزت رأسها، وضحكت! وتوقفت. إلى أين أريد بها؟ اختلقت عواطف أسبابا شتى؛ لتخرج من البيت وتلقاني، وأنا أجول بها هنا أريها مقاعد وسرير نوم تعلوه العناكب، وقطة تعبث بقدور المطبخ،اتجهت إلى الباب تريد العودة إلى حجرة الحارس التي صارت عش حبنا الخائب؛ وقد صار بأيدينا ولو لساعة، لكنني قلت لها:

ـ لم ننته بعد، تعالي انظري، هنا ألواح مهمة جدا،عثروا عليها في المقبرة الملكية في أور!

كتمت ضحكة حنق قائلة :

ـــ لديك قبور أيضا؟

لم أجبها كأنني لم أسمع شيئا ،لكنها عادت إلي تريد أن تعرف نهاية هذه الحكاية، أتذكر جيدا إنني أشرت إلى ألواح مركونة على الجدار مهملة ورحت أشكو لها:

ـ هم مهملون! منذ سنوات،وهذه الألواح الهامة هنا، لا يكترثون لهذا الطين صارت قيمته أثمن من الذهب،لا يريدون قراءة ما عليها من قوانين،وأخبار،وقصائد حب!

انبعث صوتها ساخرا:

ـ وماذا فعلنا بقصائد الحب في زماننا؟

نظرت إليها دون أن أدرك معنى ما قالت، أردت مواصلة الطواف بها بين ألواح وشواهد الآثار، فجأة انتفضت، استدارت راجعة، ذهبت إلى الحجرة، حملت حقيبتها ووقفت عند الباب:

ـ أريد أن أعود إلى البيت،تأخرت، وعدت أمي أن أعود بعد ساعة، وها قد مرت ساعات!

لم أستطع أقناعها لتبقى، رافقتها إلى الشارع الرئيسي، أخذت تكسي لوحت لها مودعا ولم ترد علي،عدت إلى الحجرة لأنتظر أكثر من خمس ساعات حتى عاد أحمد متأخرا.أراد أن يمنحنا أطول وقت للسعادة، لم يدر إنه صار وقتا للألأم والقلق! كان يتطلع بوجهي لا شك إنه كان منطفئا، لكنه لم يسألني عن شيء، ولو سألني، لما تجرأت أن أقول له إنه كان لقاءً فاشلا!

لم أكن أعلم أنها آخر مرة أرى فيها وجهها الحزين المقارب للبكاء وهي تصعد التاكسي. بعد أسبوعين طلبت منها أن نلتقي ، رفضت، قالت كلاما كم يبدو الآن صائبا:

ـ لو أردت أن أرى آثاراً، سأذهب إلى المتحف، هناك أجد آثارا أكثر وأجمل!

وانتهت علاقتنا،بالأحرى انقطع حديثنا المتباعد في التلفون وساد بيننا صمت غامض.، ثمة شعور في قلبي أنها ظلت تكن لي شيئا من الحب الكبير الذي أكنه لها ولم استطع أن أحققه بوضوح، ربما لشعوري أن أي لحظة حب سريعة لا تجدي ما دمنا سنفترق على أي حال! ازدادت أيام البلاد اللاحقة توترا وحلكة ورعبا. تفجر صراع دموي في رأس السلطة، أزاح النائب رئيسه في حملة تصفيات دموية! تفاقمت أجواء الخوف السياسي كثيرا، صرت أرقا، مشتت الذهن لا أستطيع التركيز،أتذكر عواطف كل يوم ولا أجد جدوى في محاولة الاتصال بها. صرت عاجزاً عن كتابة مقال، فكيف برواية؟ لم أكن منتميا لأي حزب، أعد نفسي يساريا ديمقراطيا حرا، لكن البعثيين كانوا يحسبونني على الشيوعيين رغم إن لدي اعتراضات كثيرة على الشيوعيين، وكنت أقول أنهم لا يختلفون عن البعثيين، يلتقون على ضيق الأفق والنهج الاستبدادي، كنت أردد أمام أصدقائي الموثوقين "الشيوعيون يدينون بالولاء للسوفيت، والبعثيون يدينون بالولاء للروليت!" فأولئك تابعون خانعون، وهؤلاء مقامرون مغامرون، شملني البعثيون بنقمتهم وملاحقتهم الضارية للشيوعيين التي ألقت آلاف منهم في المعتقلات وزنازين الإعدام. ودفعت الآلاف منهم إلى المنافي. جاءني صديق، صحفي بعثي،بيننا مودة وثقة، أخبرني أنهم سيلقون القبض عليّ قريبا فاسمي موضع تداول بينهم! كنت أعيش مع والدتي وشقيقتي ليلى التي تقدمت في السن، ولم يعد لها أمل في الزواج، وأوقفت حياتها على رعايتنا أنا وأمي! فراقي لهما كان الأكثر إيلاما لي في حياتي. أحسست كأنني أنتزع منضدة الكتابة من أحشائي وأنا أفارقها في حجرتي المليئة بالكتب واللوحات. ذلك كاد يحطم جذوة الكتابة في نفسي نهائيا. ويجعلني أكفر بالإبداع والثقافة كلها! اختفيت أياما في بيت صديقي حميد، أقرب أصدقائي إلى قلبي، وأكثرهم إخلاصا واستعدادا للتضحية من أجلي . كان يشبهني بالكثير من الملامح حتى إن من يرانا يظننا شقيقين، تشابهنا في عيوننا وبشرتنا السمراء وتجاوزنا معا الثلاثين، لكننا اختلفنا في طباعنا ، فأنا يقال عني أنني بطبع يتردد بين الغفلة والسذاجة ، والنباهة والمراس، بينما حميد هادئ رصين يميل للصمت والتكتم! اكتشفت أنني ممنوع من السفر، وجد حميد ضابطا في دائرة الجوازات رفع المنع عني لقاء خمسمائة دولارا . لكنني بقيت في شك وحذر ، واحتمال أن يكون الضابط قد خدعني ولحظة الحساب ستكون في المطار، وإذا وجدوا معي أوراق أجاثا قد يعدونها رسائل تجسس وتخابر مع أجانب، هكذا يترجمون أوراق خصومهم. وستكون أدلة تكفي لإعدامي. تركت صورا ورسائل ومخطوطات قليلة مع أوراق أجاثا لدى حميد. وكنت أبقيت صورا وأوراقا ومسودات في البيت لدى شقيقتي. عندما استقريت في السويد وبدأت أستعيد قدرتي على الكتابة شيئا فشيئا، عاودني حلم كتابة رواية أجاثا،قلت أنها ستكون أشبه بصلاة طويلة أستعيد بها أيامي القديمة،وجه عواطف لم يغب عني يوما، وعطرها يملأ أعماقي! كتبت الفصل الأول مستعينا بذاكرة مكدودة مجرحة، طعم الذكريات المحترقة في روحي يجعل ريقي مرا وعينيي تغشيان! توقفت عن كتابة الرواية، ورحت أشغل نفسي بنصوص ما أن أقارب نهايتها حتى ألقيها جانبا. ظل حلم سقوط النظام وعودتي إلى بغداد يعني في جانب منه حصولي على أوراقي وصوري القديمة، ومنها أوراق أجاثا وثيسجر. وزيارة بيت الآثار، واستعادة ذكرى ذلك اللقاء الأخير مع عواطف، كلما باعدت بيننا السنين اقتربت منها أكثر! ماذا لو لم أجد بيت حميد؟ بيوت كثيرة هدمت بقصف عشوائي أو مقصود، حين تحصن بها إرهابيون، أو مسلحو ميليشيات. أرقام التلفونات التي عندي لا أحد يرد عليها، يقولون أن بدالات المدينة مدمرة،قد أجد بيته، ولا أجد عائلته، تهجير العائلات خف قليلاً، لكنه لم ينته، والمهجرون ما زالوا لا يستطيعون العودة إلى بيوتهم، ومنطقته يسكنها شيعة وسنة،هذا يهجر ذاك، والمحرك قوة مجهولة أخذت تمتلك وجه القدر أو إرادة الله! لا بد من زيارة عائلة حميد، ليس من أجل وديعتي. بل من أجل رؤيتهم، أعرض عليهم مساعدتي لهم، إذا كان ذلك لا يزعجهم. هذا اقل ما ينبغي أن أفعله من اجلهم، لا مكافأة لحميد فما قدمه لي كبير جدا ويصعب إيجاد مقابل له، يكفي إنه آواني أيام الملاحقة،ولو عثروا علي عنده لا يمكن التكهن بما سيفعلونه معه! أعرف منطقته لكنني لا أعرف موقع بيته بالضبط. التنقل مجازفة، في هذا الجنون المنفلت، الغابات والبراري جميعا أطلقت ذئابها وثعابينها في هذه المدينة! أم زيد زوجة حميد تتذكر الأوراق، تناولتها مني وذهبت مسرعة إلى أحدى الغرف،لإخفائها وكأنها مناشير حزبية. هي محقة، تخشى على طفليها،لحظتها فكرت أن كل أوراق المطارد السياسي،حتى لو كان رسائل حب قديمة أو وصولات كهرباء وتلفون تتحول إلى بيانات سياسية، هذا هو القانون هنا، ماذا لو لم أجد الأوراق، هل سأعدل عن كتابة الرواية؟ هل سأكتبها من مخيلتي؟ وهل سأستطيع التعويض عن الأحداث والأقوال كما دونت؟ مزيج من الخيال والواقع هل سيكون أصلب من أوراقها؟ لماذا وقعت بحبائل هذه الذكرى، ألأنها ارتبطت بذكرياتي مع عواطف؟ استعادة الذكرى يعني الحرية. الوجود مرة أخرى. يجب أن اكتبها، إذا كان الزمن قد هرأ ذاكرتي، وأتلف أوراقي، هل أعود إلى أحمد، صديقي العزيز، حارس بيت الآثار القديم، أعتصر ذاكرته من جديد، لكن أين أجده؟ أيمكن أن يكون قد بقى حياً إلى اليوم؟ فارقته وقد قارب الخمسين وقد مضى زمن طويل على فراقنا، حتى إذا كان مقدرا له أن يكون من المعمرين؛ كيف يستطيع البقاء سالما تحت ما عاشه البلد من حروب وحصار وغزو. يكفي أن يقتل أحد أبنائه ليموت كمدا، فهو كما عهدته حساس، ضاحك الوجه، لا يطيق حزنا أو أذى! سألت عنه أشخاصا من منطقته التقيتهم في السويد؛ فما كانوا يعرفونه! وحتى لو كان ما يزال حيا، واستطعت بعد بحث طويل أن ألقاه؛ بماذا سيفيدني في موضوع حدثني عنه، وطواه الزمن منذ عهد بعيد؟ سأجد أن ذاكرته قد خربت وجفت،من شيخوخة وفجائع! قد لا يستطيع التعرف علي، وإذا عرفني ألا يمكن أن يسألني :

ـ بعد كل هذه السنين، لم تجئ تسألني عما جرى لنا، بل لتسألني عن أجاثا كريستي واختفائها، ماذا فعلت أوربا بعقولكم؟

 

عدت من المنفى، وجدت المنفى ينتظرني في وطني!

كنت قد تجولت في شارع الرشيد، لي فيه ذكريات كثيرة. كانت مقاهيه وباراته مسرحا لحكايات ومجادلات خضتها،وشغلت بها في حينها، وصارت الجمر الذي أتدفأ به في ليالي المنافي الثلجية الطويلة، شهد الشارع أحداث الرواية فهي تدور في أحد فنادقه. وجدت الأبنية على جانبيه ذات الشرفات الجميلة وأعمدته الشهيرة قد تحولت إلى خرائب وأنقاض، اختفت أرصفته تحت أكوام النفايات والزبالة تقطعها الأسلاك الشائكة و مفارز الشرطة والجنود المدججين بالأسلحة. وحيثما تلفت تطل عليّ صور ملونة كبيرة لرجال بلحى وعمائم سود وخضر وعيون تنظر بصرامة، تلوح من بعضها سيوف، أو خناجر طويلة، يتحرك تحتها شبان بثياب سود، ونظرات قاسية، متوعدة، في مواضع أخرى بسطات الباعة المتجولين، وبضائع أصحاب الدكاكين التي ما تزال مفتوحة. بحثت عن فندق تايكرس بالاص الذي كانت قد نزلت فيه أجاثا وماكس وثيسجر ودارت فيه تلك الأحداث فلم أجده،عرفت إنه هدم عندما بني جسر قريبا منه! ضاعت عليّ معالم الشارع، اختلط خرابه وتشوهاته وأوساخه ببنايات حديثة قليلة.هربت منه مسرعا، متجها إلى الجسر،متحاشيا النظر إلى النهر وقد استحال إلى ساقية آسنة،شحنت بقوة غضب وحنين مربكة. وأخيرا وصلت بيت الآثاريين! تلكأت خطواتي، وقفت أمامه صافنا، كان مهجورا متصدعا رثا، تمسك أبوابه وشبابيكه بجدرانه بقوة غامضة لكي لا يغدو مأوى للقطط والكلاب ومكبا للنفايات! لم أجد أحداً لأسأله عما جرى له، البيوت المجاورة صامتة ساكنة، لا أحد يقف عند أبوابها أو يسير في الشارع المحاذي للنهر أمامها كما عهدت سابقا، يبدو أن ساكنيها قد غادروها، أو هم رحلوا عن دنيانا، كما هو الأمر دائما، ثم إن الحال كان واضحا، والوضع المتوتر والمتفجر لا يسمح بأسئلة، واستفسارات عن مصائر الناس أو بيوتهم وأشيائهم! بقيت واقفا أمامه موليا ظهري للنهر، يخيل إلي إنني أسمع أصوت صيادين ومغنين سكارى أو عاشقين، لا أدري هل تأتيني من الماضي الغابر، أم من الحاضر الذي تمزقه أحيانا أصوات انفجارات، واطلاقات. لا أستطيع أن أرى من البيت سوى واجهته المطلة على النهر فهو بين بيوت متراصة ، ليتني لم أعد ولم أر هذه الأمكنة، كانت قد ظلت في ذاكرتي كما فارقتها، ما كنت أحتاج أن أراها لأكتب عنها، فأنا سأصفها كما كانت آنذاك، لا كما هي الآن، ولكن لا ..لا يجب أن أراها كما هي الآن؛ لأكتب عنها في وضعها آنذاك، بشكل دقيق وصحيح، كل شيء يحمل ما سيؤول إليه منذ بدايته، وإن نرى الشيء في بدايته، فقط؛ لن نراه على حقيقته، النهاية هي التي ترينا البداية كما هي حقا،فلسفت الأمر لنفسي، اقتربت من البيت أكثر، غرقت في لجة الحنين مرة أخرى، تذكرت أحمد وجلساتنا معا، عواطف التي اختفت معتقدة أنني لا أصلح للحب، ولم أنسها أبد! احتويت البيت بجوارحي، تركت قلبي يحاول النفاذ من شروخ وشقوق الجدران إلى داخله! همست لنفسي "ثمة طير جاء متعبا من بعيد ويريد أن يحط على غصن شجرة،على تمثال قديم فيه، يتشبث بألواح ورسومات مهجورة" أجدادنا أحسنوا الوقوف على الأطلال، كهذه الدار، بغداد التي كانت تزهو بحاضرها وماضيها، أضحت أطلالا، أين قصيدتك؟ وأزداد تصميما على كتابة الرواية! فجأة وجدت ما يكفي من الشجاعة لأنعطف إلى الشارع العام، فأوقف سيارة أجرة، أعطيت للسائق العجوز عنوان بيت حميد في المنصور! كان أملي ضعيفا بالوصول للبيت، وأن تكون عائلته فيه إذا وجدته. قطعت السيارة نصف الشارع تقريباً وتوقفت، قال السائق ، "اختناق مروري". سارت قليلا وتوقفت"موكب مسئول" ،قاربت بناية المتحف الوطني، توقفت، "حاجز تفتيش " مصطلحات أسمعها هنا لأول مرة، نهاية شارع جمال عبد الناصر، رحت أتأمل قباب وأعمدة وواجهات المتحف ،السيارة تنتظر أن تمر أمام جهاز يحمله جندي، مشكوك بقدرته على كشف المتفجرات،داهمتني على الفور مشاهد اقتحام المتحف من لصوص مسلحين سرقوا محتوياته الهائلة التي لا تقدر بثمن، الضباط والجنود الأمريكان كانوا يتفرجون عليهم وهم يخرجون بحمولاتهم ضاحكين مستمتعين بفلم مثير.هل حقا أنهم ما كانوا يستطيعون حماية المتحف؟ أحمد بمسدس صغير صدئ كان يحمي بيت الآثاريين الأشبه بمتحف صغير، ملئ بالتحف، تحركت السيارة وشعرت بالراحة فقد جثمت الدبابات والأحذية الثقيلة على قلبي، مضت السيارة صاعدة إلى شارع الزيتون! وظلت تدور في المنصور دون أن نهتدي إلى البيت، كانت ثمة بيوت قد هدمت وأعيد بناؤها، أجزاء من الشوارع ما تزال خرائب، أسس بناءات لم يبن عليها، بيوت فخمة بأعمدة عالية ضخمة لا عهد لي بها في بغداد، تتداخل مع بعضها وتضيع عليّ معالم المكان القديم، وقفت السيارة مرات وسألت مع السائق هنا وهناك، مهما تخيلت من تغيير في المكان وفي صعوبة الوصول إلى البيت لكنني لم أكن أتوقع أن ذلك سيكون عصيا إلى هذا الحد. كنت على وشك أن أقر بيأسي من العثور على البيت،عندما أعلمنا صاحب كشك على الطريق إنه يعرف زيد ابن حميد، " صلينا العصر معا قبل قليل" وأشار إلى المسجد الذي قبالته! وطلب من صبي بجانبه مرافقتنا إليه! ذهلت أم زيد حين رأتني، وذهلت أنا أيضا، كانت محجبة، تركتها حاسرة الرأس ، طليقة الوجه، ترتدي أحدث الملابس، رحبت بي وسلمت علي ويدها على صدرها، ولم تصافحني ، فهمت ما طرأ على عائلة صديقي، زيد، هو وزوجته وأطفاله في البيت،كان ملتحيا، سلم علي بهدوء، تركته صبيا، زوجته كما توقعت كانت محجبة أيضا ، لم تأت ولم تسلم علي لكنني لمحتها تدخل المطبخ، لم تمض سوى دقائق حتى وضع زيد أمامي صينية الشاي! لم يشجعني الجو الصامت الواجم على المزيد من الحديث بغير التحية والسؤال المكرر عن الأحوال، لم يكن حميد متدينا، كان متحررا دون تطرف أو ابتذال، يحتسي العرق أحيانا ، يعشق الأغاني والأفلام ، وحين تدب الخمرة في عروقه يرفع عقيرته مقلدا فريد أو عبد الحليم . كان أقرب لتفكيري، قليل الكلام ، لا يجاهر بآرائه. فنجا من ملاحقة السلطة. شعرت بحرقة في صدري، أدركت اللحظة فقط أن حميد قد مات ورحت أغالب دموعي ولذت بالصمت أيضا،نصف ساعة تقريبا ونهضت مودعا، دون أن أسأل عن الأوراق،"جئت فقط لأسلم، وأطمئن عليكم ، أنا في الخدمة إذا تأمرونني بشيء" شكرتني أم زيد "مستورة والحمد لله!" طلبت وابنها، مني البقاء لأتعشى معهم، اعتذرت ،كررت " جئت لأسلم عليكم فقط؟" فوجئت أنها تتحدث عن الأوراق، فأصغيت بقلب متوجس ، طلبت مني أن أجلس قليلا، راحت تتحدث، ما أن بدأت باللازمة المعروفة:

ـ بعد سفرك شاعت ما سماه الناس هنا حمى حرق الأوراق والصور والكتب، انتشرت بالعدوى بينهم ، في تلك الأيام حرق حميد الكثير من كتبه وأوراقه...

هبط قلبي ، عرفت أن أوراقي قد اختفت تماما، لكن صوتها الهادئ تواصل:

ـــ حميد حافظ على أوراقك، وضعها في صفيحة معدنية، ودفنها في الحديقة،انتظر لنخرجها!

وجدت نفسي على الشاطئ،هذا عهدي بحميد، شهم عند كلمته، تجرأت وطلبت من زيد:

ـــ كأس ماء من فضلك!

تبدد الكثير من حزني، وأنا أتبعها وزيد إلى الحديقة،لا أدري، هل لأنني أحسست بالطمأنينة بعد قلق على هذه العائلة الطيبة التي لم تستطع مواصلة وضعها كعائلة متحررة غير متزمتة دينيا، كما أراد لها حميد.ما لحية زيد الطويلة؟ ما امتناع الأم عن مصافحة أخ وصديق قديم؟ سرني كثيرا أنهم ما زالوا بأخلاق عالية. وجدت الدموع ملأت عينيّ. أخذ زيد يحفر في المكان الذي أشارت إليه أمه تحت النخلة الوحيدة، هممت بمساعدته لكن زيد قال" الأمر سهل يا عمي أرجو أن ترتاح فقط!" رحت ارقبهما، زيد يحفر بهدوء وحذر، والأم توجهه، لحظات ووجدت رزمة أوراقي تخرج من الصفيحة المعدنية ملفوفة بأكياس النايلون، لم أصدق، ضممتها إلى صدري كتلميذ يذهب بدفاتره إلى المدرسة لأول مرة، تبادلت مع زيد العناوين وأرقام الهواتف النقالة وطلبت منه أن نبقى على تواصل قدر الإمكان! استقبلتني ليلى عند باب البيت شاحبة الوجه: "أقلقتني عليك،كيف تتأخر والأجواء هنا كما تعرف" نظرت إلى ساعتي كيف صارت الساعة الثامنة مساء في بغداد،ساعة متأخرة من الليل؟ سنوات شبابي؛ كنت أخرج من هذا البيت بمثل هذه الساعة إلى السينما أو للسهر في أحد البارات،أو لزيارة صديق، والعودة بتكسي مع إطلالة الفجر. ماذا جرى لبغداد؟ أجبتها بما لا أدري من الكلمات، ولذت بحجرتي! بعد ثمانية وعشرين عاما تعود الأوراق والصور الحميمة إلى يدي وفي الحجرة التي كانت فيها،كم هي دورة الدنيا سريعة، وهائلة الاتساع أيضا؟ والآن هل استطيع المضي في كتابة الرواية؟ نعم قلتها على الفور، رحت أفردها أصنفها حسب محتوياتها، وجدت بعضها قد تسلل إليها رطوبة وتآكل ولكن فيها رائحة أعماق الأرض، وعلى العموم يمكن قراءتها، رائحتها المعتقة الأولى؛ بعثت في نفسي الذكرى الجارحة، وأنا في السويد عرفت أن عواطف تزوجت من ضابط في الجيش يسكن قريبا من بيتهم، لا أدري الآن ماذا حل بها، أحيانا أتوقع أنها الآن أضحت أرملة بعد الحروب، وربما تتذكرني، وقد نلتقي بصمت، هذا مجرد أحلام وأوهام! أحيانا ،حين أتذكر ذلك اللقاء والأخير، أتمنى لو إن كل ما عشته في أوربا وما منحني من أفكار وخبرات كانت لدي آنذاك، هذا مستحيل طبعا، لسبب بسيط وساذج: المستقبل لا يأتي قبل الماضي، ولكن ما ليس مستحيلا، هو أن أناسا من جيلي لا يعرفون أي شيء من أفكار العالم تصرفوا مع حبيباتهم بما ينبغي، حتى لو التقوا بهن في ما هو أتعس من حجرة حارس بيت الآثار! ربما كانت عواطف محقة في هجري ، وربما كنت محقا في تصرفي معها آنذاك حيث كنت موقنا أننا سنفترق، ولا نحقق الزواج المنشود لأسباب أخرى قوية وحاسمة.خارجة عن إرادتنا، فلم نزيد عذابنا بمشاعر وأحاسيس ملتهبة؟ لقد أحببتها حقاً، لكن هذا ليس هو سبب عدم زواجي وبقائي وحيدا طيلة هذه السنين! فأنا أنست وحدتي وخلواتي، ملأتها بالعمل والقراءة والتأمل والموسيقى والنزهات بين الغابات والبحر! واليوم أنظر إلى ليلى،التي لم تتزوج لسبب خارج عن أرادتها أيضا فأجدها عجوزا مهجورة منذ أمد طويل، فأحزن لها، وأحزن أكثر لأنني لا أستطيع أن أقترب من روحها الطيبة وهمومها الكثيرة، هي الآن تغمرني بالكثير من حنانها ورعايتها، ولكني أخشى عليها، ماذا لو لسبب قاهر عدت إلى السويد فجأة ؟ ماذا لو قتلت بانفجار،أو بمرض مفاجئ؟ كيف صار التفكير بنهاياتنا واجبا يوميا! هي وأقارب لنا نصحوني بالزواج "هنا الكثير من الأرامل والعوانس بذلك تعيل امرأة وترعى يتامى" وكنت أقول لهم: "يمكن مساعدة اليتامى دون الزواج من أمهاتهم!" نصحوني أن لا أكثر من الخروج درءا لمخاطر كثيرة! هم محقون بذلك خاصة وإن ما في بغداد لا يسر ولا يغري بتحمل العناء والخطر من أجله! نزلت إلى وسط المدينة مرات عديدة، تجولت في شارع المتنبي حيث المكتبات وأرصفة الكتب، وجلست في مقاه يلتقي فيها أدباء وصحفيون، فرحت في الأيام الأولى، ثم أخذت المزعجات والآلام تتوالى، ثمة مثقفون وكتاب وصحفيون، بعضهم أصدقائي ، وجدتهم قد تغيروا، كثيرون يكرهوننا، يقولون إننا عشنا مباهج الخارج، بعيدا عن معاناتهم الطويلة والمؤلمة، ثم جئنا لننافسهم في حياتهم هنا؟ على ماذا ننافسهم؟ ماذا لديهم نحسدهم عليه؟ واقع معقد مريع وصعب الحل، لا يجوز نكران معاناتهم! ولا ينبغي المزايدة بالثورية والوطنية. لا أريد الدخول معهم في جدل مرير، والحديث عن الخنوع والتدليس والسكوت عن الظلم، والمنفى الذي كان احتضارا طويلا، وليس فندقا بعشرة نجوم،كما اعتقدوا، لم أرد حتى على من حاول استفزازي وتجريحي بفظاظة، أعرف أننا جميعا ظلمنا، وانتهينا إلى مصير لم يكن بمعزل عن تقصيرنا جميعا. عدت من المنفى، ووجدت المنفى هنا أيضاً! صرت اشعر أن لا شيء يقنعني سوى الصمت والكتابة، قررت أن أمكث في البيت لا أخرج منه إلا لضرورة، حتى رياضة المشي التي احتاجها لمعاناتي من السكر وارتفاع ضغط الدم، لم تعد هنا ممكنة. ولكي اضمن عزلة هادئة قطعت الانترنيت عن الكومبيوتر، أربك عملي انقطاع التيار الكهربائي بين ساعة وأخرى! ما زلت أجد في الذكريات ما يمنحني شيئا من الفرح والأمل،أحس الآن ويدي على الأوراق القديمة العائدة بتيار غامض يسري منها إلى قلبي، أهو شعاع يأتي من الماضي إلى الحاضر، أهو شعاع كدر قاس ينطلق من الحاضر إلى الماضي يستحثه للنهوض في أعماقي من جديد، شيء أعمق من الحنين، وأقرب للأمل. يبدو كلما تحطم شيء في الحياة، ثمة شيء آخر مهما كان صغيرا وكالنواة ينهض مكانه، ويكفي لشدنا إلى المستقبل! علني استطيع المضي في كتابة الرواية، وترتيب هذه الأوراق داخلها، وإذا وجدتها لا تكفي أو لا تنبئ بأحداثها سأقتدي بعلماء الآثار حين يسدون ثغرات وتخرم النصوص من تحليلاتهم ومخيلتهم وتوقعاتهم ثم يمضون دون كلل يفكون شفرات الماضي. سأحاول استخراج ما حدث لأجاثا، أين ذهبت وماذا لقيت،حين اختفت، ومن يدري قد تكون أجاثا لم تختف أصلا، وإن الأمر كله لعبة ذكريات مريرة طاحنة، وإن صديقي حارس الآثار أراد إشعال خيالي برواية مؤثرة آنذاك، أو هو ابتهال خاص بعواطف وقد شهدت الآثار لحظات حبنا الأخيرة؟ أو إنني في بحثي عن أجاثا أبحث عن روحي المعذبة وقد صارت تحت كل هذا الركام من الحجارة والأنقاض،وعن بغداد المهدمة موطن الروح مهما تبدلت عليها الأوطان؟ إنها لعبة أحزان على كل حال، لا أستطيع أن أجزم بشيء سوى بالكتابة نفسها وهي ستشق طريقا لنفسها كما يشق السيل طريقه ولا ينتظر من يحفر أمامه، لا شيء تبقى الآن سوى الكلمات!

 

هل قتلت أجاثا؟ أم ذهبت بعيدا؛ تبحث عن القتلة الكبار؟

صعد ماكس درجات السلم متهالكا، يكاد ينهار. دخل حجرة النوم، وتداعي على الفراش. انتفض فجأة وراح يرفع الأغطية؛ عل أجاثا تكون نائمة تحتها، ضحك من نفسه بمرارة كيف يختفي جسدها الضخم الجميل تحت هذه الأغطية الربيعية الخفيفة؟ هل سافرت إلى الشام واستقرت في فندقها المفضل في حلب؟ أم ركبت قطارها المفضل، الشرق السريع الذي تبتدع فيه حبكات رواياتها، عائدة إلى لندن؟ ولكن لم يحدث بيننا أي خلاف أو شجار أو حتى تعكر مزاج، لتتركني،حياتنا غاية في الصفاء والانسجام! ثم كيف تغادر الفندق دون أن تأخذ معها حقيبتها؟ فهي ما زالت مركونة في الزاوية وملابسها معلقة داخل الدولاب. والأهم من هذا كله كيف ترحل دون أن تأخذ معها آلاتها الكاتبة، مذ بدأنا العيش معا كنت أراها تحملها قبل أن تهتم بأمر حقيبة ثيابها، أكثر من مرة قالت لي: " أنا أتنفس هواء العالم من خلال الآلة الكاتبة، ومهما كان ولعي بالبيانو عظيما لكن تكتكات الآلة الكاتبة عندي أعظم من نغماته الساحرة! عليها أعزف سيمفونياتي الصامتة، حتى أنني صرت اسمي آلتها الكاتبة بيانو أجاثا، كل رواياتها كتبتها بثلاثة أصابع تنقر عليها كمناقير عصافير الحب. مادامت الآلة هنا، فهي هنا أيضا. وجد أيضا قارورة العطر الصغيرة التي فيها فتات تساقطت من ألواح النسخة الآشورية لملحمة جلجامش ، حفظتها كأنها تعويذة ، تحملها معها أينما ارتحلت. بقاء القارورة هنا يعني أن غيابها لم يكن بإرادتها أو رضاها ، هي تعرضت لخداع أو ضغط وعنف على الأغلب! هل هي الآن حية أم ميتة؟ نهض وقد داخلته قوة مضطربة. اخذ يتفحص الشرفة أدار نظره تحتها متفحصا رغم إنه مر في المكان قبل قليل، راوده هاجس رهيب أن تكون قد ألقت نفسها منها منتحرة. ولكن ،هذا ليس مكان مضمون للانتحار، فهو ليس مرتفع كثيرا ، سقطتها ستصيبها بكسور فقط.، ولكن ما لذي يدعوها للانتحار؟ أليست هي سعيدة معي بعد زواجها الفاشل من الضابط الإنجليزي، ولم تكن هي السبب في فشله. كانت تقول دائما "أحس كأنني مررت بكل هذا العذاب والرحيل، والقلق لكي ألقاك، كأنني كنت أبحث عنك أنت بالذات، كلانا يبحث، أنت تبحث عن إله كبير تحت الأرض، ولم تجده حتى الآن, وأنا أبحث عن اله صغير فوق الأرض، ووجدته فيك!" كنت أعرف أنها قد قررت أن تجعل زواجنا سعيداً، لكنني كنت ألمس بين حين وآخر رغم سعادتها التي تبدو غامرة ثمة سحابة حزن تظلل وجهها تحت قبعة القش الشمسية، حين ننقب بين القبور، يعتريها ذهول مفاجئ، كنت أعزوه لإدراكها المصير القاسي للإنسان: كومة صغيرة من العظام المنخورة! وكنت استغرب لماذا هي مولعة بحبكات الجريمة، القتل، والموت، الخطف والسرقة؟ ألا ينم هذا عن كونها هي أيضا خائفة من الموت، خائفة أن تخطف أو تسرق أو تتعرض لأذى ما؟ هل ترى في الإنسان وحشا كاسرا يتخفى خلف وجه رائق مزوق بحضارة ومدنية لم تصل إلى روحه، ولم تغير من حيوانيته؟ أحيانا أتصور أن أجاثا مهما ابتسمت بوجه الناس فهي في قرارة نفسها ترى أن الإنسان كائن زائف دعي كذاب؟ وأنا ألست أنسانا أيضا؟ ومن يخاف من شيء قد يقاربه على سبيل التحدي، أو للانصياع والاستسلام له. ولكنني أظلمها فهي تثق في الناس كثيرا وتتفانى في حبهم وخدمتهم. ما هذه الأفكار السوداء التي صارت تزحم رأسي، ما هذا الذي يحدث يا أجاثا؟ نهض من فراشه وألقى مرة أخرى نظرة من حاجز الشرفة على النهر، بين جدار الفندق و النهر حوالي ثلاثين، أو أربعين مترا، شاطئ رملي تتخلله حشائش وأجمات من شجر الطرفة والأشواك الخضراء، نوارس تحلق في أسراب ترسل صيحاتها، لأول مرة يحس أنها حزينة كأنها معه تنادي على أجاثا، نداءات وأغاني الصيادين والبلامين الذين يعبرون الناس بقواربهم جعلته يشعر بشيء من الطمأنينة أن هذه المدينة وديعة مسالمة حنونة لا تقتل الغرباء، لا تخطفهم ولا تسرقهم ولا تعتدي عليهم، وإن أجاثا في لحظة ذهول عن نفسها، هي في شرود وتجوال طويل، وستعود. نزل درجات السلم مطمئنا بعض الشيء، وألقى نفسه على الأريكة الجلدية السوداء في بهو الفندق، عاد يفكر، هل أخذتها في لحظة ما روعة بغداد وجمالها، اجتذبتها إلى أعماقها فراحت تائهة غائبة عن نفسها هائمة بجمالها الفطري البسيط تتجول في أزقتها وحواريها تستدعي أطياف وجوه ماضيها الشهير، وسحرها القديم، ألم تكن تقول بين حين وآخر، "أحقا يا ماكس نحن الآن في أرض ألف ليلة وليلة؟ في مدينة كانت عاصمة الدنيا، تضج بأنوار الحضارة، قبست حضارتنا من نورها كما قبست من أنوار المصريين واليونانيين وغيرهم؟ لقد انكفأت بغداد على نفسها قرونا، وعلينا أن نرد لها بعض فضلها علينا فنساعدها على النهوض من رقاد القرون الطويلة التي عاشتها غائبة عن العالم." لا، لا يمكن لامرأة تحب مدينة، أن تقابلها تلك المدينة بالغدر والعقوق فتقتلها، كما لا يمكن لأجاثا وهي تحب العالم بهذا القدر؛ أن تكره نفسها؛ وتنتحر! قر في نفسه كما لو كان يحلل لوحاً أثريا: لم يقع لأجاثا أي سوء، لقد استدعتها روح بغداد، اجتذبتها كساحرة متمرسة، فضاعت في أزقتها الملتوية المتشابكة فهي أغصان شجرة معمرة عتيقة. بعد قليل ستدخل علينا يقودها فقير درويش، أخرجها من خان أو نزل، أو تكية في مسجد قديم! قطع جبرائيل أفكاره، وهو يسأله فجأة:

ـ ألا أترى يا سيدي أن علينا إخبار الشرطة؟

أحس ماكس بصعقة، أعاده صوت عامل الفندق المشوب بقلق وخوف واضحين إلى الحقيقة المرة، فأخذته رجفة في أطرافه، كان قد فكر بذلك قبل ساعة كيف تجاهل ذلك، لم يعد الأمر تحت قدرته لا بد من تدخل قوة أكبر، لقد تأخر كثيرا، هل حقاً أجاثا قد اختفت؟ وهي الآن في وضع يستدعي تدخل الشرطة؟ هل قتلت أو خطفت أو انتحرت، واختفت إلى الأبد؟ لا هذا غير ممكن! لا أصدق أبدا. انبعث صوته واهنا، مع نفسه: قبل أن أخبر الشرطة علي أن أتصل بريتشارد، فهو أيضا الموظف الذي يتابع عملنا رسميا من السفارة البريطانية.هم بالنهوض، وجد جسده ثقيلا، منكمشاً لا يكاد يطاوعه، تحامل منهكاً، واتجه إلى تلفون الاستعلامات الأسود الثقيل، بدا له في تلك اللحظة حيوانا شرسا مخيفاً. ولكن لابد له من استعماله. سمع صوت ريتشارد من مكتبه في السفارة يوقظه من شروده:

ـ ماذا هناك يا ماكس، أأنت بخير؟

لم يطاوعه قلبه ولا لسانه للقول أن أجاثا قد اختفت قال:

ـ خرجت أجاثا من الفندق؛ دون أن تعلمني، طال غيابها، وإنني قلق عليها كثيرا.

مضى يرد بصوت واهن جاف على أسئلة ريتشارد. كان يتوقف، ليبلع ريقه، يأخذه شهيق، ويعاود الكلام، فهم ريتشارد أن أجاثا مختفية منذ ساعات دون أن تترك أثرا :

ـ أنت يا ماكس وأجاثا تتصرفان وكأنكما في لندن،نحن نعيش في أرض أهلها يكرهوننا،ويناصبوننا العداء، كن يقظا، سأخبر السفير،لنتحرك بسرعة، وعلى أعلى مستوى. لا تترك الفندق، سأتصل بك،أو آتيك بنفسي الأمر خطير يا ماكس، خطير للغاية!

كان جبرائيل يتابعه بقلق، حين وجده يعود للجلوس في أريكة البهو، أسرع وجلب له قدحا من الماء، مع فنجان قهوة تركية، احتسى ماكس جرعات صغيرة من الماء، شعر بكلمات ريتشارد تدور برأسه، "أنت تهون الأمر" "الوضع خطير "سأخبر السفير" هذا الذي يسمونه مستر بينج بونج لولعه بلعبة كرة المنضدة،يقطع اجتماعاته المهمة ليلعب البينج بونج، هل سيحول أجاثا إلى كرة على منضدته، ويتبادل بها الضربات مع المسئولين بهذا البلد؟ هل وصل الأمر إلى هذا الحد، هو يعرفه، أخشى أن يتعقد الأمر بدلا من أن يحل. ندم إنه أخبر هؤلاء العاملين في السفارة، ليته أنتظر أكثر، أين تكون قد ذهبت؟ ستأتي بعد قليل، أو حتى في اليوم التالي، ربما طرأ لديها أمر لا تريد أن تزعجني به. هي ذكية عاقلة وتتصرف هنا كرجل، رغم جمالها الأخاذ، وجاذبيتها الطاغية، وانبهار الرجال بها هنا، لكنهم لا يلبثون بعد دقائق من لقائها أن يتصرفوا معها بتهيب واحترام، وحذر. الإنجليز هنا يهولون الأمور، هم تلقوا ضربات موجعة من أهل هذه البلاد، نتيجة سياستهم المتغطرسة،كم نصحتهم بالرفق بهم ومعاملتهم بأسلوب أفضل، حدثتهم عن تاريخهم القديم الراقي فلم يصدقوا، العراقيون وديعون مسالمون إذا لم تجرح كرامتهم، أنا وأجاثا لم نؤذهم؛ على العكس جئنا نخرج لهم تاريخهم العظيم من تحت التراب؛ ليعتزوا به، ويستعيدوا ثقتهم بأنفسهم، ولا يصدقون ما يقال عنهم من أنهم أقوام بدائية متوحشة،لا يرجى تقدمها! لا يعقل أنهم سيقتلوننا لقاء ذلك.العاملون في السفارة لديهم ضغائن متراكمة مع أهل البلاد، لذلك يخافونهم ولا يتوقعون منهم غير الشر, صار يهدئ نفسه. ظل لا يستقر، يجلس لحظات ثم ينهض، يصعد إلى الحجرة يدور فيها، ثم يخرج إلى الشرفة؛ يتطلع إلى الأفق لكنه هذه المرة راح ينظر إلى الأرض، صعق مرة أخرى وراح قلبه يخفق بقوة، انحنى قليلاً، جثا متهالكا، وجد قطرات دم أسفل الحاجز، حدق بها، مسها بطرف إصبعه، قدر أنها لم يمض عليها وقت طويل، بل وجدها نقاط متقطعة مكونة خيطا أحمر قان يمتد حتى مخرج الشرفة، طمأن نفسه، هي قطرات صغيرة، قد تكون سقطت من طير جريح عابر، أو قطة نطت من شرفة مجاورة. لا، إنه دم أجاثا، دم إنساني، لا يمكن أن يكون دم طير أو حيوان ، ماذا؟ أتكون قد طعنت؟ لكنه دم قليل، لا ينم عن طعنة دامية قاتلة! اقرب لجرح صغير،،هذا نذير شر كبير.انحنى محاولاً شم القطرات الجافة. أحس أنه يعرف رائحة دمها، وكيف لا يعرف رائحة دم هذه المرأة الجميلة التي أحبها من أعماقه، ووجد فيها الأم والحبيبة والصديقة؟ كيف لم أحس بما حدث؟ أكان نومي ثقيلاً إلى هذا الحد، كم كان مشئوما عملي الطويل نهار أمس فأسلمني للنوم؟ ألم تصرخ أجاثا حين طعنت، أو اقتيدت لمكان ما، هل كمموا فمها؟ كيف أنزلوها؟ وخرجوا بها من الفندق وموظفو الاستعلامات كما عهدتهم يقظون حذرون، لا يتوانون عن تناوب مراقبتهم وحراستهم لمداخل ومخارج الفندق؟ هل شدها الخاطفون بوثاق وحبال وأنزلوها من الشرفة إلى الشاطئ، وهربوا بها بقارب، هل هذا معقول؟ ولكن إذا لم يكن هذا قد حدث،أين تكون قد ذهبت؟ امرأة تختفي فجأة ولا تترك خلفها سوى قطرات دم، لا بد أن من فعل هذه الجريمة هم جماعة منظمة، اختطفوها ليطلبوا فدية، ألم يحدثنا الراهب بهنام في نينوى :أن "المنقبين جاءوا يسرقون كنوز البلاد، ونهب ثرواتها" هذه ليست قناعته بقدر ما هو تحذير لنا وحرص علينا، سمعت من كثيرين هنا، عراقيين وعرب وحتى أجانب، أن المنقبين الألمان تواطئوا مع الحكام العثمانيين على سرقة وتهريب آلاف القطع الأثرية الثمينة من آثار سومر وبابل إلى برلين، أخذوا حمولات سفن كبيرة من أحجار وألواح العراقيين القدماء، كان الولاة ورجال البيت العالي قد باعوا الكثير من تاريخ العراق إلى الأجانب، أو في الأقل غضوا الطرف عن سرقته، بحجة إنه تاريخ وثني قام قبل الإسلام! نحن اليوم متهمون بهذه الجريمة أيضا وعلينا أن ندفع الثمن. ولكن حتى الآن لم يصلني شيء من الخاطفين، فهم حتما يعرفون رقم تلفون الفندق. أم لم يمر وقت كاف بعد، ستصل رسالة تضمن مطالبهم لننتظر، أم إنهم خطفوها انتقاما من الإنجليز وسياساتهم التي تثير سخط الكثيرين من الأهالي هنا؟ وسيرسلون لنا جثتها بدلا من رسالتهم التعيسة؟ رغم بعدنا أنا وأجاثا عن السياسة،والسياسيين وانهماكنا في أعمالنا العلمية، تداهمنا السياسية ومصائب السياسيين، لكن قد لا يكون هذا الدم دمها، وكل ما أفكر به هو مجرد تهيؤات وأوهام،انحنى عليه مرة أخرى، إنه دمها، وهو يذكرني برحيق زهرة فواحة كبيرة تملأ الكون بعطرها وجمالها، لا هو ليس رائحة جسد يموت، إنه رائحة جسد حي معافى قوي يعصي على الموت، لكنه حين نهض وواجه الأفق الفسيح الفارغ العميق للمدينة، اجتاحته موجة أخرى من الخوف، وجد في هذه القطرات القليلة إعلانا صامتا بموتها أو نهايتها! جرح في رقبتها من قبضة كتمت أنفاسها وخرجت بها إلى سيارة أو قارب، والمختطفون عصابة، هكذا تراءى له ما جرى! تفجر يأسه ، تأكد له أن شرا كبيرا قد وقع لأجاثا، راح يردد وبصوت مسموع "ريتشارد محق، الوضع خطير والإنجليز مهما فعلوا من خير لأهل هذه البلاد، هم مكروهون، ومستهدفون منهم" فجأة نهض دون وعي، هرع مسرعا غاضبا إلى إدارة الفندق، وجد مدير الفندق أمامه،هو أيضا كان قلقا يكاد يسحقه الهم والخوف، أن تفقد أو تختفي امرأة أجنبية من فندقه؛ تلك ضربة ساحقة له ولعمله، وقد تكون نهاية لمستقبله كله.انبرى ماكس:

ـــ ما حدث لأجاثا سببه إهمالكم! كيف تدخل إلينا عصابة من القتلة ولا تحسون بها؟ ثم أنتم حتى الآن لم تفتشوا كل حجرات الفندق، اكتفيتم بالبحث عنها في المطعم والبار والممرات وبعض المرافق.

كان المدير، يصغي إليه مرتبكا ممتقع الوجه يحار ماذا يقول، فهو أيضا قد راعه ما حدث وأضره كثيرا، سيتعرض لتحقيق طويل وسيستغله خصومه ويشنعون به، سيحكم بالسجن. في الأقل سنتان بتهمة الإهمال وعدم مراعاة قوانين العمل، فالسلطة هنا لا بد أن تخرج بشيء يرضي الأجانب، وهؤلاء الإنجليز لا يرحمون، لم يجد سوى أن يزيد من الانحناءات والابتسامات المرتجفة الحزينة وكلمات:

ـ اطمئن يا سيدي، هي بخير، ربما هي في ضيافة أسرة أجنبية أو عراقية، وليس لديهم تلفون ليعلموننا، لننتظر،يا سيدي!

قال ماكس بحزم:

ـ أنتم لم تفتشوا جميع حجرات وزوايا الفندق، أعتقد أن أجاثا قد تعرضت لاعتداء شنيع، خطف، أو قتل من يدري! وربما هي والجناة لا زالوا في الفندق.

ـ يا سيدي، جميع الغرف مشغولة من نزلاء محترمين، وحسب القانون لا يجوز تفتيش حجراتهم إلا من قبل سلطة مأذونة،ومع ذلك فتشنا الكثير من الحجرات التي غاب عنها أصحابها لحاجة ما ، كما ليست لدينا غرف خالية!

توقف ليبتلع ريقه الجاف مضيفاً:

ـ يا سيدي لقد فتشنا حتى المخازن والزوايا المغلقة، واستطلعنا السطوح المجاورة فلم نعثر على شيء، والأهم لم نجد أي أثر مقلق يدل على حدوث جريمة،اطمئن يا سيدي ستظهر السيدة أجاثا عما قريب!

لم يتحدث معه بشأن قطرات الدم ،خشي أن تعبث بها الأيدي قبل أن تتفحصها الشرطة المختصة، تركه يتكلم لوحده وخرج مسرعا، اتجه إلى خلف الفندق، المكان الذي يقع تحت شرفة حجرتهما حيث كانت أجاثا تقف، وحيث وجد قطرات الدم. راح يدور وحده متفحصا الأرض الرملية، وما حولها، لم يجد ما يدل على أن أحدا قد مر فيها، لا وجود لأثر أقدام أولئك الرجال الذين تخيلهم ينزلون أجاثا من الشرفة العالية لطابقين ويقتادونها إلى قاربهم،كانت الحشائش والنفايات القليلة المتناثرة فيها على وضعها العادي والطبيعي لم تمس، ولم يتعرض أي جانب منها لما يطمسه أو يهشمه، ومع ذلك حاذر ماكس أن يدوس فوقها، متذكرا أن تحقيقه الآثاري، هو غير التحقيق الجنائي، أستطيع التحقيق في كسر بجمجمة قديمة جدا،من قبل التاريخ، لكنني لا أستطيع التحقيق بوضع جمجمة في هذا الزمن. ولمن؟ لأجاثا أعز إنسانة في حياتي! كانت هي من يحقق في مقتل أبطال رواياتها، فتصير اليوم ضحية، أين المفتشون الذين ابتدعتهم: هركيول بوارو والكولونيل برس ومس جين ماربل، والذين كانوا يحلون ألغاز وطلاسم جرائم رواياتها الغريبة! كم أنا اليوم بحاجة لهم ولبراعتهم المذهلة في الكشف عن القتلة، وأجاثا بحاجة لهم، كأنه نسي أنها هي التي خلقتهم! لا ،لا توجد جريمة.هي حية سليمة، معافاة، وستأتي بعد قليل هي فقط في شرود وغياب عن نفسها؟ ألم تختفي عام 1926 في لندن، ثم وجدت سالمة؟ ظلت ضائعة عشرة أيام لا يعرف أهلها وأصدقاؤها عنها شيئا، آنذاك اشترك الشعب البريطاني في البحث عنها، فهي كاتبتهم المفضلة، أنيستهم في ليالي الوحدة والبرد والضباب، ولكنهم بحثوا عنها في بريطانيا وليس في العراق، بين هؤلاء الناس الغامضين الذين كلما قلت إنني عرفتهم حين عاشرتهم ونقبت في تاريخهم، أجدني اليوم لا أعرفهم، ولا أدري ماذا كانوا يخبئون لي ولأجاثا. ماذا سيقول الإنجليز حين يسمعون باختفائها، أو خطفها،أو مقتلها؟ بالطبع ستكون صدمة كبيرة لهم، يغضبون ويحزنون كثيرا، اليوم من غير المعقول أن يركبوا جميعهم قطار الشرق السريع ويأتون إلى بغداد للبحث عنها، ستتطلع أنظارهم إلينا، أنا وريتشارد والسفير بينج بونج للعثور عليها، ولكن الآن ما الذي يجعل أجاثا تصاب في بغداد بالذهول وتنسى نفسها ولا تعرف أين تكون؟ كل ما شتت ذهنها وأضاعها آنذاك قد ولى وانتهى، فالأم التي خافت أن تفقدها، قد توفيت، بكت عليها وحزنت كثيرا، ثم صمتت. والزواج الأول فشل وانتهى بطلاق قانوني ومعه طويت صفحة من الآلام والدموع والندم. والصدمة العاطفية التي قيل إنها السبب الحقيقي لشرودها، لم ألمس لها أثرا طيلة فترة زواجنا السعيد! ورغم إنها تكبرني؛ لكنني أراها دوما يافعة شابة، وأتلقى منها حب الزوجة، وحنان الأم، كيف لا أعشقها وأعبدها؟ لا أعتقد إنني قصرت معها في شيء أو أسأت إليها، لتصدم، أو تعيش لحظة كآبة قاتلة. في ذلك الاختفاء تركت سيارتها على الطريق وقد فقدت الذاكرة، وكانت تسأل المارة؛ من أنا؟ أتعرفونني؟ حتى لقيها أحد أقاربها مصادفة وأتى بها إلى بيتها! اليوم لو كانت قد فقدت ذاكرتها وتاهت في شوارع بغداد ستسأل بعربية مكسرة، من أنا؟ أين أنا؟ من يقودني إلى مكاني؟ وسيفهم من تسأله وضعها وسيأتي بها إلى أي فندق يعتقد أن الأجانب ينزلون فيه،قد يكون فندقنا، وقد يكون آخر، وسيعرفونها! أو يمضي بها إلى السفارة البريطانية أو إلى أي مركز للشرطة، هذا إذا لم يكن يطمح بمكافأة. أو يخشى أن يصمه الناس بالخيانة لأنه اقتاد إنجليزية إلى سفارة بلادها. تجاذب ماكس خاطر آخر؛ أتكون أجاثا قد ذهبت إلى مصر؟ تذكر كلاما قالته في جلسة لهما قرب أطلال نمرود في الموصل: أتمنى أن أقوم برحلة أخرى إلى مصر، حتى أنت سأفاجئك بها يا ماكس! رائحة النيل ونخيله وقواربه وغناء الملاحين والصيادين ما يزال يملأ جوانحي سحرا وغموضا. أريد أن أكتب المزيد عن شخصيات من تاريخه، اخناتون بعد أن كتبت عنه صار صديقا قديما لي، يطيب لي أن أتحدث معه دائما، تعرف أنا لا أتناول قضايا أهل البلد الحاليين في رواياتي لكنني أجد في التاريخ القديم ينبوعا ثرا لحبكات مثيرة، لا يبين من الأهرامات العظيمة سوى الثلث. ما تحت بحرها الرملي الثلثان، فيهما الكثير من حكمة البشر وآلامهم! سحرني العراق القديم فرأيته من داخله، ومنحني أقصى الخيال، أريد أن أراه من مصر، كما رأيت مصر من العراق، أريد أن أسافر إلى البلدان الذي بزغ منها فجر البشرية، إلى مصر، أدور حول الأهرامات، صروح وادي الملوك، إلى بقايا حضارة المايا في أمريكا اللاتينية،إلى سور الصين، وقصور الهند العتيقة، أحاول أن أشم كما الكلب البوليسي تلك الرائحة المنبعثة منذ آلاف السنين من الدم المسفوح ظلما، والعرق النازف من أجساد الفقراء وهم يموتون جياعاً ليبنوا قصورا وقبورا لملوكهم! وقتلتهم الكبار! يا عزيزي ماكس، الجرائم الصغرى لم تعد حبكاتها تغريني، أرى كتابتي لها كمن يصيد الأسماك الصغيرة في البحر، خائفاً من مصارعة الحيتان والكواسج! أتطلع لروايات تكشف كم صنع جبابرة الماضي وطغاته، من مظالم وقسوة وعنف الحاضر. أتتبع خيط الشر منذ بدء البشرية حتى اليوم. شهدت حربين عالميتين، ملأت منهما حزنا وغضبا، جعلتني أرى أن الجريمة ليست فقط تلك التي يرتكبها أناس تعساء، ضحايا مجتمعاتهم وأقدارهم، ينفذونها بالأسلحة الصغيرة، بل هي تلك التي يرتكبها رجال كبار منحهم الناس ثقتهم واحترامهم وهم عادة لا يعرفون استعمال المسدسات،أو السم، بل يعرفون استعمال الطائرات والدبابات والغواصات،ويحملون ألقابا كبيرة جدا، ملوكا ورؤساء وزعماء! لذلك فإنني إذا أردت أن أكتب رواية الجريمة المعاصرة فإن علي أن أبحث عن القتلة الكبار المختبئين كالثعالب في شقوق التأريخ، وجحوره المظلمة، أطمح لرواياتي المقبلة أن تطيح بكثير من الألقاب والتماثيل المقدسة! أتكون أجاثا قد ذهبت إلى مصر؟ إلى الصين؟ إلى قصور المهراجات في الهند قاطعة آلاف السنين إلى بدايات حضارات البشر،ترصد القضايا الكبرى ،باحثة عن المتجبرين، القتلة الكبار؟

 

السفير البريطاني يقول للباشا نوري السعيد: حتى إذا وجدتموها ميتة، نريدها منكم حية!

استمع السفير البريطاني، الملقب بالمستر بينج بونك متحفزا، لريتشارد وهو يبلغه اختفاء أجاثا كريستي، ووجهه الغليظ يزداد حمرة مع كل كلمة ينطق بها، رفع سماعة التلفون على الفور، ليكلم الباشا نوري السعيد رئيس الوزراء، رجلهم في بغداد كما يقولون:

ـ حدث خطير وقع لمواطنتنا العزيزة أجاثا كريستي الكاتبة العظيمة،على أرضكم؛ خطفت من فندق تايكر بالاس، إنها إحدى درر التاج البريطاني يا باشا، أملي بشجاعتكم وإخلاصكم لبريطانيا العظمى، أن تجدوها وبأسرع وقت!

وبما إنه مولع بلعبة البنج بونج فقد رد الكرة الوهمية لوحده:

ـ لا تقولوا لنا إنكم عجزتم عن العثور عليها، لا أريد القول جدوها لنا حية أو ميتة، أريدها حية يا باشا، حية.حتى إذا وجدتموها ميتة. هذه أجاثا كريستي فخر الإنجليز. شكسبير على هيئة امرأة معاصرة يا باشا!

انتفض الباشا:

ـ امرأة أجنبية تخطف في العراق؟ هذا غير ممكن، خطف الأجانب ليس من أخلاق العراقيين!

لكن السفير قال:

ـ هذا ما حدث يا باشا، قبل قليل أعلمنا زوجها المنقب الآثاري ماكس مالوان إنها منذ الصباح الباكر قد اختفت، وقد بحثوا عنها كثيرا، دون جدوى، وحتى الآن، ونحن في منتصف النهار؛ لا أثر لها!

صمت الباشا متفكر محاولا إخفاء انفعاله. أحس بأن ما حصل هو اهانة شخصية له وللدولة، الباشا الذي لا يفكر سوى في السياسة راح يفكر " لو حدث هذا حقا فهو جريمة سياسية، المعارضة التي عجزت عن النيل من سطوة دولتنا؛ أرادت أن تمرغ سمعتنا بالوحل، اختارت هدفا كبيرا، ليس لأنها كاتبة فأنا لم أقرأ لها، حتى شكسبير لم أقرأ له سوى مسرحية "تاجر البندقية"،ومسرحية "روميو وجوليت" لم أستطع إكمالها لميوعتها. الضحية كبيرة لأنها امرأة إنجليزية مشهورة في بلادها وأوربا، هي صيد ثمين لمن يريد أن يساومنا عليها، قتلها أو إيذاؤها سيجعل الإنجليز والأوربيين يتساءلون، كيف تقولون إننا صنعنا دولة قوية متحضرة اسمها العراق؟ أين رجلكم القوي في العراق المدعو نوري السعيد؟ هي ضربة سياسية محكمة لي شخصياً، سيظهرون بعد قليل يطالبون بثمن سياسي: افسخوا عقود شركات النفط لنطلق سراحها، أطلقوا سراح السجناء السياسيين لنطلق سراحها، الغوا سجن نقرة السلمان، أو من يدري يجعلونها قضية أكبر، ارفعوا أيديكم عن فلسطين، الغوا مشروع تقسيمها، لنطلق سراح أجاثا كريستي، هم يريدون تشويه سمعتنا في العالم، جرجرة سمعة الدولة والإنجليز في أوحال العراق! رفع سماعة التلفون، كان الوصي عبد الإله على الطرف الآخر، جلس لتوه عل مكتبه بعد وعكة ألمت به في مساء أمس، حدثه بما سمعه من السفير الإنجليزي، بعد صمت قصير، جاء صوته واهنا برما:

ـ هذه قضية خطيرة، ثقتي كبيرة أنك يا باشا ستواجهها بالحزم المعهود فيك! موفق إن شاء الله، أعلمني بما يتحقق أولا بأول، دمت بخير، وأغلق التلفون.

صفن الباشا لحظة، خطر له أن يخابر وزير الداخلية، تذكر إنه هو الباشا نفسه في هذه الأيام يحمل حقيبة وزير الداخلية أيضا، ريثما يعين وزيرا جديدا بعد أيام، وجد نفسه منفعلا مرتبكا على غير عادته، لكنه تذكر قضية الدكتور موزي؛ فعادت نفسه للهدوء والطمأنينة، فهي تكشف له قوة دولته وسطوته عليها، أخذ يستعيدها في ذهنه وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة رضا وسرور. الدكتور موزي هو رئيس الاتحاد السويسري الأسبق،استدعته الحكومة العراقية للاستفادة من خبراته في بناء الدولة السويسرية التي يقولون أنها تعمل مثل الساعة السويسرية عله يساعدهم في بناء الدولة العراقية؛ لتكون كالساعة السويسرية أيضا، ولم لا؟ أحلام الرجال يجب أن لا تقف عند حد! كانوا قد أعدوا للدكتور موزي جناحاً في فندق تايكر، نفس الفندق الذي اختفت منه أجاثا كريستي، في اليوم التالي لوصوله راح يتجول في شوارع بغداد يتفحص المدينة عمرانا وشوارعَ وساحات، محدقا في جوه الناس وثيابهم وتصرفاتهم مثل خياط يتفحص جسدا ليخيط له بدلة أو دولة تلائمه، وعلى مقاسه، في لحظة تفكيره البيروقراطي امتدت يد نشال بغدادي ماهر إلى جيبه، ونشلت محفظته المحشوة بالعملات الصعبة. وصور زوجته وأبنائه، بل أن النشال استغل شروده العميق وقد تصوره يمشي وهو نائم، ومد يده في جيبه الآخر ونشل بخفة الساحر جواز سفره وقنينة عطر وحلقة زواجه الذهبية التي كان قد وضعها في جيبه بعد أن أحس أنها صارت ضيقة وقد أخذ جسده يسمن ويترهل! هرع الخبير السويسري إلى نوري السعيد الذي كان يتابع عمله مباشرة منتظرا منه دولة عراقية نظيفة نزيهة معلنا أمامه بهلع وخوف أن يتخلى عن مهمته "دولتكم التي شوارعها يسرح فيها نشالون يسرقون حتى حلقة زواجي؛ لا تصلح أن تعمل كالساعة السويسرية، هي لا تصلح لها سوى ساعة رملية!" ضحك الباشا وراح يهدئه،قال له أذهب ونم ليلتك هانئا غدا ستكون المحفظة والحلقة والصور كلها عندك. اتصل ببهجت العطية مدير التحريات الجنائية: "أريد كافة المسروقات من الضيف السويسري على مكتبي وخلال أربع وعشرين ساعة". أتصل العطية وعلى الفور بضابط الشرطة عبد الرحمن السامرائي المحقق لمجرب في السرقات له:" .الباشا يريد المسروقات على طاولته غدا، وإلا فستحلون الليلة كلكم ضيوفا عندي في سجن الدائرة!"استدعى السامرائي عددا من قدامى النشالين في المنطقة وشرح لهم الأمر وهددهم " هذه المرة لا تساهل، سأضعكم في السجن المؤبد؛ إذا لم تأتِ المحفظة قبل الساعة العاشرة صباحا!" طلب منه أحدهم أن يجمعه بالضيف السويسري ليفهم منه أين سرق، وكيف. اصطحبه إلى الفندق رفقة مترجم والتقى مع السويسري وراح يحاوره، وأخيرا التفت النشال المتقاعد إلى السامرائي قائلا:

ـ المحفظة يا سيدي عند (يوسف الأشرح) ، فهذه طريقته في النشل . انطلقوا للبحث عنه،علموا من أهله انه سافر إلى البصرة، عرفوا أنه يريد أن يصرف المال المسروق في ملاهيها ومواخيرها الكثيرة. سجلوا أوصافه وشكل ملابسه،وتوجهوا إلى القطار، استطاعوا تشخيص النشال وإلقاء القبض عليه في محطة على منتصف الطريق، فعادوا به مقيدا، وفي الساعة التاسعة صباحا من اليوم التالي كانت المحفظة والمسروقات الأخرى على طاولة الباشا، فسلمها بنفسه للدكتور موزي، دهش وقال مبتسما فرحا:

ـ لماذا استدعيتموني لتنظيم دولتكم؟ إذا كانت تعمل بكل هذه الدقة والحرص؟ لا تستغرب إذا قلت لك إن البوليس السويسري لا يستطيع أن يحسم مثل هذه القضية بأقل من خمسة عشر يوما، وقد لا يستطيع الوصول إلى الجاني! عند عودتي سأقترح على صناع الساعات في سويسرا أن يضبطوا ساعاتهم على حركة دولتكم.

رد الباشا وقد ارتسم حزن على وجهه:

ـ لا تصيبنا بالغرور أيها الرئيس الكريم، ما نزال نحتاج لخبراتك، فلدينا "بلاوي ومصايب" الملائكة والشياطين معاً، ونحتاج لماء البحر كله؛ لنطهر دولتنا وبلادنا منها!

عندما تذكر الباشا قضية الدكتور موزي هدأ واطمأن قائلا في نفسه، لا يمكن لأحد في بلدنا أن يهنأ بسرقة محفظة، فكيف بامرأة ، وكاتبة مشهورة؟ سنكشف هذه الجريمة خلال ساعات أيضاً! تناول تلفونا آخر، طلب بهجت العطية مدير التحريات الجنائية المسئول عن الأمن العام في البلاد،إضافة لرئاسته الشعبة الخاصة المعنية بأنشطة السياسيين المعارضين خاصة الشيوعيين، لم ينس الباشا كعادته أن يقرعه؛ ولو بشكل خفي:

ـ كيف يا بهجت تختطف من تحت انفك سيدة إنجليزية؟ أتعرف كم يبعد فندق تايكر عن مكتبك في السنك؟ بضعة أمتار، فقط لا غير، هذه ضربة كبيرة لنا، كيف يطمئن الإنجليز الذين يعملون على استخراج النفط في كركوك والبصرة؟ كان العطية يعرف طريقة الباشا في تكليفه بالمهمات الخطيرة لذلك، فهو يظهره مقصرا أولاً، لذا هو يصمت ويصبر عليه حتى يقول المفيد:

ـ لقد اختفت سيدة إنجليزية تدعى أجاثا كريستي ، هي مشهورة، يقولون إنها كاتبة كبيرة، منذ الصباح الباكر من فندق تايكر ولا أحد يعرف عنها شيئا، أريدك أن تجدها حتى لو كانت تحت الأرض، أريدها حية معافاة يا بهجت، لا أريدها تصاب بأذى بأية مواجهات مسلحة. حتى إذا وجدتها ميتة؛ أريدها منك حية! لا تجعلونا نبدو ضعفاء أمام بريطانيا.

والعطية يقول بين جملة وأخرى:

ـ صار سيدي، تأمر سيدي!

 

اختطفها الشيوعيون يريدون إنهاء الاحتلال الإنجليزي، وبدء الاحتلال السوفيتي، ما الفرق بين احتلال واحتلال؟ وما بين رمضاء ونار!

نهض العطية من وراء مكتبه، أشعل سيجارة، توقف برهة وسط الحجرة ، المكسوة أرضها بسجادة رخيصة بدأت تتهرأ لكثرة تجواله العصبي عليها في كل أعماله ومهماته الصعبة عادة، مضى كعادته يجول عليها جيئة وذهابا، نافثا الدخان بمزاج فرح! من يخطف امرأة انجليزية لمساومتنا عليها غير الشيوعيين؟ لعبة يائسة تورطوا بها بعد الهزائم التي منوا بها! هذه فرصتنا لإنزال آخر ضربة بهم ، فستكون ماحقة حاسمة هذه المرة، خضعت حكومتنا لضغط الإنجليز وخفضت عقوبة الإعدام بحق فهد قائدهم إلى المؤبد بحجة أنها لا تريد تعريض سمعة بريطانيا لما يضرها بعد الحملة العالمية التي نظمها السوفيت لإنقاذ عميلهم في بغداد، كانت خطوة خاطئة، من حكومتنا الرشيدة، فهمها الشيوعيون أنها دليل ضعفنا وخوفنا من السوفيت المتصاعد نجمهم بعد الحرب،فتمادوا في نشاطهم لهدم أسس دولتنا ، هم ينادون بجلاء الإنجليز، لكنهم يريدون هيمنة السوفيت، ولا يخفون ولاءهم لستالين، ولو لديهم دور عبادة لصلوا له فيها، اعترف بعضهم أمامي أنهم يسجدون أمام صورته في أوكارهم السرية التي أسقطناها فوق رؤوسهم، ما الفرق بين هيمنة وهيمنة؟ وما بين احتلال واحتلال؟ أليسوا كلهم أجانب يفضلون مصالح بلدانهم على مصالحنا نحن الصغار المستهدفين في هذا العالم؟ يريدوننا أن نكون كالمستجير من الرمضاء بالنار! سألقي القبض على آخر أعضاء خلية لهم ، وأنتزع الرهينة حية معافاة من قبضتهم، وقبل أن نجلدهم سيعترفون أنهم تلقوا رسالة من فهد وهو في سجن الأحكام الثقيلة يأمرهم بتنفيذها لهدفين: إذلال بريطانيا وتمريغ سمعتها بالوحل، وإظهاري مع الحكومة عاجزين عن تحقيق الأمن لا للأجانب ولا للمواطنين! سوف لا تجد حكومتنا مناصا من إعادة محاكمته، وتثبيت حكم الإعدام عليه لكونه مارس نشاطه الإجرامي الهدام من السجن،بعد الرأفة به! وسننفذ الحكم بأسرع وقت، سأقوم بنفسي بلف حبل المشنقة حول عنقه، وأشفي غليلي منه، ذلك حلمي الكبير! عاد وجلس وراء مكتبه،أخذ يستدعي كبار مساعديه، اجتمعوا في حجرته، بعضهم لم يجد مكانا على الأريكتين الجلديتين السوداوين المتقابلتين فظل واقفاً، سحابة من الدخان ملأت الحجرة، والهواء الربيعي كان ساكنا هذا اليوم، كأنه في وجوم معهم. التحق بهم مدير الشرطة. وممثل عن وزارة العدل، لم يطل اجتماعهم، شكلوا فريق عمل يمثل مختلف الاختصاصات والصلاحيات ليقوم بالتحقيق بدءا من فندق تايكر . كان العطية يؤكد :حققوا كما تشاءون، لكن لا تنسوا أن هكذا جريمة، ضحيتها انجليزي، وراءها دافع سياسي! من هم أعداء دولتنا الذين أوقفوا كل حياتهم ونشاطهم على هدمها؟ إنهم الشيوعيون! وبينما هم يهمون بالخروج جاءت سيارة السفارة تحمل ريتشارد، وبعض الموظفين الإنجليز والمترجمين العراقيين، فالتحقوا بهم وتوجهوا بسياراتهم إلى الفندق. سمع ماكس لغطا وهياجا، ظن أن أجاثا قد جاءت؛ وهم يستقبلونها في الفندق فرحين مبتهجين نزل السلم مسرعا مبتهجا، فواجهه على السلم جبرائيل ليقول له:

ـ جاءت الشرطة، ورجال من الحكومة، وهم يريدونك!

هبطت قواه، وصار لا يكاد يتوثق من موضع قدميه، وجد أمامه مجموعة من الرجال بثياب مدنية، تحف بهم شرطة برتب مختلفة، يتقدمهم ريتشارد، اقترب من ماكس ليقول له:

ـ لا تستهن بالأمر، لنتحرك بسرعة، يبدو أن أجاثا تصرفت بإهمال، أرأيت؟ هذه هي مساوئ عدم الاهتمام بالسياسة!

خفق قلبه بوجع حتى إنه وضع يده على صدره،امتعض من ريتشارد الذي لا يكف عن تقريعه حتى في هذا الوقت. أخذ ثلاثة رجال يتناوبون على سؤاله: متى شاهدتها آخر مرة؟ ألم تسمع أصواتا أو ضجيجا؟ هل نومك ثقيل؟ خفيف؟ بماذا حدثتك ليلة أمس؟ هل لكما خصوم أو أعداء، هل تلقيتما تهديدا؟ وبينما كان يجيب على أسئلتهم ويجاريهم في أية تفاصيل صغيرة يستفسرون عنها، كان ينتظر أن يطلبوا معاينة حجرتهما، وشرفتها؛ ليدلهم على قطرات الدم، وحين وجدهم يستغرقون بأسئلتهم التي وجدها بعيدة عن ما هو مهم في القضية قال:

ـ هناك قطرات دم وجدتها حيث كانت تقف.

صمتوا وأخذوا ينظرون في وجوه بعضهم، نهضوا وراحوا يصعدون مسرعين سلم الفندق، اقتادهم إلى الشرفة، تفحصوا قطرات الدم ورسموها، بالقلم الرصاص، سجلوا شيئا، وراحوا يرفعون البصمات من على الحاجز، وشيئا من الدم، تتبعوها، وجدوها لا تستمر سوى خطوات قليلة. تنقطع قرب مدخل الحجرة! خطر للمحقق إنه قد يكون ترشح من العادة الشهرية، عاينوا أرض الحمام لم يجدوا دماً. فسأل المحقق: كم عمرها؟ رد ماكس: 58 سنة! هز المحقق رأسه قلقا، هل رأيت أحدا يحوم حولها، ينظر إليها بطريقة مريبة أو غريبة؟ سأله أحد المحققين: هل شاهدت في الفندق من ينظر إليها بطرقة غريبة؟ تذكر إن جبرائيل ينظر إلى أجاثا طويلا أحيانا. كان آنذاك يفسرها على أنه هيام شاب مراهق بامرأة جميلة مثيرة رغم سنها المتقدم، لكنه الآن وجد نفسه مضطرا لأن يفكر بشكل آخر؟ هو الآن يغرق ويتمسك بقشة، من يدري؟ قد يكون هو من جذبها لإحدى حجرات الفندق ليقوم بعمل دنيء، وحين قاومته قتلها؟ أيعقل هذا؟هو شاب وسيم وديع نظراته دائما حزينة شاردة، يقرأ روايات أجاثا، يعاملهما باحترام وتهذيب، ولم ير منه تصرفا فظا، كيف يقدم على هكذا جريمة؟ قرر أن يقول لهم ما لحظه عنه ،وهم سيقدرون الأمر:

ــ لاحظت أن نادل المطعم جبرائيل يطيل النظر إليها أكثر من المعتاد!

ــ كيف يتعامل معكم العاملون في الفندق؟

ــ عموما بشكل طيب، لكنني تحدثت مع المدير حول ما وجدته تقصيرا في تفتيش الفندق، ولا أدري أن كان ثمة تقصير أو عمل مقصود سابق لما حدث لأجاثا!

استدعوا مدير الفندق، اختلوا به لأكثر من ساعة في زاوية من المطعم، ثم قاموا بجولة معه في طوابق وأرجاء الفندق،ومروا على حجراته واحدة بعد الأخرى، ثم صعدوا إلى السطح، مستطلعين جوانبه وموقعه. استدعوا موظف الاستعلامات:

ــ ماذا شهدت عند باب الفندق بين السادسة والسابعة صباحا؟

ــ أنا متأسف تركت مكاني في هذا الوقت، شعرت بوجع في بطني ، واضطررت أن أضطجع قليلا في حجرة استراحة عمال الفندق.ولم ألحظ أو أسمع شيئا غريبا يحدث في الفندق!

طلبوا من ماكس ملازمة الفندق وعدم الخروج، تركوا شرطيين في الفندق لحراسته. خرجوا يقتادون معهم، مدير الفندق، وجبرائيل،وموظف الاستعلامات، صعد ماكس إلى حجرته، أحس بالندم لشكوكه بجبرائيل فهو شاب لطيف ومهذب وخدوم، ولا ينبغي أن يكون انبهاره بجمال أجاثا أو بشخصيتها ككاتبة، سببا لتوجيه التهمة له بقتلها، أو خطفها. تذكر أن دعبول النوتي هو أيضا كان معجبا بها، ويغني لها وأحيانا يرقص لها ويهز بطنه نشوان في القارب، هل يكون هو قد خطفها أو قتلها؟هل يخبر الشرطة عنه أيضا؟ كثيرون كانوا ينظرون إليها بإعجاب واشتهاء رغم إنها قاربت الستين. إذا احتسب كل من نظر إليها بإعجاب أو اشتهاء كم هو عدد المتهمين بخطفها وقتلها في هذا اليوم المشئوم؟ ألا يبدو هذا مضحكا ؟ شعر أنه بحاجة إلى هدوء واسترخاء ولو قليلاً، يستجمع فيه أفكاره وشتات نفسه. تخيل روحه جرة جميلة قديمة صمدت تحت طبقات تراب الزمن الطويل الثقيل ثم فجأة وهم يستخرجونها سقط عليها حجر كبير فهشمها وتناثرت، هل ستعود كما كانت؟ اضطجع على فراشه، قلقا يائساً لا يدري ماذا يفعل غير الاستسلام لأفكاره وخيالاته وهي تعذبه كأن يدا من خارجه تسلطها عليه. أخلد لهدوء مغمضا عينيه، لكنه لم يجد سوى الظلام وخطوط حمراء تمر تحت جفنيه كالبرق. راح ينبش وينقب في ذاكرته، هذه المرة، ترددت في ذهنه كلمته التي أعجبت بها أجاثا يوما، وسربتها لإحدى رواياتها: التنقيب بين الحجارة والصخور والقبور أسهل وأكثر متعة من النبش والتنقيب في الذاكرة، هناك نجد أفراح القدامى وأحزانهم وقد استحالت كلها إلى تراب وغبار متطاير، هموم منتهية، أوجاع لا قلب يستقبل ضرباتها! في ذاكرتنا حتى الأفراح تحمل لنا الخوف أن نفقدها، أو الأسف على فقدها أو زوالها! يقولون إنني ماهر في النبش والتنقيب في القبور المجهولة والمنسية، هم لا يعلمون إنني سيئ، فاشل في التنقيب داخل رأسي وذاكرتي، كم هي كثيرة القبور والسراديب في أعماقنا، بينما نتصور أننا بعيدون عن القبور وفي مأمن من ظلالها المفترسة. كنت أقول لنفسي أنني أجهل أين تكون قبور أسلافي، أو قبري الذي صرت اشعر إنني أحمله معي في أعماقي! بينما أصل بسهولة إلى قبور الملوك والأباطرة الأقدمين. عاد يفكر باحتمال سفرها إلى مصر، بدونه فهو لم يكن متحمسا لمشروعها هذا، قال لها لننتهي من عملنا في حلب أولا، شعر بالخوف، أتكون قد سافرت إلى مصر؟ ولم تخبره لكي لا يعترض أو يعيق سفرها ولو بصمته أو بدموعه فقط، هم بالنزول إلى تلفون الفندق لمكالمة ريتشارد في السفارة يرجوه أن يتصل بالمحققين العراقيين ويلفت نظرهم إلى هذا الاحتمال ليعيدوا البحث والتحري ويعرفوا إن كانت أجاثا قد عبرت الحدود، لكنه تذكر قولهم " تأكدنا برقيا وعلى الفور، من المطار والنقاط الحدودية الأرضية والبحرية أن أجاثا لم تغادر العراق" وإنهم أمروا نقاط الحدود لإيقافها عن العبور إذا ما جاءتهم ، والحفاظ على سلامتها وراحتها، ريثما يصلوا إلى موقف صحيح من البلاغ الذي تقدم به زوجها حول اختفائها. تذكر أن كثيرا من علماء آثار وتاريخ ومنقبين حالوا إقناعها لتكون معهم تعطي بكتابتها لأعمالهم وشخصياتهم قيمة ومنزلة بين قرائها، ويحصلوا على المزيد من الدعم المالي من جهات علمية ومصرفية أو سياسية في الغرب، لكنها رفضت، لا يمكن لأي كان أن يغريها بمال أو سعادة وهمية، فهي لا تخضع للابتزاز،هذه قناعتي عنها! هل من المعقول أنها خرجت متخفية ولو بوثيقة مزورة، إلى وجهة أخرى مجهولة تماما، غير متوقعة لتخفي وجودها، وتحقق تلك الراحة العميقة في أن تكون في مكان لا يعرفها فيه أحد، بينما هي تعرف كل من حولها، هذا بعض ما كانت تقوله: جميل يا ماكس أن تختفي عن الناس، لا يعرفون أين تكون لا يستطيعون أن يصلوا إليك، يطرحون احتمالات عن مصيرك، عن موتك، وأخرى عن حياتك حسب ما يتمنونه لك؛ هذا يقول ابتلعه البحر، ذاك يقول غاص في رمال الصحراء، آخر يقول خطف، قتل ،فقد ذاكرته وتاه على غير هدى، بينما أنت جالس في مأمن على الشاطئ تحتسي قهوتك تكتب أو ترسم أو تطالع كتابا أو تحدق بسكون في زرقة السماء والبحر،بهذه الغيبوبة الجميلة تحقق تواصلك مع قريحتك فتبدع! سألتها: تختفين حتى عني؟ اكتفت بضحكة بدت لي عصبية غامضة’ وكالجنون، فسكت! أتكون أجاثا قد ذهبت لبلد فيه شواطئ جميلة لتبدع وتحقق سعادتها هناك؟ ربما من يدري؟ ولكن ما لذي يدعوها لهذه المغامرة الصعبة وهي كما أعرف تحبني بعمق وقوة، كما أنا أحبها بعمق وقوة؟ موفرا كل الأجواء الملهمة للكتابة! ما يغريها ويجعلها تحبو كطفلة نحو علبة حلوى هي موضوعات رواياتها والحبكات القصصية الجذابة ، حلمها برواية جميلة ترفرف بغلافها الجميل كطائر غريب قادم من سماوات بعيدة هو الذي يستلب عقل أجاثا، ويجذبها لمغامرة تفقد فيها وقارها، حصافتها، وحياتها إذا اقتضى الأمر! وهذا يعيدني إلى احتمال أنها خرجت بجواز سفر مزور ميممة شطر شواطئ لبنان أو الإسكندرية لتستقبل الصيف هناك! كان الوقت قد قارب المساء،سيحل الليل، أول ليل يمر عليه في هذه البلاد وأجاثا ليست بجانبه مجهولة المصير. اكتشف أنها كانت هي شمسه الحقيقية، كم كان وجودها يضئ حياته، شمس الشرق التي عشقاها وجاءا ليستخرجا التاريخ الذي صنعته على هذه الأرض. غابت الآن بغيابها. كم الزوجة الحنونة، غالية،لا يمكن لأي شيء في الدنيا يملأ الفراغ الذي تتركه. لقد كانت هي مركز الكون الحقيقي لي! ظل مشتتا منهكا ، لا يدري ماذا يفعل وكيف مضت الساعات ثقيلة مريرة قاسية.

ها قد انقضى اليوم ولم تظهر، ، لم ينم طيلة الليل، ظل يتقلب على الفراش محموماً، تأخذه كوابيس، وتطلقه أخرى، كان أطول ليل في حياته.

ما أن أشرق الصباح حتى نزل إلى البهو يريد أن يحس بشيء آخر غير وحدته الثقيلة، هذا الصباح الثاني الذي يتوجب على ماكس أن يواجه العالم فيه وليست أجاثا معه، ظل خائفا، تذكر كلماتها كأنها تتوقع هذا اليوم العصيب:

ـ هذه هي الحياة، تيار جارف، لا يتوقف لانتظار أحد، أو الحزن عليه، إذا غبت عنك، لا تحزن، لا تتوقف، واصل عملك واكتشافاتك وحياتك، تزوج، أنجب الأطفال الذين حرمت منهم لأجلي.

ويظل ساهما، لماذا تتحدث معه هكذا؟ وهي تعرف أن ذلك يؤلمه كثيرا، الآن يدرك ، أنها كانت تهيئه لأي حادث في هذا المكان الغريب! وها قد حدث! لم يكن هناك جبرائيل، شعر بذنب وألم لغيابه، كان يحنو عليه ويخفف عنه من محنته، هو وزميله والمدير ما زالوا معتقلين. لا يعلم حتى الآن ما هي إفادتهم، ولا كيف يجري التحقيق معهم، ما حدث أكبر من هؤلاء المتهمين، وعلي أن أنتظر شيئا يأتي من بعيد!

 

أيمكن لصديقين بريئين أيام طفولتهما، أن تجعلهما الأيام يتسابقان: أي منهم سيعلق الآخر على حبل المشنقة!

ظل السفير الإنجليزي، بين ساعة، وأخرى يتحدث مع الباشا نوري السعيد تلفونيا ،وفي لحظة انفعال حادة سريعة استقل سيارته الكاديلاك، ودخل على الباشا ليقدم له طلبا غريبا:

ـ أرجو يا باشا أن تضع الجيش العراقي كله في الإنذار (ج)، وتنشره على الحدود، نخشى أن تكون ثمة عصابة دوليه هي التي خطفت أجاثا وتريد أن تخرج بها إلى بلد ما؛ لمساومتنا على أمور تتعلق بمصالح بلادنا العليا، مستغلة حب الإنجليز لأجاثا!

ظل الباشا يتطلع في وجهه مندهشا، تذكر قولاً كان يردده لأنصاره وخصومه معاً، وهو ملتزم به فعلاً " نجاري الإنجليز قدر استطاعتنا، ولكن هناك حدا يجب أن لا نسمح لهم بتجاوزه معنا، مهما كلف الأمر، وكل ما نحتاجه هو أن نصمد في وجوههم وعيوننا تقدح شررا"، لذلك رد الباشا بهدوء جاحظ العينين فوق جحوظهما الطبيعي :

ـ نكون في هذه الحالة كمن يتناول الحساء بمغرفة البئر! جيشنا يا سعادة السفير معد للقضايا الكبرى، وقضية أجاثا من اختصاص الشرطة، وسنجدها، اطمئن!

ظل السفير يبحلق به ببلاهة. أطلعه الباشا على ما يقومون به من بحث وتحر عن أجاثا،وكيف أن الوصي يتابع معه التحقيقات بنفسه، وما أسفرت عنه هذه الجهود الحثيثة من نتائج، من المؤسف أن بعضها مقلقة، لكنهم لم يفقدوا الأمل في العثور عليها قريبا، حدثه كيف إنه يرى أن وراء اختفائها دوافع سياسية، قائلاً:

ـ سنضرب رجالا من المعارضة السرية،وربما العلنية أيضاً، تفهموا موقفنا ووضعنا، لا تخرج علينا صحفكم وجمعياتكم الخيرية في لندن باعتراضات واحتجاجات من أننا ننتهك حقوق الإنسان، وعلينا أن نراعي تقاليد ومصالح بريطانيا في التعامل مع السجناء السياسيين، أو المعارضين.

كان الباشا يقصد تدخل الإنجليز في إجراءات محاكمة فهد سكرتير الحزب الشيوعي، ومطالبتهم للحكومة العراقية بأن لا تكون محرجة للإنجليز في المحافل الدولية. فاستصدروا إرادة ملكية من الوصي بتخفيض حكم الإعدام بحقه إلى المؤبد،رغم إنه كان يشعل البلاد بين فترة وأخرى مظاهرات وإضرابات وقلاقل، هز السفير رأسه موافقا:

ــ سنكون معكم في كل إجراءاتكم مهما كانت قاسية من أجل الوصول إلى مواطنتنا أجاثا كريستي! أنتظر النبأ السعيد منك يا باشا!

رغم رفض الباشا وضع الجيش العراقي في حالة إنذار (ج) من أجل أجاثا كريستي؛ إلا أنه أعطى أوامره لوزير الدفاع، ودوائر وزارة الداخلية لتشديد الرقابة على المخافر الحدودية، والمطار والموانئ؛ حتى بدا وكأنه يضع الجيش والدولة كلها في حالة إنذار فعلا، دون إعلان رسمي! يجب أن تعثروا على أجاثا كريستي، يجب أن تجدوها سالمة معافاة، " حتى لو عثرتم عليها ميتة؛ يجب تسليمها حية للسفارة البريطانية، فذلك أمر يتعلق بعلاقتنا ببريطانيا العظمى، ومصير العراق!" الكل صار يهتف "يجب العثور على أجاثا كريستي حية أو ميتة، وإذا وجدتموها ميتة؛ يجب أن تسلموها حية ترزق!" فيظل هؤلاء المسئولون يتطلعون بوجوه بعضهم، ماذا يستطيعون أن يفعلوا؟ كانوا يضحكون أحياناً! وتوالت التعليقات "وإذا وجدناها حية ترزق؟ هل سنرزق معها؟ أم سنظل أحياء لا نرزق؟". إحدى الصحف تسرب إليها الخبر علقت قبل غيرها في اليوم التالي"أيقصدون أن نعوضهم بامرأة أخرى، حتى لو وجدنا امرأة شقراء حسناء، بين نسائنا السمراوات والسوداوات، كيف نجعلها تتكلم الإنجليزية؟ وكيف نجعلها تكتب الروايات البوليسية المسلية للإنجليز؟" كل المعلومات التي توالت عليهم كانت تقول،"لم تعبر الحدود امرأة إنجليزية باسم أجاثا كريستي"، هذا يعني أنها ما زالت داخل العراق. السفارة البريطانية لم تنف وصول تهديدات لطاقمها أو أصدقائها المحليين في المجتمع والدولة. ولرعاياها خاصة من العاملين في حقل النفط . وأكدوا أن ماكس وزوجته وصلهما تهديد غريب، عندما كانا يقيمان في منطقة نينوى، حيث تسلل أحدهم إلى المكان الذي يسكنان فيه قريبا من مخزن أسلحة سنحاريب، وكتب على الثور المجنح الكبير: " ماكس، أجاثا! ننذركما أننا سنطير بكما على جناحي هذا الثور العظيم، ونلقي بكما إلى الأرض! طعاما للضواري،إذا لم ترفع حكومتكم يدها عن نفطنا" لكن ماكس ينفي أنه وأجاثا قد هددا لا على جناح ثور، ولا على جناح بعوضة! ويقول إنه لم يسمع بهكذا هراء سوى الآن. وإنه وأجاثا لم يتعرضا لإيذاء طيلة عملهما هنا لسنوات طويلة. كان في غاية النشوة واللهفة في عمله منقبا عن أثار الحضارات الأولى، وفي كل يوم يصل لاكتشاف حضاري جديد ومثير. يزيد حياتهما هو أجاثا، بهجة وإثارة ،" كنا نعيش بسعادة وبساطة، ونسير دون حراسة!"

لكن بهجة العطية يرى الأمر غير ذلك! كان هذا الرجل المتمرس والمعروف بقوة الشكيمة، يعيش منذ سنوات جوا مكفهرا من الصراع العنيف مع الشيوعيين، واحتجاجات أنصارهم في العالم، وقد أتعبه هذا كثيراً، كما أتعب الباشا السعيد والوصي والإنجليز! وهم في هذه الأيام يفكرون بإعادة محاكمة فهد قائد الشيوعيين، فهو لا يزال يحرك أتباعه وأنصاره من زنزانته في السجن، فيقومون بمظاهرات ضخمة في بغداد؛ تدخل الشرطة معها بمواجهات؛ فيسقط المئات قتلى وجرحى وتشل الحياة العامة! كان فهد قرين طفولة للعطية، جلسا معا على نفس الرحلة في المدرسة الابتدائية في البصرة، وكانا أليفين وصديقين يحب أحدهما الآخر كثيرا، فهد من أسرة مسيحية كلدانية فقيرة معدمة، والعطية من أسرة إقطاعية كبيرة باذخة الثراء، اضطر فهد في مطلع شبابه لقطع دراسته والعمل كاتبا في إحدى مؤسسات جيش الاحتلال الإنجليزي! وجد نفسه فجأة بروليتاريا مضطهدا، فاعتنق الشيوعية، سافر سرا إلى موسكو وتلقي التعاليم الماركسية اللينينة وعاد ليبني الحزب الشيوعي الذي نما بسرعة وتحول إلى جسد ضخم يمد أذرعه وخلاياه إلى أنحاء العراق،ويقف كالمارد في وجه الدولة الفتية التي ما تزال تتلمس طريقها برعاية الإنجليز! بينما مضى العطية مواصلا دراسته العسكرية، ثم يتدرج في مسالك الدولة والصعود في سلم الوظيفة حتى أمسك بقبضته مسئولية أمن البلاد. وجد نفسه في مواجهة المصير مع صديقه القديم فهد، صارا عدوين لدودين، ناسيين ملاعب الطفولة والصبا! وجد العطية أن همه الأكبر هو أن يلف حبل المشنقة بنفسه على رقبة صديقه القديم، وهم فهد أن تطيح ثورة البروليتاريا بالعطية ويلف العمال حبل المشنقة حول عنق العطية، وعنق دولته أيضا، فهي من العالم القديم الذي لا يليق بالشيوعيين الحالمين بالجنة على الأرض لا في الآخرة ! وها هو يرسل من يختطف أجاثا نكاية به وليظهره فاشلا في حفظ الأمن! قال العطية لمعاونيه يمكنني تخيل الرسالة التي ستصلني من الشيوعيين اليوم أو غدا "أطلقوا سراح رفيقنا فهد سكرتير حزبنا المقدام، وأمنوا وصوله بطائرة خاصة إلى موسكو، لنطلق سراح أجاثا كريستي"، ما هي الشيوعية؟ هي باختصار هدم وتدمير الحياة القائمة من اجل جنة السوفيت الموعودة ، والتي هي الجحيم! من يكون قد اختطفها غيرهم؟ أنا لهم! أحد معاونيه قال بتهذيب وتهيب منه:

ـ رغم إن ما تقوله احتمال وارد وصحيح يا سيدي، إلا أننا يبغي أن لا ننسى أن للإنسان مشاكل وعداوات حتى مع نفسه، وثمة احتمال أنها انتحرت بإلقاء نفسها في دجلة مثلا!

هز العطية رأسه مسفها كلام معاونه، وعرض تقريرا وصله من مخبر سري دسوه في ما تبقى من تنظيم الشيوعيين المتآكل عبر حملات الإعتقالات والاختراقات يقول فيه: "حصلت على معلومات أكيدة أن أجاثا قد خطفت من الفندق من قبل عصابة شيوعية واقتيدت إلى أحد أوكارهم السرية في منطقة باب الشيخ، غير بعيد عن الفندق" انفض الاجتماع بقرارهم بدء حملة واسعة النطاق لملاحقة بقايا الشيوعيين في كل مكان في بغداد والمدن الأخرى!

داهمت مفارز الشرطة حي باب الشيخ، هو حي شعبي يتمتع بمهابة دينية خاصة، يوجد فيه مسجد وقبر الشيخ الكبير عبد القادر الكيلاني، جرى تفتيش العديد من المنازل والمحلات والحمامات الشعبية، ولم يعثروا على أي أثر لأجاثا، لكنهم اعتقلوا المزيد من الشبان والرجال وبعض النساء بتهمة الشيوعية! وعندما أعلم بهجت العطية الباشا نوري السعيد بما قامت به شرطته، أيده في هذا الإجراء قائلا "يعجبني فيك يا بهجت أنك تسمع نبض الحرب الباردة التي يشنها الروس علينا، فهم يريدون إبعادنا عن حلفائنا الإنجليز الأوفياء، ابق منطقة باب الشيخ تحت الرقابة، أخشى أن يكونوا قد أخفوها في أحد المساجد، لا تنس أن خليتهم الماركسية الأولى كانت قد ولدت في جامع الحيدرخانة، ولكن مداهمة مسجد الكيلاني يجب أن تكون الحلقة الأخيرة، لا تتسرع! لا تثيروا الناس علينا، فتشوا الآن بيوت العاملين في ورشات النسيج، اعتقلوا أعضاء نقابتهم، قوموا بجولة تفتيش في حي الطاطران والهيتاويين! وبسرعة خاطفة يداهم الشرطة والمخبرون حي باب الشيخ، والأحياء الأخرى، لكنهم يتحاشون دخول المسجد الكبير، أو الجوامع الصغيرة، يقتحمون ما تبقى من بيوت النقابيين في مختلف المهن البسيطة والبارزين بين العمال، والسكان الفقراء قبل أن يلتقطوا أنفاسهم من المداهمة الأولى. ومرة أخرى لا يجدون أجاثا كريستي، لكنهم يعتقلون المزيد من الأشخاص لا علاقة لهم بالشيوعيين وكل ما وجدوه لديهم بضعة كتب أو صور بعضها لممثلات سينمائيات معتقدين أنها صور أجاثا كريستي! لم يحصل العطية على شيء من حصاده الوفير من الشيوعيين، أخذ السفير البريطاني يخابره أيضا،صارخا :

ـــ نحن نريد أجاثا كريستي، وأنتم تعلموننا باعتقالكم شيوعيين، ماذا نفعل بالشيوعيين ثقلاء الدم؟ كل ما في جيوبهم من أقلام لا تستطيع أن تكتب جملة واحدة مفيدة مما كتبته أجاثا كريستي!

كاد العطية يصاب باليأس، لكن ما أن تظهر بارقة واهية، حتى يعلق عليها أملاً كبيرا، ويمضي لتنفيذها فلا يحقق شيئاً ينفع في الوصول إلى أجاثا . صار يردد لمن حوله: "إذا ما نعثر على كريستي راح يصّخم وجهنا، متظلنا سمعة بالعالم! واقروا على العراق السلام!" جاءه تقرير كتبه مخبر صحفي، يعمل مخبرا لدى السلطة أيضا، يقول:" أن من خطف أجاثا هو جلال العطار، وهو روائي شهير، ومدرس ثانوي من الموصل، تعرف عليها هي وزوجها حين كانا ينقبان في نينوى، فوقع في غرامها! وكان يستقبلها وزوجها في بغداد ويقيم لهما الولائم، وقد حاول تقديم الهدايا لها ومغازلتها وهو سكران، فصدته وانقطعت علاقتها وزوجها به. لكنه ظل مغرما بها، مستعدا لارتكاب أي شيء لينالها، فظل يزحف نحوها بخبث ،وهاهو قد أقدم على اختطافها، وحبسها في بيت بضاحية من بغداد، لينال وطره منه".العطية يعرف العطار،كان أحد قيادي الشيوعيين، لكنه تخلى عنهم وراح ينتقدهم، ويسفه فكرهم ، ومع ذلك بقيت سمعته في الأوساط الثقافية إنه شيوعي! تحمس العطية لهذا التقرير وأمر باعتقال العطار، وإخضاعه للتعذيب ليعترف وعلى الفور! ذهبت الشرطة إلى مدرسة المتوسطة الغربية في الرصافة حيث يعمل لاعتقاله،أعلمهم مدير المدرسة أن العطار قد سافر إلى النمسا منذ أسبوعين.بإجازة خاصة، ثم أكدت ذلك سلطة المطار، ثمة صديق للعطار ، ألمته الحملة التي أثيرت لتشويه سمعة العطار بينما هو يعرف قصته مع أجاثا، كان العطار يود أجاثا ويقدرها كروائية يطمح أن ينال شيئاً من شهرتها وبراعتها الروائية، ولم يكن ينظر إليها كحسناء مشتهاة، وقد سمع منه أنها حين رددت كعادتها عبارتها "لا تنسوا أنا زوجة رجل آثار، أزداد قيمة لديه كلما تقم بي العمر" رد عليها " لا تقولي أنك قطعة أثرية بل قولي أنك قطعة من الخلود، حسناء لا تفنى ولا تشيخ!" انبرى هذا الصديق الوفي معرضا نفسه لخطر الاعتقال في جو محتدم، ليدلي بشهادة عنه في مركز الشرطة العبخانة فحواها: أن العطار سافر وراء فتاة مسيحية كان يحبها فهجرته وهو ما زال يجد في أثرها منذ سنوات دون جدوى، وإنه لا تشغله عنها أية امرأة أخرى،وإن علاقته بأجاثا وزوجها علاقة أدبية وثقافية بحتة. وإن العطار من الرفعة والتسامي ما يجعله فوق الشبهات! وبذلك حصل العطار وهو غائب على براءة من تهمة خطف أو قتل أجاثا، كان سيصعب عليه أن يحصلها لو كان موجودا في بغداد حتى ولو بعد جولات طويلة من الاعتقال والتعذيب! كان يخيل للعطية إنه يمكن له أن يجد خلف أي شيوعي أجاثا كريستي مقيدة بالحبال، مكممة الفم، ثم حين يعتقل الشيوعي ولا يجد خلفه سوى بيتا خاويا حتى من طعام أو كساء،وليس هناك سوى أهله ودموعهم، وبضعة كتب وصور ممزقة، يصاب بخيبة أمل، ثم يمضي لاعتقال آخر، وحين لم يعد ثمة شيوعيون ليعتقلهم دخل في مأزق البحث عن الأعداء السياسيين لبريطانيا العظمى، فصار كل من عارض الوجود البريطاني في العراق، أو انتقد السياسية البريطانية متهما بخطف أجاثا كريستي! أعتقل كثيرون لا نشاط لهم سوى الجلوس في المقاهي وإطلاق ألسنتهم الطويلة في شتم الإنجليز، واعتبارهم سبب بؤسهم وشقائهم! اعتقلوا أشخاصا قالوا أن عقود استثمار النفط الممنوحة للإنجليز والأمريكان وغيرهم مجحفة بحقوق العراقيين. وحين لا يجد المحققون أية علاقة لهؤلاء اختفاء كريستي، يحيلونهم إلى المحاكم متهمين بأنهم هددوا بحرق منشآت ومقرات شركات النفط واغتيال المهندسين والخبراء الأجانب العاملين فيها!أعادوا اعتقال شخصيات عراقية وعربية مقيمة في العراق نادت بالتصدي لبريطانيا ومصالحها لدورها في تقسيم فلسطين، وقيام إسرائيل. جميع هؤلاء وجدوا أنفسهم متهمين باختطاف أجاثا كريستي وعليهم أطلاق سراحها على الفور، أما إذا عثر على جثتها، فسيكونون هم من قتلها، وسيعاقبون بالإعدام،بينما الكثير من هؤلاء لم يروا أجاثا لا حقيقة ولا صورة، ولم يقرؤوا لها رواية أو حكاية، ولم يسمعوا بها أصلا!

 

كل حقائق وأسرار بغداد، صغيرها وكبيرها؛ لا يمكن أن تجدها إلا عند شرفاء روما!

لم تسفر التحقيقات السريعة الحامية مع كل المعتقلين من السياسيين عن أية نتيجة، لكن رجال التحريات لم يفتر عزمهم للوصول إلى أجاثا بأسرع وقت! وإذا كان الخاطفون لم يظهروا أو يكشفوا عن هويتهم، حتى الآن، ولم يرسلوا مطالبهم، أو أية إشارات تنم عن وجودهم، فإن من الخطأ الوقوف مكتوفي الأيدي بانتظارهم! " المسكينة أجاثا كريستي هي الآن رهينة معذبة بين أيديهم ،وهم يريدون تحطيم أعصابنا، وإيصالنا إلى تهالك نفسي وعقلي فنقبل بمطالبهم مهما كبرت وثقلت!" ثمة ضابط كان يقول دائما: "كل خفايا وأسرار بغداد صغيرها وكبيرها لا يمكن أن تجدها إلا عند شرفاء روما!" كل زملائه من المعاونين والشرطة يعرفون المعنى الواسع "لشرفاء روما "! ظهر هذا المصطلح في بغداد؛ عندما جاء جورج أبيض بفرقته المسرحية من القاهرة إلى بغداد، ليقدم مسرحية يوليوس قيصر لشكسبير، فطلب من صاحب المقهى الذي ستقدم فيه المسرحية أن يجلب له أشخاصا عاديين يظهرون لثوان في مشهد على أنهم شرفاء روما. كان المتعهد يعرف أن غالبية الرجال في بغداد يزدرون التمثيل والممثلين، ويعدونه مشينا ولا يليق بالرجال؛ رغم إنهم يعجبهم التفرج على المسرح. كان مسرحه يقع في الميدان المكتظ ببيوت الدعارة والمواخير، فقام بجولة سريعة على مقاهيه، ولمَ مجموعة من النشالين والقوادين والشواذ وافقوا على أن يكونوا شرفاء روما لقاء دراهم قليلة!وما أن سمعت من المسرح صيحة "والآن يتقدم شرفاء روما ليحيوا الملك العظيم" وظهر هؤلاء، حتى ضج المكان بالضحك وصيحات الاستهزاء، وإلقاء الأحذية عليهم! فالمتفرجون يعرفونهم واحدا واحدا،فهذا قواد شهير، وذاك نشال لا يبارى ،وآخر لوطي،والرابع مطيرجي يسرق حمام جيران، ومن السابع حتى العشرين هم من أصحاب السوابق، والجرائم المخلة بالشرف! تحول هذا المشهد إلى مسرحية كاملة طغت على مسرحية جورج أبيض القادم من القاهرة ليري فنه الجميل للعراقيين! عم الهرج والمرج وأسدل الستار، وقد أصر شرفاء روما على أن يلعبوا دورهم الحقيقي فهم لم يغادروا مقهى المسرح؛ إلا بعد أن نشلوا شيئا من جيب هذا،وسرقوا معطفا لذاك، وأخرجوا رجالا من المسرحية إلى بيوت الدعارة المجاورة! ومنذ ذلك اليوم حصلوا على لقب فخري: شرفاء روما! ولكن المؤسف أن كثيرا من الناس في بغداد يتوسعون أو يتطرفون باستعمال الألقاب والمصطلحات فشملوا به فقراء معدمين، وباعة متجولين على الأرصفة وحمالين وصباغي أحذية، وعاطلين ومتسولين وشقاوات عرف بعضهم بالشهامة، وكل مطيرجية الحمام، ومحضري أرواح وقارئي كف، ورمل وخرز ومجانين مساكين، بل شملوا به دراويش ومتصوفة بدعوى أنهم محتالون. ولم يكن كثير من الناس يرتاحون لذلك، لكنهم رحبوا بشموله وزراء ونوابا في البرلمان وشيوخ عشائر ورجال دين عرفوا بفسادهم وبسرقاتهم وتقاضيهم الرشاوى وتسترهم على أقاربهم ومحاسيبهم! ومع ذلك ثمة ما يشبه الإجماع أن كل ما يخفى على سطح الحياة في بغداد يهبط كما قطع الحديد في البحر، ليستقر على ألسنة هؤلاء! لم تكن تلك المرة الأولى التي يستدعى فيها شرفاء روما للمهام الكبرى، فكثير من النواب والوزراء استعانوا بهم للوصول إلى مناصبهم الرفيعة، أو للاحتفاظ بها مدى الحياة. كما إن مديرية الأمن العامة تعدهم مستشارين احتياطيين لها، ولديها سجلات بأسمائهم، لتستنجد بهم عند الملمات! معاونو التحريات ترددوا في استدعائهم لقضية أجاثا الحساسة،حتى يأخذوا موافقة مديرهم العام بهجة العطية، فاكتفى بإيماءة من رأسه علامة الموافقة، فكلمته الصريحة تعني أنه تخلى عن قناعته السياسية المعروفة حول اختفاء أجاثا! وبسرعة استدعى معاون الشرطة الكثير من شقاوات محلات بغداد وخاطبهم:

ـ انتو الزلم أهل الحمية، مرة أجنبية ضيفة عدنا، وبحمانا، ترضون يخطفوها؟ ويثلمون شرفنا، شوفوني نخوتكم، وعز الزلم!

نفخ الشقاوات المجتمعون صدورهم العريضة، ونفضوا يشامغهم على أكتافهم، وتحدث رئيسهم:

ـ سيدي بعد ساعة راح تشوفها بمكتبك، بس نريدك تسمحنا نسوي اللي خطفها قوزي على تمن!

اكتفى بهز رأسه، قائلاً:

ـ عاد لطوخوها!

نفح كل منهم نصف دينار ، وعلبة سجائر "غازي". خرجوا تتقدمهم صدورهم، يهوسون "لندن وتريد نحاميها " " ويا كريستي جينالك فزعة".

أرسل معاون الشرطي في دعوة مجموعة من الدراويش ومحضري الأرواح وقارئي الكف وما تحت الرمل ومنجمين وضاربات ودع من الغجريات. جمعهم في ساحة وقوف السيارات لبناية مديرية التحريات، وقف أمامهم خطيبا أمام الجماهير:

ـ أريدكم تشوفونا شطارتكم من أجل العراق. الوطنية مو خاصة بالشيوعيين والقوميين، وكامل الجادرجي وأمثاله من النايمين للضحى، انتو الوطنيين الشرفاء الصدكك، اريدكم تلكونا كريستي ، تطلعوها من جوا الكاع! هي أخت اليزابيث ملكة بريطانيا، الإنجليز يعبدوها مثل مريم العذراء، ولا يستطيعون العيش بدونها، والملكة قالت: أنا مستعدة أبيع تاجي المليان جواهر وذهب بسوق الهرج ابغداد وانطيه لليلكيها!

اشتعل حماس بعضهم فوقف هاتفا بحياة اليزابيث، وفيصل الثاني الملك الصغير، والوصي والباشا، وبهجت العطيه. وعدوه أنهم سيضعون أنفسهم بالإنذار ليجدوها له.أعطى كل منهم ربع دينار، سمع العطية من شباك حجرته المطل على الفناء الكبير حيث يجتمعون أصواتهم تتعالى وتردد اسمه نهض وأطل عليهم، سأل أحد معاونيه:

ـــ من دعيتم من شرفاء روما؟

ــــ دعوناهم جميعهم، والذين أمامنا الآن سحرة ومحضرو أرواح ودراويش،وأرباب استخارة،وقارئو كف!

خطر للعطية أن قراءة الكف علم صحيح، ويمكن أن يعتد به، قال له: هات لي قارئ كف، نزل المعاون مسرعا إلى الفناء وأتى له برجل مسن قارب الثمانين، كان يعرفه، طويل أشقر الوجه بلحية بيضاء، قال المعاون للعطية؛ إنه قارئ كف لا يخطئ فهو قد خبره، إنه من التابعين لتكية في مسجد الكيلاني، احتسبوه مع شرفاء روما ظلما، وهو من شرفاء بغداد! حدجه العطية بنظرة مستريبة قائلا: دعه يدخل! فتح العطية كفه له سريعا فهو لا يريد أن يضيع المزيد من الوقت، تطلع الشيخ في وجهه، قلب يده، ألقاها سريعا، طلب الثانية ، قلبها، ألقاها، وعاد للأولى، ثم بدا إنه يريد أن يلقيها ليعود للأخرى، فبادره العطية "شنوا أنت راح تشتريها؟ فضنا عاد!" سأله الشيخ أتعطيني الأمان إذا قلت لك ما أرى؟ ذهل العطية. قال بسرعة: لك الأمان! قال الشيخ: قلبك يتحرق للانتقام من شخص،ربما هو قريبك أو صديقك تريد أن تقتله، وهو أيضا يتحرق لقتلك، ولكن في النهاية كلاكما ستقتلان، أحدكما بيد الآخر! فالحقد يجلب الحقد، والدم يجلب الدم! قال العطية خائفا، غاضبا: من أين لك هذا؟ قال الشيخ هذا هو المشهد مرسوم بعروق دمك على راحة يدك! كيف؟ كيف؟ ردد العطية بارتياع؟ قال الشيخ ستحدث ثورة في البلاد، وتنفلت الأمور من عقالها، أنا لا أعرف تواريخكم، ولكن حسب تاريخنا؛ سيكون ذلك في عام الذئب، الذي سيتلوه عام الحمار، ثم يعقبه عام الأسد العصور، يعقبه عام السلحفاة، حتى تأتي أعوام الثعابين والعقارب! ضغط العطية زر الجرس منفعلا، دخل عليه معاونه،صاح به: أخرج هذا المخبول ،لا أريد أن أرى وجهه ثانية!

ظل من تبقى من شرفاء روما، متجمعين في الفناء بين السيارات المتوقفة،لا يعرفون ماذا ينتظرون، أعطى المعاون إشارة لهم من يده وصرفهم. استبقى رجلا اشتهر بتحضير الأرواح ومخاطبة الموتى والغائبين، والحديث معهم وإسماع أصواتهم لمن معه. اقتاده إلى حجرته، طلب منه أن يقوم بتحضير روح أجاثا كريستي؛ ليعرف أين هي الآن؟ حية أم ميتة؟ ماذا تعاني؟ وماذا تقترح هي بصفتها كاتبة روايات بوليسية للوصول إليها، وإنقاذها. جلس الرجل في مكتب الضابط وراح يحضر روح أجاثا، وقد جلس معاون الشرطة بجانبه متهيئا، وقد دون على ورقة صغيرة أسئلته، لكن محضر الأرواح بدلا من أن يحضر روح أجاثا كريستي حضر بالخطأ أو الإهمال روح امرأة تدعي ممه يستي، وهي امرأة مرابية عجوز من أصل إيراني، عاشت في حي الطاطران ببغداد، ويقال أنها جمعت ثروتها من اشتغالها في الدعارة، والقوادة، سمع معاون الشرطة صوت العجوز، هكذا خيل إليه؛ يخرج مكتوما من صدر محضر الأرواح، المغمض العينين، والمتظاهر بغيبوبته عن نفسه، وهي تروى أنها أرادت أن تتوب إلى الله، فقصدت الديار المقدسة، حيث حجت وصلت عند قبر الرسول، وعادت بريئة من الذنوب " طاهرة كما ربي خلقتي" لكنها عند عودتها خطفتها عصابة من قطاع الطرق عند الحدود، وهي الآن في جوف بئر عميق في صحراء الربع الخالي، وصار صوتها مسموعا، وهو يخرج من صدر الرجل محضر الأرواح: وهي تتوسل به أن يرسل مفرزة شرطة خيالة لإنقاذها،وإنها إذا نجت على أيديهم المباركة؛ فستتبرع بكل ثروتها الكبيرة من الدعارة للأيتام والمساكين وبناء المساجد.

وجد المعاون نفسه يائسا من محاولاته مع الدراويش والسحرة، ومحضري الأرواح، فطردهم قائلاً في نفسه: " الناس محقة في تسميتهم شرفاء روما،هم مشعوذون، حثالة مجتمع!" وندم أنه بدد جهده، وبعض المال معهم، دون جدوى. شعر إنه يائس تماما، لكن ثمة حلقة طرحت أمامه ومن الصعب عدها خرافة. أو لعبة دجالين. ذكره بها زميل مخضرم، حلقة براقة بعض الشيء، ولا بد له من طرقها علها تقدح شرارة تضيء الطريق إلى مخبأ أجاثا، وهو ما كان قد حدث قبل سنوات لشقيقة القنصل الفرنسي عندما جاءت بزيارة لشقيقها في بغداد، فاختفت فجأة وقد بحثوا عنها طويلا، وتعذب كثير من العراقيين حين عوملوا كمتهمين عند التحقيق في اختفائها وأخيرا وجدوها، مختفية أو مقيمة بكل راحة وأمان ومتعة في أحد بيوت الدعارة في الميدان. فتاة فرنسية جميلة انساقت مع نزوة غريبة في ممارسة الدعارة في بلاد الشرق، عدها البعض فضيحة للسفارة الفرنسية، لكن القنصل الفرنسي ظهر متورد الخدين فرحا، يضحك أمام ثلة من الصحفيين، قائلا :

ـ هي مجرد نزوة حضارية! هذا أمر طبيعي، ألم يقم نائب الرئيس الأمريكي حين زار بغداد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بزيارة لنفس حي الدعارة هذا الذي تتحدثون عنه، وقضى وقتا لطيفا فيه؟ حتى إذا كانت زيارته للمتعة الجنسية وليس للاستطلاع كما قال، فذلك نشاط إنساني عادي، ما قامت به شقيقتي هناك هو مغامرة طريفة تنم عن جرأة ثقافية، لماذا يحق للرجل ما لا يحق للمرأة؟

اقتنع معاون شرطة التحريات بالحكاية، فأرسل شرطيا سريا،مرتديا ملابس مدنية إلى منطقة الميدان، في الجانب الغربي من شارع الرشيد، عرف هذا المخبر بمكره ولباقته وسرعة إنجازه لمهامه في التجسس وجمع المعلومات. سأل أحد القوادين إن كان لديهم في المنزول قحبة إنجليزية، تطلع القواد في وجهه مستغربا:

ـ انتو كل يوم طالعين مظاهرة بشارع الرشيد، خابصينا، وقاطعين رزقنا، تصيحون: يسقط الاستعمار: طردو الإنجليز، وهسه جاي تريد كحبة انجليزية؟ لعد وينها الوطنية؟ غير تنفعون قحاب البلد؟

جاراه الشرطي السري ضاحكا:

ـ الطبيب وصفها لي، كال الانجليزية باردة عل القلب، وما توجع لا الراس ولا الظهر، العراقيات وجعن راسي وظهري، ما بي حيل عليهن. شهوانيات!

نفحه درهماً، فوعده أن يبحث له في المنزول، جاءه بعد ساعة إلى مقهى الميدان حيث ظل ينتظره، قال له وهو يعلك على عادة أصحابه:

ـ ما عدنا غير كحاب عراقيات،سمرات، وسودات يطيبن الظهر، يمعود هذا الطبيب اللي كلك العراقية اتعبك، كلشي ميفتهم، يكولون الإنجليزية هي اللي اتعب، باردة، لوح ثلج، زين تريد ولد؟ حلو ناعم؟

ـ يعني متأكد ماكو انجليزية عدكم؟

ـ الله وكيلك، محمد كفيلك، كل اكحابنا عراقيات أباً عن جد، وكل وحده تفك المصلوب، تكول للكمر غيب وآني بمكانك، تعال وشوف.

وعندما نهض شرطي الأمن عن تخت المقهى مغادرا،نهض له القواد:

ـ تره يفوتنك، الفاتحات اليوم ورد جوري، أحلى وأنظف من الإنجليزيات!

ركض شرطي الأمن إلى دائرة التحريات الجنائية ليبلغ مسئوله المعاون:

ـ ما كو بالمنزول إنجليزية، لا كريستي، ولا هريستي!

عقدت لجنة التحقيق في اختفاء أجاثا اجتماعها برئاسة مدير التحريات الجنائية كرس لجرد وتقييم ما توصلوا إليه في التحريات والتحقيق ومعرفة طبيعة هذه القضية الغامضة. كان ما تحقق ضئيلاً،قاموا بعدة جولات تحقيق مع جبرائيل وزميله عامل استعلامات الفندق، كان جوابهما متطابقا، ولم يغيرا فيه مع كل جلسات التحقيق، "لم نلحظ شيئا غريبا في الفندق يوم اختفائها، ونحن لا نحمل لها ولزوجها سوى المودة والاحترام، نحن عمال فقراء نريد إعاشة أهلنا، نحاول قدر ما نستطيع أن نبتعد عن السياسة،ولا نحب المشاكل" ورغم تعرضهما للضرب ولقدر من التعذيب والتهديد،والشك بأن حنا قد يكون شيوعيا؛ لأن ابن عمه شيوعي خطير،يقضي عقوبة السجن المؤبد في سجن نقرة السلمان! لكن إفادتهما لم تتغير سوى أنها صارت مصحوبة بالبكاء والانهيار والغيبوبة عن الوعي. ورغم قناعة المحققين ببراءتهما إلا أن مدير التحريات أصر على إبقائهما معتقلين، قائلاً "ياما تحت السواهي دواهي!" لكن البعض يعتقد إنه لا يريد أن تخلو يديه من ملاحقين في قضية كبيرة تتابعها الرؤوس العليا في الدولة. كانت الساعات تمضي على المحققين أيضاً عصيبة سريعة، بطيئة، ثقيلة فارغة، والباشا بين ساعة يقصفهم بجرس تلفونه الرهيب : ها اشسويتو ؟ وين وصلتو؟ لا تخلوهم يقولون علينا سباع علشيوعيين،أرانب على القتلة والمجرمين!

 

القيثارة السومرية تبعث أنغامها؛ تناديني أن أكتب أحزانها!

لم يذق ماكس طعاما طيلة يوم أمس، كان يشرب القهوة فقط، ويسحب أنفاسا عميقة من غليونه الأنيق،أستهلك عدة أكياس من تبغه الفاخر، فكر أن عليه أن يتغذى وإن يبقى نشيطا صاحيا ليفكر بشكل جيد ويعمل بقوة ودقة للعثور على أجاثا، فهي بلا شك مثله في محنة وقعت فيها دون أرادتها. مضى إلى المطعم، جلس على مائدتهما،أراد أن يحس أنها ما زالت بجانبه ولم تفارقه، ربما هي ما تزال في الحجرة وستنزل بعد قليل، تناول فطورا خفيفا، دون شهية، كأنه يتجرع دواء، احتسى أكثر من فنجان قهوة مرة، عاد إلى حجرته، هم بنزع ثيابه لكنه تذكر إنه لا يدري اللحظة التي يأتي فيها محققون، أو يطلبه فيها ريتشارد وعليه أن يكون مستعدا للنزول إلى البهو أو الخروج من الفندق. استلقى على فراشه ببنطلونه وقميصه على غير عادته، شعر لأول مرة أن نظام حياته بدأ يتخلخل وينهار! ثمة شيء لسعة،نهض، ليفتح دولابها، حيث رتبت بعض الملابس على رفوفه،وجد أنه نسي حلقة مهمة قد تضئ ما حدث! وتحل هذا اللغز الرهيب،أوراقها! خفق قلبه خائفا، ماذا لو وجد رسالة تنبئه أنها ستنتحر غرقا؟ وأنها تعفيه أمام العالم كله من موتها الذي اختارته، ماذا لو وجد رسالة تنبئه أنها قررت هجره والعودة لزوجها الأول كريستي الضابط الطيار الإنجليزي الذي ما زلت تحمل لقبه، ولديها بنت منه؟ ربما ما زالت تحبه رغم ادعائها أنها نسته، وطوته من حياتها تماماً! فهو كان يخونها،وينظر إليها كربة بيت؛ عليها أن تخدمه وابنته، ولا تطالبه بشيء. أو ربما هو نفسه جاء لينتقم منها بعد أن هجرته، بينما كان يحبها ومدلها بها؟ وكانت أجاثا تخفي عنه مشكلتها الجديدة معه. صار ماكس متعبا، لم تعد قدماه تحملانه، ارتعش جسده، وأحس ببرودته رغم النسمات الدافئة القادمة من النهر الطافح بالشمس. عاد لفراشه، لم يستطع تقليب أوراقها، كانت كالعادة مرتبة. هي فنانة في ترتيب أوراقها، الأجزاء المكتوبة على الآلة الكاتبة من الرواية مرتبة بعناية وفصولها مثبتة بدبايس ملونة كأنها جدائل فتيات جميلات. رسائلها، حبكات روايتها التي تداهمها خلال العمل أو في السوق أو عند النوم فتستيقظ مذعورة، لتكتبها بخطها الجميل. حاول الاسترخاء في فراشه، لا يستطيع الاقتراب من أوراقها،ربما فيها السر كله، لماذا لم يطلب المحققون الإطلاع عليها؟ هم بالطبع لا يعرفون بوجود هكذا أوراق لديها، لم يخطر على بال أي منهم أن للكاتب عادة أوراقا خاصة يدون فيها يومياته ،معاناته، أو ما يعن على باله، ربما لأنهم لا يجيدون الإنجليزية، أو هم لم يعتادوا هنا الوصول إلى حقيقة الجرائم أو القضايا الغامضة من كلمات على الورق، وإنما من دماء وسكاكين على الأرض، واعترافات تنتزع بالقوة والتعذيب أو بالإغراء، لذلك هم استبشروا بقطرات الدم القليلة الجافة. لكن الأدهى والمثير للقلق أنهم، كما لمس، يركزون في تحقيقهم على الجانب السياسي. الإنجليز في هذه البلاد، والبلاد المجاورة، مكروهون،خاصة بعد ما حدث في قضية فلسطين، لماذا نتحمل أنا وأجاثا ذنوبهم الثقيلة التي لا يد لنا في صنعها؟ ريتشارد يتهمني وأجاثا بأننا لا نفهم شيئا كثيرا في السياسة، ولا نكترث لها، وإننا بذلك قد نعرض أنفسنا لأوضاع صعبة في هذه البلاد, هم يسمونها بلادا معادية،وأحيانا متوحشة. وأنا أراها بلاداً محبة ولطيفة، ذات تاريخ عريق وإسهامات حضارية عظيمة،مجهولة أو متجاهلة. كم لقينا من حنان وكرم الناس هنا، وكم قابلناهم خاصة أجاثا بابتسامات محبة صادقة. لست نادما، ولا أظن أن ما حدث لأجاثا أمر يتعلق بالسياسة! ومع ذلك " لا أدري"! كان مبلبلا مشوشاً، ظل يتقلب يقظا في فراشه شاعراً بخوف حقيقي من أوراق أجاثا. مرة يقرر أن ينهض لتصفحها، ومرة يؤثر الهدوء تاركا الأمر لساعة الحقيقة القادمة، لا محالة. فجأة استجمع ما تبقى من قواه ونهض إلى أوراقها المرتبة على رف خشبي داخل دولابها. تناول بسرعة رزمة منه ، مضمومة بدبوس، هي فصول من رواية مدونة بالآلة الكاتبة، نفضها، لا توجد بينها أية ورقة جديدة أو غريبة، تجاوز الأوراق المكتوبة بالآلة الطابعة، مد يداً مرتجفة إلى أوراق مكتوبة بخطها، هذه هي المخيفة، لا يعقل أن تكتب أجاثا وصية انتحارها، أو رسالة هجرانها له على الآلة الكاتبة، فكر أن هكذا أمور تكتب باليد حيث يمتد شريان من القلب إلى القلم، أزرار الآلة بينها وبين القلب برودة المعدن، أمسك بالأوراق المكتوبة بخط يدها، تصفحها متأنياً، واحدة واحدة، لم تكن كثيرة، معظمها ملاحظات تريد إدخالها في مجري النصوص المكتوبة، بعضها ملاحظات عن سفرهما، أخرى تتضمن المصاريف التي أنفقاها على رحلتهما، ورقة عليها أسماء ومقادير توابل وزهورات تريد شرائها، ورقة بمقترحاتها وما عليهما اتخاذه من إجراءات لسفرتهما المقبلة إلى حلب حيث سيستأنفان التنقيب هناك. هذا يطمئنه كثيرا، لا توجد ورقة الانتحار المرعبة، ولا رسالة عن هجرها له، أو سفرها بدونه، لكنه لم ييأس ،وجد هذا وحده بشير خير. توقف عند ورقتين من أوراق الآلة الكاتبة الكبيرة، واحدة تتحدث عن القيثارة الذهبية، عثر عليها في حفريات جنوب العراق، يعود تاريخها إلى ما يزيد عن 2500 قبل الميلاد. والأخرى عن لقائهما بالراهب بهنام، أحس بالتعب، كأنه يعود من رحلة طويلة مضنية، أخذ يقرأ بصوت مسموع، يريد أن يسمع من خلال الكلمات صوت أجاثا: " حين رأيت القيثارة العجيبة خفق قلبي لها، نغماتها تتغلغل في روحي، تحييني، تبثني شكواها وأحزانها لآلاف السنين، تتحدث معي بالموسيقى، لغة الكون المفهومة من الجميع، سأعرف ما كتمت في صندوقها الموسيقي، من حب وهيام وصدود ،تبثني هموم بلادها الكسيرة، المغيبة لقرون طويلة، ثم وهي تنهض اليوم زنبقة في رمال الهجير. أرى الشاب السومري الأسمر الجميل يداعب أوتارها في حضرة الكاهنة، والفتاة العذراء المنذورة تحتضنها لتهدئ النهر الهائج كثور، تتحول إلى طير كبير يحملني إلى سماء مضيئة بعيدة، تخلصني من بقايا ضباب لندن الذي يصر على مرافقتي، ويلفني كرداء تحت جلدي لا فوقه، تقول لي: تعالي واسمعي لحني وكلماتي، ابق معي هنا، أما مللت حكايات المجرمين والقضاة والمحققين؟ قلبت بيديك الجميلتين عظام موتانا، كلماتهم ودموعهم، صرت تعرفيننا وتفهمين انتفاضات أرواحنا، اكتبي للعالم عنها، ليس فقط القصة البوليسية مشوقة، صراعات الملوك والكهنة والفقراء المساكين عندنا فيها الكثير مما هو مضحك وجذاب وله نكهة الروايات العظيمة! سأغنيها لك الآن؛ نغمات أوضح من الكلمات. نغماتي أليفة لك يا أجاثا، من أعماق أوتاري خرجت نغمات هاندل وبتهوفن وموزارت وشوبان وبرامز وغيرهم من العباقرة التي تعشقين موسيقاهم. هذه القيثارة الذهبية ترفع رأس الثور المقدس وتلاحقني، صرت أخاف موسيقاها الجارحة المتسائلة، أحيانا الجمال والروعة يصيران عبئاً ثقيلا، من يخلصني منها، حدثت ماكس عنها فضحك، يبدو ماكس وهو مستغرق بالتنقيب والحفر في الأرض، أشبه بالمولدة التي تستخرج الأطفال من أرحام أمهاتهم، ثم لا يهمه فيما بعد كيف سيعيشون، وماذا سيكونون، وكيف يموتون!

ألقى ماكس الورقة إلى جانبه وسرح مع كلماتها، يتذكر أنها قالت له :

ـ ماكس ساعدني بالشفاء من هذه القيثارة، ماذا أفعل معها؟

قرأ تاريخ الرسالة، كان قبل خمسة أيام من اختفائها،على الأكثر كتبتها في بيت الآثار، كانت تحلم بكتابة رواية تجمع التاريخ القديم بالمعاصر، قدر أن بعض مقاطع مخطط روايتها، مبهمة معقدة، مشوشة، لم تستقر عليها بعد، هذا حال كل كتابة إبداعية،فهي تبدأ مختلطة بسيطة ثم تتضح وترقى شيئا فشيئاً، هل سيكون اختفاؤها أبديا؟ هل سيقع لها أذى يقعدها عن كل شيء؟ فلا تكتب هذه الرواية،أم ستعود سالمة لتكتبها بإبداعها المعهود؟ لا علاقة للقيثارة باختفائها ولا يمكن أن تتحول إلى نسر يقتنص ضحيته الغزالة أو الأرنب من البرية،مضى يقرأ كلماتها، وجدها تقارن بين رأي يقول أن كهان السومريين كانوا يعزفون على القيثارة لتهدئة الثيران وهي تساق للذبح أضاحي في الأيام المقدسة، ورأى آخر يقول أن الكهنة يطلقون أنغامها لتحمل أرواحهم إلى قلوب الآلهة لتستحم داخلها حيث البحار الهائلة، ثم تعود إليهم صافية نقية كما المطر. وأشعة الفجر.

ربما ستدخل ذلك كرمز في روايتها! تقول: كما تنفتح لك خابية في التنقيب ستأتيك روايتي ،أسرارا مدهشة من أعماق الزمن في كأس ذهبية! لماذا لم تشرعي بكتابتها فورا كعادتك في الكتابة؟ قالت: أنا أكتب في الفندق على مضض،مخطط أولي، لكي لا تفر حبكة تراودني فجأة، الفندق لا يمنح مزاجا للكتابة العميقة، هو يمنح مزاجا للتجوال في المدينة، والتسوق، الاستلقاء في الفراش وقراءة روايات الآخرين. لكي أكتب رواية القيثارة الذهبية أحتاج لجو سحري يدخلني هيكلا سومريا بروائحه وأطيافه، أرى منه ذلك المدفن الذي ظلت العذراوات يعزفن فيها حتى وصل مخلب الموت إلى قلوبهن. كنت يا أجاثا تكتبين في خيمة غير بعيدة عن حفر التنقيب وضوضاء الحفارين، كنت تقولين إن أجمل الإلهام هبط علي وأنا وسط الأرض الجرداء المليئة بالصخور وأكوام التراب، أو في بيتنا الصغير ذي الحديقة القابع أسفل تل النبي يونس في الموصل، اكتب متكئة على مخزن أسلحة الملك الآشوري سنحاريب، كنت أحيانا أسأل نفسي هل أنا بحاجة لكل أسلحة هذا المخزن لأصنع حبكة قتل؟ سيف واحد، سكين واحدة، رصاصة واحدة تكفي للقيام بجريمة وإطفاء سعادة الكثيرين؟ ماذا كانوا يصنعون بكل هذه الأسلحة؟ أريد الآن كتابة رواية يمتزج فيها رجال ونساء التاريخ بحياتنا الحاضرة. هل هذا يا ماكس خيال جامح لا يطيقه الناس؟ وكنت أطمئنها لا، هذا ما يريده الناس، هذا ما يريده الأدب والفن، هي كما أعرف لم تكتب شيئا من هذه الرواية التي تشغلها وتشغلني ، طبعا ستختفي هذه الرواية باختفائها! خسارة هائلة؛ موت أو ضياع المؤلف، أين أنت الآن يا أجاثا؟ ألا زالت تسمعين نغمات القيثارة الذهبية؟ ألا زالت القيثارة تلاحقك كنسر أثيري؟ كم كان بودي أن أعثر على نسخة ذهبية من هذه القيثارة في حفرياتنا لأسجلها باسمك، لم يحالفني الحظ، سبقنا إليها منقبون أفذاذ، لكنني لا زلت أحلم أننا سنجد قيثارة أخرى في باطن أرض حلب المشمولة بحضارة ما بين النهرين. لن تغيبي يا أجاثا، لن تتركيني وحدي! راح في شرود؛ إذا فقدت أجاثا هل سأعود إلى إنجلترا؟ فأنسى كل شيء، أسدل الستارة على ماض ريادي قضيته في التنقيب والاكتشاف الغزير، هل سأعتكف لأكتب ذكرياتي عن الحياة الجميلة التي عشتها معك؟ أية قيثارة في الدنيا تستطيع التعبير عن جمال أيامنا وسعادتنا معا في هذه الأرض وكل أرض وطئناها، كنت تقولين: ماكس كثير من الناس يقولون أن السعادة هناك،بينما السعادة هنا! وتشيرين إلى صدرك الواسع كسماء تحتضن الغيوم، كم من الشموس لوحت وجوهنا، وكم من الأمطار هطلت علينا معا ونحن مشردون في دروب الدنيا، هذا الحب العظيم الذي عشناه، هل من المعقول ينتهي باختفائك؟ أحس بعبرات تلج بصدره، حاول أن يبكي فلم يستطع، يتذكر إنه كان قد بكى حين تدله بحبها وطلب يدها فطلبت منه أن يمهلها لتفكر، وكان خلال مدة تفكيرها التي طالت بعض الشيء يبكي حين يتصور أنها سترفض الزواج منه. نبكي مع الحب الأول، ثم لا نبكي أبدا مهما عشنا من حب أو هجران؟ عدم القدرة على البكاء هل يعني زوال الحب، عدم القدرة على الحب؟ لا ! أنا أحبك يا أجاثا الآن وأبداً. أنت كل وجودي ،فقدك سيحطمني، وها قد بدأت أتداعى! أعاد الورقتين إلى مكانهما، اعتراه بعض فرح أن أجاثا ستعود، ويجب أن تجدها في مكانها حين تشرع في الكتابة. كان الراهب بهنام مهذبا وصريحا معنا، أعلمنا أن كثيرين يقولون أن المنقبين يعثرون كل يوم على خزائن مليئة بالليرات الذهبية، ويعتقدون أننا لصوص، استولينا على الكثير من مجوهرات وثروات بلادهم! هل خطفها أحد ممن يعتقدون أننا أثرياء ونستطيع أن ندفع لهم الكثير من المال ليطلقوا سراحها؟ لأنتظر! عاوده الخوف واليأس.

 

هل هي جثة أجاثا كريستي؟ بأي قلب سأقف أمامها؟ إذهب يا صديقي وشاهدها، وسأبقى هنا أحلم بالأهرامات تسير على عجلات!

تنبه إلى دق خفيف على باب حجرته، نهض مسرعا، وجد عامل من الفندق:

ـ ثمة تلفون لك يا سيدي!

نزل الدرج مسرعا يكاد يسقط، أزعجه أن بدالة التلفون الداخلية في هذا الفندق متوقفة منذ حلولهما فيه، ولم تصلح لحد الآن ، كان ريتشارد من السفارة يقول له بصوت حاد بارد كالسكين:

ـ يؤسفني أن أخبرك أنهم عثروا على جثة على شاطئ النهر في مكان لا يبعد كثيرا عن الفندق، لكنهم لا يعرفون إن كانت لأجاثا أم لغيرها، أعلمونا أن الجثة لامرأة شقراء فيها الكثير من صفات أجاثا.على كل حال هم يريدونك لمعاينتها، سآتيك لأكون معك في مشرحة الطب العدلي، سنذهب بعد ساعة من الآن حين يهيئونها!

لم يعد ماكس يستطيع النطق، سمع ريتشارد يقول:

ـ سنكون معا، هيئ نفسك لتقبل الأسوأ!

أعاد سماعة التلفون، وألقى نفسه على مقعد في البهو، وهو أقرب للإغماء، وضع النادل أمامه قدح ماء ولم يتجرأ على سؤاله إن كان يريد القهوة. كان شاحبا مرتجف الشفتين، كان يفكر بريتشارد أيضا، أحسه قاسيا كأنه هو من حول أجاثا إلى جثة امرأة قتيلة. تخيل نفسه يقف أمام ، جسدها الجميل المثخن بالطعنات، لا؛ هذا فوق احتماله، هذا سيدمر أجاثا في مخيلته وفي روحه ، نهض إلى التلفون وطلب ريتشارد:

ـ يا صديقي، أنا لا أستطيع الوقوف أمام جثة أجاثا، أرجوك، أنت تعرفها، جيدا، لا أعتقد أنك نسيت ملامح وجهها أو هيئتها، أرجو أن تذهب نيابة عني، لتتفحص الجثة، وسأنتظر مكالمة منك! لي ثقة أن الأخبار ستكون طيبة!

ـ هذا صعب بالنسبة لي أيضا، ربما الأمر أسهل لك، فعملك في التنقيب يجعلك ترى هياكل الموتى دائما!

قال في نفسه يالرتشارد كم هو أحمق وغبي ، أجابه:

ـ الأمر يتعلق بأجاثا يا صديقي، لا بعظام الأقدمين،لا أستطيع أن أرى أجاثا بغير ما عهدتها به، أرجوك قدم لنا أنا وأجاثا، هذا الصنيع، واذهب وحدك لمعاينة الجثة.

صمت ماكس برهة ثم قال:

ـ رغم إنني اعتقد إنها ليست جثتها، لكنني لا أستطيع رؤية جثة من المحتمل أن تكون جثتها مهما كان الاحتمال ضئيلا، كان ريتشارد يردد:

ـ أوكي ماكس، أوكي!

عاد ماكس إلى مقعده، ورغم إنه أزاح عن صدره كابوس احتمال أن يرى أجاثا جثة ممدة في مشرحة،لكنه ظل هامدا برهة؛ ثم راح الأمل يدب فيه، لا، أجاثا لم تمت، لم تقتل، هي حية في مكان ما، وستعود فرحة منتشية كأنها كانت في مغامرة مرحة! لكنه لا يلبث أن يعود؛ ليفكر إنه لن يراها بعد الآن! أحس باختناق البكاء في صدره لكنه تمالك نفسه وظل على رصانته. لأول مرة ومنذ زواجه أحس بحاجته لكأس من الويسكي، لقد منعته أجاثا من الشرب إلا بموافقتها، كان قبل زواجهما يعب من الويسكي كثيرا،يراه يفتح الذهن،ويستخرج الذكريات كما يفتح أزميل المنقب الأرض ويستخرج منها الذكريات ولو مختلطة بالطين! هبط إلى بار الفندق، وطلب كأسا من الويسكي، ارتشف جرعات بينما بصره يسرح عبر النافذة إلى دجلة، تيهه في سمائها العالية العميقة جعله يحس بان أية مشكلة هي صغيرة إزاء عظمة الكون، النسيم العذب المتدفق من النافذة العريضة مع غناء الصيادين وصيحاتهم المرحة ودبيب الشراب أنعش روحه. لكن البكاء يحاصره ولا يتفجر، هل حقا هناك داء في الدنيا اسمه البرود الإنجليزي؟ شعر أن أجاثا قريبة منه، ولا يمكن أن تتركه، وإن حبهما عظيم لا يقهر، ولا يدمره قاتل أو مغتصب! جاءه النادل يصحب شابا قدم نفسه أنه صحفي يعمل في صحيفة محلية مشهورة ويريد أن يجري معه مقابلة،تحدث ماكس بملامح متجهمة:

ـ لا أريد أن أدلي بأي كلام قد يربك مجرى التحقيق. ساعدونا بالصمت رجاء!

لم يدع الصحفي للجلوس؛ فظل واقفا متهيبا:

ـ لا أريد أن اكتب للإثارة ،وإنما بحثا عما حدث حقا، كاتبة كبيرة تخطف في بلادنا، تلك اهانة لنا جميعا، أريد أن أهيب بالناس ليساعدوننا في البحث عنها!

ـ أعلموني بما تكتبه الصحف هنا عن قضية أجاثا، لماذا كل هذه القسوة؟ لماذا تمتزج ألاعيب السياسة عندكم بما هو إنساني فتدمره؟

ـ ليس كل صحافتنا كذلك. معذرة إذا كنت قد أزعجتك!

نظر إليه ماكس متأملاً في شرود حزين:

ـ وأنا أرجو أن تعذرني، لست في مزاج من يطلق تصريحات، أعدك إذا ما عادت أجاثا أن أخصك بحديث أترك لك اختيار موضوعه وحجمه!

ـ أتمنى أن نجدها سالمة وبخير.

ومضى بهدوء. عاد ماكس إلى كأسه، تجرعه دفعة واحدة وطلب كأساً آخر، في تلك اللحظة استقر في نفسه أن أجاثا لم تمت، لم تختف مطلقا، ستظهر، لا بد أن تظهر،.. هي من تهب أبطالها حياتهم من الوهم أو الحقيقة، لا يمكن لأية قوة أن تسلبها الحياة، هل هي نشوة الشراب؟ هل هي صدمة الجثة المشتبه بها هي التي جعلته يكابر ويعاند ويعتقد أنها حية، فقط في مكان آخر، نهض فجأة، غادر البار وانحدر إلى الشاطئ، وجد دعبول البلام، سأله:

ـ ها، هل عادت أجاثا؟

اكتفى ماكس بهزة غامضة محيرة من رأسه، وأخلد للصمت، راح دعبول على طريقته يتحدث مع ماكس محاولا دس الكلمات الثلاث أو الأربع التي يعرفها من الإنجليزية في كلماته،(ففري ككود ، ووتر، فش ، عفارم ككود فش مشوي، ووتر) ...صاحب انتو تنطون حرية لنسوانكم أكثر من اللازم، لا تقلق، راح ترجعلك، بس مرة ثانية لتخليها تروح وتجي بكيفها ايدك بايدها! ظل ماكس شارد الفكر عنه، كان دعبول سكران أيضا،حين وجد ماكس منشغلا عنه قال:

ـ أدري صاحب أنا أحجي شيش بيش ، بس شسوي لا زم نحجي والا نموت، المايحجي، يختنكك!

هز ماكس رأسه مظهراً أنه يستمع إليه ويفهم ما يقول، لكن دعبول نظر إلى عيني ماكس الذابلتين، خمن أنه سكران، رق صوت دعبول وهو يقول:

ـ صاحب احنا اثنينه سكارى، بس إنت سكران بالويسكي، وآني سكران بالعرق المغشوش، أنت دايخ تدور على زوجتك، وما تدري هي وين، وأني دايخ لأن أدري زوجتي وين، هي بالمكبرة كاعدة من الصبح تبجي على ابنا الوحيد اللي غرك بهالنهر الملعون بذاك الصوب، (وأشر جهة الكرادة في الكرخ)، آني دعبول البلام اللي اعلم أولاد الأغنياء السبح، إبني يغركك يمي؟ وين كان عقلي؟ غير أفكر بالعيشه، هذا حظي!

أحنى رأسه وأخذ يبكي رافعا طرف دشداشته ليمسح دموعه كالطفل، حاول ماكس أن يقترب منه فقد أحس بألمه أكثر من أي وقت، هو لم يفهم كل ما قاله لكنه يعرف أنه يبكي على ولده الذي مات دون الثامنة، مضى ماكس يجر خطواته، لماذا أنا لا أستطيع أن ابكي مثله على أجاثا؟ عاد إلى بار الفندق وطلب الويسكي، كأسا طافحة ، أخرى وأخرى، حاول أن يبكي فلم يفلح، نهض ضاحكا من نفسه قائلاً، يبدو إن الإنجليز يعرفون كيف يصنعون سيارات الروز رايز، ينتجون ويسكي فاخرا،موسيقى صاخبة،أقمشة جيدة، سياسة مجنونة، ولا يعرفون كيف يبكون!

صعد إلى حجرته، لم يبدل ثيابه، تداعى على فراشه.أخذه نوم عميق، دون رغبته، أو رضاه، كان يريد أن يبقى يقظا ليستقبل من ريتشارد خبرا رهيبا جدا أو طيبا بعض الشيء، لكن النوم اخترق أرقه الطويل وسكرته الحالية كالسهم، استقر نائما لما يقرب الساعة. استيقظ فجأة وقد أخذ بخناقه كابوس عميق، كان يلهث، تناول قدح الماء من المنضدة الصغيرة المجاورة للسرير، يقطع شربه لهاث حاد؛ جعله يمسك صدره خائفا.

كان قد رأى نفسه في مشرحة الطب العدلي، وإن الجثة التي ذهب مع ريتشارد لمعاينتها قد وجدها جثة أجاثا، وكانت مقطعة، وقد صفت أجزائها بمكعبات، ورغم إن وجهها كان مشوها؛ لكنها كانت تبتسم له قائلة:

ـ كل هذه يا ماكس بسبب تنقيبك في بلاد هؤلاء المتوحشين، هم غاضبون علينا كثيرا، يقولون أنك تبحث عن أصنام أسلافهم لبعثها من جديد، وتحطيم دينهم العظيم! وتجمع ذهبهم ومجوهراتهم لسرقتها، لذلك فهم سيعاقبوننا بالموت، وسيمثلون بجثتينا، هذا الذي فعلوه بي سيفعلونه بك، قالوا لي إنهم سيقطعون جثتك، ويرمونها للكلاب، قالوا إنهم أشفقوا عليَّ لأنني امرأة، فابقوا لي لحمي، اكتفوا بتقطيعه، أتستحق هذه العظام المنخورة والخرز الرديء والألواح المفتتة الذي تستخرجها من ترابهم، موتنا وعذابنا هذا؟

كان هلعا يتصبب عرقا، وجد فمه ينفتح:

ـ أنسيت يا أجاثا الخنجر السومري الذي يلمع تحت الغبار؟ القيثارة الذهبية؟ حلي شبعاد الأنيقة؟ملحمة جلجامش؟ أنسيت؟ أنسيت؟ ألا تستحق هذه الأشياء كل هذه التضحية، وقف ريتشارد الدبلوماسي الإنجليزي بجانبه قليلا ثم اختفى، تبعه الشرطي والطبيب وحارس المشرحة، بقي هو وأجاثا يتجادلان، كان يسألها بهدوء كما الصمت في الأحلام:

ـ ولكن أين أنت الآن بالضبط؟ هل في أحضان الموت الباردة؟ أم بين أنياب خاطفين مجرمين؟

ـ ألا تراني يا ماكس؟ أم أنت لا ترى إلا عظام من ماتوا قبل ستة آلاف عام؟

فجأة ظهر كاهن قديم يرتدي زيه السومري، يتبعه حرس مدججون بأسلحتهم القديمة، دروع وسهام وسيوف، تقدموا من ماكس وبانحناءة خفيفة قال الكاهن:

ـ سنأخذها إلى المعبد، وندفنها على الطريقة الملكية السومرية، هذا يعني إنك يا ماكس ستدفن معها، سنضع بجانبك ما يكفي من النبيذ المسموم قليلا،... سنجعل موتك مرحا وسريعا ولن تشعر بآلامه التي يتحملها الناس العاديون، وسنجعل العذراوات المنذورات يعزفن لكما ترنيمة الوداع على قيثارتهن المقدسة، لا تمانع، ألم تقل أنك تحب أجاثا أكثر مما تحب نفسك، الآن حانت ضريبة هذا العشق الكبير!

حاول ماكس أن ينتفض، صاح بوجوههم خائرا، حتى إنه لم يسمع صوته يخرج من حنجرته: "معذرة، لم نفعل شيئا سيئا، أردنا فقط أن نعّرف أحفادكم بشخصياتكم العظيمة!" وبينما كان حرس الكاهن يمسكون به، يقيدون يديه، ويقتادونه، فجأة أخذت الأهرامات تزحف على عجلات ضخمة وتقترب منهم بسرعة، تفتح أبوابها ويخرج منها رجال بثياب فرعونية، وبوجوه مومياءات وهياكل سود، يشتبكون مع الحرس السومري في جدل متواصل، يجعل الكلمات تنتقل من أفواههم مكتوبة في الهواء، كلهم يتحدثون الإنجليزية بطلاقة ووضوح فلا يبقى لدى ماكس شك في ما يقولونه :

ـ هو وأجاثا كريستي جاءا ينبشان في مقابرنا ليقلقا راحة موتانا! سنقوم بتحنيطهما مع مجموعة من الذئاب والثعالب والأفاعي ونعلقهم عند باب الهرم، ليعرف من يزورنا مصير أعدائنا!

والسومريون يقولون:

ـ بل سنشنقهما على أبواب بابل!

قرروا اقتسامهما، شرعوا في قطع ماكس إلى نصفين، صارت كل جماعة تمسك بطرف منه،تجذبه إليها، أحس بآلام هائلة، أفاق من نومه لاهثا! عب قدح الماء كله، واعتدل جالسا في السرير، ما هذا الذي يجري؟ يبدو أن السومريين والفراعنة غاضبون علينا، ماذا حدث لأجاثا؟ ما هذا الطوفان من الرعب الذي يجتاحني ولا عهد لي به في هذه البلاد؟ لو فقط أستطيع التفكير بهدوء لاهتديت لمكان أجاثا! أجاثا ما تزال حية، موروثات هذا البلاد تقول: من تراه ميتا في المنام؛ هو حي في الحياة،وبقوة، وعمره سيطول أيضا، بذلك ستعيش أجاثا عمرا طويلا،معجزات كثيرة وقعت على هذه الأرض، لم لا تقع هذه المعجزة الصغيرة؟ظل في سريره صافنا، يستعيد تفاصيل الكابوس،مرات، ويهرب منه!

 

هذه الأوراق أخطر من جثة مشتبه بها!

وقع بصره على حقيبة أجاثا الكبيرة مركونة إلى جانب الدولاب الواسع، نهض إليها، تحرج أن يفتحها،لم يعتد التفتيش في حقيبة أو خزينة لها، عندما قلبت ملابسها أو أشياءها الخاصة، في الدولاب،فذلك لأن ما فيه من ملابس وأوراق وأشياء صغيرة كان مشتركا بيننا، لكن حقيبتها هي شيء حميم خاص بها، ،وعليَّ التريث في تقليب محتوياتها، هذا لا يريحني، وقد تدخل أجاثا فجأة وتجدني أقلب في أشيائها الخفية، فيصعب علي أن أوضح لها دوافعي للبحث فيها، ماذا أقول لها؟ رغم كل الحب والعلاقة العميقة بيننا، وقراءتنا للرسائل التي تصلنا معا، فقد أبقيت،وأبقت هي أيضا؛ مساحة معينة هي سر خاص لكل منا، ربما كل منا مستعد لكشفه للآخر، ولكن تحت مبررات مقنعة. وهل هناك ساعة عصيبة غير هذه الساعة العصيبة للخوض في خصوصيات بعضنا؟ لم تكن الحقيبة مقفلة، كانت مفتوحة تقريبا، فقط هي مضمومة الجانبين، ذلك شجعه على إخراج ما فيها بهدوء، لم يكن فيها سوى ملابس الخروج، وبعض ملابس داخلية ما تزال في أغلفتها، لم تفتح بعد، وبعض أكياس زهورات جافة، وسفرجلة من الموسم الماضي، وقد نضجت كثيرا، أعطت الثياب رائحة طيبة، طريقة قديمة لتعطير الملابس تعلمتها من عائلة موصلية عريقة كانت صديقة لنا، لكن ثمة جيبا، ملصقا بالجانب الفوقي للحقيبة، لم يكن سريا، بل كان مخفيا بعض الشيء، ثمة ظرف أسمر سميك، عليه عبارة بخط يدها: " اختفاء ولفريد ثيسجر، في الربع الخالي، مغامرة بين مضارب شيوخ القبائل العربية في الخليج!" وثمة عنوان آخر بالخط الأحمر، " ولفريد ثيسجر يبحث عن بنت المعيدي،تصاعد الحب في أطواره المختلفة حد القتل" ما هذا؟ كيف غفلت أنا عن هذه الأوراق الهامة والخطيرة طيلة هذه الساعات القاسية؟ولكن لماذا لم تضعها أجاثا مع أوراقها عن رواية القيثارة؟ هل فقط لأنها ستعمل عليها لاحقا، أم هي تريد إخفاءها عني؟ لماذا قالت "اختفاء ولفريد" ولم تقل "اكتشافه للربع الخالي" برحلة معروفة. هل في مخيلة أجاثا فكرة عن رواية تجعله يختفي فيها في الربع الخالي، ويا من يبحث عنه في هذا العماء الرملي! أهي قصة بوليسية أم فلسفية؟ هل في فكر أجاثا رواية يقتل فيها ثيسجر حبيبته بنت المعيدي الذي هو هائم غائب عن نفسه باحثا عنها؟ لا أدري ماذا أقول الآن! فأجاثا لا تستريح حتى تحول العرس إلى مأتم، وعناق الحب إلى طعنة قاتلة، ثم تكتب عنها رواية، ذلك حظها وحظي! علي أن اقرأ أوراقهما جديا، وأفكر بها بتأن قبل أن أحكم بشيء، ولكن الوقت يمضي وقضيتها على نار ملتهبة، ولا تحتمل صبرا ولا تضاربات في الآراء والأفكار! هذه ساحة كبرى أخرى علي أن أبحث فيها عن أجاثا؟ وقد أبحث في أوراق ولفريد ثيسجر أيضا؟ ترك ماكس الحقيبة مفتوحة. وضع المظروف جانبا على الأرض. تلمس باحثا عن جيوب أخرى. لم يجد شيئا. تذكر وكما في كابوس أنهما في ليلتهم الأولى في الفندق التقوا في قاعة الاستراحة بطابقه الأرضي، بالمستكشف الإنجليزي ولفريد ثيسجر وأجانب كثيرين، إنجليز وأوربيين. دهشت لوجوده في الفندق وفي بغداد دون أن نعرف أنا وأجاثا، رغم قوله إنه لم يأت سوى قبل يوم واحد. شغلنا عنه أنا وأجاثا في أحاديث مع بعض الأجانب كانوا معجبين بأجاثا، لكن استوقفتني لهفة أجاثا وهي تلتقى ولفريد ثيسجر، ضمته إلى صدرها بحنان وحرارة واضحتين، رغم إنني لم أعتد الغيرة من أصدقاء أجاثا ومعارفها، لكنني شعرت أن في اهتمامها بثيسجر شيئا غريبا لم أدرك كنهه. هو صديقنا تردد علينا في بيت الآثارين كثيرا، واستقبلنا بحفاوة واهتمام؛ ضيفين عنده في الأهوار قبل فترة؟ كان يتحدث عن هذه المستنقعات المائية الشاسعة كأنها أضحت ملكه، أو محميته الخاصة. حرص على راحتنا وإسعادنا،وتحدث لنا عن كل شي صادفنا في الهور،أو خطر له عنها! كان لا يتوقف يروي الحكايات عن البنت الفاتنة التي تدله بحبها كثيرا والتي تدعى "بنت المعيدي"، لكنني شعرت وكأن جوا أو مزاجا غامضا بينه وأجاثا. لم أره في مطعم الفندق أو ردهته،بعد ذلك، كأنه اختفى فجأة،هذا يوخز قلبي، ويثير شكي ،لماذا اختفى في نفس الوقت الذي اختفت فيه أجاثا؟ هل من المعقول أن أجاثا رحلت معه؟ هرع إلى استعلامات الفندق، قالوا إنه غادر الفندق في ساعة مبكرة من الصباح، كأنها نفس الساعة التي اختفت بها أجاثا! بالطبع هما لا يمكن أن يخرجا من الفندق مترافقين معا، موظف الاستعلامات يقول إنه لم ير أجاثا تغادر الفندق، لكنه أكد أن ثيسجر غادر مبكرا جدا حتى أنه دفع حسابه في الليل. هذا جعل ماكس يفكر أن ثيسجر كان يعد لرحيله ومن معه بعناية ودقة! أيمكن أن تكون أجاثا بهذه الخفة والجنون فترتكب هذه الحماقة؟ أكان ثيسجر في حديثه وحكاياته المختلقة أو الصحيحة عن بنت المعيدي، وتدلهه بها يكذب علي، ويريد التغطية على حبه وتعلقه بأجاثا؟ لا أدري! بدأ هذا الرجل يحيرني حقا! عاد إلى حجرته ووجه ثيسجر بقسماته الجذابة الآسرة للنساء تملأ ذهنه! فكر أنه سيعرف ما حدث لأجاثا مع ثيسجر من هذه الأوراق، في الأقل طبيعة مشاعرهما نحو بعضهما، لابد له من قراءتها وتمليها بتأن، إنها اخطر من الجثة التي يشتبهون أنها لأجاثا، جلس في الشرفة. وجد الحجرة تكاد تخنقه. جاءه عامل الفندق، لم يدعه يفتح فمه، نهض مسرعا قبله يهبط الدرج كان تلفون ريتشارد في انتظاره، بكل برود قال:

ــ لم تكن جثة أجاثا، علينا أن ننتظر...

خشي أن يقول ريتشارد الغبي "ننتظر جثة أخرى"، قاطعه شاكرا،شعر براحة عميقة، توقف ، كأنه ليبتهل شاكرا الله، يتشرب النتيجة الطيبة. عاد مسرعا إلى حجرته، يشعر أنه الآن يمسك بطرف الخيط الذي سيقود لأجاثا حية، وربما عاشقة من جديد، وليست جثة هامدة، وفي هذه الحالة وقد خانته هل سيتمنى لو أنها كانت هي الجثة الهامدة؟

 

جأءنا ومعه عاصفة من الغبار، كأنه يجر خلف الربع الخالي!

جاء ولفريد ثيسجر إلى بيت الآثاريين قبل عامين، هو من بحث عنا، شهرته الكبيرة تسبقه مثيرة غبار الصحارى، فهو البطل الإنجليزي عابر الربع الخالي مستعينا بإدلاء شبان من عرب عمان ودبي، وبمباركة ودعم مالي سخي من أمرائهم وشيوخهم. طويل القامة، متين، بوجه بيضوي أشقر، وشعر ذهبي، وعينين زرقاوين حادتي النظرات. ورقبة طويلة حمراء عليها بعض الأخاديد التي تنم عن مواجهات طويلة، وصبورة لمناخات قاسية وتقلبات حياة جافة. كان دائم التلفت بنباهة،وسرعة بديهة، مع تجهم يبدو أحيانا عذبا كابتسامة، متدفق الكلام، لا يفتأ يروي الحكايات التي تصغي لها أجاثا كطفلة مبهورة، كأنها ليست هي الروائية العظيمة! يتمتع بجاذبية لا تقاوم، لاحظت أن أجاثا تهتم به كثيراً، بل خيل إليَّ إنها تتطلع إليه باشتهاء، أم تراها مخيلتي التي مرضت الآن بسرعة تدفعني لهكذا تصورات وتهيؤات سيئة وجارحة؟ جاءنا مع صديقنا الباحث في الآثار السومرية مستر هاري شبرد والذي كان تلميذا ومريدا للمنقب الكبير ليونارد وولي رائد التنقيب في أور منذ أوائل العشرينات ومكتشف القيثارة الذهبية العظيمة في المقبرة الملكية السومرية. تعرف عليه ثيسجر في مدينة الناصرية، كانت لديهما اهتمامات مشتركة كثيرة، يحتملان المشاق الكبيرة من أجل المعرفة مهما صغرت. نزلا معنا في البيت، أفردنا لهما، حجرتين في الطابق العلوي، في الصباح التأمنا في جلسة هادئة بعد أن فرغنا من الفطور، قال ثيسجر " أحببت الحجرة كثيرا؛ لأنها تطل على النهر،وأسمع منها غناء وصيحات الصيادين التي تطربني، صرت بعد طوافي في الأهوار؛ لا أطيق البعد عن شواطئ الأنهار، صرت أشك أنني استطيع أن اقتحم الربع الخالي مرة أخرى، السباحة بالرمال بين الأفاعي السامة، والرياح الحارقة، أفظع من السباحة في لجة بحر يعج بسمك القرش والحيتان، وأصعب مغامرة في هذه الدنيا، فظاعة أن ترى موتك يتقدم إليك مغمورا بالنور الساطع لا بالظلام! يضحك قائلا وهو ينظر إلى أجاثا ( هل، الآن فقط، صرت أتذكر إنه كان ينظر إلى أجاثا؟) :

ـ الآن أسأل نفسي، أحقا أنا قطعت صحراء الربع الخالي؟ ذلك الجزء القاحل الذي يبدو وكأن السماء قد نسيته منذ ألقته من يدها على الأرض عند بدء الخليقة! أشتاق إليها، وأتردد!

قالت أجاثا دون أن ترفع رأسها عن جورب تقوم بحياكته لي بحنانها المعهود الذي أكثر ما يؤلمني أنه باختفائها؛ صار موضوع شك وتمحيص عندي:

ـ صحراؤك يا ولفريد ثيسجر تقابل البحر الميت، هي بحر من الرمال هل رمالها، مالحة؟

ضحك وهو يقول بصوت صلب معدني:

ـ تجاوزت مرحلة معرفة طعمها، كيف عرفت أن ما دخل فمي ورئتي من رياحها جعلني عمودا من الملح؟ اذهبي يا أجاثا إلى هذه الصحراء قبل أن تفقد عذريتها وتمتلئ بالبشر، والأفظع بمحطات البترول؛ فقد عرفت أنها تزخر بالنفط والمعادن الثمينة والسعوديون والعمانيون والخليجيون الآخرون تنبهوا إليها، ويزمعون استثمارها قريباً، تعالي لنراها برحلة مشتركة قبل أن يغمرها الدخان بدلا من عبير زهور الشيح و الخزامى المقاومة للهجير بمزيد من العطر! كان مهووسا باكتشافاته، قلقا ، فوضويا في مشاريعه، مرة يقول "أريد أن أنقل اهتمامي من سطح الأرض إلى باطنها، وألج ميدان البحث عن آثار العهود البعيدة في هذه البلاد المحتضنة أكثر من نصف التاريخ البشري". ومرة ينفض يديه من الآثار ويتجه لمشروع آخر هو أقرب للمغامرة! قال: جئت إلى العراق،بعد أن وصلتني رسالة من صديقي الدكتور هكسلي زميل مالوان في فرقة التنقيب في أور، وأخرى من صديقي هاري وهما يدعوانني إلى أور للتنقيب في جنوب العراق، ومناطق أخرى، رغم إنني لست مختصا بالآثار،ربما كانا يطمحان أن أوظف علاقاتي مع موسرين في لندن والخليج العربي لأحصل لهما على تمويل لبعثاتهما للتنقيب في العراق أو مصر، حيث نشأت الحضارات الأولى متزامنة، وكانت ثمة جسور خفية بينهم، سيكون مفاجأة علمية أن نكتشف تلك الجسور وامتداداتها إلى اليونان لتنبثق حضارتها لاحقا. بذلك سنجد جذر الحضارة الأوربية والغربية! أحاديث هاري الطويلة مع هكسلي جعلت طموحي يمتد إلى الصين والهند وإلى حضارة المايا في أمريكا الجنوبية، كم تمنيت لو يمتد بي العمر لأنبش عن جذور الإنسان وطفولته لنوطد الأخوة الإنسانية.وندرك القدرات الكامنة لدى الشعوب المتخلفة الآن بعد أن كانت في أزمان سحيقة مبدعة منتجة. انطفأ حلمي في التنقيب، لا أدري لماذا، شيء مثير صادفني في العراق! قاطعه هاري قائلا، وهو يفتل شاربيه الذهبيين المبللين دائما بالبيرة:

ـ أتمنى لو يضم ثيسجر طاقته الكبيرة الخلاقة إلينا في التنقيب خيرا له من التيه على الرمال أو الماء! اقترحت أن يفرضوا على الشركات التي تحفر بحثا عن النفط تمويل بعثات التنقيب عن كنوز الحضارات القديمة، كل متر هنا يمكن أن تجد تحته قطعة حية من ذاكرة البشر!

عاد ثيسجر يتحدث:

ـ قضيت يا عزيزي هاري معكما وقتا طيبا، اكتشفت إن عدم امتلاكي اختصاص في الآثار سيجعل الآخرين يشكون بدوافعي، يظنونني أعمل لأغراض تجارية أو استعمارية، وكلا التهمتين تؤلمانني! فكرت بارتياد بادية الشام، ورحت أرتب لرحلتي إليها، قال لي هكسلي: أنت مشتت الذهن، مبعثر الهموم، لا تعرف ماذا تريد، تدير ظهرك لكنوز الحضارات وتذهب لتدفن أيامك في الرمال المليئة بالأشواك والثعابين! لكن مفاجأة غريبة حصلت ، منحت هكسلي دليلا آخر على تشتت تفكيري، وتيهي وضياعي، صرت فجأة أفكر بالمعدان وموطنهم الأهوار!

أخذ ماكس يقلب الأوراق بعجالة، وقلق شديد، قال في نفسه يصعب العثور على ورقة تقول أن ثيسجر وأجاثا في علاقة خاصة حميمة وإنهما قد اتفقا على شيء ما، وأقدما على مغامرة طائشة! إذا أردت أن أقرأ هذه الصفحات من أجل التحقق مما حدث فعلي،أن أقرأ ما وراء سطورها وهذا يتطلب مني هدوء نفسيا، وبرودة أعصاب، هل أنا الآن كذلك؟ لا ، لكن إهمالها أيضا يزيد مخاوفي، أي شيء أفهمه منها قد يلقي ولو قليلا من الضوء على ما أنا فيه. ينبغي أن أحذر من أية استنتاجات أو حكم نهائي قد أندم عليه. رغم إنني لم أر هذه الأوراق سابقا لكنني أعرف طبيعتها والغرض منها، ما زلت أتذكر أن ثيسجر سأل أجاثا:

ـ هل تستطيعين يا أجاثا أن تكتبي مغامرتي، في الربع الخالي وأهوار العراق في رواية؟

صمتت أجاثا برهة، قالت:

ـ ربما تعرف، أنا تشغلني الحبكة الفنية البارعة، رحلتك مشوقة مثيرة، ومفخرة لبلادنا إنجلترا وعلي أن أجد مدخلا دراميا لها، ويسرني أن أكرس جهدا لكتابتها بنص جميل وجذاب، لذا عليك أن تزودني بمذكراتك أو ملاحظاتك التفصيلية عما شاهدت وسمعت أو خطر ببالك، وأتمنى أن تصبر علي بعض الوقت ريثما تختمر في ذهني، وتصير جزءا من حاستي الخاصة!

فرح وثيسجر، وأشرق وجهه :

ـ سأكتب، لدي صفحات كتبتها عن الربع الخالي، تلك الفلاة المثيرة، أتمنى أن تروق لك!

ـ دون لي كل ما يعن على بالك ،أريد كل التفاصيل الخاصة برحلتيك، في الربع الخالي والأهوار وجوهما العام، حتى أنا لا أعرف أية جزئية هي التي ستقدح ذهني وتجعلني أضع يدي على مفتاح صندوق روايتك، أية ذرة رمل تدخل المحارة فتصير هي نواة اللؤلؤة! لا أريد أن أرى أحداث رحلتيك في الربع الخالي والأهوار مرتبة كما وقعت في الزمن، بل من خلال روحك أنت، أكتب أي شيء، لا تقل هذا أمر قد لا يهم أجاثا، لا ، أنا لا أمل من الإسهاب، فهو سيكون في الكتابة الروائية موجزا وبقدر ما يحتاجه القلب البشري ليعبر عن مكنونه!

كنت وأنا استمع لها؛ مندهشا؛ أنها قد أعطته تقريبا معظم خبرتها الروائية، وهي نادرا ما تتحدث أو تبوح بها لأحد!

 

هل هو مكتشف صحارى ومستنقعات؟ أم هو شريد تائه يبحث عن نفسه في الرمال والماء ولا يجدها ؟

خرج هاري إلى المدينة، وبقي ولفريد ثيسجر في حجرته. قال إنه يريد أن يكتب شيئاً مما وعد به أجاثا. ألقت أجاثا عدة الحياكة،انصرفت للآلة الكاتبة، أحيانا تلجأ للحياكة حتى لو كان هناك ضيوف بعد أن تستأذنهم، أحيانا تتخذ من خيوط الحياكة ستارا أو جدارا يعزلها عن أحاديث الضيوف إذا كانت مملة، خاصة أولئك الذين يترددون علينا في مكان العمل في نينوى، لكنني لمستها تقبل على أحاديث وثيسجر وهاري بكل جوارحها. تقول إن نفذات الحياكة المنتظمة تعلمها أن تحبك أفكارها الروائية بنسيج دقيق محكم. بدأت حروف آلتها توقع ألحانها العذبة فارتحت. انصرفت أنا لعملي، لدي الكثير من جرد الحسابات، والفهرسة للقطع الأثرية المكتشفة. هي تستثار بالموضوعات الجديدة لا بمن يأتي بها. لا أعتقد أن لأجاثا اهتماما خاصا بثيسجر. لكن هل يطمئن قلبي؟ لماذا هذا الصمت المجنون الذي يؤجج الظنون الرهيبة في عقلي؟

ذلك الأصيل، ظل ثيسجر في حجرته لا ادري إذا كان ما يزال يكتب أو يقرأ،أو ممارسا هوايته في النظر عبر النافذة الكبيرة إلى دجلة وشواطئه تعج بالطيور والصيادين والعابرين. عاد هاري متعبا بعض الشيء لكنه حمل بعض الأطعمة والفواكه، والخبز الساخن، جمعتنا مائدة عشاء استغرقت لأكثر من ساعة وجلسات سمر، استمعنا فيها إلى موسيقى كلاسيكية، من اسطوانات جديدة اشتريناها من مكتبة مكنزي سمعت أجاثا تقول لثيسجر :

ـ أنت مثلي يا ثيسجر تحب موزارت، أنغامه الرومانسية، والتي اسميها أنا بالريفية، تعيدني إلى أيام طفولتي في الريف الإنجليزي، فهي عبقة بشذى الورد والعشب المظلل بالغيوم!

كلامها لسع قلبي وراودني الشك لأول مرة! حين فتح هاري زجاجة ويسكي جلبها معه من لندن، وهم بصب كؤوس لنا، رفضنا ثلاثتنا الشرب، شرب هاري لوحده، وضحك منه ثيسجر قائلاً:

ـ ستشرب مثل عصفور وحيد تحت المطر!

رد هاري ضاحكا:

ـ ما حيلتي إذا كان سرب العصافير يعتقد أن الغيوم السود مظلة ستقيه من المطر!

ضحكنا وشربنا الكثير من عصير الرمان محفوظا من موسم العام الماضي، جاءنا منه الكثير معبأ في زجاجات هدية من أحد عمالنا في شهربان.الشهيرة ببساتين الرمان، قالت أجاثا لثيسجر:

ـ أنت مثلي تكره الشراب ،وتنهي عنه!

الآن أتذكر أو يتهيأ لي أنها كانت تطيل النظر إليه، أتكون قد وقعت بحبه؟ ومن لا يرى ولفريد ثيسجر، ولا يغرم به؟ هو يمتلك مغناطيسية تستند على قوام رياضي، ورشاقة أكتسبهما من تدربه المبكر على الملاكمة التي أحرز فيها جوائز ومواقع متقدمة في مطلع شبابه، وقد حافظ على لياقته البدنية الفائقة، وقوة شخصيته، عبر حياة نشيطة غنية متعددة الروافد والآفاق. خفة دمه يصعب أن توجد عندنا نحن الإنجليز في مناخنا الثقيل. اكتسبها هو من الأسفار الكثيرة ومعاشرة الناس والانطلاق في العالم، وهذا ما جعله جذابا ومعشوقا بجدارة، رغم شطحاته التي تجعلني أصفه بالجنون أو العته! جلسنا بعد العشاء نحتسي العصائر ونتبادل أحاديث شتى، حدثنا ثيسجر عن الشكوك التي تلاحقه بين المعدان الذين اسماهم عرب الأهوار، بعضهم يقول إنه جاسوس:

ـ وماذا لدى أهل الهور لأتجسس عليهم ؟ هل جئت أسجل عدد ما لديهم من جواميس ودجاجات وكلاب ومشاحيف؟ لأرسلها إلى وزارة الدفاع البريطانية في لندن؟

حمل ماكس أوراقه، ليذهب بها إلى الشرفة،أحس الشرفة مخيفة، وثمة ضوضاء تأتي من جهة النهر،تقطع تأملاته الغائرة عميقا، أحكم إغلاق باب الغرفة، ومضى إلى السرير، لم يتمدد،جلس وسطه متربعا، متكئا على المخدات وقد جمعها خلفه، ومضى ساهما "لا تنفعل يا ماكس! انظر للأمر بهدوء أقرأ الأوراق بدقة، وتأن لتصل إلى الحقيقة، لا تظلم ثيسجر، لا تظلم أجاثا!" وأخذ يقلب الأوراق، وجد بينها صورة فوتغرافية، ما أن ألقى عليها نظرة عامة حتى أشاح عنها، وجدها صورة رهيبة، ما فهمه منها الآن يكفي لكي يجد أنها تحمل دلالات مقلقة ومخيفة، ركنها جانبا، قرر أن لا يعود لتأملها والوصول إلى حكم بشأنها ألا بعد أن ينتهي من قراءة الأوراق التي وجدها، كثيرة، قد تورثه الملل، رزمة سميكة،بسطور متراصة! كما أن ثيسجر يسهب في الكلام، هو يسهب في الكتابة أيضا. كان قد دعانا للسفر معه إلى الأهوار في شتاء العام الماضي. كنا أنا وأجاثا ولومبارد هيلي وكاترين قد زرنا الأهوار عدة مرات، بحثنا وتناقشنا في أصول سكانها، ونصحناه بالتريث في نسبتهم إلى السومريين قبل دراسة علمية متأنية، هو مندفع وراء حلم رومانسي، أن يتصور بنت المعيدي التي سلبت لبه كما يدعي هي حفيدة السومريين وحضارتهم الرائدة،والموغلة في القدم! وجدته يتحدث متنقلا بين عدة موضوعات تثقل ذهنه، يتذكر رجالا رافقوه في رحلته الاستكشافية للربع الخالي؛ فيبدأ بحكاية له معهم، ثم يقطعها فجأة ليقفز إلى قضايا تتعلق برجال ونساء لقيهم في الأهوار، ثم كأنه وصل غايته يتنهد ويأخذ بالحديث الذي لا يمله عن بنت المعيدي ، ثم يظل يدور حول طيفها أو اسمها، وما قيل له عنها وما يحلم به حولها مواصلا الحديث مع أجاثا لتكتب رواية عن حياته واستكشافاته ويطلق ضحكة قائلا:

ـ ما دمت لا تستطيعين أن تكتبي إلا عن جريمة قتل، لنسلم بالأمر، سأدعك تقتلين حبيبتي بنت المعيدي، لتتهمي رجلا انجليزيا بقتلها، ليكن قائد الحامية البريطانية في العمارة أو الناصرية، بل ليكن أنا رغم إنني لا يمكن أن أمسها بأذى حتى لو همت بقتلي! مستعد أن أتحمل أية تهمة أو عقوبة تقوديني إليها، من أجل رواية ناجحة لك ، اجري قلمك على الورق ودعي قلوب القراء تركض لاهثة على الصفحات ليعرفوا من قتل بنت المعيدي ولماذا قتلها!

أتذكر إنني قلت مستفزا له:

ـ روايات أجاثا تزدحم بالفنادق الفخمة، والقطارات المرفهة،والرجال والنساء المترفين الأنيقين، ماذا في الأهوار مما يجلب القارئ الأوربي؟ فهز رأسه ممتعضا!

وتضحك أجاثا وأبقى أنا أتابعه وهو يؤشر بيديه منفعلا كأن بنت المعيدي ستقتل حقا!

ــ أنا واثق أن روايتك ستأتي عميقة جدا وببعد فلسفي !

تعمدت إثارته:

ــ أي بعد فلسفي في رواية عن المستنقعات؟

احتد صوته:

ـ أن تبحث في صحارى الماء عن سراب الماء، وعن طيف جميل هارب، أليس هذا فلسفة؟

وضحكنا ! بدأ ثيسجر يضجرني بلجاجته مع أجاثا بمواضيع لم تجد بها كما قالت لي في حينها حبكة روائية مقنعة، بدأت هواجسي، هل هذا الرجل الغريب يريد يبني مع أجاثا علاقة خاصة، اختطاف الحمامة من عشها، ، متذرعا بالكتابة والرحلات والتجارب الجريئة ،مختفيا وراء قناع حبه الوهمي لبنت المعيدي؟ قضينا معه أسبوعاً، توغلنا في أعماق الهور في زيارتنا الأخيرة، رأينا أجزاء منه لم نكن رأيناها في جولاتنا السابقة فيه. كانت نزهة طويلة رائعة ، رغم ما لاقيناه فيها من صعوبات الإقامة والنوم وهجمات البعوض، ومشقة الحصول على الماء النظيف، في صرائف المعدان المترنحة على الماء. أجاثا قالت:

ـ لا تكفي مئة رحلة لكي نلم بحياة هؤلاء الناس المستغرقين بعزلة مخدرة، كأنها الحلم الطويل لا يدرون متى يفيقون منه ليجدوا الحياة قد فاتتهم كثيرا!

ترى هل ذهبت أجاثا الآن في تلك الرحلة؟ ولكن لماذا لم تقل لي، لماذا تذهب وحدها معه؟ هذا غير معقول، لو كان هذا ما حدث؛ يكون أحدى شطحات أجاثا التي مهما بدت رصينة عاقلة، لكنها لا تخلو من جنون، ربما هي تلتقي مع ثيسجر بهذه الخصال الغريبة، عقل ورصانة وهدوء،ثم فجأة يتهشم كل شيء ويطل الجنون والطيش من مكمن غامض مجهول. أعتقد إن هذا هو سر اختفائها، لاشيء آخر! أم أنا المجنون إذ أفكر بذلك؟ ثيسجر؟ هل جاء إلينا في بيت الآثاريين ليحطم قلبي؟ ماذا فعلت له، وهل يجدي معه نقاش؟ إنه قلق مضطرب،هل هو مكتشف صحارى ومستنقعات؟أم هو شريد تائه يبحث عن نفسه ولا يجدها؟ كانت الأوراق في ظرف خاص ، كتب عليه بخط جميل وسريع كالاختزال وبحبر اسود كأنه من نقيع الفحم "صفحات من مغامراتي في الربع الخالي،التقلبات، عجائب الناس والأرض!كدت أقع في الأسر لدى قطاع الطرق الصحراوية،عيشي بين عرب الأهوار". كان خط ثيسجر ناعما ممزوجا كأنه اختزال، ومع ذلك كان واضحاً أنيقاً يمكن قراءته بسهولة، خاصة من قبل ماكس الذي تعود على خطوط الأقدمين والمحدثين! هذه الأوراق قد تكون أدلة جرمية لا مادة خام لرواية مقبلة! ثمة أوراق أخرى عليها كتابة بالحبر الأخضر و بخط أجاثا: انطباعات عن شخصية ولفريد ثيسجر، قوامه الجسدي الفكري والنفسي! وضع ماكس الأوراق جانبا وراح في شرود عميق! استطيع تفهم أن أجاثا لم تطلعني على أوراق ثيسجر فهي ليست من الرسائل الشخصية التي اعتدنا أن يطلع أحدنا الآخر عليها إذا ما جاءتنا من أي شخص أو مكان في العالم، ولكنني لا أفهم لماذا خزنتها بهذه الطريقة في حقيبة ملابسها وكأنها تريد إخفاءها عني، هل وجدتها مهمة جدا وتصلح لرواية هامة ، كما لا أدري متى استلمتها منه، هل سلمها لها ليلة أمس حين التقاها في الفندق؟ جائز! فانا لحظت أنها قد ضمت أوراقا أخرى إلى الصحف والمجلات الإنجليزية التي ترسلها السفارة البريطانية لنا لنستلمها عادة من استعلامات الفندق! متى كتب ثيسجر هذه الرسالة الطويلة؟ أغلب الظن إنه جلبها معه ليسلمها لها، وربما لم يجد لحظة مناسبة حيث كنت معهما طيلة الوقت، ربما سلمها لها في غفلة مني، أو تركها لأجاثا لدى الاستعلامات. أليس هذا شكلا من المراوغة، ومحاولة إغواء امرأة من خلف ظهر زوجها؟ أم تراني متجنيا عليه؟ وعلى أجاثا أيضا، والأمر كله لا يعدو تعارفاً ثقافيا حضارياً مشروعاً؟ إنه يطمح جادا أن تكتب عنه رواية، لا شيء أكثر من ذلك! لم الظنون الجارحة؟

 

إذا ذهب غريمك إلى الربع الخالي، لك أن تلاحقه، ولكن حذار من منازلته على الرمال المتحركة!

أشكرك يا عزيزتي أجاثا إذ وافقت على طلبي، أن تجري عينيك الجميلتين على ما دونته الآن عن رحلتي من مشاهدات وملاحظات؛ لتصوغي منها رواية لتكون وساما على صدر حياتي كلها! لم يتح جو بيتكم لي أن أتحدث إليك طويلا ، أرجو أن تفهميني، فأنا لا أتحدث عن عاطفة محرجة لك، أو لي، إنما عن مشاعر صادقة، واهتمام بدأ معي مذ قرأت روايتك الأولى، ثم زاد تعلقي برواياتك وبك بعد أن رأيت صورك، وجدت وجهك يوحي بالجمال العظيم والطيبة والسماحة معا. فمضيت أتابع ما تنشرين من روايات وما تصرحين به للصحف من أقوال وأفكار وآراء ومشاريع، ثم انقطعت أنا عن مدنية أوربا، وغبت هائما في صحارى الشرق، واليوم أعود للحضارة، وأي باب لها أهم من إبداعك ورؤيتك لها وللعالم؟ حين عرفت من المنقب هاري، مساعد ماكس أنك هنا في بغداد طلبت منه أن يأخذني معه إلى بيتكم، ويمنحني شرف التعرف شخصيا عليك! دهش ماكس: ثيسجر في الوقت الذي يتحدث عن موضوعيته وتجرده، يحاول كسب أجاثا فيتحدث معها بحميمية وطلاقة، "متبرما من جو بيتنا" : "وتعلقي بك وبرواياتك" كأنها دون زوج ، ماذا يظنني؟ صديقها فقط؟ رجل غريب متطفل عليها؟ عاشقا خائبا وما على ثيسجر سوى أن ينزل لمنافسته على حبها؟ نسي إنني عانقت قلبها بعد قصة حب تقرب من الأسطورة! ثيسجر استهل مذكراته بنداءات إعجاب وهيام لا حق له بها، .هذه ليست أوليات عمل روائي على الورق، بل عمل روائي على الأرض! شباك خديعة وسطو على بيت زوجي آمن، وأجاثا ليست خالية له إلا إذا كان قد استمالها، هل أجاثا معه الآن؟ ثيسجر هذا رجل معتوه ومخبول. لو لم يكن كذلك؛ ما الذي يدعوه للتيه في الصحراء تحت العواصف الرملية ظامئا جائعا زائغ النظرات؟ أو على ماء الأهوار، مدعيا حبه لفتاة رأى صورتها فقط؛ أي مجنون هذا؟ لقد أعطى مثالا تعيسا عنا نحن الإنجليز! إنه ليس غريب ألأطوار وحسب، مشوه العقل والمشاعر. وجد ماكس أن الأوراق هي عدة رسائل كتبها ثيسجر في أوقات وأماكن مختلفة، ظهر له ذلك واضحا ليس فقط من اختلاف الحبر، ونوع القلم، بل من اختلاف الموضوعات التي كان يتطرق إليها! والآن سأعطيك نبذة عن حياتي: ولدت في أديس أبابا،عام 1910،الابن البكر للنبيل ثيسجر الوزير البريطاني في الحبشة، نشأت في بيت بني من القش، والطين على النمط الأفريقي، البنيان الفخم لم يكن من نصيبنا، رغم إننا عائلة سفير التاج البريطاني، كان أبي يؤثر حياة التقشف والبساطة، وعلمنا نحن أبناءه وعائلته عليها، وهذه الخصلة لازمتني طيلة حياتي وساعدتني على تحمل شظف العيش والجوع والظمأ في رحلاتي داخل الربع الخالي،والأماكن الأخرى المجدبة القاسية والخطرة،وستظل نهج حياتي، لكثرة جولاتي وارتيادي لأماكن مجهولة ومنسية؛ اتهموني بالتجسس؛ بينما أنا منذ طفولتي وصباي مولع بالاستكشاف وحب الاستطلاع، وهي من خصال الجواسيس؛ كما هي من خصال الفنانين والمبدعين،أي هي خصلة يشترك فيها الملائكة والشياطين. ذهبت وأنا في العشرين بمغامرة خطيرة لتتبع مجرى نهر أواش في اثيوبيا، خدمت مع القوات البريطانية في السودان، بمنطقة دار فور ، ومنحت رتبة رائد.

يشعر ماكس بالضجر من تفاصيل حياة ثيسجر ويجدها مقحمة ومحاولة لإغراء أجاثا بتاريخه وعائلته لكن لا يلبث أن يجد المبرر لها، فهي مادة خام ضرورية أتفق مع أجاثا على إعدادها لتستند عليها في كتابة روايتها عنه، من حقه أن ينظر لنفسه كأحد المهتمين بالحضارة الإنسانية،المساهمين ببنائها ، وأن يعرف نفسه لأجاثا ، ومن المفيد أن يتعارف الإنجليز العاملين في هذا البلد، فلم الظنون؟ "نلت وسام الخدمة الممتازة، أرسلت في مهمة خاصة إلى سوريا وواصلت دراسة اللغة العربية هناك بعد أن بدأتها في لندن، يبدو إنني كنت محظوظاً حين تعرفت على الجراد،في عملي بمكافحته في السعودية، إذ قادني إلى الربع الخالي فجذبني أعماقه وكاد يذروني مع الرياح لولا إرادة نهضت من داخلي ودعتني لمصارع كثبانه المتنقلة وبقيت واقفا على قدمي! بعضهم يدخل الصحراء يريد الاستحواذ عليها وامتلاكها، أنا يا أجاثا تركت الصحراء تجتاحني، تغزوني مثل امرأة جميلة شهوانية وتسيطر عليّ!عشت مع البدو، قمت معهم برحلات قصيرة، جربت فيها ما يفعله الجوع والعطش والحرارة والبرد في البدن والنفس، كتمارين لمغامرتي الكبرى! سرني كثيرا أن شيوخهم تفهموا أهداف رحلتي ولم يشكوا بي ، مدنا شيوخهم الكبار بالمال والجمال وتعهدوا بحمايتنا، منحنا كبيرهم تصريحا بانتسابنا إليه! فدفع الكثير من الأذى والخطر عنا! تناوبت ماكس انفعالات شتى وهو يقرأ، مرة يصف ثيسجر بالوحشي الخائن، ومرة يلوم نفسه على انفعاله وتطرفه ويقول عنه "لا بد أن أقر، إنه كان مهذبا، وقد لمست غمامة حزن على وجهه، أشعر بصدقه ولا أظنه ممن يخون،أو يغوي المتزوجات، ليجرهن للخيانة. "مساحة الربع الخالي أكبر من مساحة العراق بكثير، تتداخل فيه أرض المملكة السعودية واليمن وعمان وإمارات عربية أخرى ،أي مستطيل كوني هذا؟ رمال زجاجية تلمع كالبرق تحت الشمس أحيانا مثل مرآة تعشي البصر ، كثبانها العالية تنتقل من مكان لآخر خلال ساعة واحدة، ونحن نمضي خلفها وكأننا نطارد غيوما جافة هبطت لترقص على الأرض!هل رأيت وجه إنسان مرة ينتقل أنفه إلى أعلى أو أسفل، ومرة ينتقل فمه أو عيناه أو أذناه من موضع إلى آخر في وجهه، هكذا وجه هذه الصحراء،رسام عظيم قدماه غائصتان في الرمل ورأسه في السماء يرسم لوحاته الهائلة على هذه الرمال كلما أكمل لوحة من الألق الأصفر والأحمر والتجاعيد بحجم وديان وتلال محاها بيده الضخمة ورسم لوحة أخرى على الفور،لا معالم ثابتة نستدل بها، يجب أن نثبت وجه هذه الصحراء في ذاكرتنا. على قافلتنا أن تسير في مناخ يتردد بين حرارة 60 درجة مئوية صيفا، إلى 7 مئوية تحت الصفر شتاء، وقد يكون هذا كله محتملا، ما لا يحتمل وحشة هذه الصحراء وفراغها الهائل حيث نسير ونسير دون هدى، ودون هدف! باختصار لو قلنا أن المتاهة قد تجسدت على الأرض لوجدنا أنها الربع الخالي! إذا فكرت أن تكتبي رواية عن الأبدية واللانهاية،والتيه المطلق فتعالي معنا في رحلتنا المقبلة في قلب هذه الصحراء! ومع ذلك ثمة حياة؛ جرابيع وأرانب وضب وأفاعي وطيور الحباري والقمري والعناكب والقوارض، أكمات شجيرات تغمرها الرمال، ثم لا تلبث الرياح تأتي وتفكها من سجنها، قالوا إن تجار البخور والعطور ومواد التجميل النسائي سبقونا في قطعها، أنا أصدقهم فجمال المرأة، وما يزيدها فتنة يجعل الرجال يصنعون معجزاتهم! هذه الصحراء علمتني درسا عظيما: أن الحياة لا تقهر ولا توجد قوة مهما كانت غاشمة تمنع انبثاقها واستمرارها، نعم يا عزيزتي أجاثا، الصحراء والرمال يمكن أن تعلمنا أكثر من الكتب،أنصحك أن ترفعي رأسك عن الكتب والأوراق وتأتي لتقرئي كتاب الصحراء! في جوفها أنهار ماء عذب، وأديمها يتشقق من العطش، دليلنا ابن غبيشة يتلو شعرا عن جمل يموت من الظمأ بينما على ظهره قرب الماء، كمثل للعاشق الذي حبيبته قبالته ولا طريق له إليها، لست نادما إنني نثرت سنوات من عمري كما العشب الجاف في الصحراء، تنازلت عن أيام كان يمكن أن تكون مفعمة بمتع ومباهج المدن لأملأ روحي بنور الصحارى، وعبق زهورها اليانعة والجافة، ورائحة البشر حولها ما زالوا فيها على فطرتهم الأولى! كنت أسير على رمال البوادي حافيا لأحس بها تحملني مثل أم حنون ، أرى قرص الشمس ينزل إلى الكثبان ويتوارى تاركا خلفه أعماقي وقد تأججت بوهج حنين إلى السماء! أسير والقمر يداعب شعري بنور رقيق وحين تحل العتمة، ثم الظلام أغيب لأبعث من جديد مع الفجر! فأتنفس الهواء النقي يدخل رئة إنسان لأول مرة! كان غذاؤنا التمر واللبن المجفف، نحفظه لأشهر على ظهور الجمال، تمرة واحدة نقطع بها أميالا في الصحراء، يا عزيزتي أجاثا: الصحراء هي الحرية، هي الصراحة المطلقة، هي الأمل في أقصى حالات يأسه ينهض من الجدب، قد لا تكون الصحراء مريحة زاخرة بنعم وخيرات المدن، لكنها سخية في التعويض، تمنح العدل والأمل من الرمل، والبساطة من الجبروت، رأيت العبودية وضيق الأفق تتفتت في الصحراء، حتى المرأة التي ترسف في قيود كثيرة في الشرق؛وجدتها بين أهلها في الصحراء تصير طليقة سيدة مثل فرس جامحة! لا أنسى أعرابيا قابلته على مشارف الصحراء وجهه اعتصرته الرياح، قال:

ـــ لقد اختفت النار هنا منذ عهد بعيد، لا نار؛ إلا نار القرى،والضيافة والكرم، وما تراه اليوم ليس سوى حرائق صغيرة، يشعلها صيادون ليشووا عليها صيدهم من الطيور والغزلان! النار النظيفة الطاهرة فستختفي باختفائنا نحن بدو الصحراء! لم أحدق بوجهه الغريب وحسب، بل رحت أحدق بوجوه أدلائي أبناء هذه الصحراء كانوا ينظرون إليه حزانى، وقد أوشك بعضهم على البكاء! كيف ينعتون هذا الجزء من الأرض بالخالي؛ وهو مزدحم بالنجوم والأقمار والواحات الغارقة الناهضة، وبالأطياف والأحلام حتى أشباحه كانت أليفة غير خطرة ولا مخيفة، هذه الرمال مهما طمرت من جذوع وهياكل فإنها لن تدفن ذكرياتي! كم تثيرني الرمال المتحركة في الصحراء وكم تخيفني، أعجبتني كلمة قالها رجل بدوي معنا:"إذا ذهب غريمك إلى الربع الخالي، لك أن تلاحقه، ولكن حذار من منازلته على الرمال المتحركة!" قال ماكس أنها حكمة جميلة حقا تنطبق على حالتي مع ثيسجر!

 

ماذا، لو جذبت خطاك أسوار جنة عاد؟

كنا نسير ليلاً، قافلة من عشرة رجال، جمالنا تكاد تنوء بنا وما معنا من معدات، كنا في أواخر الربيع، نتحاشى المسير نهارا ، لهيب الشمس الحارقة يجعل ذرات رمال السوافي بقوة حبات الرصاص المنطلقة من بندقية نشيطة. مال القمر للاختفاء، وثقل الظلام وغدا خيمة من قماش أسود أعمدتها رؤوسنا ودوابنا المنهكة، لكن جمالنا كانت تغذ السير كأن في داخلها خريطة دقيقة لمسالك ومغالق هذه البيداء العظيمة. فجأة ندت شهقة من رفيقي شهاب العز وهو رجل من ظفار، كان جمله يسير جنب جملي، فهو دليلنا ومستشار رحلتنا والمسئول عنا أمام شيوخ. في دبي وعمان والبحرين لكنه يقول: أنا مسئول أمام ضميري أولاً عنكم! وتلفت صوبه كان يصيح:

ـ أنظر! أنظر!

لم أتبين شيئا حولنا خلل الظلام، لكنني أحسست بيده تشير أمامه، بل خيل لي إنني رأيت ومضة نور خاطفة على وجهه، كأنه غاب عني والقافلة،وعن نفسه، راح يصيح:

ـ عاد.. عاد، أرم ذات العماد!

كان قد أوقف جمله عن المسير، فجذبت جملي أيضا وتوقفنا، توقفت القافلة كلها،صاح:

ـ انزلوا، انزلوا، لنجلس! ثم نرى كيف يكون مسيرنا!

لم يسعني سوى الامتثال لمشورة هذا الرجل التي هي بمثابة أوامر، إنه خبير بمسالك الصحراء، ملما بذاكرتها الرملية المتحركة الزائغة، كل يوم هي بفعل الرياح بعيدة عن أية سكينة أو هدوء، أيام وساعات الماضي والحاضر ، عواصف تلعب لوحدها كما في بكارة الكون الأولى، لشهاب العز مع الصحراء، وجبال ظفار رحلة العمر كله، وحيث أن الربع الخالي امتداد لا نهائي لا يجرأ أحد على الغور فيها إلا لمسافة محدودة؛ فإنه يمضي بعيداً يجوبها هادئا مطمئنا مع جماعة،أو لوحده يستره لثامه ورموش عينيه التي بدأت تشيب. حافظا تضاريسها عن ظهر قلب:

ـ صرت أسير في هذه الصحراء كأنني أسير داخل قلبي!

سألته مندهشا:

ـ وهل يمكن للمرء أن يسير داخل قلبه؟

ـ نعم حين ترضى بدنياك، تألفها وتحبها، تصير هي في قلبك، وحيثما سرت فيها تكون في قلبك!

عجبت لهذا الرجل الأسمر الرشيق، النحيف الجسد، الذي بعيني نسر، كيف يجد رضاه وقناعته في تلال، ووديان من الرمال الجافة، فيجعلها قلبه وضميره! نزلنا بهدوء، أوقدنا النار وسخنا ما لدينا من ذخيرة القهوة المعجونة، بعد أن أضفنا إليها القليل من الماء، وأخرجنا كسر الخبز، وقليلا من التمر، وجلسنا نقضم ونحتسي القهوة بفناجين صغيرة، وقد خيم علينا صمت ووجوم، كنت أنتظر من شهاب أن يتحدث ويقول لماذا هذا التوقف، ما الذي حدث وما هو معنى صيحته: "أرم ذات العماد"، صرنا نحظى بلمحات من وجوه بعضنا على وهج النار والجمر من حطب الشجر الشوكي الصلب الذي نحمله معنا! شعرت أن رجالنا يعرفون ما حدث، لم أشعر أنهم ينتظرون توضيحاً، قال:

ـ أتعرف ماذا رأينا؟ إنه وهج قصور جنة عاد الذهبية؛ تومض لنا من تحت الرمال، تريد أن تغوينا لتبتلعنا! لو كنا سرنا خطوات أخرى لانجذبت أرجل جمالنا إليها؛ ولظلت تسير بسرعة خارقة؛ حتى لا تترك لنا مجالا للنزول عنها، ثم تغور بنا في مهاويها السحيقة،ومن ينزل إلى قاعها يختفي إلى الأبد، ولا يظهر إلا يوم القيامة، وفي جهنم طبعاً!

بقيت أتطلع إليه، لم أكن استغرب هكذا ضرب من الأساطير، حين أتيت هنا كنت أعرف إنني سأغوص في رمال الأسطورة والخرافة والأخيلة الشعبية العجيبة، فأذهان هؤلاء الناس خصبة ثرية بالأحلام، إذا لم يجدوا أسطورة؛ صنعوها! ما دامت أيديهم مغلولة عن العمل والحركة وإنتاج المادة، هكذا كانت انطباعاتي؛ لكنني أبدا ما كنت لأتصور إنني سأتعثر في الصحراء بواقعة كهذه! سكت، لكن شغفي ازداد؛ كنت بالصمت أحثه على الكلام،كان قد قارب الستين، وجهه مليء بالغضون الحادة، ظل يحتسي القهوة وينفث دخان سيجارته، موليا ظهره عن وجهتنا التي رأي منها النور المتوهج! شعرته يتحاشى ذلك، كما يتحاشى تغيير مسارنا الآن، لأمر لا أدركه! مال إلي دون الآخرين:

ـ هذه بقايا جنة عاد، أرم ذات العماد، أسلافنا يقولون أن الملك شداد بن عاد،هو من كان قبل ثلاثة آلاف عام؛ يحكم هذه الأرض الشاسعة الممتدة من اليمن حتى أطراف الربع الخالي شاملة عمان ودبي وجزءا كبيرا من نجد وشواطئ الخليج العربي! وكان هو وقومه يعبدون الأوثان، فجاءه رجل من قومه يدعى هود حاملا رسالة من الله! نصحه أن يؤمن بالله الواحد الأحد، ويكف عن عبادة الأصنام، ويقيم العدل بين الناس، لكي يرضى الله عنه، ويهبه وقومه جنته العظيمة! ضحك الملك الجبار المتعجرف من النبي، قائلا! أي سخف هذا؟ كيف أومن بما لا أراه؟ رد هود: إذا آمنت به ستراه! سأل شداد: وإذا لم آمن به، ولم أطعه، ماذا سيحدث؟ أجابه هود: سيكون مصيرك جحيم فظيع لا أتمناه لك، ولا لقومي أبدا! سخر الملك منه، ما هذا الهراء؟ وهم بطرده ولكنه تريث قليلاً، وأخلد للصمت! هذا يعني أن كل ما لديه من نعيم وترف ونساء كثيرات وخيرات وفيرة، منح الفتات منها لرعاياه، ليست شيئاً أمام جنة الله! وإن هذه الدنيا الجميلة ستفني سريعا، وسيهجع هو تحت التراب في موت طويل بانتظار حساب عسير، ما هذا؟ أهي مصيبة كبرى حقا، أم مجرد هراء رجل يدعي النبوة؟ صاح بهود: "صف لي جنة إلهك!" فراح هود يقول: هي جنة وارفة خضراء، عرضها السماوات والأرض، قصورها من ذهب وفضة، تجري من تحتها الأنهار من عسل وخمر وماء عذب، جواري حور عين وغلمان، لا عمل فيها ولا مرض ولا موت، الكل يجد فيها طعاما وشرابا مما تشتهي الأنفس، وتتمنى القلوب،والكل في فرح وسرور! فكر شداد إنه قد وجد الحل، فهو لو بنى جنة كجنة الله فإنه سيحظى على كل هذه النعم، إنه سوف لا يموت أبدا! ضحك من هود قائلا: "سأبني مثلها، بل وأفضل منها" "كان بودي أن أقطع رأسك ولكن ليس قبل أن أريك جنتي وأجعلك تؤمن بها، وتقر أنها أفضل من جنة ربك، وتكون رسولي إلى الناس تدعوهم للسجود لي!" وظل يهذي ويردد كالمعتوه: من أين جاء الله هذا لينافسني؟ سأسحب البساط من تحت قدميه!

هكذا مضى شداد في طغيانه وفجوره، واسمع يا مستر ولفريد بقية الحكاية! نهض شهاب العز وملأ دلة القهوة ووضعها على النار وعاد يتحدث:

أمر شداد كاهن أوثانه أن يدون أوصاف الجنة، وضعها أمامه، وأوكل لألف من أمرائه، أن يتولوا بناءها، وضع تحت إمرة كل واحد منهم مائة ألف رجل! أمرهم بان يشيدوا قصور جنته كلها من ذهب وفضة وأحجار كريمة! فانطلق ولاة مملكته الواسعة يسوقون الناس يحفرون ليل نهار في المناجم يستخرجون الذهب ويسبكونه على هيئة صفائح للبناء. انطلق الغواصون يحرثون بحار المملكة جامعين اللؤلؤ والمرجان.وجدوا إن هذا لا يكفي فأمر جباته بالانتشار في أرجاء المملكة يفتشون في خزائن البيوت ونحور النساء وأصابعهن،وأسنانهن عن الذهب والفضة والياقوت والزبرجد! وثمة صيحة تلاحقهم: اجلبوا الجواهر حتى ولو من جلود الناس، ومن النطف في الأرحام! صاروا يركضون حتى خلف ذرق الطير معتقدين أنها ذهب يتساقط عليهم من السماء! صنعوا جبالا هائلة من صفائح ولبنات البناء من الذهب مزينة باللؤلؤ والأحجار الكريمة! استغرق جمع كل ذلك عشرة أعوام، واستغرق بناء الجنة ثلاثمائة سنة، وزادوا عليها ثلاثين من أجل التحسينات ومظاهر الزينة والبهرجة! نهضت قصور شامخة من الذهب والفضة؛ تقوم على أعمدة ضخمة عالية من ذهب مزينة بالزبرجد والياقوت، فهي تستنكف أن تلامس الأرض بل تناطح السماء!فسموها لذلك أرم ذات العماد! كان في كل قصر ثلاث آلاف حجرة؛ تشع بقوة فلا تدري هل نور الشمس يأتي منها، أم من السماء! جعلوا أنهار العسل والخمر تجري من تحتها كما في جنة الله، وشذى المسك والزعفران يفوح من مائها وترابها! لكن شداد ابن عاد أضاف لها نهرا من ماء خاص به ينبع من جبل عليه قصره القديم، مع نهر آخر من شرابه المفضل: عصير زهور الخشخاش مذابا بالزعفران والنارنج! أضاف إليها نهرا فارغا، مجرد واد خاو، وضع على ضفتيه كلمات تقول: إملأوه بما تشاءون! ويقول الرواة أن هذا يعني: أيها الناس انظروا جنتي، إذا رفضتموها أرسلت فيه دماءكم تجري دافقةً، وإذا قبلتموها أرسلت لكم فيه بعضا من نهري، عصير الخشخاش والزعفران! ملأ ضفاف أنهار الجنة وحدائقها بآلاف من حوريات حسان عين، وغلمان مخلدين لكنه قال : فتيات وغلمان وخمور، هذا لوحده يبعث على السأم والكآبة، أضيفوا لهم مغنين وموسيقيين وشعراء ورجالا ونساء مسنين يروون لهم الحكايات المسلية، ومهرجين يقومون بإضحاكهم، بذلك يمكن احتمال الجنة، فهي كما تعرفون المكان الوحيد الذي لا يعمل فيه الناس، ولا ينتظرون فيه شيئا آخر! كان مندفعا في سباق مع الله يريد الفوز عليه! جعل قصره في جنته يعلوا شامخا فوق قصور مئات آلاف القصور العالية والشرفات الواسعة.تحيطه مع القصور الأخرى حدائق غناء واسعة بأشجار باسقة، وحيث إنه أراد جنته قطعة من البقاء الأزلي والخلود؛ أمر بإزالة ما بنى المهندسون لها من أسوار منيعة وأبراج حراسة، كان قد وقف عليها حراس غلاظ مدججون بالسيوف القاطعة، والسهام المسمومة قائلا: جنة شداد ابن عاد قوية منيعة باسم ملكها وسيفه وروحه الأبدية! لكنه أمر أن توضع حولها أبواب رمزية كبيرة شاهقة من ذهب ونحاس لتصون هيبتها وحرمتها التي لا يمكن التنازل عنها، ولتلمع أكثر في الشمس، مغيبة كل أبواب جنة الله في السماء! أشاعوا أن الطيور والأسماك التي ترد من بقاع العالم؛ ما أن تدخل هواءها أو ماءها حتى تتحول إلى طيور من الذهب والفضة وتستطيع أن تتكلم وتغني كالبشر تماما! وإن فاكهة الشجر وثمارها من ذهب ولؤلؤ وياقوت ومرجان، في داخلها عصير الفاكهة الطبيعية وحلاوتها وعطرها! وإن زهورها تبعث أنغاما وتصدح بالأغاني، لكي يصنعوا لها هيبة جنة الله! جاء شداد ابن عاد ليفتتحها رسميا ومعه آلاف من عائلته وحاشيته وضباطه وأعوانه، ومعهم ألف ألف جارية حسناء عليهن ثياب من الحرير والياقوت، هن عشيقاته الجميلات، يفض بكارة ألف منهن كل ليلة! هكذا قالوا،كان في الطريق لا يفتأ يصيح بأعوانه هاتوا هود لأجعله يقر أن جنتي أفضل من جنة ربه، فيسجد لها ولي! لكن هود كان قد هجر البلاد، وراح يطوف العالم شريدا، كما حدث لجده إبراهيم الخليل، وللمصلحين عادة! وهنا يا ولفريد تختلف الحكاية، فمن قائل أن شداد حين اقترب من جنته لاحت له ظبية فاتنة فقرر صيدها بنفسه؛ فراح يطاردها مبتعدا عن جيشه،حتى هوى إلى واد عميق انهال عليه ترابه فحاول أن يستجدي ملك الموت أن يمهله؛ ولا يقبض روحه حتى يرى جنته ولكن هيهات، ترك ملاك الموت بأمر الله التراب يطمره مع جنته! ولكن كيف لملك متغطرس انفق كل هذا الجهد والذهب على جنته ثم يعافه من أجل غزالة؟ هذا غير معقول! هكذا قال شهاب العز، وكأن كل ما رواه سابقا كان معقولاً،رغم معرفتي بطبيعة حكايته، لكنني كنت مستمتعا بها:
ـ ولكنني أومن طبعا برواية جاء ذكرها في القرآن الكريم، تقول (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات) وهكذا ظل عقاب الله العادل يرجم شداد وأعوانه الضالين وجنتهم المارقة سبع ليال وثمانية أيام! حتى صار كل شيء ركاما! صمت برهة ، طلب أن تملأ الفناجين بالقهوة المرة الفواحة الموقظة، وعاد للكلام:ربما يا ولفريد يدور في خلدك الآن كيف بني شداد جنته في صحراء كهذه؟ لا لقد كانت هذه الأرض جنات لوحدها لما تجري فيها من جداول وينابيع وما تزخر به من غابات وبساتين، لم يكن البحر بعيدا عنها كثيرا، وكانت زاخرة بالخيرات والطيبات ولكن غضبة الله عليها أحالتها إلى ما تراه الآن من رمل ويباب وهوام،وريح لافحة، وعلى كل حال ،الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. فجأة نهض العز للصلاة هو ومن معه! وبقيت جالسا أرقبهم، وقد غمرني خشوعهم. شعرت أن الصحراء كلها يمكن أن تصير في لحظة محرابا للروح، وإن أشواق الإنسان الحارة العميقة يصعب حصرها أو وضعها في طريق واحد. بعد أن انتهى قال لي: لقد دعوت لك معنا بالخير. والآن هيا! ركبنا جمالنا، وانعطفنا إلى طريق دار به بعيدا عن جنة عاد، فوجئت به يلتفت نحوي ويعود يحدثني بحكايته التي ظننتها قد انتهت ولا أدري هل زادتني جهلا أم معرفة قال:

ـ أتعرف يا ولفريد أن هذه الجنة الهائلة العظيمة فعلا بعد أن اكتملت لم يدخلها أحد قط سوى رجل واحد، وصلها مصادفة، كان يبحث عن ناقته الضائعة، وحين وجد نفسه في داخلها ظن نفسه إنه قد مات وبعث في جنة الله! لم يمكث فيها سوى أياما قليلة أصابه السأم من هذه الجنة الذهبية، ويقال إنه هو الذي قال كلاما صار مثلا: جنة دون ناس لا تجاس! حانت مني التفاتة جانباً حيث تركنا موضع جنة عاد، ويا لدهشتي يا أجاثا لقد رأيت وهجا من نور برتقالي، كأن قنابل كبيرة تتفجر هناك، أو قباب من ذهب تحت الشمس ،وكنا نلج الفجر! في رحلاتي الطويلة في الربع الخالي، وفي مدن الخليج العربي رأيت أن هذه الجنة تتنقل في مخيلتهم بين اليمن أو عمان أو البحرين ،أو دبي أو مدن نجد ومهما اختلفوا في تفاصيلها يتفقون في القول: يراها المقبل إليها من بعيد، تشع قصورها وأعمدتها، بنور يعشي البصر، ويلهب القلب، فيسعى نحوها مسحوراً آملا أن يجد بابها الذهبي لكنه إذا اقترب منها لن يجده فتذروه الريح على كثبانها العالية! لذلك هي تخيف الناس بقدر ما تجتذبهم! وكنت أقول في نفسي هم لا يعدون الحقيقة، في أعماق كل واحد منا توجد جنة كهذه، تجتذبه ليركض نحوها، ثم في النهاية ليس سوى الرمال تذروها رياح الزمن هنا وهناك!انبعث صوت دليلنا بغناء أسى وفقدان، ازداد صوته الجميل حزنا، ربما يتحسر على الجنة الضائعة،ربما على امرأة مرت في حياته وتركت له الحسرات! ماذا لو اجتذبت خطاك جنة عاد يا عزيزتي أجاثا؟ هل ستكتبين رواية عنها؟ جنة هائمة في قلوب البشر، كل خطاهم الكثيرة لا تقودهم إليه! هل سيكون عنوانها "جريمة في جنة عاد"؟!

 

في معترك السياسة؛ يصعب أن تلتقي الحقيقة بالعدالة!

عقد العطية مدير التحريات الجنائية،ومعاونوه اجتماعهم الصباحي في حجرة المقاعد الجلدية السود كعادتهم، لم تسفر تحرياتهم عن أي شيء يتعلق باختفاء أجاثا أو ينهي الغموض الذي يكتنفه، ويرضي رئيس الوزراء والبلاط، وقبلهم السفير البريطاني. وها قد مرت أربعة أيام على ذلك ثقيلة مريرة، سيفقدون مناصبهم، وربما يسجنون لتقصيرهم، إرضاء لبريطانيا التي فقدت مواطنة مهمة، وفي بلاد وهبتها دولة حديثة، وأدخلتها العالم الجديد. كما يقول الإنجليز دائما، الجثة التي عثروا عليها ملقاة بين أدغال قصب كثيف في شاطئ جزيرة أم الخنازير، وظنوا أنها لأجاثا كريستي، وجدوها لفتاة شابة جميلة طويلة شقراء كأجاثا، عانس دون الأربعين قتلت كما قيل غسلا للعار؛ إذ جلبها قواد لمجموعة من الشبان السكارى في الجزيرة، وفي مصادفة مجنونة كان شقيقها الذي يصغرها بأعوام بينهم؛ فانتضى خنجره وغرسه في صدرها . في هذا الاجتماع لم يحضر ممثل وزارة العدل. علموا إنه تعرض لمرض مفاجئ ، وسيرسل محله المحقق خالد سامر،أحدهم وكان يعرفه قال إنه يمتاز " بجدية وكفاءة عالية" تلقى خالد التكليف بسرور وابتسامة حزينة، مضى على عجل إلى دائرة التحريات، وأدخل على الفور مكتب المدير العام، كان العطية بقامته الرشيقة النحيلة، تلتمع جمرة سيجارته على وجهه الأسمر النحيل، يجول وسط المكتب وقد شغلته قضية أجاثا واستعصت عليه، وهو المعروف بكسر الأبواب لا فتحها بالمفاتيح، حسب مقولته، صافحه بهدوء اقرب للبرود كعادته مع من يقودهم، شرح له ما تحقق في هذه القضية، كان خالد يصغي باهتمام،ورغم إدراكه أنه يمثل القضاء وعليه أن يحافظ على استقلاله لكنه بتهذيبه قال:

ـ سأضيف جهدي في التحقيق القضائي إلى جهود زملائي ، أرجو أن تسمح لي بالتحرك الحر! العطية كعادته لا يقبل أن تمس هيبة سلطته:

ـ أعلمني بما تتوصل إليه، ولا تتخذ أي أجراء أساسي دون علمي!

ـ طبعا.. طبعا

قال خالد، وقد أزمع في نفسه أن يتحرك بكل الحرية الداخلية المتاحة من القضاء ، وإلى خبرة روحية عميقة اكتسبها من روايات أجاثا، وزخم الذكريات التي عاشها معها وزوجها في صباه الطليق في أيس! كان خالد متألما لما تعرضت له أجاثا، من الصعب أن يشرح لرئيسه أو أي من زملائه، مشاعره الخاصة، وعلاقته القديمة بأجاثا وزوجها. فهو له معهما ذكريات الصبا المفعم بالأحلام، المتطلع لآفاق العالم القادمة من بعيد، كيف يفهم الموظفون الكبار هذا النوع من الذكريات؟ قبل أكثر من خمسة عشر عاما، كان صبيا في الثالثة عشرة حين جاءا سائحين إلى مدينته أيس في أعالي الفرات، حيث ولد وترعرع ونشأ فقيرا منطلقا بين شواطئها وبساتينها وجزرها وحواريها القديمة. أجاثا وزوجها مع الكثير من السياح الأجانب اعتادوا القدوم إلى أيس في الشتاء والربيع لمشاهدة دوالي النواعير، وبساتين النخيل الوارفة، والتجوال بين معالم وأطلال هذه المدينة التي على ما يبدو لديهم معلومات غزيرة عنها، يسيرون ضاحكين في طرقاتها الضيقة المتربة الملتوية وفي أيديهم كاميرات وكتيبات صغيرة. أهالينا يحذروننا منهم قائلين: إنهم كفار، مالهم حرام علينا، يأكلون لحم الخنزير ، طعامهم مسموم ، يضرطون بحضور الناس، ولا يستحون،رائحتهم قد تسبب لنا الجنون! لكننا ما أن نخرج إلى الطرقات، ونراهم حتى ننسى تحذيرات الأهل ونقترب منهم مبهورين مستطلعين، نلاحقهم متضاحكين مندهشين لمرأى نساءهم اللواتي يتبخترن بشعورهن المصففة بأشكال غريبة كالتيجان، كاشفات عن صدورهن، بفساتين ملونة خفيفة مكشكشة، وسراويل قصيرة تظهر أفخاذهن الشقر أو المنمشة. نتقافز أمامهم كالغزلان نريد مساعدتهم دون أن يخطر في بالنا أن نأخذ منهم لقاء ذلك نقودا أو أي شيء، لكنهم إذا أعطونا الحلوى أو العلك نتناولها منهم بلهفة يسبقها لعابنا وضحكنا. نجرب معهم ما تعلمناه للتو في المدرسة من الكلمات الإنجليزية، نقودهم إلى الجزر الصغيرة المتناثرة في النهر وبقايا طواحين الماء، وإلى العيون الكبريتية، نشعل مياهها المختلطة بالغاز،يلتقطون الصور، أحيانا يسلموننا كاميراتهم، ويعلموننا كيف نضغط على أزرارها ونلتقط صورا لهم. وعند رحيلهم يأخذون عناويننا، يعدوننا أنهم سيرسلون صورنا حين يعودون لبلدانهم، قلة صدقوا، فأرسلوا لنا صورنا مع كارتات بريدية عن مدنهم وحدائقهم وقصورهم؛ منهم أجاثا كريستي وزوجها ماكس، بذلك تعرفت عليهما، تبادلت معهما بضعة رسائل؛ تعثرت رسائلهما ثم انقطعت، في آخر رسائلهما قالا أنهما كثيرا التنقل، ولا عنوان ثابت لهما؛ ما جعلني أوقف رسائلي، لكنني بقيت أتذكرهما،واشعر نحوهما بامتنان. إذ جعلتني مراسلتهما، ولو لفترة قصيرة، ورغبتي في قراءة كل روايات أجاثا؛ متلهفاً لتعلم الإنجليزية، لم تكفني الرزمة الصغيرة التي أرسلتها لي من رواياتها، فرحت أبحث في بغداد عن رواياتها،بطبعاتها الإنجليزية والعربية، واقضي الساعات الطويلة أتعلم قراءتها بالإنجليزية. روايات أجاثا جعلتني أتجه إلى كلية الحقوق، وجعلتني أهتم بالتحقيق الجنائي، وأختص به. .نشأ خالد يتيما معوزا، والدته التي تكد وتكدح بأعمال الخياطة و الخصف مكنته من إكمال دراسته، لم ترض له أن يتوقف عن الدراسة لأعالتها وأخته الصغيرة، ما كانوا ليقبلوه في كلية الحقوق، فهذه الكلية يقتصر الدراسة فيها على أبناء الأغنياء وكبار رجال الحكم ومن يسمونهم بالذوات، لكن درجاته العالية، وإصراره؛ جعلهم يقبلونه، فمضى في دراسته متفوقا دائما، الفضل لأمه ولأجاثا معاً، تلك حقيقة،لا يدري الآن كيف يشرحها لأجاثا لو لقيها،أو لأمه التي رحلت عن الدنيا بعد تخرجه بسنة واحدة. آن الأوان لأرد لها الفضل، وهل هناك لحظة تحتاجني فيها أهم من هذه اللحظة؟ هو مقتنع تماما أنها بريئة من كل ما راحت بعض الصحف تكيله لها ولزوجها من اتهامات قاسية. وهو واثق من ضميره لن يخالف القانون! درس بتأن إجراءات التحريات الجنائية،وجدها غير مقنعة، ود لو يقول للعطية " تسيسكم القضية حرف اتجاهها بعيدا عن الحقيقة !" بل ود أن يقول له تلك العبارة التي ظلت عالقة في ذهنه من أيام محاضرات القانون الأساسي في الكلية" في معترك السياسة يصعب أن تلتقي الحقيقة بالعدالة!" هذا صعب فالعطية معروف باعتداده وشراسته، ورغم قربه من مرؤوسيه، لكنه لا يتوانى عن زجرهم وإسكاتهم إذا طرحوا ما يراه مخالفا لطريقة عمله! ورغم قناعة خالد العميقة أن القضاء يجب أن يكون مستقلاً عن السلطة التنفيذية، وإنه هنا بشكل عام كذلك، لكن ثمة خروقات كثيرة تقع كل يوم، وكان دائما يحذر ويرتاب من هكذا لجان مكونة من الشرطة والقضاة، ويراها طريقة ناعمة خبيثة لتداخل السلطة التنفيذية بالسلطة القضائية،وكثيرا ما يكون كعب الشرطي، أعلى من كعب كتاب القانون، لذلك اختار أضمن الطرق وأسهلها وأكثرها أملاً أن تثمر . طلب من العطية أن يسمح له بمقابلة ماكس كمحقق منفرد، تماما كذلك المفتش البارع الذي يظهر فجأة في روايات أجاثا، هم أن يقول إنه يعرفه جيدا، بل ثمة علاقة صداقة خاصة بينهما، ولكن هذا سيبدو مضحكا لهذا المدير الكبير، المتقيد بالشكليات والجو الرسمي للعمل. اختار ما أعتقد أنها أكثر العبارات إقناعا:

ـ الحديث الشخصي الحميم قد يوصلنا إلى معاناة أجاثا الداخلية أيضا، هي مسألة ساعات لا أكثر. نظر العطية إليه كأنه يقيسه من فوق إلى تحت:

ـ تصرف! فالتقرير الذي جاءني عنك جيد جدا! وكرر عليه عبارته " لا تتخذ إجراءً مهما دون علمنا"

بالتأكيد قالها بهدوء مضمرا تفسيرها بكل المرونة الممكنة!

خرج مسرعا إلى الهواء الطلق في شرفة الحجرة التي خصصت له ، والمطلة على شارع الرشيد وحركة الناس والسيارات ذاهبة آيبة فيه، ثمة بناءون قبالته يعلون طوابق في عمارة قيل أنها ستكون معهدا للفنون الجميلة، مع سينما حديثة!

 

هربت من المرأة إلى الصحراء، وآه من الروح إذا أقفرت!

لا أنكر إنني جئت العراق فخورا منتشيا ، وربما مغرورا، بنجاح مغامرتي في الربع الخالي! كنت أفكر أن أنطلق منه في رحلة استكشافية في بادية الشام، كنت أعرف إنها تعج بقطاع الطرق واللصوص والقتلة والمهربين، كما هي آهلة بالبدو الرحل. فكرت أن أتحقق من أصل جماعة تعيش هناك يسمونهم " الصلبة " ويقال أنهم أحفاد جنود وضباط ومقاتلين، جاءوا من أوربا في الحروب الصليبية، وبقوا في هذه الأرض بين أسرى أو مختبئين تائهين، هم شقر طوال بعيون خضر وشعر ذهبي،على وجوههم حزن عميق يعيشون على هامش القبائل، ينزلون بتردد وتوجس إلى المدن القريبة يعتاشون على مداواة الناس بالأعشاب وتجبير العظام،قد يكون أسلافهم أطباء أوربيين صليبين والناس في المدن يكرمونهم بعيدا عن أحقاد الماضي. ربما بعضهم توارث خوف أسلافه متصورا أن الحروب الصليبية لم تنته حتى الآن! لم أفكر بهم لدافع عرقي كما قد يظن البعض بل لأنني دائما يجتذبني المهمشون والمذلون والمنسيون فأهتم بهم، رغم أن وجهتي الأساسية هي دراسة هذه الصحراء فما خرجت من صحراء؛ حتى وقعت بحب صحراء أخرى! البعض يقول إن هذا الولع الصحراوي القاسي هو انعكاس لجفاف أعماقي وظمأها لحب عظيم، ربما هذا صحيح؛ فالحب الجميل هو الماء الذي يجعل الصحراء الشاسعة في أعماق الإنسان جنة خضراء زاهية،وصحراء الروح هي فقدان الحب! وآه من الروح إذا أقفرت! أحيانا لا أرى فرقا بين وجه المرأة الجميلة الطيبة وصفحة السماء صباحاً، لكنني دائما أهرب من وجه المرأة إلى وجه السماء في الصحراء ربما خوفا من الخديعة والخيبة وذل الفشل، رغم الفرص الكثيرة التي حفلت بها حياتي في انجلترا أو أوربا؛ بقيت أتطلع أو أبحث أحيانا عن المرأة المنشودة في خيالي ولم أقترب كثيرا من امرأة حقيقية ، لذلك لم أجدها أو هي لم تجدني، ومع ذلك بقيت أنتظر وأتخيل أن ثمة امرأة رائعة في عالم مجهول تبحث عني، ولا تستطيع الوصول إلي! تصوري يا أجاثا لعبتي المضحكة، رغم كل واقعيتي وصبري على مصاعب الواقع واختراقي لتحدياته لكنني، ابتليت باشتراطات صعبة في المرأة ، لست واقعيا معها؛ كأنني لا أريد الإقرار أننا كائنات أرضية لا سماوية نحمل نفس أخطاء الحياة عيوبها وأوجاعها،ونقصها الأبدي (ما مصيبة الموت هذه؟) ومع ذلك بقيت اطمح لامرأة تملأ عقلي وروحي وخيالي مثلما تملأ جسدي، وحيث إنني لم أجدها لا في لندن ولا في مدن أفريقية أو آسيوية حللت بها لذا قلت في نفسي لألقي روحي ومشاعري كلها في المغامرة والمجهول والخطر والأحلام المتجمعة كلها كالذئاب والأزهار في الصحراء، أرى فيها حزني وعطشي ورحابة أملى في هذه الدنيا القصيرة المدى ريثما تجدني تلك المرأة التي لا أدري الآن في أية أرض هي تبحث عني؟( ستقولين يا عزيزتي أجاثا :أنت فظيع في نرجسيتك) ! أجريت اتصالاتي بشيوخ في السعودية والخليج وشمال العراق،من اجل مغامرتي في البادية، فلقيت منهم استجابة وكرما واستعدادا للعطاء دون شروط؛ فقد عرفوني وتوثقوا من صدقي وجديتي وزهدي، حيث طلباتي المادية كانت قليلة جدا، وطمعت فقط بحمايتهم لتسهيل تنقلاتي وضمان سلامتي! ثم فجأة حدث لي ذلك الشيء الغريب فغير مشروعي وربما حياتي كلها!

 

كيف نقفز من كيس الزمن، مثل سمكة من شبك الصياد؟

كنت جالسا عصرا في مقهى شعبي بسيط في بغداد،أحتسي الشاي الثقيل من استكان مذهب الفوهة، وأتطلع إلى زحمة الناس الفقراء وحركتهم وكدحهم على الأرصفة،حانت مني نظرة إلى صدر المقهى فوقع نظري عليها، وجه فتاة حسناء لم أر مثيلا له من قبل، بقيت مذهولا أتأمله، وجه فاتن لا أستطيع وصفه سوى بحلم هائل أدخلني جنته، كل الصحارى تلاشت أخذني تورد الخدين، ونعاس العينين المكحلتين والصدر الناهد تحت أزهار الثوب المزركش،وجدتني أهمس لنفسي: "هذه هي الفتاة التي أبحث عنها، وقد رست اليوم بصورتها من وراء جدار الغيب! والغريب استقر في نفسي أنها هنا تبحث عني!" هل هذا معقول أن تلك المرأة التي انتظرتها طويلا، وتصورت إنني لن أجدها سوى في لندن أو باريس تأتيني الآن إلى هنا في علاوي الحلة في بغداد، أهكذا تلعب بنا أقدار الحب؟ اغتنمت أن صاحب المقهى يتقدم مني،كأنه كان يرقبني، سألته،مشيرا إليها:

ـــ من هذه؟

أطلق ضحكة قصيرة:

ـــ أنت أيضا ؟؟ إنها بنت المعيدي !

ـــ ماذا تقصد أنت أيضا؟

ـــ كلهم هنا يعشقونها، فهي معبودة الرجال، وعدوة النساء، منافسة كل امرأة! كل رجل رآها وقع في حبها،وكل امرأة سمعت بخبرها؛ اعتبرتها ضرة لها!

ورحت أكرر القول في نفسي "هذه الفتاة هي من كنت أبحث عنها، ومن كانت تبحث عني" نعم يا أجاثا حلم شرقي هائل أخذ قلبي. وراح يسوقني وكأنني حصان تحته،أمسك بزمامي وانتهى الأمر! رأيت وبأم عيني تلك الفتاة تتقدم مني، توقفني وسط المسافة بيننا ،وتقول :

ــــ كفاك هربا مني، أنت هنا معي منذ زمن طويل!

ــــ ولكنني رجل غريب أتيت توا من جزر بعيدة، يسمونها الجزر البريطانية!

ــــ وأنا عيناي تجتذبان السفن القادمة من الجزر البعيدة، ألم تشعر بشعاع متقد يداعب قلبك من بعيد، فتبعته إلى هنا؟

قالتها بغنج ضاحكة بينما جسدها الأشقر يكاد يميل لحضني، ونظرت في عينيها الواسعتين العميقين،كانت فيهما حزم من الضوء والعتمة مجدولتين بقوة،وبما يكفي لجذب السفن من أعماق البحار، بل لجذب الجزر البريطانية نفسها من بحارها إلى هذه البقعة الشعبية البسيطة الرثة الفقيرة من بغداد! في تلك اللحظة ألغيت رحلتي إلى بادية الشام وقررت البقاء في بغداد أبحث عنها. تعمدت إسكات عقلي الذي قال هي مجرد صورة رسمها مستشرق من أوهامه وصبواته، ابق على عهدك للصحراء فهي الحقيقة وما هذه الصورة إلا تذكرة رحلة فناء في عيني فتاة جميلة لا وجود لها! بقيت منكفئا في المقهى لا أجرأ على النظر إلى الصورة أحسست إن الفتاة التي نزلت من الجدار لملاقاتي قد دخلت قلبي ولم تعد إلى الجدار! ثمة صوت في أعماقي: ابدأ من هنا، أبحث عنها، هي فتاة أحلامك ها أنت قد تجاوزت الأربعين من العمر وماذا تنتظر؟ ومن تفته الفرصة في هذا العمر ستتلقفه الشيخوخة في أحضانها الباردة لتسلمه إلى القبر، ولا شي آخر. سارع فهي تنتظرك منذ عهد بعيد لا تخيب رجاءها ولا تحبط أملها! حدق في عينيها ستجد صورتك هناك خلف رموشها الطويلة الجميلة! جاءني صاحب المقهى يعرف إنني انجليزي، ويطيب له الحديث معي ثم في كل مرة يقول مندهشا "عجيب أنت تتكلم عربي أحسن من أهل بغداد، أين تعلمت العربية؟ " وأقول له "في دمشق" فيهز رأسه مبتسما، قائلا " ماشاء الله ، ماشاء الله" :

ـــ هل هذه المرة الأولى ترى صورتها؟

ـــ نعم

ـــ صورتها في كل مكان في المقاهي في المطاعم في الفنادق في البيوت معلقة إلى جانب صور الملوك، كيف لم ترها ؟

ــــ كنت منشغلا بالإعداد لسفر طويل ،ربما مررت في أماكن فيها صورتها ولم ألحظها!

ـــ هي من المعدان كانت تبيع الروبة على الرصيف ،رآها صدفة ، ضابط انجليزي فوقع في غرامها ، خطفها من زوجها، وذهب بها إلى لندن! بقيت أتطلع إلى وجهه الأسمر، وذقنه النابتة بكثافة، فمه بلا أسنان تقريبا، تنبعث منه رائحة تبغ الأرجيلة.

ــــ أنت أنجليزي، ألم تسمع عنها في لندن؟

ـــ لا أبدا.

ـــ هي الآن في لندن يقولون،إنها صديقة الملكة اليزابيث! لم لا تجعلونها ملكتكم ؟ فهي أجمل من اليزابيث النحيفة كأنها طير الماء! الله أعلم،شمدرينا أنتو الإنكليز كل شغلكم أسرار!

ضحكت أن ملكتنا طير ماء، زادني فضولا،فجأة وكما تفجر نبع في أرض قاحلة وجدتني أحب بنت المعيدي!

يا أجاثا ، أتخيل الزمن وعلى ظهره كيس هائل،السماء والأرض قماشته السميكة، يحمل فيه كل الناس، لا ينسى أحدا، بل هو لا ينسى حيوانا ولا شجرة ولا ذرة غبار أو ماء لا تفلت من فمه الكبير الشره؛ يحملنا نحن متاعه ومقتنياته المضحكة بهدوء وصمت وخبث، ليمضي بنا مع خطوته الأسفنجية الناعمة، يلقينا حسب مزاجه، هذا في المقابر؟ ذاك في الريح، في البحار،في الصحارى. آخر في الذاكرة، في النسيان، آخر في الحب في الكراهية ، في المزابل؟ كيف نفلت من كيسه الطويل العميق ، نقفز منه كسمكة من شبك الصياد؟ هل هذا مستحيل؟ لا مهرب لنا سوى أن نأوي إلى قلوبنا وضمائرنا، وماذا تكون القلوب أو الضمائر غير الحب؟ هذه الومضة قدحت في ذهني حين كنت في صحراء الربع الخالي، وكنت قد نسيتها، وتفجرت حين رأيت بنت المعيدي، لا مهرب لي من الزمن سوى أن أحب، أو أكون جديرا بمن أحب، حتى إذا لم يحبني بذلك نستميل قلوبنا ونجعلها معنا لا ضدنا، بذلك ينسانا الزمن، أو يتسامح معنا إذا قفزنا من الكيس الكبير الذي على ظهره، وحين يتلقفنا الزهر أو القبر بعد ذلك، لا نأسف على شيء،حيث لم نبق له شيئا منا، تركنا كل شيء خلفنا لمن نحب أو لمن يحبنا!

تنفس ماكس بغضب ، ماذا يريد ولفريد هذا الساحر الماكر أن يقول لأجاثا؟ لكنه هدأ قليلا حين أخذ يقرأ:

أنا من دولة عظمى، لكنني الآن شريد بإرادتي، نفيت نفسي إلى بلدان ضعيفة فقيرة، وعشت معهم على الكفاف، بإرادتي خرجت من حضارة أوربا، باحثا عن روح غريبة أنا نفسي لا أعرفها تماما ربما هي روح الصحراء، روح الماء ،روح العالم، والآن استيقظت في روحي حاجتي لروح المرأة وجسدها، أيقظتها عينا بنت المعدان، قد لا أجدها ،لكن يكفي أنها جعلتني أعرف التوق للحب، هو الخطوة الأولى للحب وأحزانه الكثيرة!

 

حكايات كثيرة عن الحسناء،جنة وارفة، لكن شبح الضابط الإنجليزي هناك دائما!

قلت يجب أن أستقي معلومات عنها من مصدر موثوق، كنت اعرف صحفيا ظريفا اسمه سليم البكري، يتكلم الإنجليزية بطلاقة، ويترجم منها وإليها بغزارة،يتردد على السفارة البريطانية؛ يزوده أحد أصدقائي ببعض الأخبار لتنفرد بنشرها صحيفة الأهالي التي يعمل بها، وقد تقرب إلى يريد مني أن أزوده بصفحات من رحلتي في الربع الخالي. كلمته تلفونيا من الفندق، وتواعدنا مساء في مقهى على شارع الرشيد، كنت مستعدا أن أقايضه بكل

مذكراتي عن الربع الخالي مقابل بعض المعلومات عن بنت المعيدي! وجدته ينتظرني في المقهى. بعد أن عرف ما أريد، أطلق ضحكة قصيرة قائلا:

ـ لم أكن أعلم إنك تعمل في المخابرات، وهذه المسكينة التي يقال إنها ضحيتكم، صرتم لا تعرفونها ،ما لذي ذكركم بها؟

كان من الطبيعي أن يقول ذلك، فشوارع بغداد ما زالت تهتز، رغم انتهاء المظاهرات الضخمة التي مرت عليها حول المعاهدة مع الإنجليز، فالأوضاع السياسية هنا معقدة شائكة والصراع على النفط فيه، قد بلغ أوجه، والأرض كلها تكاد تشتعل به، ولاشيء يشغل الناس غير السياسة وتقلباتها، ومعظمها يصب في كره الإنجليز،والحكام الذين يعتبرونهم عملاءهم،كنت أريد أن أصارحه:

ـ إنها ليست قضية مخابرات،لا أخفي عليك، لقد رأيت صورتها في المقهى، وصرت أحبها بل مغرما بها، وأريد معرفة أي شيء عنها!

أخذ يضحك، وقد توقعت هذا:

ـ تحبها من صورة لها في المقهى؟ لم أكن أصدق ما يقال عن خفة عقول الإنجليز حتى رأيتك! ومع ذلك لقد جئت متأخرا يا ثيسجر فهي حسب ما يحكى عنها، رحلت إلى بلادكم من سنوات طويلة، ولم تعد،هي منفية تعيش في ظل مغتصبها، قيل إن ضابطا انجليزيا أحبها فانتزعها من زوجها، أو والدها، وأخذها إلى انجلترا!

هذا ما قاله لي صاحب المقهى، بقيت أتطلع في وجهه،أنتظر المزيد:

ــ يا ثيسجر فهمت إنك تلقي نفسك في أحضان الصحارى بسرعة،كيف تلقي نفسك في أحضان النساء بسرعة أيضا؟ احذر! فالنساء هنا أخطر من الصحارى يبتلعن حياتك؛ ثم لا تجد في يدك سوى حفنة رمل!

توقعت تحذيره من العشق والعلاقات مع النساء في مجتمعهم المحافظ والمتزمت:

ــــ أريد علاقة جدية معها ،الاقتران بها شرعا كما تقولون!

هز رأسه صامتا ، رفع وجهه نحوي وراح يتحدث جادا:

ـــ لماذا تورط نفسك بمأزق كهذا؟ أتعرف من هي صاحبة هذه الصورة؟ آلاف الشبان والرجال يتطلعون مبهورين إلى وجهها الفاتن، كل يوم، في المقاهي والمطاعم والبيوت، يستلبهم جمالها العظيم لكن لا يجرئون، ولا يخطر ببالهم البحث عنها، يعرفون أنهم لن يجدوها، لقد أخذها الإنجليزي قبلهم، ويئسوا من إنقاذها أو استعادتها، كل ما يفعلونه، يخرجون صورها من تحت مخداتهم سرا، يتأملون وجهها الجميل وصدرها الناهد، وبعد أن ترهقهم حسراتهم، يستعيدونها شبقا، يغتصبونها،في حلم عنيف، مستعينين بلعابهم،أو مواد أخرى، حتى يقذفون أرواحهم في وجه السماء والقمر، أو على أحذيتهم، لهذا ألصقوا صورها على جدران المراحيض العامة؛ فهكذا دواء أو غذاء يمكن توفيره للعاجزين، ولا يكلف خزينة الدولة شيئا! يا ثيسجر الرجال والنساء هنا في سجنين متباعدين، يتمنون لو يهدوا الجدران عليهم ليلتقوا تحتها، ولكن هيهات فالسجانون رجال دين وشرطة وكتب مقدسة،وآباء وأمهات يقفون على الأبواب والشبابيك ،صور بنت المعيدي واحة خضراء في سجن الرجال!

وأنت جئت اليوم لتنتزع هذه الواحة لك وحدك!

عاد لصمت قريب من الوجوم ، قال فجأة :

ــ إذا صح أنها رحلت مع خاطفها إلى بلادكم، لم لا تذهب وتبحث عنها هناك؟

ويطلق ضحكة ناعمة:

ــ لماذا لا تدعني ابحث لك عن فتاة عراقية جميلة مسيحية مثلك، أو أخرى جميلة جدا تسلم من أجلها،تتزوجها هنا وتستريح،وتريحنا معك؟

ــ يا صديقي سليم، لا أدري ماذا حدث لي، أنا الآن متيم بهذه الفتاة، وأريد أن أعرفها!

ــ هذا هروب، فالبحث عن فتاة هي مجرد حلم في حلم ،ووهم في وهم؛ يعني إنك لست جادا،في الاقتران بفتاة حقيقية، ومع ذلك من قال أن الأحلام لا تستحق الركض وراءها، هيا أركض..!

ولأنني أعرف أنك مثقف رحالة وفيلسوف(تصوري! أغدق علي لقب فيلسوف) فأنا سأساعدك في ذلك، فإذا كنا نخشى الضباط وأسلحتهم، حتى لو كانوا عراقيين، فنحن لا نخشى، المثقفين حتى لو كانوا انجليزا!

توقعت إنه سيطلب أجرا لقاء جهده واستشارته،كما في بلداننا، لكنه أصر أن لا يأخذ شيئا، حتى مذكراتي لم يتطرق لها، لكنه طلب شيئا آخر:

ـ فقط أرجو أن توصي صاحبك في السفارة أن لا يبخل علينا بأخبار الإنجليز في بغداد، فأنتم اليوم تحكمون بلادنا من وراء حكومة متمرسة، يتقدمها الداهية نوري السعيد، الذي لا يجعلنا نعرف ماذا وراءه أو قدامه،أنيروا طريقنا أنار الله طريقكم!

ضحك حتى أخذته نوبة سعال:

ـ لكم النفط والويسكي والنساء، ولنا رجال السلطة و الأحزاب الكئيبة، والتقاتل والسجون،هذا هو قدرنا نحن العراقيين والشرقيين! قل لصاحبك يعطينا الخبر اليقين، وأنا سأؤسس لك معهد دراسات عن بنت المعيدي!

ضحكت وطمأنته، قلت له على طريقة البدو الذين عايشتهم في الخليج العربي وبلهجتهم:

ـ " إبشر الخير قادم"

ـ ومع ذلك لا تتوقع إنك ستصل إلى بنت المعيدي، فقضيتها غامضة،وغير مؤكدة، أخشى عليك من لواعج الغرام على أرضنا، فبقدر ما رمالها ساخنة، هي تحرق حتى عشاقها ومحبيها،والأسوأ تجعلهم مجانين هائمين على غير هدى!

ـ اطمئن، هي إحدى قرارات حياتي المجنونة، وهل يخاف المجنون أن يجن من جديد؟

كانت ضحكاته تطمئنني، وهو يعيد القول :

ـ أنا لا أصدق حكاية خطفها من قبل الإنجليزي ، ربما الناس يتحدثون عن بلدهم المستلب لا عنها هي حقا، ثمة شيء صحيح واحد فيها ، وهي أنها لا وجود لها في العراق، ولا في أي مكان آخر، ربما هي تهيؤات ، أوهام مضطهدين، محرومين ،ومع ذلك سأبحث معك عنها!

لابد يا عزيزتي أجاثا أن تكون صورة بنت المعيدي، قد طالعتك على صدر بهو أحد الفنادق، أو المطاعم والمقاهي التي ارتدتها في بغداد والموصل وكركوك ومدن الجنوب، فصورها وهي حاسرة الرأس كاشفة عن شعر أسود كثيف ينسدل إلى ما تحت الكتفين، أو وهي معتمرة طربوشا تركيا نسائيا أنيقا، وابتسامتها الحزينة المضمرة على شفتين كوردة لم تتفتح بعد، تمنح المكان جمالها ورقتها وبهاءها فيفيض ويمنح السكينة والرقة والهدوء!

هي في ذروة جمال يتردد بين الريفي والمديني، وكما اعرف أنت تحبين الجمال الريفي أو القروي، كم رأيت من الفتيات لم أتوقف عندهن، ولكي لا أبدو مستهينا بالمرأة الإنجليزية أو الأوربية أقول : هذه الفتاة أخذت من جمال الأوربيات الكثير، كما أخذت من ملامح الشرقيات وروحهن وغموضهن ما يكفي لمس القلب. شيء من شعاع جمال الحقول والبراري المتموجة بالزهر، ورونق بيوت المدن الفخمة! كيف هزت حياتي؟ ( هل هي صورة فقط؟ ومضة سماوية؟) حلم أذهلني عن نفسي وأهدافي ومشاريعي وجذبني إلى متاهات عالم بعيد مجهول.

 

ترفع بريطانيا يدها عن العراق! تضع أمريكا يدها على العراق! خبر جديد؟ نبوءة ساحر؟خابية مخللات متعفنة؟

زرت صديقي كولن استيفنسن حيث يعمل في سفارتنا في الصالحية ببغداد، هذا الرجل البدين المرح الذي تعرفينه؛ وكيف هو كما قلت أنت لديه قدرة عجيبة على مجارات أصدقائه حتى لو انهمكوا بصيد البعوض! حجرته مطلة على حديقة وارفة، تتكئ على دجلة. وجدته متفرغا للقائي، حدثته عن غرامي المفاجئ، وحاجتي إلى أخبار سياسية لتغذيته والوصول به إلى نهايته السعيدة، ضحك ،وراح يقهقه قائلا :

ـ أنا عادة كإنجليزي أصيل؛ لا اضحك على النكات إلا في اليوم التالي، ولكن نكتتك المثيرة هذه جعلتني اضحك على الفور! ومع ذلك سأزودك بكل الأخبار التي أتمنى أن لا توصلك إلى نهاية تعيسة، فحكايتك ميتة منذ البدء يا صديقي! أية أخبار يريدها صاحبك؟ سياسية عالمية؟ أم عامة تخص العراق فقط ؟

ـ لا أدري لا خبرة لي في هكذا أمور، ما تستطيعه..!

ــ طبعا هو يريدها تخص العراق، أخبار سياسية، مقابل أخبار غرامية،هي صفقة قديمة أزلية ولكنها ستحدث هنا بطريقة جديدة!لا يمكنني أن أفرط بأخبار قد تعد أمنية أو مخابراتية تخص بلدنا، ولكن استطيع أن أزودك بأخبار سياسية تبدو مخابراتية ، يهمسون بها في حفلات الكوكتيل في السفارات،وتتداولها صحف في لندن، لكنهم هنا لا يقرئون ولا يعلمون بما يدور حولهم!

ـ أنت تعرف صاحبي سليم البكري يقرأ بالإنجليزية، ولكن معظم الصحف الإنجليزية تصل بغداد متأخرة، أو لا تصله!

ـ استطيع أن أزودك بخبر قد يكون مثيرا للكثيرين من العراقيين، وهو أن الحكومة البريطانية بدأت تشعر أن مستعمرتها السابقة " أمريكا" التي كانت مجرد قطة صغيرة في قفصها،قد أضحت الآن نمرة شرسة،حطمت القفص ومضت تفترس الطرائد، وهي الآن وبعد خروجها من الحرب العالمية الثانية منتصرة؛ أخذت تنافس بريطانيا على نفوذها في الشرق الأوسط، و بعد أن عرفت بوجود أكبر خزين للنفط في العالم تحت أرض العراق كما في السعودية؛ أخذت تعمل على أزاحتنا منه، وأخذ مكاننا فيه، بعض الصحف كتبت أنهم الآن يستغلون تذمر الناس من وقوف الإنجليز مع اليهود في فلسطين،وكره الناس لنا كمستعمرين فأخذوا يكونون خلايا لهم في الجيش العراقي للقيام بانقلاب، لعلك تعرف أن تاريخ الجيش هنا هو تاريخ الانقلابات ومحاولات تحطيم الدولة المدنية، وإقامة دكتاتورية عسكرية، كثير من الضباط هنا فارغو الرؤوس ممتلئو الغدد بالأوهام، والطموحات الخاصة، والانقلابان السابقان قبل سنوات قليلة، كانا بتمويل وضغط ألماني، والقادم سيكون أمريكيا، ثمة ضباط كبار يطمحون للسلطة، أمريكا الآن تستغلهم بوعيهم أو دون وعيهم ليقوموا بانقلاب! اعلم صاحبك إن بريطانيا تعرف هذا المخطط، وترقب الوضع عن كثب، وتهيأت لذلك! هذا خبر هام؛ تستطيع أن تعطيه لصاحبك بالتقسيط ، تعلم! لا تعط الخبر السياسي الكبير والهام دفعة واحدة، احصل لقاء كل دفعة منه على كمية مناسبة من الأخبار العاطفية، وأجعل نهايته مقرونة بوصول معشوقتك إلى السرير،أو في الأقل تمنحك عددا من القبلات الساخنة! أنت خبير برمل الصحراء، وتجهل رمال السياسة المتحركة، ورمال العواطف المتقلبة التي قتلت في العالم أكثر مما قتلت ثعابين وذئاب الصحارى!

خرجت منه منتشيا، تصوري يا أجاثا أنا الذي لم احلم يوما أن اهتم بالسياسة صرت شغوفا ومتطلعا لمعرفة شيء عن أسرار الصراع الأمريكي البريطاني على العراق، قائلا في نفسي من أجل عيني بنت المعيدي سأشتغل في السياسة،وأنظم لحزب،إذا اقتضى الأمر! تحدثت لسليم بالخبر كله دفعة واحدة، كنت أريد أخبار هامة عن حبيبتي المجهولة البعيدة، أريد أن أقربها مني بأسرع وقت.ضحك وظل يقهقه:

ــــ ترفع بريطانيا يدها عن العراق! تضع أمريكا يدها على العراق! خبر جديد؟ نبوءة ساحر؟ زير مخللات قديمة متعفنة! هذا خبر عتيق يا صاحبي، أقدم من الملابس المستعملة التي يتصدق بها الإنجليز على العراقيين، ومع ذلك يا ثيسجر أنا سأحدثك بكل ما أعرفه عن بنت المعيدي، دون مقابل من أي شيء،لا تتعب نفسك! هذا صاحبك كولن يتصورنا سذجا بلهاء، نحن نعرف أن كل الأقوياء في العالم يتصارعون علينا، بريطانيا وأمريكا وفرنسا وحتى هؤلاء السوفييت الذين يصورهم الشيوعيون المساطيل هنا ملائكة وقديسين، هم مستعدون لحرق كل الشيوعيين من اجل موطئ قدم لهم في بلادنا. كنت أمزح معك، لا تتعب نفسك كل خبر للحب يسعدني أن أنقله لك أو لغيرك لا تهتم، نحن نتعامل مع الأجنبي بحب،إذا تعامل معنا بحب حقيقي، لا نزدري إلا من يستعمل الحب قناعا للكراهية!

أشعل سليم سيجارته التي لا يفارق دخانها وجهه المستدير الأشقر،وعينيه الصغيرتين العمشاوين،وراح يحدثني :

ـــ لا بد إنك عرفت أن كثيرين لم يفلتوا من صورة بنت المعيدي ، فهي معلقة حتى في قاعات نوم جنود في ثكنات للجيش، كما في بيوت الموسرين والفقراء، والنساء يرمقنها بغيرة وحسد! والملك غازي وضعها إلى جانب صورة الكاتب الفرنسي أناتولي فرانس التي ورثها عن والده الملك فيصل الأول، اعتبر قصة اغتصابها أو خطفها أحد الأدلة على انتهاكات الإنجليز للعراق. سأله الملك علي،وكان محافظا جدا "لماذا تعلق صورة بنت غريبة في مكتبك ؟" أجابه: هذه ليست غريبة، هذه بنت العراق الجميلة، تمثل عندي روح البلاد ،وقد اغتصبها الإنجليز، وليس كثيرا عليها، أو علي أن تكون صورتها في مكتبي، وحجرة نومي! وكان يتحدث عنها من أذاعته التي أقامها في قصر الزهور، وكان المذيع الأول فيها. ويصر على القول أن من رسم صورتها هو فنان عراقي يدعى عبد القادر رسام ،استعادها بمخيلته بعد أن جلس والد الفتاة بجانبه يصف له ملامح ابنته المخطوفة، وإنه قد وضع الكثير من دموع والد الفتاة الحارة في الزيت الملون، وكان الملك يخاطب شعبه: مأساة بنت المعيدي، هي مأساة العراق المغتصب، ولن تتكرر!

ـــ نعم هذا جميل، أنا لا أريد اغتصابها إذا رفضتني ،سأبتعد عن طريقها!

ـــ تعجبني فيك روح الطفولة والبساطة، لو التقتك يا ثيسجر لحبتك، لكن هذا يكاد أن يكون مستحيلا فهي الآن قد اختفت تماما!

سكت برهة قال :

ـــ كنت أتمنى لو جمال هذه الفتاة ومأساتها قد علمت الملك الهدوء والوئام،هو انجرف مع ضباط يميلون لهتلر، في انقلاب دموي، ضد حكومة معتدلة، معظم الساسة والزعماء لا يحسون بروح الفن، يأخذونه مظاهر،وشعارات فقط،!

أنت في بحثك عن بنت المعيدي ستلقى الكثير من المتاعب ، حاول أن تتفهم أهل البلاد وتمضي في حلمك!

ـــ أنا منشغل بها لا تحديا، بل استجابة لنداء حب.

ـــ أفهمك لذلك سأتعاون معك، والآن سأحدثك عنها!

طلب أرجيلته، أخذ يرتب جمرتها، وأنا أتحرق أريده أن يتحدث، أخيرا انبعث صوته مع الدخان:

ــــ عرفت أن لهذه البنت أسماء كثيرة، فهي فاطمة، وليلى المعيدية،وبنت المعيدي، زينب، جميلة، فتنة، حليمة، أسماء أخرى كثيرة بل أن ثمة مثقفين لدينا لا يرتضون لها هذه الأسماء ويسمونها "موناليزا" العراق، وجدت إن اسم فاطمة يقترن بها في أكثر الحكايات الكثيرة الشائعة عنها وكلها تدور حول أصلها، وعائلتها واختطافها، وهي محيرة فعلا،ورغم الاختلاف في تفاصيلها يجمعها شبح واحد، لضابط انجليزي،أغواها أو أغوته، ثم اختطفها وهرب بها إلى لندن! اللعنة على الحروب والغزوات كلها منذ بدء الخليقة حتى اليوم! لا تكتفي بإزهاق الأرواح، ونهب الثروات، وتدمير البيوت، بل هي تشرد الناس العزل، وتسبي النساء والأطفال!

 

لبنت المعيدي حالات وأطوار، والقارب الصغير تتقاذفه أمواج البحر!

في الحكاية أو في أوحال الأرض: ابنة المعيدي عائلتها من المعدان، تربي الجاموس في الهور، ذهبت إلى مدينة العمارة بأطباق اللبن والقيمر لتبيعه كباقي نساء المعدان. في السوق رآها ضابط انجليزي، دهش لجمالها، وتدله بها، تكلم معها بما يعرفه من كلمات عربية قليلة، شجعته ابتسامتها الساحرة، ونظراتها المبهورة به ، فعرف أين تسكن، فأقنع وجهاء من العمارة وذهبوا معه لخطبتها، لكن والدها رفض تزويجها له، حاول كثيرا معه فلم يفلح. هنا تسير الحكاية في جدولين من ماء دافق لا يخلو من كدر، واحد يقول أن الضابط الإنجليزي وقد لمس ميلها له وهيامها به أيضا، تخلى عن كل شيء مركزه العسكري والنجمات والنياشين،قسمه العسكري، وهرب بها إلى لندن وهناك استقدم فنانا ليرسمها في لوحة أرسلها إلى أهلها مع مبلغ من المال كتعويض!لكنها وقد صفعها ضباب لندن وبردها وبرودة الإنجليز، سرعان ما ندمت وظلت تنوح وتتعذب كحمامة كسيرة حتى ماتت شابة! آخر يقول: أن الضابط الإنجليزي حين يأس من نيلها، قام هو برسمها، فحصل على الصورة دون الفتاة، وإن كل هذا كان عام 1934، بينما يقول آخرون بل إن ذلك حدث عام 1920 خلال الحرب التي شنها الإنجليز لإخماد ثورة الإقطاعيين وشيوخ العشائر ضدهم!

سكت سليم وراح يجذب أنفاسا عميقة من الدخان، ويحتسي شايه بهدوء وتلذذ ويرمقني بانتشاء وقد لمس ارتياحي للشطر الثاني من حكايته الذي يعني أنها ما تزال حية وفي العراق وفي أحضان عائلتها في الهور، وتمنحها عمرا مقاربا لعمري،قلت لسليم :

ـــ هكذا صورة لا يمكن أن يرسمها سوى رسام محترف ومتمرس، فكيف يستطيع ضابط هاو أن يرسمها وبهذه الدقة والروعة؟ ومن أين يأتي برسام محلي أو أجنبي في جنوب العراق لرسمها؟ وكيف تتمكن الفتاة وقد رفض أهلها تزويجها له؛ من الجلوس معه ساعات طويلة مرتدية كل هذه الثياب الجديدة عليها والغريبة ليرسمها؟

ضحك قائلا: فعلا هذا صحيح لكنني أحدثك بما سمعت ولا يعني هذا إنني مقتنع بما أحدث! عدت أقول ،وكنت قد سررت بهكذا احتمال:

ــــ لماذا من المستحيل أن يحدث هذا، أو أن لا يكون الضابط وقد حرم منها قد جلس لوحده واستعاد دقائق ملامحها ورسمها واضعا فيها كل نبضات قلبه وخلجات روحه! ولم لا يمكن أن نتصور رجلا عسكريا، يصير فنانا؟ لا خاطفا ولا معتديا؟ لماذا ننسى قدرة الحب على قلب أصبع الإنسان من أن يضغط على زناد البندقية، ليضغط على فرشة الرسم؟

ضحك سليم قائلا:

ــ انظر كيف جعلك الحب شاعرا، في مجال الحب لك يا صديقي أن تجعل المستحيل ممكناً!

لكنه جاء بما يحبط أحلامي قائلا :

ـ هناك حكاية أخرى مغايرة تماما!

رفعت رأسي إليه،وقد توجس قلبي:

ـ خلال الأيام التي بنى فيها الإنجليز ذلك الجسر قرب الحلة، الذي أسموه( two reach) وتحول فيما بعد على لسان الناس إلى (طويريج)، كان الضابط الإنجليزي منهمكا في عمل دقيق؛ نقش العلم البريطاني على الأعمدة الحديدية الوسطية للجسر لتخليد ذكرى وجود الإنجليز في العراق، مرت فتاة حسناء، كأنما ضربه ظلها؛ فرفع رأسه متطلعا إليها، بهره جمالها وصده عن متابعة عمله، فأرسل من يتبعها ويأتيه بمعلومات عنها وقد اعتبرها معركته الأخيرة في هذه البلاد التي خسر فيها جيشهم الإنجليزي آلاف الجنود أكثرهم كانوا من السيخ والهنود. جمع عددا من وجهاء ورجال دين في الحلة وبغداد وسطاء يسعون له مع أهلها المعدان الذين لم يستطيعوا أمام هذا الحشد الديني والعشائري،إلا الموافقة على زواج ابنتهم منه، أمها وكانت جميلة مثلها: قالت "سوف أزفها إلى قبرها مع الإنجليزي، لا إلى بيت عرسها" هكذا إذن حصل هذا الزواج بتراضي الطرفين، دون أن نعرف رأي الفتاة ، وهل للمرأة رأي في الزواج أو الطلاق في بلادنا؟ تأخذها حالات وأطوار من أقدارها، قارب صغير تقاذفه الأمواج، حتى الإنجليزي أمام شهواته في بلادنا لا يكترث لرأي المرأة، لم نعرف إن كانت الفتاة قد أحبته، أم أنها فقط أسلمت مصيرها لمشيئة الله، وقرار أبويها! لم يقم حفل عقد القران في صريفة أهلها القصبية المدخنة، بل في دار بلدية الحلة، وقد حضره رتل كبير من رجال دين شيعة وسنة، نفحهم الضابط مالا وهدايا، وجاء قس من بغداد حاملا باقة ورد كبيرة عابقة ببركات الكنيسة!يقولون إن الضابط طار بفرحته بفتاته الحسناء، قبل الطائرة التي حملتهما إلى روما لقضاء شهر العسل، وهناك تعرف على رسام بورترية التقاه في ساحة بياتسا نافونا، ورسم هذه اللوحة الجميلة لها وأرسلها إلى عائلتها! بقيت أتطلع إليه مندهشا حزينا لما يحدثني به، كأنه يلعب بقلبي على جمر أرجيلته وينفخ به ليتوهج مع التبغ ويدخنه أيضا " لكن مصدرا آخر يروي حكاية الضابط بشكل آخر: أن الحامية الإنجليزية قد استأجرت بيتا على شط الحلة ، كان الجنود من السيخ والكركة الهنود يقومون عصر كل يوم بتنظيف المكان أمام بيت الحامية، وتهيئة مائدة الضابط الانجليزي الشاب من طعام وشراب ودخان؛ ليجلس على كرسي أنيق مريح يحتسي كؤوسه، ويحدق بوجوه وأجساد النساء القادمات إلى الشط لغسل الملابس أو المواعين أو للتزود بالماء. كان إذا رأى فتاة جميلة يعطي مراسله وهو معيدي روبية هندية ليسلمها هدية لها إعجابا منه بجمالها! وكانت للمعيدي فتاة جميلة فخطر له أن يأتي بابنته التي اسمها جديلة ليراها الضابط ويسـتأثر بروبياته الكثيرة، وحين رأى الضابط الانجليزي جديلة الفاتنة كاد يسقط مغشيا عليه، وقد صعقه جمالها،وتمضي الحكاية لتقول انه منح والدها ليرات ذهبية عثمانية كثيرة، وتزوجها في حفل اقتصر على أهل العروس وأقاربهم من المعدان ،وثلة من الجنود الإنجليز السيخ والهنود الذين قدموا عروضهم الطريفة من الغناء والرقص الهندي والأهواري! وقد استدعى الضابط مصور الجيش فجلب كاميرته التي كان يصور بها مشاهد المعارك الحربية بين الجيش الإنجليز من جهة، والعثمانيين وأبناء البلد المسلمين الذين رأوا بحكم العثمانيين امتدادا للخلافة الإسلامية الأولى، قال له:

ـ هذه المرة ستصور وجه أجمل امرأة في العالم، بدلا من أبشع صور في العالم ، الدم والجثث والدخان!

قام المصور بتصوير الفتاة بعدة أوضاع،وهي ترتدي أجمل الثياب، بذل الضابط مالا كثيرا للحصول عليها! ثم أرسل صورها إلى إحدى المجلات الانجليزية،فنشرت أجملها على الغلاف بعد أن حولتها إلى ما يشبه اللوحة الزيتية.حين رأى الرجل الذي باع ابنته بالليرات العثمانية صورة ابنته في المجلة الانجليزية يتداولها الرجال في مقاهي الحلة،استيقظت حميته فجأة. ذهب إلى الضابط مع أحد الوجهاء يطالبه بتطليق ابنته قائلا" لقد أعطيتها لك، لا للرجال في المقاهي" لكن الأوان قد فات! فالفتاة وقد ذاقت مفاتن الضابط الإنجليزي فأحبته، راوغت والدها،واغتنمت هي وزوجها سفر أول باخرة دنماركية من البصرة إلى بومبي فاستقلاها، حيث قضيا بضعة أيام في الهند، زارا خلالها تاج محل، وشكرا عبره الله ومقدسات المسلمين والهندوس والمسيحيين معا التي جمعتهما ومنحتهما بركاتها، ثم سافرا إلى لندن، واستقرا هناك يعيشان مع أبنائهما بكل هناء ونعيم، بعيدا عن حياة العسكر، وهموم بريطانيا والعراق! هنا نستدل أن هذه اللوحة هي صورة فوتغرافية وليست لوحة مرسومة باليد والزيت، والله أعلم، في كل تفصيل وكل أمر! ويتركني أتأمل وجهه مثل كلب ينتظر أن يمن عليه صاحبه بعظمة أخرى عليها بقية لحم ، كم لهفة الحب مذلة، تجعل العاشق كلبا منقادا!وافقه ماكس ، تمتم بصوت مسموع وهو في فراشه، كلبا ذليلا يجري خلف ضباع! ثمة ما أستوقفه، لو كان ثيسجر مغرما بأجاثا وعلى علاقة معها، هل يتهالك على بنت المعيدي إلى هذا الحد؟ إطالته النظر إليها، وإطراؤه لها، هو من أجل أن تكتب عنه رواية، مغامرته الخطيرة في الصحراء لم تمنحه الشهرة، بينما رواية عنه من أجاثا تجعله مشهورا في العالم كله! لكنه لا يكف عن دعوتها للهور أو الربع الخالي،وجل حين أجابته:

ـ الأمر ليس بهذه البساطة يا وثيسجر!

تنهدت بارتياح، هكذا أوقفت اندفاعته. ومع ذلك يصعب أن اخمد شكوكي، لماذا ظهر ليلة وجودنا في الفندق، ثم اختفى يوم اختفائها،هل خرج قبلها أو بعدها ليلتقيا بمكان يسافران معا، وأين؟ هل إلى الأهوار، أم إلى الربع الخالي؟ ألقى الأوراق جانبا، وسرح ببصره عبر باب الحجرة،حيث يستطيع أن يرى الضفة الثانية من النهر، وتعاوده شكوكه بثيسجر، لماذا يسرد كل هذه التفاصيل عن بنت المعيدي؟ أيحاول استثارة غيرتها؟ يقولون إذا أردت اجتذاب امرأة تحدث معها عن امرأة أخرى؟ أحس باختناق ، قرر أن يخرج، يتمشى أو يجلس في مقهى قريب، مخالفا تعليمات التحريات، فهو لم يعد يجد لها معنى في ظل هذا الصمت الثقيل والطويل،والشرطيين الذي يحرسانه غالبا ما يسرحان بعيدا، أو يرى أحدهما نائما على كرسيه عند باب الفندق!..

 

جاءني السياب وجبرا، عرضا مساعدتهما، كلنا عاجزون، وثيسجر يبدو مهتما حقا ببنت المعيدي!

كان ماكس في ردهة الفندق يسلم مفتاح الغرفة لموظف الاستعلامات، يريد الخروج؛ عندما دخل الفندق شابان؛ تذكرهما على الفور. كانا قد زاراهما في بيت الآثار قبل أيام؟ أحدهما جبرا إبراهيم جبرا، وهو أديب ومترجم،فلسطيني، ولد وعاش طفولته وصباه في القدس، بعد انتهاء دراسته في كمبردج لم يستطع العودة إلى فلسطين، فجاء إلى العراق ليعمل أستاذا للأدب الإنجليزي في كلية الآداب ببغداد. والثاني، بدر شاكر السياب شاعر ومترجم عن الإنجليزية، ولد في أبي الخصيب، يعمل مدرسا ويكتب في صحيفة تصدر في بغداد. تعرفت أجاثا عليهما العام الماضي في صالون عائشة السلام في الأعظمية. كانا قد قرءا في الصحف خبر اختفاء أجاثا، لم يصدقا، وقد جاءا ليتأكدا من الخبر، وليتحدثا مع ماكس علهما يستطيعان القيام بشيء من أجلها. وجدا ماكس هامدا، ومحطما، كان واضحا من وجود ماكس لوحده بوجهه الحزين الشاحب، أن أجاثا لم تعد، ومع ذلك سأله السياب:

ـ هل من جديد؟

وحين هز رأسه صامتا بأسى، قال جبرا :

ـ لا تقلق يا ماكس ، ربما هو مجرد عارض نفسي لدى أجاثا!

كان جبرا قد قرأ الكثير عن حادثة اختفاء أجاثا في لندن،قبل سنوات طويلة، ولديه فكرة عن شطحات وذهول المبدعين الإنجليز والغربيين عموما!

أضاف السياب بنزعته الجماهيرية:

ـ ماكس كلنا سنجند أنفسنا للبحث عنها، سنعمل على إصدار بيان باسم المثقفين العراقيين يشجب ما حدث لأجاثا ويطالب المختطفين،ولو إنهم مجرمون عاديون، بإطلاق سراحها.

خرج ماكس عن صمته وتمزقه النفسي، قال:

ـ شكرا لاهتمامكما، لا أحبذ أي تصرف قد يعقد القضية، هي الآن بيد الشرطة العراقية والسفارة البريطانية، وهم كما لمست حتى الآن يعالجونها بطريقة حسنة!

لم يدعهما ماكس للجلوس في بوفيه الفندق، خرج بهدوء، وتبعاه، أزمعا مداراته لوضعه النفسي المتردي،لكنهما شعرا بفجوة بينهما وبينه. كان متحفظا، حذرا، وجدا ذلك أمرا طبيعيا، فهو يشعر بجو عدائي في هذه البلاد. كانت أجاثا هي مقصد الشابين ومحور صداقتهما واهتمامهما، يتبادلان معها الحديث عن الرواية والشعر والفن والآثار، ويقدمان لها نصوصهما الشعرية والقصصية بالإنجليزية لتبدي رأيها بها، لكن ماكس بعد سير لدقائق بين زحام المارة، والسيارات المنسابة بهدوء وخيلاء،بدأ يخرج من بروده ويبدي سروره بقدومهما بنظرات ودية ينقلها بينهما. أحس بشيء من الطمأنينة معهما، فهما يشعرانه أن أجاثا ما تزال موجودة، وهي محط اهتمام المثقفين العراقيين! تذكر جبرا إنه حين التقى أجاثا كريستي في صالون عائشة مصادفة، وتبادل الحديث معها ظل لساعة غير مصدق أن الذي تحدث معها هي أجاثا كريستي مؤلفة الروايات البوليسية الشهيرة، إلى أن قالت له عائشة أنها أرادت أن تجعلها مفاجئة له، وإنها هي فعلا بلحمها ودمها ودخان غليون زوجها المعطر!حين سألته أجاثا عن نتاجه الأدبي، خجل وهو يقول لها:

ـ لم أكتب حتى الآن سوى رواية واحدة وبالإنجليزية، ما زالت حتى الآن تتنقل بين دور نشر مغمورة في لندن، ولم يوافق أحد منها على نشرها!

ـ ما هو عنوانها، وحول ماذا تدور؟

ـ عنوانها "صيادون في شارع ضيق" حول معاناة مثقف فلسطيني في بغداد الأربعينيات، صراع أسرة برجوازية بغدادية مع نفسها، ومع الواقع الجديد المتحول سريعا!

ـ بودي أن اقرأها!

وعدها أن يأتيها بنسخة من مخطوطتها! كان السياب مهتما أن يعرف رأيها،بشعره،عبر نماذج من ديوانه "أزهار ذابلة" ترجمها على عجل وقدمها لها في زيارته الأخيرة، هو فرح بما قالته حين عرفت إنه مهتم بتجديد قصيدته، والخروج بها من العمود التقليدي الثقيل:

ـ هشم الأعمدة الصخرية للقصيدة، الإنجليز أنجزوا ذلك منذ فترة طويلة واعتبروه جزءا من نهضتهم الحضارية، القصيدة كالمرأة إذا تحررت التقت بروحها وحقيقتها،بل أستطيع القول أن تحرير القصيدة يعني تحرير المرأة أيضا، ستجعلني كلما رأيت امرأة تسير بثياب جميلة ملونة بعيدا عن العباءة السوداء والحجاب أتذكر قصائدك الحرة!

التفتت إليهما معا:

ـ اكتبا الجديد، مقابل كل قصيدة ستكون هناك امرأة جديدة، وسيكون مجتمع جديد!

هزا رأسيهما موافقين كطفلين عند جدتهما!

هل سيفقدان هذه المبدعة الكبيرة والمتواضعة؟ وأين؟ في العراق! يا للعار!كانا قد رددا هذه العبارة كثيرا، وهما في طريقهما إلى الفندق،كان جبرا الذي فقد وطنه فلسطين يعد العراق وطنه، والمثقفون العراقيون أشعروه أنه عراقي أكثر منهم، كانوا يلتقون في صالون هو جناح كبير من قصر عائشة المطل بحديقته الواسعة على النهر؛ تغدق عليهم عائشة ألوان الأطعمة والحلويات والمقطوعات الموسيقية. وكانا يجدان أجاثا قبلهما في معرض للفن التشكيلي،أو في حفلة للموسيقى السيمفونية في قاعة الملك فيصل الثاني، وفي أماكن أخرى، وأحيانا يكون معهما الروائي جلال العطار،فيتحاورون بهدوء ورقة، سألتهم هل بدأ كتابكم يؤلفون القصص البوليسية؟ إنه مؤشر على تنامي الشعور بالعدل وحقوق الإنسان، والديمقراطية أيضا، لكي لا يتم التحقيق في الجرائم في الظلام ينطلق المحققون أحرارا ينبشون وينقبون بحثا عن الأشرار، ويقول لها أحدهم، لم يكتب أحد هنا رواية بوليسية ، القراء العراقيون يستوردونه من الخارج، وأجاثا كريستي أعظم المصدرين ويضحكون، هل انتهت هذه اللقاءات الطيبة،وتلك المرأة الجميلة في خطر المجهول ؟ كانوا يسيرون في شارع الرشيد دون هدف قال جبرا:

ـ ما رأيك يا سيد ماكس أن نجلس في مقهى البرازيلية؟

كان جبرا بملابس جديدة قشيبة وبقوام رشيق،بوجه فاتح البشرة،وملامح جذابة، تغمره سحابة من دخان غليونه، والسياب بقوام نحيل طويل بعض الشيء ووجه غير متناسق؛ بعضهم يرى فيه دمامة وقبحا، لكن البعض ممن يحبونه يرى في دمامته رقة ووسامة غريبة، رغم أن أذنيه الكبيرتين،وأسنانه الكبيرة البارزة كلها تميل به بعيدا عن الوسامة! لكن صوته العميق المشقق يشد سامعه إليه! أما إذا نطق بشعره فإن جسده يغيب تماما وتحل مكانه روحه الكبيرة الطيبة العميقة الحزينة. كان النادل يتقدم إليهم بأكواب القهوة حين قطع ماكس الصمت فجأة وقال بنبرة ذكرت جبرا بمسرح شكسبير:

ـ أنا يائس من عودة أجاثا، يبدو إنني لن أراها مطلقا!

أخذا يتطلعان إليه وقد ارتسمت على وجهيهما سمات حزن وتجهم، قال السياب:

ـ ستراها حتما، بلادنا رغم الغليان السياسي يا مستر ماكس؛ مسالمة وأهلها طيبون،ومعروفون بإكرام الضيف حتى لو كان عدوهم. لا بد أن ثمة التباسا في قضية أجاثا، ستأتيك اليوم أو غدا، وستكتب هي قبل غيرها رواية بوليسية عما حدث لها!

ندت عن جبرا ضحكة قصيرة:

ـ ربما هي مجرد مزحة منها، وهي مزحة ثقيلة دون شك!

قال ماكس بأسى واضح:

ـ لا التباس، ولا مزحة ،ثمة ما هو أخطر ! وأنا قلق جدا!

كان كلام السياب مثقلا،بالسياسة والمصطلحات الأجنبية،وكان البعض يخشى على شعره من ذلك، وقد انهمك بالترجمة لبعض الصحف ليزيد دخله القليل، وتحسبا لاحتمال فصلة من وظيفته بسبب نشاطه الشيوعي،وكثيرون يعجبون كيف لم يعتقل لحد الآن،ويعزون ذلك لكونه أضحى معروفا في بيروت ودمشق والقاهرة، قال !

ـ طبعا لبريطانيا أعداء كثيرون في بلادنا، ولكنكما أنت وأجاثا مثقفان كبيران وصديقان لشعبنا، المناضلون في بلادنا يفرقان بين الكولونياليين المستغلين، والانتلجينسيا الغربية النقية التقدمية!

دخل المقهى حسين مردان بقامته المتوسطة الممتلئة ووجهه المستدير وعينيه المتحركتين هنا وهناك كعصفورتين محبوستين في قفص، اتجه إليهم، ألقى تحية مقتضبة متعالية، جلس على المقعد الخالي الوحيد بجانبهم، كان مفلسا كعادته، صاح بجبرا وهو يلهث من التعب اثر سير طويل فهو لا يمتلك ثمن بطاقة الباص:

ـ دزنا على كهوة!

قال جبرا مبتسماً:

ـ تأمر أبو علي!

كان جبرا يحب صعلكته، قائلا ( أحبه لصعلكته التي نحن نريدها، ونعجز عنها) كان يراه شاعرا موهوبا بوهيميا بخيال جامح ورؤى جريئة! شعر حسين بوجود شيء حزين جلل؛ فقال بلهجته الساخرة المعتادة:

ـ قولونا عليمن مسوين مجلس عزاء، حتى نبجي وياكم ونقرا الفاتحه!

التفت جبرا إلى ماكس قائلا:

ـــ أقدم لك صديقنا الشاعر المجدد حسين مردان!

اكتفى ماكس بانحناءة خفيفة برأسه، بينما رفع حسين رأسه شامخا، أضاف جبرا محدثاً ماكس كأنما لينسيه موضوع أجاثا:

ـ حسين هو أول شاعر حديث في العراق يقف في المحكمة بسبب ديوان شعر، كان ديوانه "قصائد عارية" هو بنفس وزن ديوان "أزهار الشر"، لبودلير في فرنسا!

اكتفى ماكس بابتسامة خفيفة وبدا متململا،قال السياب لحسين مشيرا إلى ماكس:

ـ ماكس مالون زوج أجاثا كريستي، لاشك إنك سمعت باختفائها!

قال حسين متصنعا حزنا:

ـ آني اللي حررت خبر اختفائها بجريدة الشعب .

عاد جبرا يرسم على وجهه ملامح حداد على فقد أجاثا، بينما بدا السياب يوشك أن يبكي ويرثيها بقصيدة مرتجلة، قال موجها كلامه لماكس:

ـ لابد إنها في ضيافة أصدقاء لها، وغفلت عن أعلامك، هل اتصلت بالسيدة عائشة؟ قال ماكس:

ـ اتصلت بها وبعفيفة اسكندر، وهما لا تعرفان شيئا عنها!

قال جبرا:

ـ لا تقلق! ستظهر قريبا، ليس هناك خطر جدي عليها، بغداد آمنة، آمنة تماما!

هو يتذكر دائما المظاهرات العارمة التي انطلقت قبل فترة قصيرة، مطالبة بإلغاء المعاهدة مع الإنجليز، وهزت بغداد وشلت الحياة فيها، وسقط فيها العشرات من الطلبة والشرطة والأهالي،بين قتيل وجريح، سماها المعارضون وثبة كانون، وسمتها الحكومة قلاقل الهدامين، كاد جبرا يقتل في إحدى سوراتها العنيفة.كان على باب الكلية عندما أطلقت الشرطة النار على المتظاهرين، وسقط طلبة قريبا منه،وظل الرصاص يمر فوق رأسه، كقضبان ملتهبة.

 

ثيسجر يسأل السياب عن قصيدة غزل في بنت المعيدي،والشيوعيون يريدون من السياب قصيدة عن المومس العمياء!

فجأة سألهما ماكس:

ـ هل تعرفان ولفريد ثيسجر؟

كان ماكس يعرف أن ثيسجر يتردد على مقاهي المثقفين في بغداد؛ متحدثا عن رحلاته المثيرة ومشاريعه الاستكشافية؛ يريد أن يجعلها علنية ويبعد عنها السرية والتكتم؛ كي لا تحتسب كتجسس،ويريد أن يكتبوا عنه ويبرزوه كبطل مغامر، قال السياب:

ـ نعم أعرفه؟ هو يأتينا هنا، نجلس ونتحدث عن رحلاته،الآن صار يتحدث كثيرا عن بنت المعيدي، واقعا في غرامها!

وراح يضحك ،سأل ماكس :

ـ ما رأيكما به؟

رد جبرا:

ـ أنه رجل طيب ومسالم!

أضاف السياب ضاحكا:

ـ وظريف حالم أيضا، سألني ألم تكتب قصيدة غزل في بنت المعيدي؟ حين قلت، لا، كتبت قصيدة عن المومس العمياء، هز رأسه مستغربا!

استلم جبرا الحديث منه قائلا:

ـ حسين مردان يقول أن الشيوعيين يدفعون السياب ليكتب عن المومسات العمياوات، وليس عن الحسناوات المصونات المبصرات،لا لشيء إلا لأنهن برجوازيات مرفهات، وهذا أكبر خطر يتهدد موهبة السياب، وهو محق في ذلك!

التقط حسين اسمه، هو لا يعرف الكلام بالإنجليزية ولا يفهمه،فسأل باعتداده المعهود:

ـ شبيه حسين مردان؟ شنوا دترشحو لمجلس اللوردات البريطاني؟ طبعا آني ارفض الترشيح حتى لو طلبت إيدي الملكة اليزابيث، عندي "أمونة" الحلوة ملكة بنات الميدان، أعظم ملكة!

ضحك جبرا والسياب، كان ماكس شارد الذهن رغم أنه فهم حديثهم بالفصحى والعامية،

شعر جبرا أن عليهما أن يتركا ماكس، ولكنه تذكر الأوراق التي جاء بها إلى أجاثا، فتح محفظة جلدية بنية، أخرج منها مظروفا أبيض كبيرا، قائلاً:

ـ كنت قد طلبت من أجاثا صفحات من مذكراتها أو يومياتها لأستفيد منها في جو رواية أريد كتابتها عن القادمين من بلاد الضباب؛ حالمين بشمس بلادنا وأنوارها؛ فأعطتني هذه الصفحات الممتعة جدا، كم أنا ممتن لها، هي جريئة صريحة شفافة في كل كلمة تكتبها. تحفز ماكس ملهوفا لقراءة أي شيء لأجاثا، كأنه سيتحدث معها الآن، ومن جديد، تناول الأوراق من جبرا بلهفة واضحة، انفرجت أساريره بعض الشيء، قال وهو ينهض:

ـ أرجو المعذرة، لا أستطيع البقاء طويلا خارج الفندق؛ فقد تأتيني مكالمة عاجلة من الشرطة، أو السفارة. واضعا يده في جيبه ليدفع فانبرى السياب قائلا أنت ضيفنا. نهض ثلاثتهم يودعونه!

خرج من المقهى يغذ الخطى مسرعا، رغم مشيته المترهلة، كان مستعجلا، يريد أن يصل حجرته، ويختلي بأوراق أجاثا كأنه سيلقاها ثانية . قال حسين:

ـ اختفاء أجاثا لعبة بريطانية يريدونها مع نوري السعيد؛ لتمرير صفقة ما من ورائها! ضحك جبرا مستخفا، وقال السياب:

ـ أيها الشاعر العظيم، تتهمني بالخضوع للشيوعيين بقصائدي، وتنشر هيج آراء بجريدتكم؟ أنا أعتقد، اختفاءها حالة إنسانية غامضة أقرب للشعر، أو الحلم!

ـ لا لا هذا مو رأيي أنا، هذا رأي السياسيين المشرفين على الجريدة!

قال جبرا :

ـ سمعت، أن منظمة طلابية تدعى "اليد الحمراء" اختطفتها بسبب قتل الشرطة الكثيرين من زملائهم الطلاب، وللمطالبة بإطلاق سراح السجناء والموقوفين السياسيين بعد وثبة كانون !

قال السياب:

ـ أعتقد أن الاختطاف ليس من عادة العراقيين في النضال، ترويع الناس أسلوب همجي يجر الأوضاع لمزيد من التدهور، بدلا من حل المشكلات!

ـ نعم هذا صحيح، لكنني هكذا سمعت من بعض الطلاب!

قطع حسين الحديث وحوله إلى جلستهم وشربتهم الليلة:

ـ يالله نروح للبار ، نكمل حديثنا، نشوف شلون السياب صار مفسر أحلام! لازم تشربونا، انتو قبضتو راتب! أنا حتى بعد شهرين ما أقبض، الجريدة مفلسة كل يوم يغلقوها ومينطوها إعلانات، هسه أنا ما أعرف ليش الجريدة تتدخل بالسياسة،خل تكتب عن الملاهي عن السينمات عن الكاولية الطيبين، ويخلون أم اللبن تحجي بالسياسة، أحسن!

افلح باقتيادهما إلى بار جبهة النهر، قائلا وهم يدخلونه:

ـ تر موتفضوها بربع مسيح ومزة جاجيك، أنا اريد نص بطل مستكي وبيك؛ حتى يعدل راسي، وعشانا سمك مسكوف! مو تكلبون علي؟ وكانوا يضحكون!

 

أتعرف أكبر سفينة في الدنيا؟ تستطيع أن تحتويها بقبضتك!

صعد ماكس درج الفندق؛ مسرعا،أنفاسه تتلاحق متقطعة، استبدل ثيابه واستلقى على سريره يريد أن يسترخي قليلا، هو يعاني ارتفاع ضغط الدم، ولا يعلم إذا كان مقدار الدواء الذي يتناوله ما يزال كافيا وهو في هذا التوتر الشديد. ومع ذلك لم يجد خروجه دون جدوى، حصل على أوراق جديدة لأجاثا، شعر بانتعاش لحديثه مع السياب وجبرا، كلنا عاجزون أمام هذه المصيبة،كأن شيئا من قوة الشعر بدأت تداخلني، وتجعلني أقدر على تبين هذا اللغز!

كان ماكس في لهفة شديدة لقراءة أوراق أجاثا ،ألقي أوراق ثيسجر جانبا، حتى الآن لم أجد فيها شيئا يدلني على أجاثا. لا أتوقع أن تقول لي في هذه الأوراق أين هي الآن، وماذا حدث لها، لكنني أتوقع أن أجد فيها شيئا ما قد يضيء ولو جانبا من لغز اختفائها! قرأ عدة صفحات وجد أنه كان قد قرأها سابقا، هي ليست جديدة، أجاثا لا تكتب شيئا، إلا وتطلعني عليه! وضعها جانبا، كنت حين قرأتها آنذاك عرفت كل شيء تقريبا عن حياتها، تطابقت حياتي مع حياتها منذ لحظة حبنا الأولى، نحن كفلقتي بذرة إذا انفصلتا لن تنبتا في أية تربة في هذه الدنيا، ولم تكن أجاثا تلح في السؤال عن تفاصيل حياتي، لكنني صرت اشعر أنها تعرفها كلها تقريبا، كيف؟ بالإيحاء؟ بمخيلتها الروائية الخلاقة؟ بالانتباه لظلال كلماتي وخلجاتي؟ بأسئلتها لي دون الإثقال علي. هي تكره التجسس على الآخر، حتى في عملها الإبداعي. كنا جالسين عصرا في حديقة بيتنا الصغيرة في الموصل، نحتسي الشاي مع البسكويت. قالت أتعتقد يا ماكس إنني اعرف فقط أنك ولدت في لندن سنة 1904 من أبوين كادحين، أنهيت دراستك في أوكسفورد متخصصا في علم الآثار وتاريخ الشرق الأوسط وإنك أعجبت وانبهرت بتاريخ العراق القديم وقررت أن تكرس شطرا كبيرا من حياتك له، لا،.. لا يا ماكس أنا أعرف اهتماماتك في صباك ومراهقتك، ماذا كنت تقرأ وتفكر، نزعتك الإصلاحية وتطلعك لعدالة مطلقة كادت تلقي بك في أحضان الشيوعية، أعرف تهويماتك العاطفية المبكرة والخجولة، أعرف أنك لم تكن مكترثا لوسامتك ورشاقتك وتطلع الفتيات لقوامك الممشوق الجذاب، أعرف مشيتك الحزينة الذاهلة عما حولك وولعك بالغليون بعمر مبكر، أعرف تلك الشابة الجميلة زميلتك في الكلية التي أحببتها بجنون، وبادلتك بعضا من الحب ثم هجرتك فجأة فقررت، بعد تخرجك أن تذهب إلى صحراء أور لتدفن ذكريات حبك فيها، وبنفس الوقت تواصل دراستك وبحثك في تاريخ العراق القديم. بقراءة أوراقها هذه صرت أعرف أجاثا أكثر ، لماذا لا نستطيع أن نعرف من نحبه إلا عبر الآخرين؟ في رسالة لهم أو حديث معهم، أو إلا إذا أراد هو أن يعكسها لنا في وقت لا نتوقعه! امرأة بعمرها وشهرتها تهتم بكل شئوني الصغيرة،كيف أشك بحبها لي؟ لمجرد أنها اختفت في ظروف غامضة؟ أو أن تصلها رسالة طويلة مهووسة ملتبسة من هذا الرحالة شبه المخبول ثيسجر؟ أليست هي التي طلبتها منه مادة لرواية محتملة عنه، هم بالنزول إلى الشاطئ، لكنه صار يخشى لقاء دعبول وسؤاله عن أجاثا، ثم ينطلق في غنائه وبكائه وضحكه ورقصه! وهو الآن ليس في مزاج لذلك. كيف احتمل هذا الكهل فقدان ابنه الوحيد؟ الآن صرت أدرك، لا شيء يدمر الإنسان سوى فقدانه أحبته، وأعرف أن أكوام العظام تحت الأرض،التي نقلبها بمجارفنا،كانت خلفها الكثير من الأحزان، هل يكفي كأس الويسكي للنجاة؟ أيام شبابي لقيت شابا في حانة بلندن، كان يعب الشراب بكثرة، تجاذبنا حديثا عرفت منه أن حبيبته الحسناء قد هجرته مع رجل مسن غني. وكنت أنا أيضا أعاني من الغدر والهجران،سألني أتعرف ما هي أكبر سفينة في الدنيا؟ بقيت أهز رأسي لا أعرف ماذا أجيب، زايد اللغز غموضا وهو يقول: ، تستطيع أن تحتويها بقبضة يدك، بقيت أهز رأسي قال: لا تتعب نفسك: إنها كأس الشراب؛ تناوله وأنظر كيف يطوف بك البحار كلها!ويفتح لك شواطئ الدنيا؛ فترى طيبها وخبيثها! أنا اليوم لا احتاج لأكبر سفينة في الدنيا، أحتاج أصغرها، بلم دعبول البلام، يجمعني وأجاثا نمخر عباب دجلة! توقف عن القراءة، شعر إنه سيضيع جهده ووقته مع أوراق ثيسجر ولا يجد شيئا، يكشف عما حدث لأجاثا.لم يشعر بالجوع،بل بشيء من الغثيان، أدرك حاجته للقمة تسند معدته وهي تعب من دخان الغليون. كلما دخل ماكس مطعم الفندق ليتناول لقمة بسيطة، ودون شهية؛ يتذكر جبرائيل ويشعر نحوه بالأسى والندم؛ أيكون قد جنى عليه بإفادته عنه؟ أم كان عليه أن يكون موضوعيا ودقيقا في الإجابة على أسئلة المحققين،وتطرقه لجبرائيل كان بتأثير إحساسه في حينها ، يتمنى الآن لو يستطيع إطلاق سراحه أو يفعل شيئا من أجله، ولكن الرجوع في إفادته سيكون صعبا ،والقضية يجب أن تأخذ مجراها الذي بدأته. أما حنا فقد أوقفوه لتركه مكانه في الاستعلامات! والمدير كان من الطبيعي أن يستدعى للتحقيق، فهو المسئول عن أمن الفندق ونزلائه. بينما كان نادل المطعم يقدم له الطبق الخفيف الذي طلبه، استوقفه ماكس،سأله:

ـ هل لديك أخبار عن جبرائيل وحنا؟

لم يسأله عن المدير، ربما لشعوره أنه كان مقصرا بشكل ما، وإنه رجل ثري، وحتما له علاقات برجال كبار يحمونه ،هز النادل رأسه بأسى:

ــ هما لا زالا موقوفين في مركز للشرطة قرب الفندق، وقد سمحوا لأهلهما ولنا بزيارتهما، جبرائيل طلب أن أجلب له روايات أجاثا ليتسلى بإعادة قراءتها، قال إنه لم يكن يتصور يوما أنه سيكون متهما بخطف أو قتل أجاثا كريستي، فقد أحبها كثيرا، إنه يضحك فرحا ويقول:أنا متأكد أنها ستعود، وتكتب رواية بما حدث لها، وستذكرني فيها،ويعرفني العالم كله! وقد سلم عليك كثيرا، أما حنا فهو يقضي وقته بالنوم ، لقد عرضوه للتعذيب أكثر من جبرائيل، لا أدري، يقولون إنه قصر بواجبه، ويقولون إنه يحب الشيوعيين، كانوا يريدون انتزاع اعترافات منهما ، ولكن على ماذا يعترفان؟ رجع ماكس إلى حجرته، تناول أوراق ثيسجر، عاد واقنع نفسه بشيء تعلمه في التنقيب "لا تدري أية حجر ترفعه أو تسير باتجاهه؛ فتجد الكنز العظيم"، هنا لا تدري في أية صفحة أو سطر أو كلمة تجد بابا يفضي إلى أجاثا، هل علي أن أقراها كلها؟ ولم لا؟ كم تلال من التراب حفرتها بحثا عن لقية أثرية صغيرة؟ ثم أليست أوراقا مسلية، تكاد تنسيني همومي؟ لأقطع بها هذه الساعات العصيبة حتى تحل اللحظة السعيدة وتطل اجاثا؟ لأقرأها، فقد أجد فيها وبشكل ما كلمة السر!

 

خالد يقوم بدور المفتش هركيول بوارو، ، ثمة روح طيبة؛ قاربناها في ماض بعيد، ونسيناها، تأتي اليوم وتمد لنا يدا!

كان المحقق القضائي خالد يتابع بقلق ما تنشره الصحف المحلية عن اختفاء أجاثا. بعضها أسمته"اللغز الإنجليزي الكريه" وجد أن الصحف المعارضة السرية والعلنية تتحدث متحاملة أو متشفية، مشككة في القضية برمتها" ماذا تفعل أجاثا كريستي في بغداد؟ لو وجدت فإنها جاءت لتكتب رواية تقوم من ورائها بالتجسس على العراقيين وحركتهم الوطنية". ثمة صحفي كتب:" أجاثا وزوجها جاسوسان خطيران،غريبا الأطوار، فإذا كان الجواسيس يتجسسون على الناس من فوق الأرض،فهما يتجسسان على العراقيين من تحت الأرض، بحجة التنقيب يقومان بحفر أنفاق تصل إلى ثكنات ومعسكرات الجيش ومقرات الأحزاب الوطنية لتسجيل كل شيء وإرساله إلى المخابرات البريطانية!" " يحفرون تحت بيوت الناس وحجرات نومهم وحماماتهم، فيصورونهم وهم عراة وفي أوضاع خاصة لابتزازهم فيما بعد"، محذرا من أية أصوات غريبة تنطلق من تحت بيوتهم! صحيفة الشيوعيين السرية كتبت: " إنها لعبة، يراد من ورائها تبرير وتصعيد حملات اعتقال الشيوعيين،و تحويل العراق إلى قاعدة تجسس ضد الاتحاد السوفيتي، أمل البشرية الأعظم" كان خالد قد درس اضبارة اختفاء أجاثا جيدا، وجدهم في دائرة التحريات الجنائية قد أغرقوها في خضم الصراعات السياسية التي تشغل الحكومة. فزادوها غموضا ،وتعقيدا، وصارت مستعصية تخلق قضايا أخرى. وإذا ظل التحقيق على هذا المنوال فلن يصل إلى أجاثا، بل قد يساهم في إيذائها وربما قتلها! قرر أن يلتقي بماكس لا كمحقق رسمي، بل كصديق قديم، وعله يتذكره! مضى إليه راجلاً، لم تكن المسافة بين مقره وفندق تايكر سوى أمتار قليلة. كان وهو يسير بتمهل يحاول أن يستجمع أفكاره ويستنفر خبرته، ويحدد من أين يبدأ، أو يمسك الخيط. سار واثقا، مسترخيا، آملا أن يصل إلى نتيجة طيبة. هو بقوام ممشوق أقرب للطول، بوجه دقيق الملامح، على شيء من الوسامة، فاتح البشرة، بشارب رفيع مشذب، فوق شفتين مضمومتين تؤثران الصمت كرجل قضاء، أعزب، يشغله طموحه في السفر لمواصلة دراسته القانونية في لندن أو باريس! خطر له أنه سيجد في رواياتها،خيطا يضيء طريقه إليها! لا حاجة له لكي يعيد قراءتها فهي موجودة في ذاكرته وما عليه سوى أن يسترخي ويطلق العنان لخياله ووجدانه يحلقان في أجوائها المثيرة المشحونة بتقلبات النفس البشرية وتفجراتها الغريبة، دخل الفندق بهدوء، لم يعلن عن هويته. أعلم موظف الاستعلامات، والشرطي الجالس بجانبه، أنه يريد مقابلة ماكس، سأله الموظف بحذر:

ـ هل أستطيع أن أعرف من أنت؟

ـ قل له صديق قديم من أيس، وهو سيعرف!

كان ماكس أثناء ذلك مستغرقا في قراءة أوراق ثيسجر،مبحرا في لجتها التي ما تزال غامضة له، لكن مجيء أي طارق يبعث أملا في قلبه أن له علاقة باختفاء أجاثا،كما يجعل قلبه ينقبض هلعا، "وقوف طير على حاجز الشرفة سأظنه يحمل شيئا عن أجاثا" هرع نازلا، إلى باحة الفندق! لم يتعرف على خالد حتى بعد أن توقف هنيهة عن قرب محدقا في ملامحه، ظل خالد يبتسم بهدوء:

ـ مستر ماكس هل نسيت نواعير أيس، وعيون الكبريت؟

أقبل ماكس إليه يصافحه، قائلا بخفوت وبرود:

ـ أنت خالد، أهلا؟

خمن خالد إنه لو كان في وضع نفسي أفضل لأستقبله بحرارة، ولضمه إلى صدره مثلما ودعه وهو صبي. هو الآن يبدو فاتر المشاعر إزاء كل شيء، تذكره كيف كان يداعب الأطفال ويحنو عليهم في أيس، ويتابع أجاثا ويرقبها وهي تخطوا بين سواقي البساتين والدروب الترابية الضيقة. اليوم وقد اختفت، هو حزين محبط، عله يستطيع أن يرد له الطمأنينة والأمل:

ـ آسف لم أكن أعلم أنكما في بغداد، يؤسفني إنني ألقاك في هذا الظرف الأليم، كنت أتمنى أن نلتقي بغير هذا الحال، ولكن اطمئن ستعود أجاثا، وتكون بيننا، قلبي يحدثني أنها بخير!

عرفه على وظيفته الحالية، راح يشرح له طبيعة مهمته. شعر ماكس بالراحة، بدا على وجهه حبور وهدوء. وانطلق يحدثه بمكنون صدره، كان يتحدث بسرعة وتدفق بعد أن وجد أن خالد يتكلم الإنجليزية بطلاقة رائعة، ربت على كتف خالد:

ـ عظيم! أنت ذاك الصبي الذكي الذي كان يقودنا بين ربوع أيس، صورك لا زالت لدينا، يسعدني إنني ألقاك الآن.. لو فقط أجاثا معنا. وأخذ صوته يرتعش.

ـ اطمئن سنلقاها.

أطلعه على القائمة الطويلة من السياسيين وأتباعهم الذين اعتقلوا في الأيام الماضية ، لم يحدث لقضية خاصة أن شغلت الحكومة والشرطة والقضاة، والبلاط الملكي نفسه كقضية أجاثا :

ـ أرى إن التحقيق يجب أن يأخذ مجرى آخر، وسنجدها حتما حية معافاة!

ـ إذا كان كل هؤلاء أعداء بريطانيا، فهم ليسوا بالضرورة أعدائي أو أعداء أجاثا! الساسة يصنعون أعداء لبلادهم بسرعة، وأنا أبني صداقات ببطء ، أنا واثق، ليس لنا عدو واحد في هذه البلاد، نعم لا أعداء لي أو لأجاثا، لا هنا ولا في أي مكان في الدنيا! صمت فجأة. لام نفسه، هل حقا هما دون أعداء؟ وأخذ يفضي بما يثقل صدره لخالد:

ـ جئنا نبحث عن الماضي، فغرقنا بمشاكل ومصائب الحاضر،أنا وأجاثا مؤمنان أننا بمهمة إنسانية وحضارية ، هل أن أجاثا قد دفعت ثمن ذلك؟ هل سألحقها أيضا؟ لا أدري!

ـ اطمئن ، لن يكون إلا الخير؟ التحقيق سوف لن يسقط أي احتمال، بحثنا ينبغي أن يكون هادئا قدر الإمكان! هل ثمة أوراق لأجاثا، مذكرات، صفحات روائية، شيء من هذا القبيل؟

ـ أجل، هي عاكفة على رواية، صفحات من مذكرات، رسائلَ، ملاحظات تتعلق برواياته !

ـ رائع ! هل أستطيع أن أطلع عليها؟

ـ نعم لا مانع لدي!

ـ هل أستطيع مرافقتك؟ أريد أن أرى وضع حجرتكما؟

ـ بل هناك شيء خطير ،لا أدري هل علمت به!

حين مرا بالشرفة أشار ماكس إلى قطرات الدم:

ـ هذه أخطر، شيء تركته!

ـ انس هذا الشيء، التقرير الذي جاءنا عنه من المختبر أكد إنه رعاف أنفي، فيه مادة مخاطية.

تطلع خالد في أرجاء الحجرة، انشغل ماكس بجمع ما سيسلمه من أوراق، أحس بامتنان لجبرا والسياب الذين جلبا أوراق أجاثا، فهي ستكون مفيدة لخالد في بحثه وتحقيقه، قرر أن يستبقي أوراق ثيسجر لديه، ليس فقط من أجل أن يستكمل قراءتها بل لكي لا يتسرع في أثارة أشياء قد تعد فضيحة لزوجته دون مبرر، فهو في كل ما قرأه وما راوده من شكوك وهواجس لم يجزم بعد بوجود علاقة لثيسجر بما حدث لأجاثا، سلمه أوراقها، قائلا:

ــــ هناك أوراق أخرى ، أريد أن أتأكد من علاقتها بقضية أجاثا ثم أسلمها لك!

ــــ لك ذلك ، لكن لا تستبعد شيئا؛ فقد تكون قصاصة صغيرة هي مفتاح القضية! نصحه بالهدوء والاسترخاء والحذر، ودعه ومضى!

أحس ماكس براحة ما،هذه يد طيبة تأتي من ماض بعيد، لمسة حنونة، أخذته مشاعر متضاربة، مزيج من الخوف والحنين لتلك الأيام التي عاشها مع أجاثا يجوبان فيها ضفاف أعالي الفرات، لم يطاوعه قلبه أن يقر باختفائها،عاودته رغبة الشراب، لكنه أحجم، خشية أن يظل يواصل الشرب ويفقد تركيزه وهو أحوج ما يكون إليه . عاد يقرأ قائلا "خالد الآن يقرأ أوراق أجاثا، وأنا أقرا أوراق ثيسجر، وعل أحدنا يجد كلمة هي المفتاح!

 

كان حبيبها شاعرا، أقر بعجزه عن الانتصار على ضابط انجليزي، أعطاها نصيحته القاتلة، وقاد نفسه إلى مصير رهيب تراوح بين نار الحريق، والبيرة المثلجة!

انبعث صوت سليم ممزوجا بالدخان يحدثني بحكاية أخرى:

ـ وللتركمان حكايتهم المثيرة عن هذه الفتاة الفاتنة، وهل يسمح جمالها الباهر لقوم أو أمة أن تدير ظهرها لها، أو لا تدعيه لنفسها؟ هم يقولون إن اسمها فاطمة "بنت الصمانجي" أي "بنت التبان"، وإن عائلتها كانت تسكن الحي القديم من كركوك، بدأت مأساتها عندما حملت مكنسة القش وراحت تكنس البيت، وما أن وصلت العتبة حتى مرت مفرزة حراسة انجليزية، وعندما وقعت عينا الضابط الإنجليزي عليها تعثر وكاد يسقط؛ فأسنده جنوده، وتظاهر بالدوخة والدوار فطلب له الجنود الماء من الفتاة الجميلة؛ فجلبته لهم. وقفت تنتظر ليعيدوا لها القدح الفخاري الكبير، وبينما أخذ الجنود يرشون الماء على وجه الضابط، ويسقونه، كان هو ينظر إليها من تحت جفونه المسبلة بخبث، ويحفظ مكان بيتها البسيط الرث. في اليوم التالي أتى إلى عائلتها مع وجهاء ورجال دين طالبا يدها؛معلنا استعداده لأن يسلم ويصير تقيا ورعا، بل ورجل دين بعمامة كبيرة من أجل أن يفوز بها. عرض على أبيها الفقير الذي يعيش على جلب التبن من الحقول وبيعه لمربي الماشية؛ الكثير من المال؛ لكنه رفض. كان هو وأمها غير مقتنعين بتزويجها من غير مسلم، وحتى لو أسلم فإن وجوده في بلادهم سيكون مؤقتا وقصيرا، وسيأخذ ابنتهما إلى بلاده البعيدة، بلاد الكفار! لكن الضابط لم ييأس فراح بين يوم وآخر يأتي إلى أبيها بوفود من وجهاء التركمان ورجال الدين، محملين بمختلف فتاوى جواز المسلمة من غير المسلم؛ إذا أسلم، بل زادوا على ذلك بقولهم مجمعين إن تحويل غير المسلم إلى الإسلام يعادل حجة إلى بيت الله ، ويمنح فاعله قصرا في الجنة! أخذ الضابط بطريقة ما يوصل هدايا من ثياب وحلي وحلوى إلى الفتاة وأهلها، كانت العائلة ترفضها مقاومة بريقها ورائحتها، وأخيرا لعب الضابط الإنجليزي بالتهديد والوعيد إن لم يحصل عليها، فسلط بعضا من رجال الحكومة المحليين في كركوك وبينهم رجال من التركمان الأشداء الذي لهم مصلحة في استرضاء الإنجليز وعدم إغضابهم للحفاظ على ثرواتهم وإقطاعياتهم بعد أن أقروا بزوال حكم العثمانيين أبناء عمومتهم، أخيرا انهار الأب المسكين، ورضخ لهم ووافق على زواج ابنته الجميلة من الإنجليزي، (غنى شاعر تركمانى فيما بعد عن لحظة استسلامه هذه قائلا، قوة الإنسان من قوة بلده، وأهله، فلماذا يبكي البلبل لوحده في ليل الحديقة؟) لم تلبث خدمة الضابط الإنجليزي أن انتهت أو هو سارع لإنهائها ليضع زوجته في قفص ذهبي في لندن.ثمة جيران لهم قالوا، "الضابط كان شريفا على الطريقة الإنجليزية، وفى بوعده في أن تكون فاطمة عند أهلها، ولكن ليس جسدا بل صورة" ، فأتى برسام ايطالي مهاجر وطلب منه أن يرسم فاطمة على غرار الموناليزا ، فرسمها له بأكثر من وضع جميل خاصة وهي تعتمر الطربوش النسائي التركي المشرشب بالذهب، وأرسل صورتها لأهلها عبر بريد الجيش الإنجليزي المضمون! قالت أمها تنظر إلى الصورة باكية:

ـ ابنتي التي حملتها في رحمي تسعة أشهر لحما ودما ، تعود لي أخيرا قطعة من القماش والصبغ وعلى خشبة هي تابوتها!

يقولون أنها دفنت صورتها في زاوية مهجورة من بيتها الفقير، ولم تكف عن البكاء، حتى ماتت،وأن فاطمة لم تكن حياتها في لندن اقل حزنا وعذابا؛ رغم البيت الكبير الجميل الذي وضعها فيه زوجها. قالوا إنها لم تنجب،أصيبت بالعقم نتيجة صدمتها، آخرون يقولون إنها أنجبت بنينا وبنات بعضهم تبوأ مناصبا في وزارة الخارجية البريطانية.وإن أحدهم جاء سفيرا لبريطانيا في العراق! وكالعادة هكذا حكاية لا تكتفي لنفسها بثوب واحد، فراح الناس يروون عنها أكثر من مسار ومصير منها حكاية مؤثرة وحزينة جدا، تقول أن فاطمة كانت عاشقة لشاب فقير كان يهيم بها حبا، وإنه بعد أن رأى عذاب أبويها وهما يقاومان عبثا كيد الإنجليزي وتهديداته، طلب منها أن تتركه؛ وتستسلم لقدرها! وهذا زاده عذابا فيما بعد، فتمضي الحكاية لتقول: إنه كان شاعرا، ومغنيا ذا صوت جميل، فأصيب أثر فراقها بلوثة عقلية، فهام على وجهه في شوارع وطرقات كركوك، يبكي ويضحك وينشد أشعارا يلعن فيها الانجليز مرددا: "المحتل ينتزع من البلاد التي يحتلها أجمل ما فيها، ليغرس مكانها أقبح ما عنده" وإنه ظل يسعى حتى وصل إلى حجرة مدير شركة نفط كركوك؛ فسكب حولها صفيحة نفط ، وأشعل بها النار،ملقيا نفسه فيها صائحا: "أيها الإنجليز كما أحرقتمونا بنفطنا؛ احترقوا معنا ولو لمرة واحدة" ولكن المدير الإنجليزي في تلك اللحظة كان في مطعم الشركة مع أصحابه يحتسي البيرة المثلجة، فاحترق العاشق المسكين لوحده! ثمة من يتحدث انه بعد أن مات والدا فاطمة، وتشتت أشياء البيت بين أخوتها وأخواتها المتفرقين، ولم يكترثوا لصورة شقيقتهم، استطاع جار لهم كان يعرف حكايتها،الحصول على الصورة، أرسلها مع أحد أقاربه إلى بيروت فطبع منها نسخا كثيرة وأخذ يتاجر بها، بذلك بعثت فاطمة من جديد، صارت صورها تعلق في المقاهي والمطاعم وعلى جدران قلعة كركوك،أسموها نجمة كركوك، وقمر التبان،والفاتنة التركمانية، وضحية الاغتصاب والظلم،وراحوا يألفون لها، الأغاني والترانيم الحزينة التي اشتهرت منها أغنية تناديها (يا ابنة التبان ذات الأربعة عشر ربيعاً، غابت الشمس خلف التلال ، تعالي هنا، القلوب تبكي مع الينابيع،والطيور لا تقوى على الطيران، والصخور تتفتت مع الريح) وما تزال الأغاني التي تترنم بها حية مؤثرة حتى اليوم يغنيها التركمان في أعراسهم، وختان أبنائهم، وأفراحهم ،وينيمون عليها أطفالهم!

 

الحكاية الأكثر فجيعة لفاطمة حدثت في كركوك، لكن نجمتها الساحرة سطعت في مياه الأهوار! قررت أن أكون تحت تلك السماء، وقد اخترت الحب المستحيل!

عاد صوت سليم يأتي مخرشا تخالطه نبرة حزن ثقيل:

ـ ومع أن حكاية التركمان عن فاطمة قوية ومؤثرة، وتكاد تكون مقنعة، لكنها ظلت تسمى بنت المعيدي وبزغ نجمها فوق الأهوار، ،وليس من أي مكان آخر، والناس هناك يؤكدون أنها أبنتهم ،وبرهانهم أن الإنجليز، دخلوا من الجنوب عام 1914 وان الصورة بدأت بالظهور في العشرينات، سنوات كافية لبدء حب ونموه وانتكاسته،والإنجليز لم ينتشروا في كركوك إلا بعد بدء شركاتهم بالاستحواذ على النفط فيها، وكانت آنذاك صور بنت المعيدي قد انتشرت في كل مكان! بقيت شاردا مع هذه الاحتمالات أو الادعاءات لسيرة الفتاة ومصيرها، المتكرر فيها دائما وجه ضابط انجليزي غاصب،بسحنة وحشية، قلت:

ـ أنا خجل مما فعله ضابطنا الإنجليزي!

قال سليم مبتسما:

ـ أسلافنا أيضا خلال حروبهم فعلوا ذلك، يصعب أن ننتظر من الحروب شيئا آخر!

ـ يبدو إن كل جماعة تنسبها لنفسها، لتقول أن الجمال لدينا وليس لدى الآخر!

ـ ثمة صراع خفي بين الطوائف والقوميات في هذه البلاد، ليته يبقى يدور حول فتاة جميلة، ولا يتفجر حول أي شيء آخر!

وجدتني أواصل معه حديثا في جو السياسة سألته:

ـ ألا يكفي التمسك بالجمال لدحر الشر؟

ـ ليس العنف دائما الطريق الأمثل لكسر العنف!

سكت فجأة، اعتراه وجوم قال:

ـ أعتقد أن اليوم الذي تختفي فيه هذه الصورة عن أنظار العراقيين، فلا صورة أخرى لهم غير صور الحروب مرة أخرى!

شعرت وكما الحلم أن حكايتها تسقط في قلبي مثل حمامة جريحة، بطلق ناري من صياد يترصدها، وإن قلبي صار نهرا جاريا، توقف عن الجريان فجأة ليحتضنها،وسيظل متوقفا متفكرا،حتى يعيدها للحياة سعيدة. قلت في نفسي أنها من الممكن أن تكون بنت المعيدي مربي الجاموس، أو بنت التبان التركماني أو الآشوري الآتي من تاريخ مديد، أو الكردي المنعزل في الجبل ، أو بنت أي أناس آخرين، لكنني الآن أميل لاحتمال أنها بنت المعيدي، وإن أهلها الآن في الأهوار، ليس فقط لأن أهل الجنوب هم أول من احتك بالإنجليز، حين دخلوا عبر شبه جزيرة الفاو، بل لأن قلبي يحسها امرأة نهضت من أساطير المياه الشاسعة، دون أن أغفل الاحتمالات الأخرى! لا أدري هل كان هذا حلما، ومضة باهرة أم قرارا صائباً! انفجر سليم فجأة بضحكة جعلتني أنظر إلى وجهه مستطلعا، قال تذكرت ما أضافه الشيوعيون لحكاية بنت المعيدي،فهم يقولون أن المخابرات السوفيتية لكونها تشعل الثورة العالمية كعمل خيري، لوجه البروليتاريا، وتقف إلى جانب المضطهدين في العالم ،استطاعت اختطاف بنت المعيدي من بيت الضابط الإنجليزي في لندن، وتهريبها إلى موسكو، وهي الآن تعيش في بيت فخم قريبا من الكرملين، وقد تعلمت الروسية، وأخذت تنظم بها الشعر، وقد صار ستالين يتردد عليها يحتسي كؤوس الفودكا أمام وجهها الجميل مصغيا لقصائد تمدحه بها وتغنيها بصوتها الشجي وإنه سيبقى يحتضنها حتى ينتصر الشيوعيون في العراق؛ لتعود وتنفذ حلمها العظيم في تحويل الأهوار إلى فينيسا الشرق. راح يداري جمر أركيلته وهو يقول: حقا لا أحد يسبق الشيوعيين في تجارة الأوهام! وجدت في مكتبة مكنزي صورا لها بطبعة لبنانية وعلى ورق صقيل فاخر، فاشتريت واحدة. وضعت لها زجاجة وإطارا خشبيا مذهبا، صرت أضعها أمامي حيثما حللت! أتأملها دون ملل، أحدثها، وتحدثني بصمت وهدوء، ودون وجع الرأس الذي يصاب به الأزواج عادة. كنت أعجب لعجزي عن معرفة حقيقتها. أقول: لقد اكتشفت الربع الخالي الذي تربو مساحته على 640 ألف كيلو متر مربع، وأعجز اليوم عن اكتشاف حقيقة صورة،مساحتها أقل من متر مربع واحد! ضحكت من نفسي، هذه الجميلة؛ لا يمكن أن تؤطر بنفس إطار صورتها؟ هي عالم لا أستطيع اكتشافه، حتى لو كنت اكتشفت كل صحارى وبحار الدنيا! وأعود أناقض نفسي: حتى إذا لم تكن هذه الفتاة حقيقة؛ فإن لدي ما يكفي من الخيال لجعلها حقيقة،أو بالقدر الذي يشدني إليها أكثر! أرى الناس في المقهى يتطلعون إليها فأحس أنها موجودة حقا وليست وهما قد اعتراني. إنها لي وحدي، تنظر لي دون الآخرين، نظرة غامضة عميقة أطلقتها قبل سنين. اسمعها تسألني أيرضيك الذي وقع لي؟اختطفني، بالأحرى اغتصبني ضابط من قومك وأنا عزلاء ضعيفة. إأنقذني! سأحبك بإرادتي، تعال! سنعيش الحب الجميل! عزيزتي أجاثا،فجأة رجعت مراهقا، كأني لم أر جميلات في بريطانيا، أو في أماكن أخرى، ، صرت عبر وجهها أرى جسدها وأتأمل مفاتنه، كل حواسي وغرائزي تفجرت نحوها بعد ما دفنت طويلا تحت رمال الصحراء الساخنة، فجاءت حاملة ظمأ الرمال دفعة واحدة، وجدت وجهها وجسدها يتناغمان كما الغابة والقمر ينيرها ليلا! بعد أيام وجدت أن شبقي الجسدي نحوها هو قسوة عليها، وعلي أنا أيضا، فتوقفت عنه، نادما خجلا، وجدتها مشاعر فجة وحيوانية حقا،صار تطلعي لها يقوم على الحرمان،والحزن المبكر خشية الفقدان، وبقدر ما كانت تبدو البنت مستحيلة كانت تصير أملا وتحديا، لن يذهب بحثي عنها سدى ،أشعر إنني على ذلك الشاطئ الذي تبحر منه قوارب الليل نحو المجهول الجميل دائما! قد تسألينني لماذا أنت دائما تبحث عن الأماكن الخطرة، الصعبة القاسية، غصت في أعماقي بحثا، وجدت إن لدي ميلا لذلك منذ طفولتي، سنواتي الأولى انصرمت في الحبشة، كانت آنذاك دونما سيارات وطرق معبدة. وبعد أن عادت عائلتي إلى لندن وأنهيت دراستي في أوكسفورد؛ عشت ثمانية عشر سنة أخرى متنقلا بين مناطق نائية في أفريقيا، والشرق الأوسط، مع أناس يتسمون بالعفوية والتقشف والذكاء الفطري، لا يسعون للشهادات الأكاديمية، ولا الملابس الغالية المبهرجة، طعامهم وشرابهم كقوت كالطيور. تغمرهم القناعة والرضا المفتقدتان في الغرب منذ فترة طويلة. هذا جعل من السهل علي أن أعيش في الصحراء والمستنقعات.وأعاشر البدو والفطريين والبدائيين. نفرت من السيارات والراديو والسينما والطائرات؛ولا أستعملها إلا اضطرارا، لا أتذوق السعادة إلا حين أكون مع راع في البرية ، صياد في البحر ، مغامر في الغابات ، طيف أو شبح في أي مكان من هذا الوجود الشاسع الذي أعظم أمنياتي أن أتجول في أرجائه كلها! مضت ميولي إلى حد قصي، يسحرني كوخ من القصب مملوء بالدخان، مع رجال ونساء وأطفال يقتسمون سمكة ورغيف خبز مشويان على الجمر!هؤلاء أبناء السماء، قبل أن يكونوا أبناء الأرض! ثم الآن اخترت الحب المستحيل! سافرت في اليوم التالي للقائي سليم، إلى الناصرية ، كنت أفكر كيف أجد الطريق إلى الأهوار،رغم إنني حصلت من وزارة الداخلية العراقية وبتوصية من سفارتنا في بغداد على تخويل لي بالتجوال في منطقة الأهوار. ويوصي موظفي الإدارات المحلية بتسهيل مهمتي الاستكشافية! بالطبع هم لا يعرفون مهمتي الغرامية لا أحد حتى في السفارة البريطانية غير صديقي كولون يعرف إنني عاشق ذهب يبحث عن محبوبته على هذا الغمر الهائل من المياه حتى إنه قال ضاحكا "أخشى أن تجدها نصفها حورية ونصفها الآخر سمكة "، كولون هذا رغم جسمه الضخم لديه لسان عصفور لا يكف عن الزقزقة!

 

سألني؛ أجئت من بلاد الإنجليز لتأخذ المعرفة من المعدان وجواميسهم؟ ماذا أقول له؟ وسمكة تقفز فوق الماء؛ تلقي في قلبي حكمة الكتب كلها!

نزلت في فندق بالناصرية، يعد أفضل فنادقها القليلة، متوسط الحال، نظيف والخدمة فيه معقولة، وثمة أمان وطمأنينة. أعجبني في أهل هذه المدينة عدم تحسسهم من الأجانب. استيقظت متأخرا، كنت متعبا من رحلتي، رأيتها تطل عليّ بعينيها الجميلتين ووجهها المتورد من فوق طاولة مدير الفندق، كأنها قد ازدادت جمالا بعد رؤيتي لها في المقاهي والمطاعم البغدادية! تذكرت ما قاله لي سليم البكري ،أن كثيرا من الشبان لهم نزواتهم وأحلامهم الجنسية معها كل ليلة؛ كيف حولوها إلى غانية للجميع؟ ترى هل تشاركهم هي نزواتهم؟ هل استطابت اللعبة، هل تستطيع إرضاءهم جميعا، أية مهمة قاسية ألقيت على كاهل هذه الفتاة الطيبة، شعرت بالغيرة حقا، وبالعجز أنني لا استطيع إنقاذها من مصيرها الفاجع، مغتصبة من إنجليزي، ملكية عامة لأصحاب نزوات الليل؟ بشكل ما ذلك زادني عزما للبحث عنها، حتى إذا لم تحبني سأحاول أن أعمل شيئا من أجلها، هل يكفي حبي لها؟ أقنعت نفسي أنها لم ترافق الضابط الإنجليزي، رغم كل ما قدم لها أو لأهلها من مغريات، عطفت عليه وسمحت له برسمها أو تصويرها، لكي تبعد شره عن عائلتها. هي ما تزال هنا تعيش بين أهلها في الأهوار ، ممتنعة عن الزواج، وإن هذه اللوحة ستزين صدر بيتنا الصغير البسيط ، ولتظل صورها لدى العراقيين من شاء تسمو بها روحه، أو يفخر بها تمثل جمال وشموخ بلده، أو يستعملها لحواسه وشهواته! تحدثت مع صاحب الفندق، يعمل مدرسا للغة الإنجليزية في ثانوية المدينة، تحدث معي بانجليزية سليمة، وقال أنه يقرأ كتبا بالإنجليزية في الفكر الحر، سألني عن سبب مجيئي إلى الناصرية، وقد دهش حين عرف أن وجهتي الأهوار، قلت له "قدمت لأدرس أحوال هذه المنطقة الغريبة المجهولة في العالم"، وقد أيدني في مسعاي قائلا، هذا عمل تشكر عليه! فهؤلاء أناس معذبون والمسئولون لا يفكرون بإنقاذهم ودمجهم بالمدنية الصاعدة في بلادنا، يريدونهم معلما تذكاريا فقط، عليك أن تحذر، فبيئتهم قاسية يصعب عليك أن تجد فيها ماء نظيفا، موبوءة بأمراض كثيرة، يترصدك فيها البعوض والأفاعي وحتى الخنازير البرية! صمت برهة. سحب نفسا عميق من سيجارته. قال هناك ثمة جو عدائي خطر ضد الإنجليز، قد تقتل هناك لمجرد كونك انجليزي! انصرف ذهني إلى الضابط الإنجليزي الذي خطف ابنتهم. قلت تقصد الضابط الذي خطف بنت المعيدي؟ ضحك قال: لا هذه حكاية! ولكن هنا في الجنوب دارت قبل حوالي ثلاثين سنة حرب بين الإنجليز والأهالي، ذكرياتها الأليمة ما تزال ماثلة في أذهان الناس، وكثيرون فقدوا أفرادا منهم في الحرب ويتحرقون للانتقام! بقيت صامتا أتأمله، لم يفاجئني تحذيره فهو لم يغب عن بالي في تنقلنا في كل مكان في العراق، استوقفني قوله أن بنت المعيدي "حكاية" ،هل يعني أنها مجرد طيف ، شيء وهمي ،سألته:

ـ ما هي حكاية بنت المعيدي حقا؟

رفع بصره ومط حاجبيه، فالصورة معلقة فوق رأسه، ضحك قائلا:

ـ هي فتاة يبهرني جمالها حقا، قد تكون حقيقة وقد تكون خيالا، ولها حكايات كثيرة، وما دمت ستذهب لدراسة أحوال المعدان؛فستصل إلى حقيقتها!

أعجبني كلامه وزادني ثقة بضرورة رحلتي! كان لزاما علي أن أراجع متصرف المنطقة،حاملا إليه رسالة وزير الداخلية. وجدته جافا متحفظا، أوعز لموظف بمنحي ورقة كتب فيها " يسمح له بالتجوال في لواء الناصرية، والتقاط الصور وأخذ عينات من التربة ( عدا ما يتعلق منها بالنفط) وماء وسمك وطيور المنطقة،وتقع على مسؤوليته ما قد يقع له من مشكلات أو أخطار جراء اختلاطه بالناس أو الذهاب في مغامرات غير محسوبة العواقب" ضحكت في سري، وأنا أوقع على الورقة "لا يوجد فيها بند يحرم علي البحث عن بنت المعيدي!" لو كان هذا المسئول يعرف بغرضي من هذه الرحلة؛ لما سمح لي بذلك، ما عرفته من طبائع العراقيين جعلني أتخيله يثور، ناهضا من كرسيه ليطردني صائحا في وجهي "انا هنا متصرف، نائب الملك، لست قوادا أيها الكلب الإنجليزي!" بعد أن انتهيت من سلطة الحكومة، كان علي أن أحصل على إجازة سلطة الإقطاعيين الذين يرون أنفسهم هم الحاكمون الحقيقيون لهذه الأرض والناس! قصدت أطراف الريف المطل على الهور كأنه يطوقه أو يحرسه. كانت القرى أشبه بمملكة مستقلة للإقطاعي مجيد الخليفة وابنه فالح، اللذين استنكفا عن مقابلتي، لكن فالح أوعز لمساعده إعلامي للذهاب إلى سركاله المدعو صدام لينظر في طلبي! قابلني السركال منذ اللحظة الأولى بتحفظ، وبنظرة عدائية وشك واضحين! من عادة العرب أن لا يسألوا الضيف عن غايته أو حجته إلا بعد اليوم الثالث لنزوله عندهم، سألني السركال منذ الساعة الأولى لنزولي في مضيفه :

ـ ماذا تريد يا صاحب، ما هي غايتك؟

وهنا أيضا كما تعرفين يسمون الإنجليزي "صاحب"وقبل أن أقول شيئا،قال :

ـ لقد أرسل لي فالح رسالة يقول فيها أنك ترغب في زيارة الاهوار، ماذا تريد من أهل الأهوار، هل أنت تعمل عند الحكومة ؟

ولم أعرف ماذا يقصد بالحكومة ؟ الإنجليزية أم العراقية؟

ـ جئت إلى هنا فقط لأنني أسر برؤية الأماكن المختلفة، وبالناس متنوعي الأجناس والأشكال!

ظل ينظر إليّ بريبة ونهم، تصورته من آكلي لحوم البشر،وإنه يتفحص جسدي إن كان فيه ما يكفي من اللحم للقضم، في تلك اللحظة كرهته، وخفته كثيرا، وقلت في نفسي أي حب هذا الذي سيجعلني وليمة دسمة لدى أهل المحبوبة، سألني:

ـ من ينفق عليك؟ ما الراتب الذي تحصل عليه؟

وتنفست الصعداء، الرجل يريد اقتسام راتبي معه، وليس أكلي نيئا أو مشويا، لم أجد مناصا من تخييب أمله، قلت:

ـ ليس لدي راتب، انفق مما لدي، أنا رجل متقشف في عيشي!

خفت إذا عرف لدي بعض المال أن يقتلني ليأخذه! هكذا فكرت، كنت في بداية دخولي عالمهم!

راح في صمت دام دقيقة أو دقيقتين، كانتا طويلتين علي جدا،لذا أضفت:

ـ لقد تجولت في الحبشة وفي العديد من الدول العربية والأوربية أنا انشد المعرفة.

وجاءني صوته مندهشا زاعقا منتهرا:

ـ من المعدان؟ جئت من بلاد الإنجليز تنشد المعرفة من المعدان؟

ـ المعرفة موجودة في كل مكان، ولدى جميع البشر!

هنا تذكرت أن هذا الرجل ليس من المعدان بل من عرب الجنوب الذين ينظرون للمعدان بازدراء ،ويفخرون بانتسابهم لقبائل عربية كبيرة معروفة الأنساب قدمت من الجزيرة العربية، فرحت أنه ليس من أولياء أمر محبوبتي ليلاحقني أو يقتص مني، صار صوته اقل عنفا وحدة:

ـ هذه حماقة منك أن تعيش مع المعدان، أنا أريد راحتك لا تذهب للعيش مع المعدان! المعدان كجواميسهم يأكلون ويشربون ويتغوطون في الأوحال، أكواخهم غائرة في الماء، تعج بالبعوض والبراغيث إذا نمت في كوخ لهم؛ فمن المحتمل أن تدوس جاموسة على وجهك وتهرسه،وهم جوعى دائما لا يملكون شيئا، ليس لديهم سوى الرز المتعفن، والحليب الذي يسبح به الذباب!

ـ ما جئت لأغير حياتهم ، فذلك شأنهم، جئت لأتعرف على حياتهم وأوضاعهم فقط .

عندما لمس إصراري على العيش بين المعدان؛ قال بعدم اكتراث:

ـ هذا قرارك، ذنبك على جنبك، أي شيء يحدث لك نحن غير مسئولين عنه،ولكن أنصحك أن تتخذ لك حارسا ونوتيا لقاربك من المعدان فهم يعرفون بعضهم، ويمكن أن يطلع فيهم طيبون يحمونك! صمت فجأة وبقي صامتا يرمقني مستثقلا وجودي، وكما توقعت لم يدعني للمبيت في مضيفه الكبير! خرجت مفكرا، من حسن الحظ أن هذه البنت التي ابحث عنها،ليست ابنة إقطاعي أو سركال، أو تاجر كبير، هل هي كانت بالصدفة كذلك؟ أم لأن حكايتها كانت مجرد حكاية، وما كان بالإمكان جعلها ابنة رجل قوي جدا،لا يجرأ لا الإنجليزي ولا غيره مسها؟ بالطبع لم اسمح لفكرة أنها حكاية أن تستقر في ذهني،هي ليست بنت إقطاعي فقط ،لأن بنات الإقطاعي لا يذهبن لبيع الروبة قرب ثكنات الإنجليز، هن محصنات مدللات في الخدور، هكذا تقول الحكايات أيضا! ركبت قاربا من مرسى خشبي مخلع على ضفة النهر. بعد مسار مائي متعرج ومضطرب لحوالي ساعة؛ ألقاني القارب ضحى عند أقرب صريفة في هذا التجمع الكبير من الصرائف الطافية حول الماء والذي يدعى مدينة الجبايش! قال لي الشاب الذي قاد القارب وأنا أودعه: احذر أفاعي الماء، بعضها سام جدا!"السلام عليكم" ، كلمة ساحرة تشبه إشارة إنهاء الحرب، وإلقاء السلاح، ونشر الدعة والأمان ألقيتها على رجل مسن يقف أمام صريفة متهرئة،خائضا في الماء، وقد اختفى وجهه وراء أشواك من لحيته،وردها علي بإيماءة من رأسه وصوت حزين،كالأنين، فشعرت بالأمان! كانت أمامه مجموعة جواميس خائضة في الماء إلى بطونها، تقف على ظهورها طيور تنقر بجلدها،سمعته يقول : أنت الآن في الجبايش، كنت أعرف ذلك طبعا، لكنني حييته بيدي مع ابتسامة انجليزية جعلتها الغربة أكبر من حجمها الاعتيادي، هل كان الرجل قد رأى حيرتي واضطرابي؟ نظرت للماء الممتد أمامي لا حدود له،قفزت سمكة كبيرة أمامي، ولمع من قشور جلدها مع الشمس شيء كالكتابة، خلتها كلمات غامضة، هي ألقت في قلبي حكمة الكتب كلها،من يبحث عن الحب لن يضل طريقه! من يبحث عن الكراهية سيضل طريقه حتى لو وجد الطرق كلها، ويسألني السركال لماذا جئت إلى هنا؟ من هذا المستنقع الهائل علي أن أبدأ رحلتي بحثا عن فاطمة، رأيت بعينيها كل أحلامي ومواجعي القديمة! الجبايش مدينة مائية مكونة من مئات الصرائف مبنية من القصب والبردي على أكوام من الطين المكدس مخلوطا بعروق نبات مختلفة، تفصل بينها ممرات مائية ضحلة تكفي لحمل المشاحيف وهي قوارب صغيرة نحيلة رشيقة مختلفة الأحجام، تحيط بالصريفة، وتندمج معها حضائر الجاموس تسرح بينها الكلاب والقطط والدجاج والطيور ويختلط أطفالهم الصغار بهم! يتواصل سكانها مع بعضهم بالمشاحيف وقوارب أخرى من مختلف الأحجام عبر مساحات الماء الشاسعة بحثا عن طير أو سمكة أو حزمة بردي وحلفاء يغذون بها جواميسهم. يصف بعض المتحضرين في المدن الأهوار بفينيسا إيطاليا، وهذا ضحك على آلام البشر، فبيوت وعمائر فينيسيا تفخر بغناها الفاحش وبصخورها ورسوخها بماء البحر، أما هنا فالأكواخ فقيرة رثة طافية في الماء مكونة من مواد هشة متفسخة تكاد تتماسك فقط بقوة أحلام سكانها وأوهامهم! يعشش فيها العوز مع البعوض والبراغيث، وقد ينام رجل وعائلته وسقف الكوخ فوقهم،ويستيقظون صباحا ليجدوا أنفسهم طافين فوق سقف الكوخ وقد انحدر بهم بعيدا! لم يأت هؤلاء الناس من المدن أو الريف، وجدوا أنفسهم يعيشون هنا، منذ عصور سحيقة،مثلما انحدروا بماء الأرض؛ انحدروا بماء الزمن،البعض يقول إنهم سومريون أو من معاصريهم! ومثل صرائف أو بيوت الجبايش هناك آلاف البيوت منتشرة على مدى هذه الحاضنة المائية الهائلة الممتدة بين البصرة والعمارة والناصرية، ماء غزير يرشح من دجلة والفرات ليجري على هذه الأرض المنبسطة، الناس عموما يسمون سكانها بالمعدان،وأنا سأسميهم منذ الآن "عرب الأهوار" هم ليسوا مزارعين، بل مربي جاموس وصيادي سمك، وطيور وصانعي مفارش وحصران من القصب، هم مقطوعون عن المدن رغم إنها لا تبعد عنهم كثيرا، أحسست أنهم مرتاحون سعداء بانقطاعهم عن هذا العالم، مستغرقون بهذه الرحلة الطويلة المتوارثة على الماء كأنهم منذ الأزل هنا،لا هدف لهم سوى وصل بداية البشرية بنهايتها!

كان الوقت ربيعا ؛ أجمل أيام الأهوار، قالوا لي بمثل هذه الأيام حتى الأسماك ترقص في وكناتها المائية، لما يتدفق إليها من ماء وغذاء، غافلة عن نبال الصيادين الماهرين الذين تجري قواربهم برشاقة وخفة، كلما التمعت الشمس على الماء؛ رأيت وجه فاطمة قد امتد على كل هذا الغمر الهائل، مؤطرا بسماء زرقاء صافية، ومنارا بشمس دافئة ساطعة.

لم يستغرق الأمر وقتا طويلا. تعرفت على النوتين عمارة وياسين وتفاهمت معهما على مرافقتي وأدهشني أنهما حين تحدثت عن الأجر قالا بصوت واحد: "ولا يهمك ما تعطينا إياه صاحب؛ نعمة من الله" دلاني على صانع قوارب ماهر، رجل مندائي يجيد مهنته،ورثها عن أسلافه المعروفين بإتقانهم المهن الدقيقة، وحرصهم على السكن قريبا من الماء؛ لأنه يدخل في كل طقوس عبادتهم ومناسبات أفراحهم وأحزانهم.صار لدي قارب أكبر قليلاً من المشاحيف المعتادة في الهور، رشيقا جميلاً بمقدمة شامخة كرأس إوزة رافعة عنقها بشموخ، التقيت في ورشة الرجل المندائي رجلا من العرب الساكنين على أطراف الهور، جاء ليصنع زورقا له، كان بثياب افرنجية، شجعتني هيئته لمحادثته، سألته:

ــــ من هو المعيدي في نظرك؟

رد بنبرة واثقة:

ـ كل من يربي الجاموس، يعيش معه، ويعتاش عليه؛ هو معيدي!

ـ وإذا ماتت جواميسه،أو تخلص منها، هل سيبقى معيديا؟

قال بزفرة ثقة مرت عبر أنفه الأسمر الطويل:

ـ ستظل رائحة الجاموس تلاحقه حتى آخر حفيد له!

ـ أليس ظلما، أن ينسبوا للجواميس كأنهم خرجوا من أرحامها؟

شعرت إنه متحامل عليهم، رد بجفاء:

ـ جرب أن تعاملهم بغير ذلك، وتحمل النتائج!

 

أخيرا نمت في بيت من القش يطفو على الماء كأنني في رحم الغيب، لم أولد بعد!

كانت نقلة مدوخة لي، من الربع الصحراوي الخالي، إلى الربع المائي المزدحم بالحياة، من رحلة بين الرمال والأشواك والأفاعي والعقارب والزواحف القاتلة؛ إلى رحلة بين السمك، والبط والطيور، وثعابين الماء، والقصب وأجساد البشر الجميلة أو الهزيلة، من شمس لاهبة، جافة، إلى شمس ممزوجة بالماء؛ حلوة عذبة، أو ملوثة! من الطير المستوحش بين الكثبان المتنقلة، إلى الطير الراقص فرادى وجماعات فوق شمس مفروشة على القصب الأخضر. وجوه بدو الصحراء الملوحة باللهب والرياح والظمأ،ثم وجوه بدو الماء المصفرة من المرض والأحزان والعزلة الطويلة!سأخوض هذه السديم المائي الهائل بحثا عن فاطمة الجميلة، هل سأجدها؟ لماذا تركت خلفي لندن الغاصة بالفتيات الجميلات، وغواني البارات الحسناوات لا يكلفنني سوى جنيهات قليلة للوصول إلى أسرتهن الساخنة؛ وآتيت هنا أخوض في أوحال الأهوار، ومياهها، وثعابينها ودودها المتسلل إلى الأكباد بحثا عن فتاة مع كل جمالها وشهرتها لا تزال غير مؤكدة الوجود،أقرب للوهم، أو لحلم البعيد! أخيرا نمت في بيت من القش يطفو على الماء كأنني في رحم الغيب، لم أولد بعد! ينقبض قلبي حين يخامرني شعور أنني لا أمل لي بها ، إذا كانت قد تزوجت، خطفت، أو اغتصبت، قبل ثلاثين عاما تقريبا، تكبرني كثيرا أو ربما ماتت وانطوت ولا يمكن أن تكون لي! فلم هذا العناء وهذا التطلع المؤلم، لكنني أقول الحب الحقيقي لا يشترط التملك، ووضع اليد على المحبوب كما الزواج الشرقي. صار حبي لها دون غاية جسدية أو حسية قد تهبط بمشاعري إلى الحضيض. أملي أن أراها يوما، حية، أو حتى أن أصل إلى حقيقتها فقط. كنت أدرك أنها ولكونها من هذه الأرض الملتهبة دوما، فإن على كل عواصف التاريخ ، حروبه وجنونه ومطامحه أن تهدأ في جسدها الجميل لتكون لي، وأكون لها تماما، فتسعدنا الليالي المقمرة،والمظلمة، هل هذا ممكن؟ لا أدري، ولكن لابد من الحلم، لا بد من الوهم! أعرف إن بحثي سيكون طويلا ،وإن النهاية قد لا تكون سارة، أليس هذا كله ضربا من الجنون؟ ألا يحق لصديقي كولن أن يسخر مني، ويصفني بالمعتوه، و بالأبله أو الأحمق الباحث عن حورية البحر، نصفها فتاة جميلة مخبولة، ونصفها الآخر سمكة جائعة؟ ولكن مع كل ذلك هل يوجد حب عظيم دون طيش وأوهام؟ هل يوجد عاشق حقيقي غير مجنون؟ ينبغي أن ابحث عنها بهدوء وحذر فالناس هنا رغم بساطتهم وطيبتهم، متعصبون متزمتون وقد يقتلونني إذا عرفوا إنني جئت أبحث عن فتاة منهم ، التزمت التكتم حول كل شيء! لم أجلب صورتها معي، أودعتها لدى صاحب الفندق البغدادي. وقررت أن لا أتحدث مع مساعدي ياسين وعمارة حولها بشيء إلا بعد توثقي منهما، وتعهدهما بكتمان السر! سحرني في الأهوار السكون البكر المتوهج منذ بدء الكون؛ لم يفتضه سوى صوت طائر عابر، فحيح ثعبان، زعيق إوز يرحل أو يعود، بط يحاول أن يطير، دجاج الماء الأسود، غناء فتى يافع في الظلام يناجي حبيبة مجهولة، هي ذاتها في مكان آخر تغني له أو لحبيب مجهول دون أن يلتقيا. هذا ماء يجري هادئا كأنه متوقف ، كأنه لم ينحدر منذ بدء التكوين من جبال شاهقة مكللة في الثلوج في أواسط آسيا، هنا ينبسط جسدا نائما، تعلوه شمس تفيض عليه ساعات طويلة، وحين تغرب تسحب خلفها القصب الأخضر، لهب مواقد تشع عليها أقراص خبز الرز. بيوت طافية على الماء ، بينما شعور أصحابها أنها على مستقر صلب، والنجوم تتراقص حولهم مطمئنة، لا صوت محرك آلي يلوث هذا السكون الجميل، نعم يا أجاثا هنا آلاف السنين تذوب في الماء، وأنا احتسي منها كأني عاشق مهجور يعاقر كأسا لانهائية، كيف لا أحب هذه البقاع التي ولدت فيها فاطمة، وشبت وحلمت كثيرا قبل أن تعصف بها الأقدار! لي أمل أن أجدها فتغدو كل هذه المتاعب ذكرى مرحة. لا بد أن يلوح لي بصيص من النور؛ يهديني إليها، الحياة هنا يا عزيزتي بقدر ما هي جميلة لكنها خطرة جدا. يكفي أن تلتهب الزائدة الدودية لدى شخص فتقتله؛ حيث يصعب الوصول إلى مستشفى! لم تمض أيامي هنا دائما بيسر وراحة، سرب الطيور القادم من شمال أوربا هنا ترصده فوهات البنادق قبل العيون، اكتنفت حياتي هنا غصات وصدمات! انظري كيف استقبلني احد الشيوخ في مضيفه، عندما نزلنا عنده أنا ومساعدي ياسين وعمارة ضيوفا؛ كما هي عادة جوابي الأهوار حين يجن الليل أو يبدأ الغروب منذرا بالظلام الدامس! جلب الخادم صينية فيها أطباق دجاج مقلي وسمك مشوي ورز وخبز ومرق. طبقا لأوامر الشيخ وضعت أمامي على منضدة خشبية صغيرة مزعزعة. دعاني الشيخ للأكل، حسبته سيأكل معي على عادة شيوخ العرب مع ضيوفهم حين يحترمونهم، لكنه لم ينضم لي؛ لذا طلبت أن توضع الصينية على الأرض ليأكل معي مساعداي ، قال الشيخ بحزم، وفظاظة:

ـ لا ! كل حيث أنت، لا توجد مشكلة، صاحباك سيأكلان فيما بعد!

ألححت على إنني أفضل الأكل على الأرض، كما هي عادتي مع جماعتي، لكنه رفض ،قلت:

ـ هذه ليست طريقة في معاملة الضيف!

فظل صامتا يرمقني بوجوم وغضب. أخذت لقمة، امتناعي عن الأكل نهائيا يعد اهانة للمضيف لا تغتفر، ولا اعرف عقباها. وقفت،طلبت ماء لغسل يدي، أخذ الجالسون ينظرون للشيخ، سألني:

ـ ما ذا حدث؟

ـ لاشيء! أشكرك لقد انتهيت!

قال الشيخ صارخا:

ـ أووو ، دعوه يأكل على الأرض كما يرغب!

شكرته ثانية وطمأنته بأنني اكتفيت، عدت إلى مكان جلوسي، وبعد وقت قصير؛ غادرنا أنا وصاحباي اللذان اكتفيا بتناول لقمة مجاملة. كانا مرتاحين لامتناعي عن الأكل، ردا على تصرف الشيخ. خرجت ليلا من مضيفه، السير في الليل في الطرق المائية صعب وخطر، فالرجال هنا ينامون بعين واحدة، العين الأخرى ترقب الطرقات فإذا مر مشحوف ولم يعلن عن نفسه أو وجهته فقد يعتبره صاحب البيت عدوا، وقد يطلق عليه النار، أو ينشب فاله في صدره؛ لذا فمن الضروري حين المرور بالصرائف الجاثمة على الماء؛ إيقاد شعلة حتى ولو عود ثقاب، وانتظار سؤال صاحب البيت من العابر لترد" صديق .. صديق" وتسمع "يا مرحبا بالصديق" ،ويسألك: من؟ فتقول اسمك ووجهتك؛ فيعيد صاحب البيت الترحيب، وقد يعرض عليك المساعدة؛ ليوصلك إلى غايتك.عادات بسيطة، ولكن لو أخطأت فيها لقتلت؛ أو أصبت بأذى كبير، عالم مغامرة وجدته يليق بحبي لفتاة جميلة كالحلم، صار يضحكني حب في أوربا كل تكاليفه غمزة عين لينتهي بعد لحظات في السرير؟

لأشهر لم أذهب إلى مضيف ذلك الشيخ الذي عاملني بفظاظة. عند مرورنا مضطرين بالطريق المائي المحاذي لمضيفه، صار هو ينبري لدعوتي بإلحاح. لبيت دعوته؛ لأنني لا أميل لخلق عداوات، لا داع لها. صار ما أن أنزل عنده، حتى يجلب طعاما وفيرا من السمك ولحم الطيور وخبز الرز، يضعه على سفرة أرضية، وكان يصر أن أبقى معه الليل ثم أواصل السفر فجرا، غدا لطيفا، وعرض على صداقته، بقيت أحترمه، وأنزل عنده كلما دعاني، لكنني لم أرتح له أبدا، ولم أقصده عامدا! مع كل هذه الأجواء الفظة المنفرة فإن حبي لفاطمة جذبني . لهذا الشعب الغريب المبعثر فوق الماء. وجعلني أحتمل مصاعب العيش بينهم، ودفعني لمحاولة دراسة أحوالهم؛ أصولهم وعاداتهم وواقعهم كله. ما أستطيع أن أشخصه أن عزلتهم الطويلة رسمت على وجوههم، وبعمق؛ حزنا وتوترا غامضين، أتتذكرين يا أجاثا الجولة التي رتبتها لكم في الأهوار ونقاشنا في أحوال سكانها وتاريخهم؟ وكيف اختلفنا حول آراء الدارسين لتاريخهم، فهناك من قال: إنهم بقايا السومريين والأكديين والبابليين، بعد انهيار حضاراتهم بملوحة التربة أو بغزوات جيرانهم العيلاميين والفرس، وأنهم تحصنوا وراء أسوار الماء والقصب الفارع محافظين على جو روحهم الأولى وعاداتهم القديمة، وهربا من ملاحقة أعداء مجهولين لهم.آخرون قالوا أنهم قبائل نزحت من الهند وإيران مع جواميسهم اثر موجة جفاف طويلة، بعض يقول أنهم عرب هاجروا من الجزيرة هربا من رمال القحط والمجاعات القاسية لانقطاع المطر سنوات متتالية. واستوطنوا هذه الأرض الطافحة بالماء ومثلما كانوا بدواً رحلا في صحارى الرمال؛ صاروا بدواً رحالا على الماء. كان رأي ماكس والعالم لومبارد هو أن من الصعب الجزم بأي منها، فالأمر يحتاج لدراسات أكثير عمقا، رغم أن ما يلهب خيالي هو تصوري أن حبيبتي هي حفيدة للسومريين! وإن لوجدانها امتداد طويلا في التاريخ! ولولا وجود جذوة غامضة في أعماقها لما أثارت عواطف ومشاعر هذا القدر الكبير من العراقيين! هم اليوم غافلون عن الدنيا والعالم كله، ما يقال عنهم وما لا يقال! تطفوا بيوتهم كريش البط في خفته، تهدهد نومهم وأحلامهم الأسماك والضفادع وأفاعي الماء، لا يحسون بأسراب البعوض والحرمس التي تنهش جلودهم، لا يستيقظون إلا على أصوات ضروع الجواميس وهي تتفجر بالحليب الدسم جدا، فيهبون بأوانيهم إليها مع أصوات الطيور المغردة للفجر، وحين تطفح أوانيهم المعدنية بالحليب والقيمر والزبدة تذهب فتياتهم الجميلات الجريئات لبيعه لأهل المدن القريبة. تتفاوت بشرتهم بين سمراء على الأغلب أو شقراء نادرة وعيون واسعة مفتوحة مستطلعة، وقامة ممشوقة، كل ذلك بفضل قوتهم من السمك واللبن والطيور وحلوى القصب والنباتات المائية، وحركتهم الدائبة على طرق الماء؛ يحفظون خرائطها عن ظهر قلب! رأيت بينهم نساء جميلات جدا، وصرت أقرب للاعتقاد أن "فاطمة" هي ابنتهم . جمالها وجلستها الوادعة الواثقة تدلان على أنها نشأت في أسرة تمتلك الكثير من الجواميس والمشاحيف! هي مزيج كوني طبيعي من جمال الأوربيات والشرقيات بروح عريقة تطل من عينين واسعتين جميلتين! ( أتحدث عن جمالها يا اجاثا ولا أنسى جمالك الذي يصفونه بالاسكندنافي) لُسِعَ ماكس مرة أخرى، ألقى الأوراق من يده، هل إيماءات وإشارات ثيسجر بريئة؟ أم هي خبيثة لها أوثق العلاقة باختفاء أجاثا؟ يبدو إن ولفريد كتب رسالته في أوقات وأمزجة مختلفة، كان ماكس يتوقف بين بعض الفقرات والسطور تاركا لمخيلته وذهنه يسرح بعيدا متأملا محللا الكلمات والإشارات عله يجد ما يضيء له اللحظة الصعبة التي هو فيها الآن، توقف عند استنتاج مفزع، أن ثيسجر يحاول أغراء أجاثا لرفقته في رحلاته، لإيقاعها في حبائله، هذا جوهر وفحوى رسالته ، ما هذا الهراء؟ كيف يتجرأ على هذه المحاولات الخطرة؟ أهو يقصد ما يقول حقا؟ أم هو فقط يشطح في خياله وأوهامه؟ أيرى أن أجاثا صبية مراهقة غبية دون تجربة ولا خبرة ولا ذكاء لتطاوعه في وعوده أو دعواته الساذجة البائسة؟ أيعتقد إنه المعشوق الذي لا يمكن لأية امرأة أن تقاوم جاذبيته؟ بهذا يفقد وقاره وهيبته واحترامنا له؟لا يمكن لأجاثا وهي العارفة بخبايا النفس البشرية وما يعتمل في أعماقها من نزوات واندفاعات أن تخدع بألاعيبه ومكائده، هي في طلبها رسالته لم تكن تقصد أكثر من الغرض الأدبي، أنه يحاول بقلمه تفتيت صخرة صلدة! أهي الغيرة؟ أم إنه قد وقع في حبها دون إرادته؟ وما حكايته مع بنت المعيدي سوى قناع مضحك؟ يتقافز هنا وهناك، الربع الخالي،بادية الشام، الهور، بادية الشام، الوهمية لبنت المعيدي،ثم الدوران حولنا؟ ماذا يريد هذا المجنون؟ أيريد أن يبني سعادته على تحطيمي؟أم تراني مخطئ، وهو لا يقصد إغواءها،وإنه جاد وصادق في محاولة إعطاءها مواضيع روائية يعدها أهم من مواضيع الروايات البوليسية، لا ينبغي أن أتسرع في الحكم،عاد يقرأ متأنيا متفحصا متأملا!

ربما تتذكرين، أن لومبارد قال: المعدان، ينفرون من التعليم والثقافة، بذلك لا يمكن أن يكونوا هم أحفاد السومريين، الذين كانوا هم من وضعوا الحروف الأولى، أنا لا أزدري أصلهم، لكن ينبغي أن نبحث عنه في مكان آخر غير أور أو أكد. قلت له حينها: ألا يمكن أن نعزوا إدارة ظهورهم للثقافة إلى كونهم أصيبوا بخيبة أمل من الحضارة التي أهملتهم، ونبذتهم؟ قال ماكس لا يمكن لشعب أن يكره الوصول لأنوار المدينة، إذا لم يكن هناك ما يخيفهم، هناك سلطتان ترقبهم من على الشواطئ سلطة الدولة،وسلطة الإقطاعيين وشيوخ العشائر! قلت:طيلة الأشهر الماضية التي قضيتها بينهم لم أسمع عن جريمة قتل وقعت بينهم، ربما يسرقون بعضهم ،قليلا أو كثيرا، لكن تجاوزاتهم لا تصل حد الجرائم الكبيرة، ومن يريد أن يرتكب جرائم يستطيع ن يجد في مجاهل الهور مهربا، وملاذا ، قال لومبارد لكنك حدثتنا أنهم ضايقوك ، قلت تعم ناكدوني وحاولوا طردي من بينهم، أعماقهم لا تحتمل جسما غريبا، هذا دليل آخر على تعلقهم بأصولهم وحفاظهم على تكوينهم! تدخلت أنت لتقولي، دعونا نسمع غناء الطيور وحفيف القصب والبردي، ونملي بصرنا بأسراب هذه الطيور الجميلة القادمة من أوربا مثلنا تماما، الفرق أنها قد تعود بينما نحن وسكت، قال لومبارد : وهل أنت يا وثيسجر تريد العودة لانجلترا؟ سكت، ماذا أقول له ؟ لو التقيت بنت المعيدي لعشت معها في هذه المستنقعات سعيدا، الحب لا يحتاج لعمارات المدن قدر حاجته لروح راضية قانعة حتى لو في خيمة. لكنني على ما أتذكر تحدثت بشيء آخر قلت: العراقيون لا يكرهون الإنجليز كلهم، هم يفرقون بين جندي بريطاني يرون إنه جاء لقتلهم، ومهندس بريطاني يرون إنه جاء ليبني لهم جسرا أو محطة كهرباء! أنا سأكرس خمس سنوات من عمري، لدراسة هؤلاء الناس، أريد أن اعرفهم، ضحك لومبارد قائلا: لتعرفهم؟ أم لتتزوج ابنتهم؟

 

عجبت كيف اجتمعوا ضدي : الحلاقون والشيوعيون والملالي وثعابين الماء،الشمس ظلت تغمرني بنورها، والقصب يغني، ويدي تختن الأطفال بخفة منجل يحصد البردي!

فتشت عن أي عمل أستطيع القيام به ويساعدهم على تحمل صعاب حياتهم، وجدت أن الحلاقين يقومون بختان أولادهم الصغار، وبطريقة بدائية وغير صحية، فتصيبهم بالتهابات، وأحيانا بالعقم.؛ فقررت أن أقوم أنا بختانهم مستعينا بأدوات طبية حديثة، حصلت عليها من صيدلية في البصرة،وبخبرة تلقيتها قبل سنوات من طبيب هولندي التقيت به في المنامة، قبل رحلتي في الربع الخالي. أنا الذي معلوماتي الطبية لا تزيد على معلومات أي رجل قرأ شيئا من الإعلانات الصيدلانية.وقررت أن أقوم ببعض أعمال الطبابة لهم، الناس هنا يتعايشون مع أمراضهم سنوات طويلة، يذوون، ويشيخون قبل الأوان!اشتريت من مدن قريبة أدوية إسهال وصداع وسعال وسوائل تعقيم وضمادات لمعالجة مرضى صاروا يقصدونني أو أقوم أنا بالمرور عليهم بعد معرفتي بأحوالهم الصحية المتردية، وعدم مقدرتهم على مراجعة المستشفيات في المدن. كان مفعولها السريع لديهم يجعلهم ينظرون لي كساحر، وقديس وصاحب معجزات! أتردد على العمارة أو الناصرية أتزود بما احتاجه من شاي،وسكر، وفاكهة مجففة، وبعض الحبوب،وأشياء بسيطة أخرى أحتاجها في عيشي، إذ لا يمكن أن أعتمد في غذائي على السمك والطيور فقط. أنحدر بمشحوفي مع مساعدي في هور العمارة أو الحمّار، أدخل منطقة بني عامر، هم عرب نزح أسلافهم من اليمن إبان الفتح الإسلامي، أنزل في مضيف شيخهم الحاج فرعون الهاشم العامري الذي كان يرحب بي كثيرا، ويجد في إكرامي، وفي مضيفه الكبير أبدأ حملة ختان أطفال عشيرته وديرته. عشرات الأطفال الذكور يأتي بهم آباؤهم ما أن يسمعوا هاون الحاج فرعون يدق دقاته التي تستدعي الضيوف لشرب القهوة. في حملة ختان الأطفال يدقون الهاون دقات مضاعفة. كنت دائما أشكر في سري ذلك الطبيب الهولندي الذي عشت معه أياما جميلة في البحرين، وقال لي : ما دمت ستعيش بين أناس مقطوعين مهجورين، فعليك أن تفكر كيف تمد الجسور إلى قلوبهم، وأفضل طريق إليهم هو علاجهم من مرض أو وقايتهم منه، ختان أطفالهم عمل طيب يمس شيئا غامضا في أعماقهم وستجعلهم ممتنين لك،وستكسب ثقتهم. لم أكن أتقاضى على عملية الختان البسيطة أية أجور.أحد سكان الهور الظرفاء قال لي مازحاً: أنت تفتح قلوبنا لك، بالمقص الذي تقطع به إيورة أطفالنا! ولكن الحلاقين الذين تضرروا من عملي روجوا أن الطفل الذي يختنه إنجليزي كافر؛ سيصاب بالعقم، وإذا أنجب فإن ذريته ستكون نجسة وخبيثة! الناس سفهوا أقوالهم، بعد أن وجدوا أن الأطفال الذين ختنهم الحلاقون، التهبت جراحاتهم وبعضهم ماتوا، أو أصيبوا بعاهات، أو بالعقم! من حسن حظ سكان الأهوار وحظي أيضاً،إنهم لا يعرفون ولا يقرون ختان البنات الذي رأيته شائعاً في الريف السوداني عندما عملت هناك، وفي قرى كردية نائية تجولت بها قبل أن أنحدر جنوباً، وكان يجعلني أحس بتقزز وقشعريرة! لكنني أجدت ختان الذكور بعد ما أكد لي الطبيب الهولندي الذي دربني عليه أن لا خطورة منه عليهم، وإن إزالة القلفة لا يقتل الرغبة الجنسية لديهم؛ كما لدى الإناث، وإنه يضمن نظافة أعضائهم. ومع ذلك، لو سألتني أنا ضد هذا التدخل في التكوين الطبيعي للإنسان مهما كانت غاياته! لكنه تقليد أو فريضة دينية راسخة لدى اليهود والمسلمين! لم يحدث أن تعرض طفل لمضاعفات سيئة بعد ختاني له. صار الناس ينتظرون حتى ولو لعام أو عامين لحين قدومي إليهم لأقوم بختان أطفالهم، صار مقص الختان الفضي اللون هو جسري الذهبي إلى قلوب الناس رغم إنه خلق لي عداوات مع الحلاقين الفقراء الذين يقشطون شعر فروة الرأس بسكين تقطيع اللحم بعد حكها بصخرة. رأيت أحدهم يرطب ببصاقه ذقن رجل ليحلقه، تصوري حلاقا يبصق على زبونه قبل أن يحلق له! ولكن هنا الذي يحلقون ذقونهم أو رؤوسهم قليلون، وجوه الرجال هنا خشنة كثة كأنها تنبت أشواكا،وأبر، لذلك كنت أتحاشى طريقتهم في تبادل القبلات الكثيرة عند اللقاءات! بعد الانتهاء من ختان ثلاثين طفلاً،أو أكثر أحيانا في كل جولة جراحية، نجلس جميعا نتناول بما يشبه الاحتفال الطعام الدسم في مضيف الحاج فرعون، أخرج عصرا إلى ريف شطآن الهور، معي الملاحان ياسين، وعمارة والصبي سهر حفيد الحاج فرعون لصيد الطيور. كنت ما أن أصيب طائرا ببندقية الصيد ويهبط على الأرض؛ حتى يركض إليه الصبي سهر بخفة الغزال ليجلبه لي لأنحره وأزيح دمه، وأضعه في عليجة الصيد، فتمتلئ بأنواع من الطيور السمينة اللذيذة اللحم القادمة من أوكرانيا وروسيا والسويد وغيرها من أصقاع الدنيا البعيدة! في صباح اليوم التالي، انطلق متوغلاُ في أعماق الهور حيث قاطنيه موضع اهتمامي ودراستي. صارت بيئتهم المائية الهائلة معبدي، انتظر أن تطل علي فاطمة من أفقها المتوهج، ولكن هيهات، كل مسالك الهور يكتنفها الغموض والضباب،كل الطرق المائية وكل الحكايات التي اسمعها عنها، لا تفضي إليها!الحب وهم جميل، نصنعه نحن إذا لم يعترض طريقنا!سكنت صريفة متواضعة في قرية تتوسط الهور لأكون على مسافة متساوية من كل الاتجاهات. بناها لي رجل متمرس في تشييد الصرائف مستندا إلى خبرة متوارثة. أقامها على أسس متينة في أكمة الطين المعشوشب والموحل المحاط بالماء الضحل، تفنن في ترصيع جوانبها القصبية ببعض الزخرفات أو التشكيلات من تعشيق القصب بالحلفاء، جلبت فرشا جديدا نظيفا، وحرصت على الاحتفاظ ببعض المواد المبيدة للحشرات والجراثيم، لكن مفعولها كان يتضاءل أمام هجمات أسراب القوارض والطفيليات والجراثيم! حرصت على غلي ماء الشرب، وطهي طعامي جيدا! ورغم كل ذلك أواجه؛ تلوثه،واكتظاظ الهواء بالبعوض والحرمس ودخان الروث المشتعل والروائح العطنة. كثيرون هنا لا يحلبون الجواميس بأيدي أو أواني نظيفة، أصبت في بداية وجودي بمختلف الوعكات الصحية من إسهال وزكام وقحة لكن، جسمي تكيف مع الوضع بشكل ما. اعتدت على كل هذا وعلى الأخطار الكثيرة التي تحاصرني في هذه المساحات الشاسعة من الماء. مصيبتي أن كثيرين من عرب الأهوار صاروا لا يفوتون فرصة لعزلي ونبذي لأنني بنظرهم لست من دينهم. رغم إنهم معزولون ومنبوذون من العرب القاطنين أطراف الهور أو في المدن وهم من دينهم ومذهبهم أيضاً، فهم يأنفون من معاشرتهم يرونهم أقل شأنا منهم، لا يتزاوجون معهم، ولا يختلطون معهم إلا في شئون البيع والشراء العابرة،وعلى مسافة منهم. كنت أرى بعضا من أهل الأهوار في المناسبات يتوسلون للقرب من عرب المدن، بينما أنا الذي أحبهم واحترمهم وأعد نفس واحدا منهم، وأقدم كل ما أستطيعه لهم ينظرون إلى بريبة واستعلاء: سمعت أحدهم يقول: "هذا لو ما زايحته الدنيا ما لفى عدنا!" واللافي هو اللاجئ، هم يتصورونني هاربا من شيء أو إنني كنت جائعا في بلدي وجئت لأشبع عندهم. حتى الآن لم ينادوني باسمي،ولا بلفظة احترام أخرى، رغم أنني كنت الفظهُ أمامهم واضحا، بحضوري ينادونني "صاحب" أو المستر، وبغيابي يسمونني "الإنجليزي" أو "الإفرنجي" ومن أينعت فلقات أعضاء أطفالهم، وآن قطافها، يسمونني "المطهرجي" أو "الحاج " من أجل أن يكون ختاني لأطفالهم له مسحة دينية! ثمة من سماني (الديك الهراتي) ربما لشقرتي التي تميز هذه الديكة التي من هرات في أفغانستان، بعضهم يسميني "مالك الحزين" ربما لطول قامتي، وأعظم احترام لقيه اسمي حين جعلوه "مبارك بن لندن " ، لماذا مبارك؟ ربما لأن أدويتي البسيطة تشفيهم أحيانا، أو لا أدري حتى الآن بالضبط، لماذا؟!كنت اضحك في سري من تصوراتهم عني، كان يؤلمني أيضا أن أشخاصا من عرب المدن يكرهونني، ويرونني من أعدائهم الإنجليز. كيف أستطيع العيش بين كل هؤلاء؟ لم تكن أخطار الكراهية أوهاما أو مجرد توجس، ثمة ريب وشكوك ودسائس حقيقية كانت ترصدني!جاءني صباحا مساعدي عمارة بجفنين منتفخين كالمقرحين، كان صامتا شارد الذهن لا يكاد يسيطر على القارب وهو الذي كان يجذف ويديره بيد خبير قوي، سألته:ما بك؟ قال لا شيء، لا تقلق! لكنني ألححت عليه فطفق يتحدث وهو يغالب دموعه:

ـ يقولون يا عم ثيسجر أنك شاذ جنسيا، ليس فقط المعدان هنا يتحدثون بذلك، بل العرب من حولنا!

ندت عني ضحكة قصيرة، لكنني استدركت صامتا، فالأمر جدي وخطير في هذه البقاع:

ـ كيف عرفت؟

ـ البارحة جاءني رجل من العرب ( يقصد عرب الأطراف "الأقحاح") سألني هل لدى ثيسجر زوجة في المدينة؟ قلت له لا ، قال: إذاً ما يقال عنه صحيح، هو شاذ، إما أنه يفعل بمن معه، أو هم يفعلون به، سألته ماذا تقصد؟ قال سمعتك يا عمارة وصاحبك صارت سيئة بصحبة هذا الإنجليزي الكافر الفاسق! أنت تعرف يا عم ثيسجر هذه مسألة تتعلق بالشرف،والأخلاق،والسمعة!

ـ ولكن ما يقوله الرجل كذب وافتراء، أنت تعرف ذلك!

ـ نعم أعرف، لكن هذا لا يجدي نفعا!

سرنا باتجاه الناصرية صامتين، تذكرت إن مساعدي الآخر ياسين كان قد جاءني قبل ثلاثة أشهر تقريبا مرهقا واجما، وكالعادة فقد قدرته على قيادة المشحوف، لم أسأله عما به؟ بعد صمت وأسئلة غير مباشرة، ومماطلة معتادة، أخذ يتحدث:

ـ رجل من الصحين أتى إلى أبي قال له ابنك يعمل مع الجاسوس الإنجليزي، امنعه وإلا سنضطر لوقفه عند حده، سأله أبي: على من يتجسس؟ قال: علينا؟ سأله: ومن أنتم؟ قال: لا عليك!

سألت ياسين: ومن تعتقد هذا الرجل؟ قال: أبي يقول إنه من الشيوعيين! كان خائفا، لكنني طمأنته، هؤلاء الشيوعيون يتهمون كل أجنبي غير سوفيتي إنه استعماري، قلت لياسين يعز علي أن أفقدك ولكن إذا وجدت عملك معي خطرا عليك؛ تستطيع تركي دون أن نفقد صداقتنا! لكنه بعد يوم أو يومين نسى الأمر وعاد يعمل معي بنفس مزاجه ونشاطه السابقين، ما الحيلة مع عمارة والتهم هذه المرة تتعلق هنا بالشرف والأخلاق؟ كيف أقنعه؟ أعدت عليه نفس الكلام الذي كنت قد قلته لياسين، فظل صامتا يجدف دون انتباه، تركته لصمته وتفكره. في اليوم التالي وكنا قد بتنا في بيت الشيخ العامري بعد حفلة ختان طويلة لأطفال كثر من مختلف الأماكن في الهور، تبارى فيها أهاليهم في الكلام الطيب بحقي وإزجاء التحيات والشكر والوعود الطيبة، نهض عمارة من نومه صباحا، مبتسما وأحضر المشحوف لرحلتنا عائدين،وحين صرنا في عرض الهور قال:

ـ يا عم ثيسجر فكرت في قضية البارحة، كلام الناس لا يخلص ولا ينتهي معك أو بدونك، والمهم إنني أعرفك واعرف أخلاقك الطيبة، لن أتركك يا عم، لن أتركك!

مساعداي ياسين وعمارة خففا كثيرا علي عبء الحياة هنا، ياسين، دون الثلاثين وسيم داكن السمرة بوجه مستدير وعينين واسعتين تكادان تريان بوضوح في ظلام الماء، رشيق، مهذب جدا. عمارة بنفس عمره كأنهما تؤمان،هما قريبان كما عرفت، لكن عمارة أكثر سمرة، وأكثر امتلاءَ،ورغم إنهما لم يذهبا إلى المدرسة كأكثر شبان العرب هنا إلا أنهما يتمتعان بتهذيب فطري يدهشني ويزيدني حزنا عليهما، كيف يبقيان يطوفان في المشحوف يقتاتان على ما يصيدان من سمك أو طير، أو تجود به عليه عائلتهما والجاموستان اللتان يمتلكهما والدهما المرهقان المريضان،حتى يشيخان أو يموتان مبكرين بأحد الأمراض القاتلة التي يتداولونها هنا بينهم كالهدايا المسمومة. كانا يساعدانني تاركين والديهما يهتمان بشئون وحاجات العائلة، مع فقرهما المدقع، يقبلان الأجر البسيط الذي أعطيهما، وما كانا يطلبان المزيد، ولا يتقبلان ما أجلبه لهما من ملابس أو هدايا بسيطة إلا بعد إلحاح، يقولان دائما أنهما وجداني أبا أو عما لهما. استطعت أن أكسب ثقتهما أتدرج في حديثي معهما عن فاطمة كلاهما قالا إنهما سمع والديهما وجديهما يتحدثان عنه! لم اخلص من تشنيع الذين يكرهونني وطعنهم بأخلاقي وسمعتي، أعطيتهم بعض الحق هم يتوجسون من الغرباء، ولهم مع الإنجليز تجربة مريرة، قلت لأصبر عليهم،لا بد أن يتغير شعورهم نحوي وتعاملهم معي.الحلاقون ومن كانوا يعتاشون على التطبيب بالسحر والشعوذة والمواد البدائية هم من يحرضونهم ضدي ، والغريب أن الشيوعيين ناصبوني العداء بينما كنت أدعو الناس بشكل هادئ، وقدر استطاعتي، أن يعوا استغلال لإقطاعيين لهم بتشغيلهم بأعمال شاقة بأجور ضئيلة،وإن من يسمونهم "الموامنة" يمتصون دمهم حين يجبون منهم الخمس، وكنت أحاول إيقاظهم ،كلما وجدت فرصة لذلك،والمفروض أن هذا يخدم أهداف الشيوعيين إن كانوا يعونها حقا، لكنهم اصطفوا مع الحلاقين والمشعوذين، فقط لأنني بريطاني امبريالي في نظرهم، وبالطبع لو كنت من الإتحاد السوفيتي، لوجدوا ألف عذر ومبرر لوجودي،بل لاعتبروني منقذا أممياً! يوصلني ياسين إلى صريفتي، أهبط من المشحوف فتغوص ساقي في الماء، ويقول ياسين: احذر يا أبي، ثعابين الماء السامة، تتكاثر هذه الأيام، وأدخل متفكرا : عجبت كيف اجتمعوا ضدي : الحلاقون والشيوعيون والملالي وثعابين الماء!الشمس ظلت تغمرني بنورها، والقصب يغني، ويدي تختن الأطفال بخفة منجل يحصد البردي! لأتناول عشائي وأنام بهدوء لكن هيهات! يأخذني الأرق، أقول لنفسي ، هم محقون ، فأنا أتجسس كل يوم على روحي القلقة المعذبة في ترحالها الطويل الدائم علني أصل إلى حقيقتها، فلا أجد في يدي منها سوى نبض عروقي المسرع ، أنت أيضا يا أجاثا مغامرة باحثة عن روحك،عندما جئت إلى العراق شابة وحيدة ما كنت فقط تريدين الحج في أور، بل باحثة عن جذوة روحك في أرض انسكبت السماء فيها موحدة في قلوب الناس، ولتكملي رحلة البحث عن عشبة الخلود التي بدأها جلجامش، وقيل أنها انتهت خائبة، وهي ما انتهت، فأنت تقهرين الموت المؤرق برواياتك الشيقة المثيرة! نحن لم نأت إلى العراق كهؤلاء الباحثين عن الذهب في آبار النفط، ولا مثل المسز بيل الباحثة عن السلطة، ولا كبعض الآثاريين الدجالين الباحثين بين عظام الموتى عن مجوهرات يسرقونها، ولا كأولئك الباحثين عن فتيات ألف ليلة وليلة في مواخير تعج بوجوه النساء المسكينات وقد أعتصرها المرض والفقر. أنت في أور أحببت ماكس، ما الضير أن تبحثي عن الحب والخلود معا؟ ما جدوى الخلود الذي لا يضمن لنا الحب؟ ماذا لو عشنا ابد الدهر ولكن دون حب حقيقي؟ ماذا نفعل بالخلود؟ آنذاك، سنتمنى الموت فلا يأتي، أنا يا أجاثا أفضل أن أعيش عمرا قصيرا مترعا بالحب؛على الخلود كله خاليا من الحب! أقول من يحظى بحب حقيقي يحصل على الخلود! خذي هذا على مسئوليتي! ثمة أكثر من وشيجة عميقة بيننا يا أجاثا، أقولها بصراحة ودون مجاملة:أنت ملهمتي وقدوتي، وحتى الآن أنت تكتبين اكتشافاتك الروحية بالكلمات، وأنا أكتب اكتشافاتي بالرمال، أو بالماء! لو اجتمعت خبرتي في الاكتشاف الأرضي، وخبرتك في الاكتشاف الروائي الفني،وعبر رحلات ومشاهدات حقيقية، أي كتاب جميل نهديه للناس ؟ رغم ارتياح ماكس لكلمات ثيسجر عنه، لكن قلبه ظل مرتابا، ما هذه الدعوات أو النداءات التي يوجهها لأجاثا،ماذا وراءها؟ أهو حقا يريد الإبداع، أم شيئا آخر؟ كيف يكون الإغواء إذاً؟إنه يدعوها لوحدها فقط ، كيف يتجاهلني وأنا زوجها؟ ومهما بلغنا من التحرر، كيف ترافق امرأة مهما كانت غايتها نبيلة رجلا في الصحراء دون زوجها أو دون رضاه؟ ماذا يعتقد هذا المجنون، أن كتابة رواية هي أهم من سعادتها وبيتها؟ شعر بأنفاسه تقلقه، كأنه يصعد جبلاً، ولكنه يعود قائلا: لا، أنا أبالغ، إنه لم يتطرق لي لكوني أمرا بديهيا في حياتها ،وهو يقصد أن موافقتها تعني موافقتي؛ وإنني سأكون حتما معها! واقتراحه عليها أن تكتب رواية بغير مواضيعها المعتادة أمر طبيعي يتداوله الكتاب بينهم والقراء والنقاد، وهو أمر مشروع بل مطلوب وضروري، و ليس بالسوء الذي أتصوره! سأقرأ لأعرف هل التزم بما أرادت منه أجاثا، أم إنه شط عن الصدد بأشياء أخرى،لا أعتقد أن أجاثا شطت عن الصدد وتقبلت منه ما خرج به عن المألوف،أو قبلته وتعاملت معه وشجعته عليه!

 

خالد يستنفر كتب التحقيق الجنائي، وذكريات الصبا، وأشباح روايات أجاثا كريستي لكي يمسك طرف الخيط!

مضى خالد بأوراق أجاثا ، إلى مقهى العانيين،المطلة على دجلة جهة الكرخ غير بعيد عن جسر الملك فيصل الثاني. كان يجلس فيها أيام دراسته في الكلية؛ يقرأ كتب الحقوق الضخمة، واضعا بينها روايات أجاثا كريستي، الصغيرة الناعمة، يعتبرها واحات استراحة خضراء، ينطلق في أجوائها الندية الملهمة متخلصا من جفاف كتب القانون وثقلها، وكآبة حجرته الصغيرة التي لا تبعد كثيرا عن المقهى، أجرها من عجوز، لا تنفك تطالبه بإيجارها قبل حلول موعده.كانت أجاثا قد استهلت ما كتبته بسؤال يشبه تأنيب ضمير معذب "أي نداء انتزعني من ابنتي وبيتي في لندن ودفعني بعاصفة إلى صحراء أور؟ تواصل بوحها أو مذكرتها: يصر كثيرون على القول أنني اسكندنافية الملامح، ربما لأن جدتي لأمي كانت مهاجرة سويدية إلى إنجلترا حين كانت موجات الصقيع في اسكندنافيا تأكل كل شيء حتى الجزر والبطاطا وجذور العشب،ولا تترك للناس سوى أجراس الكنائس، لتنعى الموتى من الجوع! و جدي لأبي نزل من قوارب الفايكونك على شواطئ أمريكا، بحثا عن جدة لي تعرف كيف تطبخ اللحم بعشرة أصناف، وليس كالمرأة السويدية التي لا تشتري اللحم إلا داخل مصران السجق! على كل حال أنا راضية بملامحي ويفرحني أنها تجتذب نظرات الرجال حتى لو أثارت غيرة بعض النساء، ليس المرآة وحدها تلتهب من صورتي، بل دمي يشعرني أن الملامح الإسكندنافية ساخنة وليست باردة كما يشيع عنها منتجو المدافئ الكهربائية! ما أتذكره إنني عشت طفولة سعيدة. من أين تسللت الأشباح والمخاوف والكوابيس إلى رأسي؟ لماذا قصصي مشبعة بالموت؟ أو لا تخلو من دماء؟ أنا نفسي لا أعرف، ليست كتبي وحدها طافحة بالموت. الشوارع والساحات والبيوت التي كانت قديما آمنة أضحت طافحة بالموت! يعزو البعض ذلك إلى أنني في مطلع شبابي رافقت زوجي الأول أرتشي كريستي إلى جبهة الحرب في فرنسا، إبان الحرب العالمية الأولى، وإنني عملت ممرضة في مستشفى كان يمتلئ كل يوم بجثث وأشلاء الجنود القتلى والمجروحين فتغلغل الموت في كل خلايا روحي وجسدي، وصرت أصبه على الورق. ربما في ذلك بعض الحقيقة؛ فالحرب لا تقتل المحاربين فقط،، بل الناس العزل في المدن، من لا يموت في جسده، تموت روحه و يعيش معذبا أكثر. حتى الأطفال تزحف إلى قلوبهم ديدان جثث الحرب وتنخرها؛ فيعيشون مروعين مزعزعين وقد ينتجوا حروبا أخرى، أو يموتون في سلام مرير. أشباح الطفولة تلاحقنا إلى الشيخوخة، وتنزل معنا إلى القبر! لكنني بعد كل رواية تدور حول جريمة قتل أرسل فيها القاتل لينال جزاءه أحس بالأمان كأنني بذلك أحقق بنفسي العدالة والسلام المفقودين في عالمنا، وأحث على ملاحقة القتلة والأشرار أينما كانوا، ومهما كانوا! ليس في أعماقي نزعة عدوانية أو فطرة شر كما روج البعض، على العكس أحس أن لدي نزعة خير جارفة، وتطلع للأمان والمحبة والتزام بالعمل على طرد الخوف من قلوب البشر، هذا ما أنشده وأدعو إليه. ربما أنا من خلال الكتابة المضنية المدمرة أقول ذلك لنفسي أولا، ثمة أطباء نفسانيون حاولوا تحليل رواياتي وشخصيتي، هذا من حقهم؛ فقط ينبغي لهم أن يعرفوا أن روح المبدع هي كما البحر، يبدو ساكنا ناعما، لكن أعماقه تضطرب بتيارات وسورات عميقة جارفة، وأسراب هائلة من الحيتان والكواسج والكائنات الحية المتصارعة! لا أدري من أين تلقيت تلك الإشارات الغامضة الملحة تدعوني للذهاب إلى العراق! هل لامست قلبي نسمات من الإنجيل والكتب المقدسة؟ إذ تشير إلى بابل، وأور حيث ولد إبراهيم الخليل أبو الأنبياء، وملهم التوحيد الإلهي؟ لا أعتقد إنني لبيت رسالة دينية محضة، أن أكون حاجة وأنا شابة، فذلك إقرار بالشيخوخة قبل الأوان! وأنا لست شديدة التدين، وإن كان لدي من الأيمان ما يكفي لتحقيق رضا الله عني، ومنحي بيتا صغيرا في الجنة، وربما سكرتيرة طيبة غير ثرثارة، وآلة صغيرة أكتب بها روايات عن الحب، فأنا أعتقد حتى الجنة لا تطاق دون روايات مسلية. ربما تلقيت نداء الشرق من الشمس المفقودة هنا في جزر الضباب؟ لا شك أن الدفء والنور هو حاجة ملحة هنا وفي كل مكان، الشتاء والخريف يتخمان الجزر البريطانية بالبرد والظلام، ولكن هل على الإنجليز أن يهجروا بلادهم قاصدين البلدان المشمسة؟ لا طبعا! لذلك،وجدوا الحل، نقلوا صوف الخراف إلى جلودهم عبر ملابس سميكة، وحصلوا على النور من إشعال شجر الغابات. لكن الصوف الكثير أفقدهم أناقتهم، ودخان المواقد أتلف عيونهم وجعلهم لا يستطيعون القراءة جيدا، إلا إذا كانت الأوراق التي بين أيديهم نقودا أو شهادات أسهم في الشركات! وأنا لا تشغلني هكذا أوراق أبدا! لذلك حرصت أن لا أجعل الجريمة تسجل ضد مجهول! قال بعضهم إنني قررت السفر لأبتعد عن المكان الذي حدث فيه افتراقي عن زوجي أرتشيلد كريستي الذي ما زلت وابنتي نحمل اسمه. هذا لا يخلو من الصحة، فجراح الحب أليمة، وتبقى تنز ندما ووجعا في القلب،.وحجارة المكان تضربنا بها كل لحظة، وبعدنا عنها أولى خطى النسيان! لا أنكر إنني كلما تذكرت ما حدث لي مع زوجي لا أستطيع مواصلة الغوص في التفاصيل الجارحة، فقط أقول ليسامحه الله، وأتمنى له السعادة مع امرأة أخرى! كما إنني اعترف إنه لم يكن قاسيا دائما، وأنا لم أكن رقيقة معه دائما! ومن دفع ثمن سوء تعاملنا مع بعضنا هي ابنتنا الوحيدة روزاليندا الغافلة الطيبة! فقداني لوالدتي بنفس عام انفصالي عن زوجي؛ جعل جراحي عميقة جدا ونازفة ، وصرت اشعر إنني وحيدة ومهجورة بشكل لا أمل معه!

 

أي شعاع جذبني من بيتي في لندن ليجعل وجهتي أور في جنوب العراق؟ أهو وجه النبي الأول إبراهيم الخليل؟ أم وجه آخر له سمات الأنبياء؟

رحلتي إلى الشرق أكبر من مجرد محاولة نسيان حب فاشل، أو نسيان غياب والدتي، أصغيت للنداء منتشية، الأمل يمنح جسدي خفة الأثير، متلهفة لمعرفة سره، ما هو في الحقيقة ؟ ومن أين يأتي؟ أهو يعني تطلعي للمعرفة حيث بلاد ما بين النهرين كما حدثنا عنها التاريخ حوت حضارة جميلة، صنعها بشر امتازوا بذكاء مبكر ويقظة وحب للتناسق والجمال؟ هل يعني الإيمان والسكينة حيث هناك مهبط الرسالات السماوية الكبرى؟ أهو حلم أهوج عابر كالأحلام الأخرى التي طالما راودتني وألهبت قلبي، وأتعبتني ثم تكشفت عن هباء؟ أهو مزحة ثقيلة من الأقدار المتصارعة حولي، أهو فطنة عظيمة ؟ أم غباء يعتري الإنسان حين يعتقد إنه ذكي ملهم؟ ويظل قلبي يهفو لنور عظيم لا أعرف كنهه، إن كان بشريا أرضيا، أم خياليا سماويا؟ لكنه لا يكف يرهقني !كنت في خلوتي مع فنجان قهوتي الصباحي أسأل نفسي ،ماذا؟هل ثمة رسالة سماوية جديدة تريد السماء أن تضعها على كاهل امرأة؟ وأية امرأة؟ أنا أجاثا كريستي الحالمة بكتابة روايات مثيرة، كيف أخوض بمراسلات مع السماء، وتقليب أشياءها المقدسة الحساسة وجمع الحواريين والأتباع والفقراء والمساكين والمرضى حولي وأنا لا أستطيع تنظيم رسائلي الشخصية، ولا مدارة أمزجة صديقاتي أو أقاربي وجيراني؟ أن أتولى بريد السماء وبريد الأرض تلك مهمة لست قادرة عليها! أتوقف في سري عند كلمات لصديقة لي هنا في لندن كانت تقول؛ ربما أنت تقتفين خطى الإنجليزية جير ترود بيل التي تحولت من آثارية عليها أن تستخرج الملوك القدماء من باطن الأرض وتضعهم في المتاحف، إلى صانعة ملوك جدد من لحم ودم تضعهم على عروش قلقة تحت التاج البريطاني الذي لم يعد يتسع لمزيد من الملوك والدرر الحقيقية والمزيفة! وأهز رأسي ضاحكة من ذلك، ويعود صوت رحيلي إلى الشرق يتواصل موسيقى عذبة هائمة، تقول لي بنغماتها الغامضة: اذهبي إلى هناك، هيا انهضي، لا تتأخري، احزمي حقائبك الآن، اركبي قطار الشرق السريع، تمتعي بمناظر الغابات والوديان والجبال والمدن الحالمة، وستصلين إلى شيء كبير عظيم! ما هو هذا الشيء؟ لا تستعجلي! ستصلين أور وتعرفين، كما تشوقين الناس لنهاية روايتك وتماطلينهم، هاهي الأقدار تلعب معك بالأحداث يا أجاثا ، لتشوقك وتبقيك في لهفة، ولن تقول لك لماذا عليك الذهاب إلى أور، إلا في أور نفسها! يبدو إنني توقعت كل شيء إلا حقيقة ما سيحدث في أور حين أصلها وهكذا مهما يكون مؤلف الروايات بارعا إلا أن الأقدار التي تكتب رواية حياته هي دائما أكثر براعة منه، واشد حزما وحسماً ولن تقول نهاية حكايته إلا أخيرا. هل مع نهاية حياته؟ أم قبلها ولو بقليل، عادة تأتي نهاية المبدع مفاجأة له قبل غيره! لكنني أخيرا قلت لنفسي ،رحلتي تطلع لحب كبير تصنعه الشمس المشرقة، والسماء الزرقاء الصافية، والأفق الذي يقف عليه أمل عظيم كما يقف طير هائل على قوس قزح!

كان ذلك عام 1928، تركت وراءي ابنتي الحبيبة لدى أقارب زوجي وأصدقاء لي، أغلقت بيتي الجميل الهادئ، وركبت القطار من محطة فكتوريا في لندن وجعلت وجهتي الشرق! من الجانب الآسيوي من تركيا. استقليت قطار الشرق السريع الجميل الفاخر، قصدت حلب، أزمعت أن أقضي فيها بضعة أيام؛ لما قرأت وسمعت عن أجوائها الساحرة، وأطعمتها الشهية. كانت تجلس بجانبي امرأة تقارب الأربعين، هي التي بدأت الحديث معي، عرفتني بنفسها: عائشة السلام، حسناء عراقية ناعمة قوية الشخصية؛ زوجة رجل دبلوماسي يعمل في سفارة بلده في لندن، عادت إلى بغداد لوحدها لترى أمها المريضة، تتكلم الإنجليزية بطلاقة؛ متابعة لجوانب كثيرة من الحياة الثقافية في لندن؛ حريصة على مشاهدة المسرحيات والحفلات الموسيقية. احتفت بي كثيرا حين عرفت إنني كاتبة، طبعا لم أتوقع إنها كانت قرأت روايتي الوحيدة، عندما حدثتها عنها؛ أبدت رغبتها في قراءتها،وعدتها بإرسالها لها؛ فأنا لم أكن أحمل أية نسخة منها! راحت طيلة الطريق تحدثني عن بلدها المدلهة بحبه حد التقديس، تراه مهد الحضارات، ومستقبله سيكون بما يليق بماضيه! كنت أقارن في سري بين كلامها الواثق المعتز كثيرا، وما حدثني به موظفون إنجليز في وزارة الخارجية حين قابلتهم في لندن أريد نصيحتهم لسفرتي! هم يرون العراق إحدى مستعمراتهم، وكفى! لكن أحدهم تبسط معي في الحديث على فنجان من القهوة،قال لي وهو يضحك، لقد كان رجالنا هناك خبثاء حقا، رسموا خارطته ووضعوا بين أنهارها وجبالها ومفاصل عظامها، متفجرات تكفي لجعلهم يحتاجوننا دائما، وقد يجعل مستقبل هذه البلاد على المدى البعيد عسيرا وتعيساً! قال إن المسز بيل لم تكن بعيدة عن هذه الطبخة المسمومة. ذلك آلمني حقا، وجعلني اشعر بالخجل أن حكومة بلادي بهذه القسوة واللؤم، وجعل صورة المسز بيل تهتز في قلبي، كنت أتابع فصول حياتها وأخبارها بتقدير وحزن، أناقش صديقتي حولها، هي تعتبرها صاحبة رسالة عظيمة، ساعدت شعوب الشرق في الخروج من ظلمات العثمانيين، إلى نور الحضارة والمدنية.قلت لها: لكنها تنقلهم لهيمنة أخرى أشد مكرا، وترد: هيمنة الغرب تحمل لهم النور والتطور المادي، وسيستردون أرادتهم الوطنية منها حتما، فيجدونها قد صقلت ونضجت وقاربت العالم المتحضر! لا أخوض كثيرا في السياسية، أنا كاتبة روايات بوليسية،أنظر لشخصية المسز بيل كشخصية روائية جذابة، نجحت وتألقت ثم فشلت، وسقطت، ماتت بصورة غامضة،ربما انتحرت. دفنت في ارض غريبة. كثير من سكانها يكرهونها،ولا أدري إن كانوا قد ابقوا على قبرها بينهم! هي رحلة حزينة ومثيرة وتصلح لرواية، أبحث فيها عن سر موتها مثلا، لا أدري إن كنت سأكتبها. سأزور قبرها إذا كان لا يزال موجودا، أضع عليه باقة من الزهور، فهكذا شخصيات تثير شجني،وتسحرني! وجدت لها عذرا فهي خاضعة في النهاية لإرادة رؤسائها!

 

في فندق البارون كان جاري لورنس العرب، والملك فيصل الأول، وملك السويد الذي قال : في السويد حتى جمرة السيجارة مثلجة!

قطار الشرق السريع فندق جميل بعجلات يسير على سكة تمر بين جنائن وشواطئ تلعب فوقهما الشمس والغيوم بتناغم مدهش! مقاعد فاخرة مطعم عائم في النسيم، يقدم أشهى الأطعمة والمشروبات، نادلون يقدمون خدمة للركاب لا يجدونها في بيوتهم! قطار؟ أم طائر كبير جميل؟ حضن للذاهبين الآيبين بين أوربا وآسيا. كان حديث عائشة ممتعا مع أكواب القهوة وعصائر البرتقال. لكنني ضجرت منها، وخفت أنها ستبدد وحدتي وخلوتي مع نفسي، تلك التي أعشقها خلال السفر، خاصة حين تنفتح نافذة القطار على غابات وجبال ووديان خضر، وسماء زرقاء يوشحها شفق أحمر! مضيت أجاملها واستمع لها، فأنا لا أطيق أن أجرح قلب إنسان حتى ولو على حساب راحتي. حين عرفت إنني سأذهب إلى بغداد؛ فرحت كثيرا، سألتني أين سأنزل في بغداد؟ قلت لها في فندق طبعا قالت: ما هذا؟ ظننت أن لك أصدقاء أو أقارب في سفارتكم في بغداد؟ أنا لا أقبل أن تنزلي في فندق أبداً، أنت تنزلين عندنا في البيت، وراحت تصف بيتها الكبير المطل على النهر! كانت تقول ضاحكة: أنا عاشقة لوطني مولهة به، لا تضحكي مني حين ترينني أتغزل به! لدينا سيارة حديثة سأطوف بك في بغداد وضواحيها، سآخذك إلى مدن أخرى في الجنوب والشمال وسترين العراق كم هو جميل ساحر، ونحن محقون بالفخر به! وحين عرفت إنني سأمكث أياما في حلب: قالت لو لم تكن أمي مريضة لبقيت معك،لأريك معالم حلب الفاتنة، أنا وزوجي نحبها كثيرا، لنا فيها ذكريات جميلة،خشيت أن تنتزع مني وحدتي في حلب أيضا! أعطتني عنوانها في بغداد، ووصفت لي كيف أصل إليهم. في محطة قطار حلب، جاء رجل عراقي مع زوجته لاستقبالها بسيارة فخمة. أصرت أن توصلني إلى الفندق، اقترحت علي أن أنزل في فندق البارون، قالت إنه فندق رائع وسترتاحين فيه كثيرا! أصرت أن تنزل من السيارة معي، وتوصي صاحب الفندق بي. نهض مرحبا بها بحرارة. قبلتني وضمتني إلى صدرها مودعة كأنها صديقة قديمة، وقفت أرقبها وهي تختفي في السيارة المنطلقة، تلك أولى لمسات دفء الشرق! بدأت أحس أنني أخرج ولو قليلا من برودة أجوائنا الأوربية. واجهتني في ممرات الفندق الخارجية رائحة زهور عطرة، تذكرت إننا في الربيع!

ما زلت أتذكر فندق البارون، صاحبه رجل أرمني يدعى مظلوميان،احتفي بي كثيرا، لما تحدثت به عائشة عني، وحين عرف أيضاً إنني أعد لكتابة رواية تدور أحداثها في قطار الشرق السريع. أعطاني الغرفة ( 203 ) كهدية ،هي واسعة جميلة، كانت بسريرين، لكنه أحتسبها لي بكلفة سرير واحد، ما زلت أتذكر خزانة الملابس من الخشب الفاخر، والمرآة الكبيرة الصقيلة، والجدران المزدانة بتحف من الخزف الصيني الملون الصلد بلون المحار، كانت تطل شرفتها على حدائق في ضاحية رائعة. النزلاء الأرستقراطيون يصطادون طيورا جميلة من فصيلة البط من شرفاته، طاف بي السيد مظلوميان في الفندق قال:

ـ انظري! كان جارك هنا السيد لورنس العرب، سكن في الحجرة 202 . ومن شرفة غير بعيدة عن حجرتك رقمها 215 ،ألقى الملك فيصل الأول خطابه إلى جماهير حلب الفرحة الملوحة له معلنا أن سوريا أضحت مستقلة عن الدولة العثمانية، وستسعى جاهدة للخلاص مما يقيد استقلالها في معاهدتها مع الفرنسيين! وفي هذه الحجرة نام ملك السويد، وقد أيقظنا مرة في منتصف الليل يريد أن نجلب له الثلج لفودكا الأبسولوت التي جلبها معه، كان ديمقراطيا، يبتسم كثيرا، فتجرأت وقلت له، حين حملنا حقائبك إلى حجرتك يا جلالة الملك كانت ثقيلة باردة، وقد ظننا أنها مملوءة بثلج جلبته لنا من السويد لتحسن مناخنا الساخن، وكنت في الواقع أقصد السياسة، وليس جو حلب المعتدل الجميل، لكنه كسويدي لا يكترث للسياسة، ولم تدخل بلاده حربا منذ أكثر من مائة وخمسين عاما، أطلق ضحكة ملك دون قهقهة، وقال:

ـ هي جواربي الصوفية السميكة، جلبتها تحت تأثير برد السويد، وجدت إنني هنا لا أحتاجها، احتجت الثلج للفودكا،السويد باختصار ثلاجة كبيرة، والفودكا وحتى جمرة السيجارة فيه مثلجة!

كنت أرى الكثير من الرجال الألمان في الفندق،قرأت في الصحف الإنجليزية أن الحكومة الألمانية أرسلت الكثير من الجواسيس الألمان لمراقبة وملاحقة جنرالات الإنجليز والفرنسيين لمحاولة عقد صفقات سرية متنوعة معهم. فهم بعد انهيار الدولة العثمانية؛ راحوا يتصارعون على تركته تصارع القطط على سمك تناثر من سلة بائع أعمى سقط في حفرة. كانت أياما ممتعة قضيتها في هذا الفندق الذي بني في أحضان بساتين ما تزال بعض أشجارها باسقة زاهية الخضرة، وسواقيها تحفها صفوف الزهور اليانعة.آخر يوم قضيته انتهى بمأساة ظلت تلاحقني ذكراها فترة طويلة، وتشعرني بتأنيب الضمير،وأفكر في الكتابة عنها لأزيحها عن قلبي. كان رئيس جرسونات مطعم الفندق الألماني باول قد وقع بحب الفتاة الألمانية "أننا"، التي كانت قد دفنت جمالها الباهر تحت ثياب راهبة، متبتلة صارمة،كانت معلمة في المدرسة الملحقة بالدير الكائن قبالة الفندق، وكان باول يرسل لها مع تلميذها الطفل ابن مظلوميان رسائل غرامية يدسها في سندويجاته المدرسية التي يعدها له كل صباح، ويوصيه أن لا يأكلها قبل أن تفتحها الراهبة، وتتلو صلواتها عليها، كانت الراهبة تقرأ أغلب رسائله الغرامية المتوسلة لسنتين دون أن ترد ولو على رسالة واحدة منها! حدث لمرات أن أكل الطفل وهو جائع رسائل باول الغرامية المدسوسة داخل السندويجة حين لم يجد المعلمة الراهبة لتصلي عليها. وقد بثني باول حزنه وشكواه؛ فنصحته بالكف عن كتابة الرسائل وترك "أننا" الجميلة لعشقها الرباني. سألته ماذا تقول لمظلوميان لو أن طفله غص، أو مات وهو يبتلع إحدى رسائلك الغرامية؟ ما هذا الذي تفعله يا باول؟ قلت له: من الصعب بل من المستحيل لك أن تنجح في منافسة مع الله على قلب راهبة، خاصة وفي المعركة السيد المسيح المدجج بروح القدس، وصلبانه الذهبية،وآلاف الكهنة! أما وجدت غير الراهبة لتعشقها يا باول؟ لو كنت عشقت عروس البحر لكانت أقرب إليك! راح يهز رأسه بشكل حيرني. بعد ساعات من حديثي معه نزل إلى سرداب الفندق، وأطلق رصاصة على رأسه من مسدس اشتراه من ضابط ألماني ينزل في الفندق. قالوا لي أنهم حين أعلموا الراهبة (أننا) بانتحاره لم تنطق بكلمة، هزت رأسها، ثم رسمت علامة الصليب على صدرها الناهد الجميل،وهذا كل شيء! لكنني بقيت واجمة لا أستطيع النطق، شعرت كأنني ساهمت في قتله بنصيحتي الخرقاء! غادرت حلب وأنا أحلم بالعودة إليها، يصعب على من عاش بها ولو لأيام أن ينساها، نكهتها، نورها السماوي، وجوه أهلها، أطعمتها الشهية اللذيذة والزهيدة، مدينة تبقى في القلب.

 

كيف أنسى عائشة الحالمة بوطن جميل، وكلمتها: إذا كان لابد من الكراهية، لتكن أقل ما يمكن، هي كالسم في الدواء؛ إذا زادت قتلت صاحبها!

رحت أحلم ببغداد فهي كانت في يوم ما عاصمة الدنيا، ومنبع الأحلام وملاعب ألف ليلة وليلة! ركبت باص شركة النقل الكبيرة التي يمتلكها الأسترالي المستر نيرن، وأطلق عليها أسمه، كان يطوف على الركاب متفقدا أماكنهم، لكنه كان يعجز عن منحهم مقاعدهم التي في بطاقاتهم، فثمة ركاب متنفذون وأغنياء يجلسون في أية مقاعد تحلو لهم وهي عادة لغيرهم، ولا يستطيع أحد زحزحتهم عنها، كان معهم حراسهم المسلحون، وكان الركاب البسطاء يفضلون الصمت وعدم المطالبة بمقاعدهم؛ فكل ما يريدونه أن يسير الباص ويصلون مقاصدهم. رأيت في التزاحم على مقاعد الباص صورة رمزية لما يجري من صراعات في هذه البلدان الواقعة في قبضة الاستعماريين الإنجليزي والفرنسي، "المهم أن يسير الباص ونصل"، هذا ما قاله أحد الركاب ملخصا كل فلسفته في الحياة، لا يهمه أين يكون مكانه، ومن ينتزعه منه دون وجه حق.احترموا على ما يبدو وضعي كأجنبية؛ فلم يطلب أحد مني ترك مقعدي الذي كان متميزا بكونه بجانب النافذة،وغير بعيد عن الزجاجة الواسعة لمقدمة السيارة! كنت أشعر بالطمأنينة؛ إذ أجد أن الشرق آمن نسبيا، إلى حد يستوعب شابة إنجليزية حسناء وحيدة، يمنحها حرية التنقل، مع عطف ورعاية ولو عفوية، بينما حكومتها تحتل أجزاء كبيرة من بلادهم، وقتلت الكثيرين من أبنائهم، وما تزال تشن حروبا هنا وهناك عليهم، والأسوأ عندهم أنها تقف بجانب اليهود ضدهم في فلسطين. كنت أسأل نفسي كيف يقولون عن الناس هنا أنهم يكرهوننا، وهم متوحشون، مهووسون بالجنس يفترسون المرأة كما يفترسون الخراف،وجدتهم لطيفين وديعين، عاملوني بعفة وشرف، فتبدد خوفي منهم. هذا لا يعني أن أرضهم تخلو من المجرمين والمتعطشين للدماء! في بغداد نزلت في فندق تايكرس بالاس ، زرت السفارة البريطانية، وطلبت نصحهم في سفري إلى أور، وعدوني بدراسة طلبي بتأنٍ؛ وعلي الانتظار! اتصلت بعائشة تلفونيا، جاءتني مع شقيقها إلى الفندق؛ كانت غاضبة علي أنني نزلت في الفندق، ولم أتصل بها حال قدومي لتأخذني إلى بيتها! لكنني طلبت منها أن تترك مسألة نومي وعزلتي لمزاجي! عادت إلى ابتسامتها وتدفقها في الحديث. أخذت تريني جوانب من بيتهم الفخم في الأعظمية على دجلة، نخيل حديقتها،وزهورها، كانت فرحة أن أمها قد تحسنت صحتها، وهي الآن في بيتها الآخر وتحت رعاية طبيب يهودي وخدم مدربين.عملت لي أفضل الأكلات العراقية كما قالت: الدولمة والباجة والكبة، ما أن أنتهي من طبق حتى تملأ لي طبقا أخر. بشمت ولازمني إسهال لأيام. ذلك لم يفقدني ثقتي بالمطبخ البغدادي، جعلني أحبه وأحذر منه! توثقت صداقتي بعائشة. قالت لي؛ أنا وزوجي سأمنا الحياة في لندن رغم جمالها وغناها وفخامتها، الحياة في بلادنا على بساطتها يا أجاثا تجعلنا سعداء أكثر، هنا جذورنا وذكرياتنا، وقد أدينا واجبنا نحو وطننا هناك، وهذا يكفي. زوجي سيتقاعد،وأنا أزمع أن افتح صالونا ثقافيا وأطمح أن أنقل تقاليد من الثقافة الأوربية لوطني الذي خضع طويلا للعثمانيين، امتصوا دمائنا باسم الخلافة الإسلامية. آن لوطننا أن ينهض بعيدا عن الانقسامات المذهبية والعرقية! وقفت أتأملها كأنني أراها لأول مرة، سمراء ، بعينين عسليتين وشعر ناعم فاحم، رشيقة فارعة، بدت لي أميرة عربية حكيمة. وجدتني سعيدة بصداقتها ولمت نفسي أنني ضجرت من ثرثرتها معي في القطار. قدرت همومها وآمالها ووعدتها أنني سأكون على تواصل معها دائما. كانت تأتيني بسيارة يقودها سائق كهل يمازحني ببعض الكلمات الإنجليزية. صرت أنا أطلب أكلاتها الدسمة فأستطيبها ومعدتي لم تعد تنوء بها خاصة حين احتسي أقداح الشاي الأسود المر! ثمة موظفون في سفارتنا ببغداد نصحوني بعدم السفر إلى أور الآن، قالوا إن البعثة الآثارية الإنجليزية التي تعمل هناك بقيادة الدكتور لومبارد وولي هي الآن بإجازة في إنجلترا، ولا يعرفون متى تعود، وأشهر الحر اللاهب في الجنوب؛ قد لا تشجعهم على القدوم مبكرين، ولا تزال الأجواء هناك مشحونة ضدنا بعد ثورة العراقيين هناك على الإنجليز! "إذا كانت أور تهمك إلى هذا الحد؛ تعالي في العام القادم!"! قضيت أياما جميلة في بغداد، سألت عائشة إن كان ما يزال قبر المسز بيل موجودا في بغداد، بقيت على حبي وتقديري لها رغم ما سمعته عن نشاطها الاستعماري .قالت عائشة، ولماذا لا يكون موجودا؟ نظرت إلي بقلق،أتعتقدين أن كره بعض العراقيين لها أو لغيرها سيدعوهم لإزالة قبورهم؟ نحن نحترم قبور الموتى ، مهما كانوا، لا ننظر لدينهم أو حياتهم السابقة!عائشة تتحدث بصراحة عن تقديرها للإنجليز، لكنها تشير إلى ما قاموا به في بلادها بوضوح، وتحدد ما هو جيد، وما هو سيئ! طلبت منها أن تأخذني إلى القبر، قالت يسرني ذلك،وهم هنا يسمونها الخاتون، ويعرفون أنها بمثابة القابلة التي أخرجت العراق من رحم الدولة العثمانية، بعد أن أضحت جثة هامدة. قالت من الصعب أن تخرج طفلا معافى كامل الأوصاف من رحم جثة، المسز بيل أخرجته، ولكن ليس دون تشوهات! قالت إنهم يقولون أنها نذرت نفسها للسياسة بعد أن فجعت بمقتل حبيبها الضابط في الجيش البريطاني! أخذنا أنا وإياها نقطف باقة من ورود الجوري الحمراء الكبيرة لنضعها على قبرها،حديقة عائشة واسعة كثيفة زاخرة بالنخيل والأعناب والرمان، مشبعة بماء دجلة الغزير وهوائه النقي! اتصلت بأحد معارفها، قالت ما أعرفه أن قبرها هو في مقبرة الأرمن الأرثوذوكس في الباب الشرقي، لكنني أردت أن أتأكد، خشية أن تكون غربتي في لندن قد هزت ذاكرتي! سألتني ما رأيك أن نعرج على مقبرة الجنود والضباط الإنجليز وهي غير بعيدة عنا،وعلى طريقنا! رحبت بفكرتها. وأعددنا سوية باقة ورد كبيرة أخرى منوعة لهم! قالت: ربما يقول البعض أنهم رجال احتلوا بلادي، لكنني أنظر الآن لهم على أنهم شبان غرباء، ربما جاءوا إلى هنا رغما عنهم، ودفنوا في أرضنا، وحدتهم تحزنني، أتصور ابني بينهم! عائشة دون أبناء،تقدمت في السن! ذلك يشعرني بالحب أكثر من الكراهية، يا أجاثا: "إذا كان لابد من الكراهية، لتكن أقل ما يمكن، هي كالسم في الدواء؛ إذا زادت قتلت صاحبها!" حين يعشش الحقد في صدورنا لن نتقدم خطوة واحدة في هذه الحياة! ،في الطريق ونحن في سيارتها الفارهة: قالت أنا أعي ما فعله الإنجليز ببلادنا دون تشنج، أنتقدهم أنهم اتبعوا سياسة "فرق تسد"، كبلوا العراق باتفاقات جائرة، واستحوذوا على الحصة الأكبر من ثرواته، "رائحة النفط أسكرتهم وأفقدتهم صوابهم! رغم سعادتي باستقرار بلدي، لكنني أحس تحت هذا السطح الهادئ ثمة نذر شر قادم، أخشى أن نفقد فجأة الأمان والسلام؛ وهما أهم ما نحتاجه لبناء وطننا. دخلنا مقبرة الجنود البريطانيين في الرصافة كانت منظمة ونظيفة، قبور بشواهد رخامية تحمل أسماء ضباط وجنود وتواريخ مقتلهم، تتخللها مساحات خضراء من العشب الريان والمقصوص، صفوف زهور وأشجار يوكالبتوس وارفة، عمال وحراس يدورون بينها محافظين على رونقها الجميل والمهيب. وضعت باقة الزهور، وسمعت عائشة تمتم بأدعية بلغتها، وفي عينيها ندى حزن ، هذه المرأة تشدني كثيرا بتسامحها وعمقها ومرونة شخصتها، هي تكره الاستعمار، لكنها تتألم لضحاياه من الجانبين! مكثنا لحوالي نصف ساعة صامتتين! بدأنا نسير لنخرج من صمت القبور، على الممر قطعت عائشة الصمت قائلة بصوت خافت:

ـ أكثر هؤلاء الجنود والضباط الإنجليز قتلوا في ما سميت بثورة العشرين، يبجلها كثير من العراقيين ولا يعرفون أن الإقطاعيين قد أشعلوها حين عرفوا أن الإنجليز يرومون إعادة توزيع أراضيهم والحد من الملكيات الكبيرة، سارع رجال الدين لتأييدها لأنهم لا يريدون دولة مركزية راسخة تحول دون جبايتهم الخمس من الفلاحين الفقراء،والتحكم بمصائرهم، بارك الإيرانيون تمردهم لأنهم لا يريدون العراق قويا بجوارهم يحول دون مد نفوذهم إلى شواطئ البحر المتوسط.ولا يهمهم في سبيل ذلك أن يقتلوا الشيعة العراقيين الفقراء. خسر الجيش البريطاني الكثيرين من جنوده، ترين بعض قبورهم أمامك الآن، أما قبور الفلاحين العراقيين الذين ماتوا وهم لا يعلمون أنهم حاربوا من أجل جلاديهم من الإقطاعيين، ورجال الدين، والإيرانيين؛ فقد ذرتها الرياح، لا أحد أهتم بها، تخلى عنهم محرضوهم!

سكت برهة تطوف نظراتها الحزينة في الأفق ،قالت وهي تتنهد بأسى:

ـ إيران وراء الكثير من مصائبنا، هي ومنذ آلاف السنين بين محتلة لبلادنا، أو متدخلة في شئونها عبر عملاء لها من أهل البلد!

قلت لها: أنا عادة لا أهتم بالسياسة ولكن يبدو لامناص لي إذا أردت العيش في بلد أن أعرف تاريخه وهمومه الكبيرة. تحدثت مع حراس المقبرة ، هم يتلقون رواتبهم من السفارة البريطانية، قال أحدهم ، لا يأتينا سوى زوار قليلون، من إنجلترا أو الهند، حيث بعض الجنود من السيخ، وفي فترات

متباعدة جدا. اكتشفت أن مرأى القبور المهجورة من أهلها وأحبتها وفي أرض أخرى، هو من اشد المشاهد حزنا في الدنيا! كم احتقرت أطماع البشر، أولئك الذين يحتلون بلاد غيرهم، وينكثون بوعودهم، وأولئك الذين يخدعون أبناء وطنهم بأكاذيبهم، لقد جرعتني رحلتي إلى الشرق الكثير من المعرفة، والأحزان والأفراح أيضا! ونحن في طريقنا إلى قبر المسز بيل، نظرت عائشة في وجهي مبتسمة بحزن قائلة:

ـ كانت المسز بيل صاحبة الكلمة الحاسمة لدى الحاكم البريطاني للعراق، قدمت له خدمات كبيرة، لكن كبوتها كانت أنها لم تكن تدرك خطر إيران على العراق ،فنصحتهم بعدم الاكتراث لمساعي الإيرانيين مع رجال الدين والإقطاعيين في العراق لتفجير ثورة بقناع وطني تجبرهم على الرحيل مخلين العراق لنفوذها، فجعلت قيادة الجيش البريطاني تتراخى ولا تستعد لمجابهة المؤامرة! استغنت الإدارة البريطانية عن خدمات المسز بيل، عقابا لها على غفلتها القاتلة، عاملتها بجفاء وإهمال، لكن الملك فيصل الأول أراد مواساتها فأوكل إليها إدارة الآثار العامة، فأسست المتحف العراقي وتعاقدت مع بعثات جديدة للتنقيب، حين تذهبين إلى أور سترين بعضهم! ماتت قبل أن تأتي يا أجاثا بثلاث سنوات، قالوا إنها كانت تعاني من بقايا إصابة بالكوليرا، وقيل أنها توفيت لأخذها خطأ جرعة كبيرة من الحبوب المنومة، أعتقد أنها انتحرت،كآبة من يخيب مشروعة الكبير بحسن نية أو بغباء!

كانت المقبرة مهدمة ملحقة بكنيسة قديمة في الباب الشرقي وقفت عند قبر المسز بيل، وضعت عليه باقة الورد الحمراء،رسمت علامة الصليب عدة مرات، وتمتمت عائشة بكلمات من القرآن، وخرجنا واجمتين! كنت حزينة لو مت هنا، فسيكون قبري كهذا القبر المهدم المنخسف وقد لا يجد من يزوره! قطعت عائشة صمتنا قالت:

ـ لو أنها كانت حية لشبكت يدها بيدك، وحملت كاميرتها وذهبت معك إلى أور، ولحدثتك بالكثير عن أور ،هي ملمة بتاريخ العراق والمنطقة بشكل جيد!

ظل وضعي في بغداد قلقا ومشوشا، عائشة بأريحيتها الحاضرة دائما؛ عرضت أن تأخذني بسيارتها إلى أور. لكن شيئا ما غامضا في أعماقي قال لي؛ لم يحن وقت ذهابك إلى هناك! تعالي في العام القادم! أعلمت عائشة بقراري الرجوع إلى لندن،حاولت استبقائي، قالت صادقة "صرت أختا لي" وأنها كانت تود مرافقتي في طريق العودة، ولكنها مضطرة للبقاء بجانب والدتها؛ خشية أن تنتكس صحتها، وقد تأتي إلى لندن في وقت قريب لتصفية موجودات بيتها هناك. أكدنا ضرورة تواصلنا! اعتبرت رحلتي هذه أشبه برحلة تدريبية، يبدو أن طريق الهدف الكبير لا تكون فيه الخطوة الأولى إلا كمحاولة!

 

هل شدني إليها ذلك الكوكب الذي كنت أراه في ليالي الربع الخالي؟ أم أن روحي كانت هنا تحت هذا الماء الشاسع منذ بدء الكون؟

أعود أسأل نفسي؛ لماذا أنا ولفريد ثيسجر المتحضر، المواطن الإنجليزي، مالك بيت فخم في حي راق في لندن، جئت هنا في هذه المنطقة البدائية شبه المتوحشة؟ أهي الرغبة في تعذيب الذات وتدميرها؟ هل أنا أكره نفسي إلى هذا الحد لأرتضي لها هذه الإهانات في العيش الرديء والخطر الداهم؟ كنت منذ مطلع شبابي في وضع جيد وكفاءة لوظائف راقية تمكنني من عيش رغيد، ومكانة عالية. كثيرون من رجال السياسة والحكم في بلدي والعالم يعرفونني ويريدون ودي، وقربي منهم! عندما دعيت لحضور حفل تنصيب الإمبراطور هيلاسيلاسي؛ عرض كثيرون عليّ مناصب عالية في أثيوبيا، وفي دول أخرى في أفريقيا وأوربا. لو كنت قبلت أبسطها لعشت حياة رغيدة، ولحظيت بالثروة والوجاهة، وحياة زاخرة باللهو والمتعة والشهرة! ولمرت على سريري نساء جميلات كثيرات. أحيانا؛ ولو للحظات؛ أقول لنفسي: أن أكون قد أحببت فتاة جميلة ذكية صعبة المنال؛ فذلك أمر مفهوم وشائع. وأن أكون قد أحببتها عبر صورة فقط، وهي مجهولة فقد يكون ذلك أيضا مفهوما ويحدث ولو على نطاق محدود. ولكن أن أكون أحببت فتاة قد لا يكون لها وجود، أو قد يكون لها وجود، ثم انتقل لمكان آخر بعيد تكتنفه الأسرار والطلاسم، فهذا صعب جدا والبحث فيه شاق ومرير، خاصة إذا كان مكان نشأتها، وسكناها المحتمل منعزل ومنبوذ، وأهله قد انقسموا حولي بين محب وكاره! أهكذا هي التضحية من أجل الحب! أما كان من الممكن جعلها أخف وأفضل؟ وأعود أفكر بالتعاليم الشرقية التي ترى أن عظمة الحب تقاس بحجم الألم الذي يسبقه أو يرافقه، ثم الحرمان النهائي من ثمرته، وفي منحه كل هذا العناء والسعي الطويل الصبور دون نيل متعه ومسراته! ذلك هناء وسعادة تفوقان أية متعة أو لذة! كيف دخلت هذه الأفكار خلايا جسدي وكونت وجداني؟ أحببت فاطمة ورأيت وجهها، ذلك الكوكب الذي علي أن أتبعه حتى آخر الدنيا، مؤمنا كما المتعبد أنها طموحي الأعلى ،وإن علي أن أعيش بين أهلها وقومها زمنا مهما طال حتى أجدها؟ هل شدني إليها ذلك الكوكب الذي كنت أراه في ليالي الربع الخالي؟ أم أن روحي كانت هنا تحت هذا الماء الشاسع منذ بدء الكون؟ أهو ميلاد جديد؟ أم شبح انتحار كامن في أعماقي،لا أحسه أو أعيه وأنا واقع تحت تأثيره يسوقني كما تسوق الريح فراشة إلى النار؟ أحيانا أرى أعماقي امتدادا لهذه المساحات الهائلة من الماء والغموض والتوجس والحيرة والضحك، فيها نفس ما في هذه التجاويف الغائرة من اسماك وطيور وثعابين وزنابق وقصب، روحي وكل هذا الغمر من الماء سر واحد يمتد تحت السماء يريد أن ينكشف ويضاء بنور الشمس والحب معا! أحيانا تهب عليه رياح الكراهية، أحيانا رياح الخوف واليأس، ثم أرى فاطمة تلوح لي فيشتد وجيب قلبي، فأوقن أنها ستوصلني إلى روحي الغارقة تحت كل هذه المياه الراكدة،ولكن من وضع روحي هناك؟ أنا أم هي؟ أكانت روحي هنا تحت هذا الماء الشاسع منذ بدء الكون؟ رغم كل المنغصات والأخطار، وما يؤرقني من نفسي ومن الناس! استقل القارب وحدي،لأتجول في أرجاء الأهوار غير مكترث لتحذيرات مساعدي ياسين وعمار وغيرهما خشية التيه على هذه المساحات المائية الشاسعة التي يفقد فيها المرء الاتجاهات فتغيب عنه الضفاف! أترك القارب ينساب دونما هدف أو غاية أعرف أن في أعماقي أمل بلقاء فاطمة، تقابلني على مشحوفها هي أيضا مثلي تبحث عن أملها المنشود،الرجل الذي يحبها وبرهانه على الحب تحمل الأهوال من أجلها، تحتضننا ظلال القصب للحظات، دموعنا تتعلق بضوء القمر لا تهبط إلى الماء المتوقف وجلا، تعود إلى القلب كما نبعت منه! يلفنا الصمت، نتلاشى في النور البهي، لا عناق ولا كلام ولا افتراق، كل حلمنا أن نلتقي ونقترن بقوة نبنى معا بيتا من القصب والبردي بهندسة سومرية، نعيش فيه حياتنا البدائية، نقتات على السمك والطير ولبن الجاموس والرز، لا يدخل بيتنا راديو ولا جريدة ولا كتاب قديم أو حديث ، حتى صورتها سأطويها، ما حاجتنا للصورة إذا حضر الأصل؟ نسمع موسيقى السماء والشمس وغابات القصب، لا أشارك في تلك الجرائم الكبرى التي تصنعها الدول الطامعة الكبرى وبينها دولتنا،ولا من أولئك الرحالة المستشرقين اللذين أولعوا بتقصي عاهات الشرق وعيوبه، لم يروا منه سوى بيوت اللهو والمتعة، وحانات الخمور ومعارض البغاء والرقيق، وحمامات النساء والكتابة عنها للاتجار بها في الغرب؟ هذا الحب بقدر ما هو يسعدني ويفتح قلبي على آفاق من الحلم والتطلع للبعيد فإنه يملأني بالشجن إنني اخترت تعذيب نفسي وإيلامها، فكنت أتساءل بأية مياه خضت؟ مياه أوهام؟ أم أحلام؟ أم مياه وجود وحقيقة؟ أم لا هذا ولا ذاك، اقتلعت شجرة حياتي،وغرستها في هذا المستنقع، هل ستمد جذورها؟ أم أنها ستتفسخ؟ ماذا فعلت بنفسي؟ لا ستزهر وتثمر ، لا تقلق ولا تيأس لا تدع وجهها، وشعاع جمالها يغيب عنك؟ هل الحلم كثير على الدنيا، هل سيثقلها أو يعوق مسيرتها ودورانها؟ هذه حكاية العمر الذي مهما طال؛ يظل اقصر من حكاية عجوز لطفل سريع النوم!

 

بعضهم يعتقد أنها الآن الملكة الحقيقية لبريطانيا العظمى، ربما لو كانت هي الملكة كان وصولي إليها أسهل من رحلتي هذه!

وجدت أن أكثر عرب الأهوار؛ لا يعرفون عنها شيئا! بعضهم، لم يسمعوا بها، لم يروا صورتها! الرجل هنا منغمس بهمومه وكدحه اليومي، وشقائه ومرضه، كيف يفكر بها أو بحكايتها؟ وجدت صورها في صرائف قليلة أصحابها محظوظون أن لهم أبناء أو أقارب سافروا إلى المدن فجلبوها كهدايا ثمينة، في لحظة نشوة أو حنين غامرة. أسألهم عنها متصنعا البراءة والغفلة : " من هي؟ بنت من ؟ أين تسكن؟" يكتفون بالقول "إنها منا، من المعدان" وكفى! بذلك يعيدونني إلى نفس المتاهة، جاعلين من أنفسهم كلهم ضحايا مثلها، وسياجا لها أيضا! لجأت إلى حيلة أو لعبة؛ ظننتها بارعة وموفقة، جلبت عدة نسخ من صورتها،أهديتها لبعض من أزورهم في الأهوار،علقوها في صرائفهم، ذلك سيجعل صورتها في صريفتي عادية كما صورتها في صرائفهم، ويغدوا حديثي معهم حولها طبيعيا، وقد أصل إلى معلومات جديدة عنها، كما إن ذلك سيمكنني من مطالعة وجهها الحبيب حيثما حللت بينهم. ولكن حتى الآن لم اسمع من أحاديثهم سوى حكايتها المكررة نفسها، مع بعض التفاصيل تختفي أو تأتي بشكل مختلف قليلا. بقيت في مكاني لم أخطو نحوها أية خطوة جديدة! ثمة رجل كهل صارم الملامح قال "إنها ليست أجمل نسائنا، لدينا أجمل منها بكثير،لو نزعن ثياب حلب الجواميس، ولو تبرجن مثل بنات المدن لبهرن رجال ونساء المدن! جلس أمامي على منحدر باحة معشبة أمام صريفته يدخن ويحدثني عن رحلة المرأة في حياتها على الماء: "المرأة عندنا متعبة حد الموت؛ فهي ترافق الجاموسة من الصباح حتى المساء، الجاموسة لا تسمح أن تحلبها سوى المرأة التي اعتادت عليها أو صادقتها؛ لذلك تظل المرأة خادمة لها حتى الموت، ولو مرضت أو رحلت متزوجة، أو ماتت يجب أن ترتدي ثيابها المرأة أو الرجل الذي يريد حلب الجاموسة لتشم رائحة صديقتها القديمة وتدر حليبها. الجاموسة ألوفة وفية وشبه مقدسة هنا فهي مصدر عيشنا وعصب حياتنا، وقد تساوي قيمتها المرأة نفسها، وربما تفوقها لدى بعضنا، لذلك قد تفنى المرأة حياتها في خدمة جاموس العائلة. نعم يا صاحب المرأة عندنا مرهقة متفانية، دعها ترتاح شهرا واحدا، وخذ لها صورة؛ ستجد أنها أجمل من بنت المعيدي! كان الرجل محقا في كلامه، رأيت في الهور فتيات جميلات جدا، يقبعن تحت ثيابهن السود الرثة المهلهلة، وطبقات الأوساخ المكونة من رذاذ حليب الجاموس ودهنه. وغبار وطلع البردي والأوحال.لماذا لا أتزوج أية فتاة جميلة هنا، اسميها فاطمة، وتنتهي رحلة بحثي الطويلة؟. لكن الأمر مع قلبي ليس بهذه البساطة! كثيرات منهن ينزلن لبيع الروبة والزبدة في المدينة،أطباق خشبية مدورة يحملنها فوق عمامة سوداء على رؤوسهن بطوابق متعددة قد تصل إلى عشرة طوابق أو أكثر، تصوري يا عزيزتي أجاثا فتاة جميلة فارعة القوام تمشي في شوارع مدن غريبة، وهي تحمل على رأسها عمارة خشبية من عشرة طوابق ليست مسكونة بالبشر المزعجين لجيرانهم بموسيقاهم الصاخبة كما في لندن، بل باللبن اللذيذ كامل الدسم! بعضهن شقراوات بعيون خضر وشعر ذهبي كأنهن أوربيات، حتى لأقول في نفسي أن جداتهن جئن من انجلترا وأوربا على أجنحة الإوز العراقي الذي يأتي لشواطئ أوربا من الأهوار ليسير على الماء بخيلاء العروس التي فازت بحبيبها الجميل من بين عشرات المتنافسات عليه، ثم يعود لدفء الأهوار! أحدهم وكان كهلا تحدث عنها بفخر،قال وهو يشير إلى صورتها المعلقة فوقه في مضيفه:

ـ الإنجليز قصفونا بمدافعهم، ونحن قصفناهم بهاتين العينين الجميلتين، الضابط الجريح بعينيها قبل قدميها لتقبل به زوجا ، وما أن تزوجها حتى طار بها إلى لندن وحين شاهدها الإنجليز بهروا بجمالها فتوجوها ملكة عليهم!

ابتسمت في سري، وكانت مناسبة لحديث واستفسارات، لم أخرج سوى بنفس ما لدي من حكايات عنها! بعض الرجال يرى بنت المعيدي تاج الأهوار، ودرة مجدها العظيم، وكونها قابلت الإنجليزي، أغواها أو أغوته، فتلك مأثرة كبرى لها، سألت أحدهم:

ـ اين هي الآن؟

فاتجهت إلى الأنظار بين مستريب، وبين غاضب:قال أحدهم بنزق:

ـ كيف لا تعرف!

ثم أجابني بثقة ونبرة غضب:

ـ انها هناك طبعاً، في لندن تحكم العالم من أمريكا إلى الهند!

لم أحر بشي، أحنيت رأسي وسكت، قلت في نفسي ليتها في قصر بكنكهام ربما كان وصولي إليها سيكون أسهل من رحلتي الطويلة هذه إليها دون جدوى، يا لورطة هذا الحب المرهق لروحي وبدني!

يرتجف قلبي عند أصوات محركات لقارب أو طائرة ويخفق فرحا لسماعي صوت اصطفاق أجنحة بطة تمرح على ماء الهور، سمكة صغيرة تقفز لتقضم شعاع الشمس، ضرع جاموسة يدر الحليب بسخاء في وعاء صبية جميلة حتى يفيض وهي ذاهلة تفكر بحبيبها! أنت تعرفين أكثر مني يا عزيزتي أجاثا، أن الإنسان هنا تجرأ وصرخ بوجه السماء، لماذا نموت؟ وجلجامش لم ييأس حتى اليوم من بحثه عن الخلود! وأنا هنا أبحث عن الفناء في الحب، ذلك أسهل من الخلود، ولا يقل جمالا وعظمة عنه! بل إن الحب والفناء فيه هو الخلود،سأظل أبحث عن فاطمة هنا والتي ربما لا وجود لها، وهذا هو خلودي كله!

لهنيهة ظل ماكس يتسمع أصوات متشابكة مختلطة تأتي من جهة النهر، علها أجاثا عادت يحف بها منقذوها، شرطة أو رجال طيبون. نهض إلى الشرفة، تطلع إلى الشاطئ، لا شيء سوى الصيادين والقوارب التي تنقل العابرين،هل غفلت عن أجاثا ومحنتها وغرقت في ما كتبه هذا المعتوه وثيسجر في بحثه عن حبيبته الوهمية؟ أم إنني كنت أبحث عن أجاثا بين كلماته المتدفقة بشهية رجل لديه الوقت للركض خلف غرام وهيام لا يعرف هل هو حقيقي أم وهمي؟ ولكن علي لكي أعرف مصير أجاثا أن أتأمل وأدرس كل شيء، وقائع حدثت أمس أو اليوم، إشارات ودعوات ثيسجر، وعلى أن أملأ الفراغات بينها لأجعلها متناسقة ،متسلسلة واضحة قد تفضي كما المعادلة الرياضية المعقدة إلى نتيجتها الصحيحة، من حسن حظي إنني درست علم الآثار والذي من أهم دروسه ما يسمى بفن ملأ الفجوات، حين يصادفنا لوح قديم عند التنقيب وقد سقطت عنه حروف وكلمات أو سطور؛ علينا أن نشعل خيالنا لنملأ هذه الفجوات بكلمات هي طبعا لن تكون نفس الكلمات التي خطها الكاتب القديم ولكنها قد توصل لنا بشكل عام ما أراد قوله، علي أن أملأ فجوات كثيرة هنا وهناك في طريق بحثي عن أجاثا سواء في ما كتبه ثيسجر أو في ما كتبته هي أو في ما خطته الظروف لنا على هذه الأرض الغريبة! وعاد يقرأ: رغم أن الكثيرين من عرب الأهوار لم يستسيغوا وجودي بينهم لكنني لا أستطيع إلا أن أراهم بطبيعتهم الهادئة المنسرحة مع الماء والطير والقصب الأخضر، لا يميلون للحروب أو الصراعات الدموية، وهم رغم انفعالاتهم السطحية الغاضبة، أميل للمسالمة والسكينة، ما عثروا عليه من أسلحة الإنجليز بعد سحق ثورة الإقطاعيين ورجال الدين لم يستعملوه، أو يحتفظوا به حتى ولو لصيد الطير أو السمك. أعطوه أو باعوه لأبناء القبائل العربية أطراف الهور أو في المدن، لم يأخذوا من الإنجليز ألا ما سمعوه أو حفظوه من أسمائهم ليستعملوها لشيء غريب، ولا يخلو من طرافة، ويصب في تعلقهم بالحياة رغم أنهم يعيشون مع الكثير من أسباب الموت،وويلاته. وجدت لديهم طريقة غريبة لمراوغة الموت ،والهروب اليائس منه، فهم يسمون أبناءهم بأسماء قبيحة أو بشعة، ذلك باعتقادهم يجعل ملاك الموت يتخطاهم؛ ولا يقطف أرواحهم لكي لا تتلوث يده بأسمائهم! فهم يسمون بعض أبنائهم: جريذي، جحيش، كليب أحدهم سمى ابنه أو ابنته "بلاسم" ،أي بلا اسم، الرجل و المرأة الذين لا اسم لهما، فلا يعرفهما الموت ولا يهتدي إليهما،بعضهم سمى أبناءهم بأسماء الإنجليز فهي في اعتقادهم نجسة قبيحة لا يقربها الموت، وجدت رجالا بأسماء قادة إنجليزسمعوا بهم خلال الحرب معهم، (جون) (كوكز) (شرشول) من شرشل! و بنات بأسماء (دكسن) ، و(موده ) من (مود) (جورجه) من (جورج) ،فكتوره (من فكتوريا) هنا صارت الأسماء الإنجليزية دروعا ينجو بها أصحابها من الموت، ويعيشون طويلا،لو صحت نظريتهم، لحمت الإنجليز أسماؤهم من الموت!لا أدري كيف حصلت بنت المعيدي في اللوحة العظيمة على اسم فاطمة وهو اسم بنت نبي المسلمين، وهي تحظى بإجلال المسلمين بمختلف مذاهبهم، أغلب الظن أنها منحت هذا الاسم تقديرا لجمالها الفائق الذي كان واضحا منذ ولادتها!

 

قالوا: سنسلخ جلده لنخرج منه الضابط الإنجليزي الذي أفلتت منه بنت المعيدي وجاء يبحث عنها، ليستعيدها، أو لينتقم!

أرقب قرص الشمس يهبط في الماء البعيد،صفحة واسعة من المدى تتوهج نحاسا لاهبا،الكون يلم أطرافه ليأوي لنفسه، ولقلبي معا، وفاطمة هناك في لجة النور البهي! عمارة وياسين بجانبي صامتان وقد استغرقهما جلال المنظر. يحترمان صمتي، وحزني المفاجئ،هما يصران على مرافقتي خوفا عليّ ،يعدان معي عشاءنا من لحم الطيور والسمك المشوي على طريقة المسكوف والتي يقال أنها طريقة السومريين في شيَّ السمك. أحيانا يصران على المبيت معي في الصريفة. هما ازدادا قلقا عليّ بعد تواتر تهديدات لقتلي، كثر أعدائي هنا وشكلوا حلفا، ضدي شمل الحلاقين المتضررين من طبابتي، و"الموامنة" الذين يقولون أنهم أحفاد الرسول ويمنعون الأطفال من الذهاب إلى المدارس،والرجال من العمل في دوائر الدولة أو الجيش، ويأتون للأهوار يختارون البط والأسماك والفتيات الجميلات،وما لديهم من نقود قليلة باسم الخمس الإلهي،انضم إليهم أدعياء الوطنية، وأخذوا يروجون إنني جاسوس،أحصي حركاتهم وسكناتهم للسفارة البريطانية! وحين أبقى وحدي ويجن الليل ،ينتابني أرق، وسهاد ممتع لذيذ، أحس بروحي انفعالات الأهوار ونبضها وحركتها الداخلية العارمة تحت السكون المغمور بضوء القمر! أسمع أصواتا تقترب وتنأى، حشود بشر يأتون من أعماق التاريخ يمشون فوق الماء بقوة السحر أو بمعجزات قديسين، يطرقون بابي ثم تشتتهم الريح، والصمت المفاجئ، يتصاعد أنين القصب، نقيق ضفادع، أزيز بعوض ونغمات جنادب وطيور تتحادث في ما بينهما في الظلام وقد تلاقى كل ذلك بموسيقى رطبة،دافئة باردة منعشة كنسيم الصباح،وتعود خطى البشر فوق الماء، خطى مؤمنين وملحدين وحائرين بينهما،وأتيه بعيدا عن الإله، ويقر في نفسي خاطر سعيد، أن كل هذا الصخب الكوني المهيب يزف لي الآن فاطمة، ستدق باب الصريفة المخلع برفق؛ وستدخل بثوب الزفاف الأبيض الهفاف وترتمي في أحضاني، بلهفة حنونة دافئة. أصحو فأجد إنني وحدي على فراش في سرير الجريد، أخلد للصمت وأروح أسأل نفسي، لماذا لم أكن أنا أول من رآها؟ لماذا سبقني إليها ضابط متعجرف؟ كنت انحني عابدا خاضعا لجمالها وليس كما فعل وجعل جمالها يخضع لقوته وجبروت دولته؟ لا خضوعا حقيقيا إلا لقوة الجمال! كثيرون لم يعبدوا الإله إلا بعد أن أدركوا جمال صنعه . حتى خوفهم من الموت كان تطلعا لجمال الوجود وبقائه وضرورة خلوده.

كلما زرت البصرة، ونزلت فندقا، معلقة في صدارته الداخلية صورة فاطمة، أسأل صاحب الفندق أو مديره، لمن هذه الصورة؟ ويأتي الجواب: "بنت المعيدي"، مع ضحكة قصيرة تحمل معنى الغرام أو خيبته، ثم تتوالى أسئلتي، من هي؟ أين هي الآن؟ لماذا؟ كيف؟ وتنهال الحكايات! وقد وجدت أن حكايات كثيرة عنها في البصرة، كل يضيف لها ويحذف منها حسب خياله ومزاجه، وقد خرجت بحصيلة وسعت متاهتي،وزادتني حيرة من أي الأبواب أدخل إلى قلعتها الحصينة! مدير فندق يطل على العشار كان قد قارب السبعين حدثني: كان القطار القادم من بغداد إلى البصرة أو العكس يتوقف لساعات في محطة تدعى السدة، قريبا من البصرة، حيث تسكن جماعة كبيرة من مربي الجاموس، فكانت فتيات منهم يتقدمن إلى نوافذ القطار أو يصعدن إلى عرباته يبعن للمسافرين القيمر واللبن الذين اشتهرا بجودتهما ونظافتهما في هذه المنطقة. لمح ضابط انجليزي فتاة تبيع القيمر فافتتن بجمالها؛ فسقط هو والقطار كما قال في بحر حبها العميق، فلم يتحرك هو وقطاره إلا وأقنعها بخداعه ومكره لتهرب معه! وتتكرر الحكاية فتقول أنها التقت الانجليزي خارج منطقة سكنها، وبالتحديد عند شاطئ العشار وهي تحمل فوق رأسها عمارة اللبن والقيمرالمكونة من عدة طوابق، وإن الإنجليزي كان ضابطا في البحرية البريطانية، وإنه كان يرتدي بزته الصاخبة بأمواج البحر وزرقته، حين رآها اعتقد إنه يدخل مع سفينته لجة البحر، فتمايل وسقط أرضا، وإنها ألقت طوابق اللبن والقيمر عن رأسها وراحت ترش الماء على وجهه ليفيق، وشغفت به أيضا،ولم تمض سوى دقائق حتى أصبحا عاشقين، كيف تفاهما؟ يقولون أن الإنجليزي يعرف قليلا من العربية، ثم هل يحتاج الحب لغة غير لغة العيون واختلاج الملامح؟الحكاية تقول أنهما هربا إلى لندن،وعلى الفور! وكالعادة يرسل الضابط صورتها لأهلها من هناك! في حكاية أخرى تقول أن أهلها رفضوا زواجها منه،فقرر أن يحصل على صورتها كتعويض أخير وحزين طبعا، فيرسمها من مخيلته،الحكاية تمنح الضابط مرة أخرى قدرات عظيمة تفوق دافنشي الذي رسم الموناليزا بسبع سنوات بينما الضابط رسم حبيبته في سبع ساعات! وسواء كان من رسمها ضابط أو دافنشي نفسه، فهي كما يقول مدير الفندق الآن فاتنة الأفئدة، والأبصار،تضيء بوجهها الفنادق والمقاهي،والمدن وتبدد الظلمة إذا انطفأت الفوانيس، أو نضب الزيت، أو انقطعت الكهرباء! لم يضجر ماكس لهذه التفاصيل المملة أو المتفرعة كثيرا، وتوقع أن أجاثا أيضا لا تشيح عنها بل على العكس هي تؤكد أن الرواية يجب أن تتضمن أدق تفاصيل الأشياء، فالحياة نفسها كذلك! كل الحكايات تأسى لها في غربتها بل أن أحداها تشط في الخيال فتقول أن بنت المعيدي تعود كل عام من غربتها في أوربا مع الطيور المهاجرة إلى الأهوار ،لترى أهلها ومرابع طفولتها دون أن يروها فتنكأ جراحهم، وإن بعضهم تعرف عليها من عيونها الجميلة الباكيتين دائما.، وإن أحد الصيادين بعد أن أطلق خراطيش بندقيته على سرب من الطيور سمع من بينها صرخة آدمية تقول،" أنا ابنتكم جئت لأراكم؛ كيف تقتلونني؟ ومنذ ذلك اليوم انقطعت عن المجيء، هنا يختلط الحقيقي بالوهمي إلى حد يتعبني ويحزنني كثيرا!

كادت تصيبني بالإحباط واليأس حكاية رواها لي مسافر معي في القطار من الناصرية إلى البصرة عرفت أنه موظف في المكتبة العامة الوحيدة في البصرة، يعمل مفهرسا ومجلدا:

ـــ هي معبودة الكثيرين في مناطقنا، يحبها الفقراء كثيرا، وضعوا صورها على جدران بيوتهم الطينية، أو الصفيح،وفي محفظات جلدية متهرئة تحوي دراهمهم القليلة،وفي قلائد صغيرة لتكون قريبة من قلوبهم، هي حلم الكثيرين، وبنفس الوقت هي ليست لأحد ، وهي شيء، ولا شيء، بحثت عن حقيقتها، وبحكم عملي في المكتبة راجعت الكثير من المصادر فوجدت إشارة تقول أن ثمة رسام ألماني يدعى هوينر كان قد جاء سائحا إلى البصرة فرسمها، وباعها لأحد الناشرين في بيروت، ومنه انتقلت إلى سوق الصور!

مضت أشهر طويلة على وجودي في الهور، صحوت صباحا على صوت مجذاف مرافقي الأمين عمارة، يخبط الماء بعصبية واضحة، دخل صريفتي صامتا ،قلقا، لا يستقر، دعوته للجلوس، ظل يخرج إلى باب الصريفة؛ يطل برأسه إلى الفضاء المتوهج بشمس شتائية ندية ثم يعود، سألته ما بك؟ دهشت إذ رأيته يهز رأسه وقد لاحت سحابة غم على وجهه، سألته: ماذا هناك؟ لم يجب وبقيت أتطلع إليه، جلس القرفصاء وراح يخط على الأرض بعود منكس الرأس. بعد صمت؛ قال:

ـ أحاديث الناس هنا صارت تلاحقنا غريبة غامضة، لا أدري ماذا يريدون، بعضهم يقول إنك الضابط الذي هربت منه بنت المعيدي، وقد جاء إلى الهور يبحث عنها!

توجس قلبي، قلت :

ـ ألم يكن أهلها قد رأوا ذلك الضابط؟ ألا يعرفونه؟

ـ بعضهم يقول أنك الضابط نفسه، وهم رأوك رأي العين،ومتأكدون أنك هو نفسه، بينما آخرون يقولون إنك مرسل من قبله،هنا الأوهام يا عم ثيسجر أقوى من الحقائق!

وأخيرا عرفوا إنني جئت أبحث عن ابنتهم، وابتدعوا لي تفاصيل قصة حب لي معها لم تكن تخطر ببالي ولا في الحياة نفسها لو سمحت لنا بأن نعيشها معا! راح عمارة يسرد لي حكايتهم التي يتداولونها عني، قالوا إنني كنت ضابطا في الجيش الإنجليزي في الهند،(قذفتني مخيلتهم إلى الهند وأعادتني ) وإنني عملت في قاعدة الشعيبة في البصرة،في تلك الأثناء خرج احد ضباطي من الكركة الهنود مع ثلة من جنوده بدورية،فالتقى بفاطمة التي كانت عائلتها قدمت من الأهوار، واستوطنت قريبا من شط العرب وراحت تبيع الروبة والقيمر في البصرة،فوقع في غرامها على الفور، وصار يتغيب عن الثكنة، هائما بها يساعدها في بيع الروبة بوقوفه بجانبها يؤدي أغان وحركات بهلوانية هندية، فأستدعيته (أنا الضابط كما ادعوا) وأجريت تحقيقا معه، وأمرت بإعادته إلى الهند ونزع رتبته. لكن الضابط الهندي راح يستعطفني قائلا لو رأيت جمالها لعذرتني، وعفوت عني، فوافقت على مقترحه بأن يجعلني أراها،فرتب لي موعدا معها في بستان على شط العرب، وإنني ما أن رأيتها حتى سقطت مغشيا عليً،ما جعل الهندي يجلب أعشابا ويعصرها في انفي حتى أفقت، وإنني كما شط بهم خيالهم المائي، قد ساومته أن يترك الفتاة لي مقابل أن أعفو عنه وأبقيه في رتبته ومكانه،فوافق الضابط الهندي بل طلب منها بلغة الإشارات أن تخرجه من قلبها، وتضعني مكانه، فوافقت على مضض، وإنني قصدت أهلها لخطبتها؛ فرفضوا،رغم إنني عرضت عليهم الكثير من المال والهدايا، ووسطت إليهم رجال دين من أحفاد الرسول. فأصروا على الرفض، وإنهم لكي يتخلصوا من إزعاجي لهم وللفتاة عادوا برحلهم وجواميسهم إلى الأهوار! هكذا جرت حكايتهم الملفقة! صمت عمارة،أخذت نظراته تهيم في الأفق، بقيت متوجسا للحظات ثم فجأة شعرت بالفرح،فأقاويلهم هذه تعني،إن من أبحث عنها موجودة، وليست غائبة، وهي هنا في الهور،وليست في لندن، وإنها ليست عجوزا ما دام عاشقها الضابط بعمري أو يشبهني! لكن فرحتي انكفأت، حين عاد عمارة يتحدث:

ــــ لكنهم حسب قولهم اكتشفوا إنك ما زلت تلاحقهم، وبذلك لا حل أمامهم سوى قتلك ليتخلصوا من مضايقتك لهم! القضية كما ترى يا عم ثيسجر قضية شرف وسمعة عشائر لا تغسل العار والحيف إلا بالدم! رغم سخف حكايتهم وتهافتها لكنها أقلقتني كثيرا! الناس هنا لا يتسامحون بقضايا النساء؟ وكنت مدركا لهذه الحقيقة في بحثي الصامت عنها. ترى كيف اختلقوا هذه الحكاية التي تعني الحكم عليّ بالموت!إطلاق لجحافل من الأشباح تلاحقني إلى كل مكان، تريد أن تغور بي في مكان لا يعثر فيه على عظامي حتى ماكس نفسه. تلك الليلة بقيت أتقلب أرقا، موقنا أنهم سيقتلونني، كنت أتذكر طبيعة الكثيرين من المسالمة، وطيبتهم، لكنني أجد أنني متهم بقضية تمس شرفهم وسمعتهم. تخيلت أحدهم يكمن بين القصب ويصوب إلي بندقيته، التي ربما تكون نهبت من معدات الجيش الإنجليزي! ثم يعود الأمل فجأة إلى قلبي أنني سأجد فاطمة وسأعرف كيف أقنع أهلها بالموافقة على زواجي منها. وسيتم ذلك بيسر فأنا لست كالضابط يريد انتزاعها منهم وأخذها إلى لندن، أنا سابقيها في أحضانهم،وسأعيش معها في الهور. لو كنت أنا من رآك يا فاطمة في جمالك البكر كنت أتيتك بهيئة شحاذ لا بهيئة ضابط، كنت استملتك لي بلغتك لا بلغتي،سجدت عند قدميك، مديرا ظهري لبوارج دولتنا المسلطة فوهات مدافعها إلى بلادك،في الحب لا أحتاج لمدافع ،ولا حتى رصاصة واحدة، على العكس أطرد رائحة البارود، وآتيك بزهرة فواحة مبللة بدموعي، أراك في قلبي نهارا تنهضين، فتلهث الشمس على شعرك، وتأوين في الليل فينكفئ القمر على لؤلؤ ثغرك، آه يا فاطمة هل كان يجب أن أولد قبل ثلاثين أو خمسين سنة؟ هل بكرت أنت بالخروج من الرحم مثل حمامة اعتقدت أن وهج البرق والرعد الليلي هو نور الصباح؛ فخرجت من العش لتتلقفك،صاعقة العساكر؟ لكنني سأجدك، أنت الآن تأتين كل ليلة لتطوفي هذه البقاع المائية بحثا عن ذكريات طفولتك وصباك، المزهرة مع براعم القصب، ولمعان الشمس على الموج، أنا هنا، أنصب لك كمين الحب، أجمل كمين في الدنيا وأكثرها شرعية وصدقا بين ملايين الكمائن التي دمرت هذا العالم ، وحالت دون لقائنا في الوقت المناسب،سنلتقي يا فاطمة، لن نفقد الأمل مصير البشرية أن تعود عائلة واحدة! ربما ستقولين يا أجاثا وما الفرق بينك وبين الضابط،؟ هو جاءها بالسلاح وأنت جئتها بالكلام المعسول وأدويتك المسكنة، وأنا أيضا أفكر كذلك، لا دليل لدي غير شعوري بصدق نواياي ، أقول أنهم محقون حين يقولون: سنسلخ جلده لنخرج منه الضابط الإنجليزي الذي أفلتت منه ابنتنا، وجاء يبحث عنها ليستعيدها، وينتقم! وأتلمس نفسي قائلا، هل أنا كذلك حقا وقد عرفوني بفطرتهم الذكية، هل هم يعرفونني أكثر مما أعرف نفسي؟ من حسن الحظ كان لدينا في اليوم التالي عملية ختان في قرية مجاورة لطفلي شيخ متنفذ. حكيت له بما سمعته من عمارة، أطلق ضحكة قال:

ـ هذا تخريف، لا صحة لهذا الكلام، حكاية بنت المعيدي انقضت من زمان العصملي، أي ضابط انجليزي يأتي للبحث عنها؟ هنا رجال يقضون وقتهم، عطالة، وبطالة، لا يجدون ما يعملونه سوى الثرثرة بهكذا حكاية عفا عليها الزمن، اطمئن لا أحد يجرأ على لمسك وأنا هنا! وأمسك شاربه على عادة العرب حين يعدون أو يعطون كلام شرف! وبقدر ما شعرت بالطمأنينة لكنني أصبت بخيبة أمل أن فاطمة حكاية خرفين عاطلين، ألا يشملني ذلك؟ وإن رحلتي هي أيضا حكاية من زمن العصملي، أي حب هذا! لكن ما أن خرجت من مضيف القرية وخرجت ثلة تودعنا بينهم الصبيان المختونان يلوحان يمسكان باليد الأخرى ثيابهم من بين أفخاذهم لكي لا تمس جروحهم، حتى دب في قلبي الأمل من جديد! في الطريق المائي الطويل رحت أفكر أن فاطمة الجميلة موجودة حقا! وهي محاصرة سجينة عند أهلها خشية أن تختطف وسأكون أنا المنقذ، وفتى الأحلام المنتظر! أخذت أحث ياسين أن يتوغل بمشحوفنا في أعماق الهور، لنصل إلى الصرائف البعيدة فلا بد أنها قد لاذت بالأماكن النائية، ويعود قلبي لتوجسه،وخوفه. صرت ولأيام طويلة فريسة حلم يسقط خائبا متلاشيا تارة، ثم ينهض فجأة قويا جارفا!كان السمك يتقافز أمامنا في الهواء كما الطيور،وأحيانا يلقي نفسه في قاربنا وأحضاننا فكان ياسين يقول ضاحكا: السمك يقدم نفسه لنا بطيبة خاطر، ثم يضيف ،جدي يقول عن هكذا سمك، هو عاشق يطير إلى الحبيب ناسيا الجمر الذي ينتظره، ولا أدري أأضحك في سري أم أبكي وأنا أقول إنه يتحدث عني! صرت أستمتع بحكاية الحب التي صنعوها لي، متصورا حركات الهندي كأنه يعبر عن أحزاني بطريقة بهلوانية، راحت مخيلتي تتدرب على حزن العشاق على الطريقة الهندية المشبعة بالروحانية والمرح! اكتشفت أن فاطمة ستكون بسيطة ساذجة بل فجة وجاهلة، وهذا أمر بديهي، وماذا أنتظر منها وهي التي نشأت حيث لا مدرسة ولا حضارة؟ هل أنتظرها بشهادات عليا؟ لكن يمكنني أن أنتظر أنها ذكية متفتحة ذات فطرة ناضجة وعميقة ، وكم يكون بين الأميات من مفاجآت، فتيات ذوات خبرة روحية عميقة يتفوقن على صاحبات الشهادات العالية اللواتي يمكن أن تجد بينهن بليدات ثقيلات يصعب معاشرتهن! هكذا رحت أؤمل نفسي أنها ستكون بسليقتها وبساطتها غاية في اللطف والتهذيب!وحتى إذا لم تكن كذلك علي أن أبذل جهدا معها، عيناها تشعان ذكاء وقدرة على الارتقاء! أحببت هذا المكان وهؤلاء الناس وعلي أن أتحمل صعابهم وأستمتع معهم بجمال الدنيا، والتي مفتاحها عندهم البساطة، ثم البساطة!!

 

ها قد عدت ثانية إلى أور، هل لأبحث عن عظامي؛ أريد شرائها من الله؟ أم لأهبها لقدري يبعثرها كيف يشاء؟

بعد عامين تقريبا عدت إلى بغداد، في طريقي توقفت في اسطنبول، بهرتني من جديد، مساجدها وأبنيتها الجميلة وأسواقها ومطاعمها وحمامتها الساخنة،لكنني لم ابق فيها سوى يومين، شيء ما في أعماقي كان يقول لي دائما: هيا إلى العراق! إلى أور! في حلب استقبلني مظلوميان بلهفة وسألني: هل كتبت يا أجاثا عن فندق البارون في روايتك؟ قلت له، من أجلك لم أكتب عنه، لو ذكرت أن حادثة انتحار فظيعة قد حدثت فيه فسوف يخاف الناس أن ينزلوا فيه! في الواقع كنت معذبة من أجل باول، رئيس الجرسونات المنتحر واشعر نحوه بذنب ودين، أن أكتب عن انتحاره من أجل حبه الرهيب للراهبة. يبدو إنني لا أستطيع أن أكتب عما يقع للناس حقا، أو حتى ما يقع لي شخصيا، لا أستطيع أن أكتب إلا من الخيال ، تصورات أو تهيؤات تؤرقني فأجسدها وأمضي بها حتى النهاية. أما ما حدث فعلا فأتركه كما هو في الواقع، ولقدره الخاص، لا يحق لي التدخل فيه ولو بكلمة واحدة! ظل مظلوميان يهز رأسه وقد أصيب بخيبة أمل، لكنه لم يقلل من حفاوته بي! كانت ذكرى باول لا تبرح ذاكرتي خاصة عندما يقدمون في المطعم أطباقا ارتبطت باسمه. سألت عن الراهبة التي انتحر من اجلها! قالوا إنها زادت من مسوح الرهبنة حتى اختفت آخر لمحة من جسدها الجميل الفتان! وصارت تمنع الأطفال أن يأكلوا سندويجاتهم قبل أن تفتحها لهم. يبدو إنها تبحث عن رسائل غرامية بين شرائح اللحم والطماطم لعاشق جديد ينتحر من أجلها، لتقدمه قربانا من أجل الرب! عجيبة هذه الراهبة، هي جميلة حقا كما رأيتها مصادفة لمرتين، كم صار الأطفال يبتلعون من الرسائل الغرامية مع سندويجاتهم بسبب جمالها المثير رغم الرهبنة؟ هي تعتقد أن الطريق إلى الرب لا يفتح لمن يتذوق الحب الإنساني حلالا أو حراما! وهو حكر على من يرتدون مسوح الرهبان. لكنني كنت كلما تذكرت تلك المأساة التي سجلت باسمها،أتساءل: أما كانت ستكون أقرب إلى الله؛ لو أجابت، ولو مرة واحدة على رسائل عاشقها المخبئة في سندويجات تلميذها الطفل؟ ربما حالت دون انتحاره!عاشق يحب حد الانتحار، هذه إشارة على أنه سيكون زوجا سيئا، لكن ليس بالضرورة إنه سيكون مصليا سيئا لو علمته المواظبة على دخول الكنيسة! ولو أهدته مرة زجاجة من نبيذ الدير في عيد الميلاد! ولكن هذه الراهبة على ما يبدو لا تجيد فن الدعاية والإعلان للكنيسة! مكثت في حلب ثلاثة أيام، كنت متلهفة للوصول إلى العراق، اشعر في أعماقي أن شيئا كبيرا عظيما ينتظرني هناك، حتى في بغداد لم امكث أكثر من يومين، قضيت منها ليلة في بيت عائشة،ونعمت بحنانها وأكلاتها الطيبة،وعرفت إنها قطعت شوطا في إقامة صالونها الثقافي، صار يتردد عليه كثير من الشعراء والمثقفين. وعدتها بأنني سأكون من رواده، إذا أقمت في بغداد! طمئنت نفسي؛ عائشة وبضعة نساء هنا مستنيرات جريئات، هن الأمل في تحرر المرأة في العراق ونهضته! وثقت وجودي لدى السفارة البريطانية، وتلقيت نصائحهم، قالوا أنهم سيتصلون ببعثة التنقيب البريطانية في أور لترتيب استقبالي، ويساعدونني على إنجاز المهمة التي جئت من اجلها. ما هي المهمة التي جئت من اجلها؟ أنا نفسي لا أدري ما هي! أيستحق الوقوف على أطلال مدينة انقرضت قبل آلاف السنين، كل هذه الرحلة الطويلة المضنية الخطرة؟ يبدو لي إن هناك شيئا كبيرا سألقاه، تحس به أعماقي بشكل غامض ولا أعرفه! وكيف أعرفه وكل شيء حتى خطوة قصيرة واحدة، هي في عالم الغيب؟ قاومت دعوة عائشة في البقاء عندها، رفضت استعدادها لأخذي بنفسها بسيارتها إلى أور، أو تدع سائقهم الأمين يوصلني بسيارتهم إلى هناك! شعرت إنني بحاجة إلى خلوة مطلقة مع نفسي وأنا في طريقي إلى أور،لأقلب أفكاري وأحلامي وأخيلتي! عاصفة من غبار أحمر تجتاح بغداد، والمنطقة كلها، كنا قي شهر آذار، تبدل الطقس المفاجئ يصيب الجسد بالإعياء والكسل ونزلات البرد المفاجئة،وكنت اشعر بنحول ومزاج يتردد بين الكسل والنشاط ،خفت العاصفة قليلا، وجدت سيارة تغامر في السير في هذه الأجواء إذا ضاعفت الأجرة، دفعت، السائق رجل مسن طيب، توثق منه موظف في السفارة البريطانية جاء لتوديعي والاطمئنان علي، لم أمانع وقد أجرت السيارة كاملة ،أن يحمل معي ركابا آخرين خاصة وهم عائلة، تحدثوا معي بالإشارات وألقوا علي الكثير من معجناتهم المحشوة بالتمر والمطيبة بالقرفة واليانسون. بددوا خلوتي التي تخليت عن رفقة عائشة من أجلها. قطعت السيارة مئات الكيلومترات إلى الناصرية جنوب البلاد، عادت العاصفة الجافة للاشتداد، السائق يطلق صوته بين فينة وأخرى رافعا رأسه إلى السماء. فهمت من لهجته المتوسلة إنه يدعو الله أن ينزل المطر، وينظر إلي بإشفاق كأنه يقول: ما الذي أتى بك من بلدك البعيد إلى هنا؟ كانت الريح تهيل علينا طحينا احمر كأنه غبار دم جاف. أوصلني السائق إلى بيت الدكتور لومبارد وولي في ضاحية من المدينة هي الأقرب لأور. حين نزلت من السيارة، لم أكن أرى حتى يدي،عجبت كيف استطاع هذا السائق المنهك قطع كل هذا الطريق الطويل المتعرج غير المبلط وكثير الحفر، وسيارته عتيقة مضعضعة، وكيف لم يخرج عنه، وحدوده تتداخل مع الصحراء؟ وجدت السيدة كاترين زوجة الدكتور وولي متوعكة، رحبت بي وأصرت أن اسكن معهم، ولم تسمح لي بالنزول في الفندق، قالت في الأقل ابق هنا أياما ريثما تتعرفين على المدينة واعتذرت عن مرافقتي والاعتناء بي كما يجب في جولة كانت قد وعدتني بها في مراسلتها لي، أوكلت مهمة مرافقتي إلى عالم الآثار البريطاني البروفيسور ماكس مالوان الذي رحب بالمهمة، كان لطيفا،ودوداً! استمرت العاصفة خمسة أيام لازمت خلالها البيت، وقضينا الوقت الطويل في تبادل الأحاديث عن نشاط فرقتهم للتنقيب، ومنجزاتهم ومشاريعهم، وعن أحوال الناس هنا، وقلما تطرقنا إلى حياتنا في إنجلترا! توارت العاصفة وصحا الجو؛ خرجت مع ماكس لجولة في المدينة. حدثني أن من عادته،أن لا يحل في مكان حتى يروح ينبش في تاريخه قال: هذه المدينة بناها على ضفتي الفرات الشيخ ناصر السعدون في القرن التاسع عشر وفق تصميم مسبق حديث،وضعه مهندس بلجيكي جمع فيه بين شكل المدينة الأوربية والنمط الشرقي ، تبعد عن أور بحوالي 15 كيلو مترا لكننا نستطيع أن نعتبرها امتدادا لها وتشكل روحها العريقة. أعجبتني كثيرا فهي مضيئة منفتحة على الشمس وهواء النهر. نظيفة وأنيقة، رغم الفقر والعوز الذي يلوح على وجوه الناس؛ لكن عيونهم تشع ذكاء وحماسة للحياة. النساء يتلفعن بثياب سود، قال ماكس أنه تمسك بحزن أبدي في هذه الأرض الجميلة التي كانت دائما ساحة حروب وقتال وفيضانات وأوبئة وهجرات أليمة، تفقد فيها المرأة مرغمة زوجها أو ابنها أو عائلتها كلها. رجال العشائر يتفهمون عملنا ويحترموننا ويشعروننا بالأمان. ذهبنا إلى أور عصرا بسيارة تدعو للضحك، عرفت من ماكس أن صاحبها حصل على ماكنتها من مخلفات الجيش البريطاني، وركب له حدادون الهيكل والمقاعد بطريقة بدائية، كانت متينة ونظيفة وصالحة للاستعمال، صاحبها حسين تجاوز الأربعين نابت اللحية ويستعملها للأجرة، وماكس يتعامل معه بسخاء ومودة. ويأتمنه كثيرا! وأخيرا وطأت قدماي تراب أور وتنفست هوائها الذي اشتقت سنين كثيرة لأن أملأ صدري منه! انفتح قلبي لها، لم أكن أصدق أنني الآن أسير على أرضها. هي متوهجة، تضاحك السماء. فيها عدت أواجه الأسئلة التي كانت تنهمر على في لندن، وتلاحقني مسابقة قطار الشرق السريع، لماذا جئت إلى هنا؟ عم ابحث؟ لماذا قطعت هذه الرحلة الطويلة الخطرة إلى هنا؟ هل أنا مجرد واهمة قلقة تائهة دون هدف أو شعور بجدوى الأشياء والمساعي؟ هل جئت أبحث عن خطى إبراهيم أبي الأنبياء، وأولى أنوار التوحيد الإلهي، وعن سكينة الروح وطمأنينتها، أم أن روحي ليست معي وهي هائمة في هذه الصحراء الشاسعة وجئت ألاحقها أرجوها أن تعود لتسكن جسدي،وأعود بها إلى لندن؟ أم أنني أبحث عن روح أخرى تألفني وترضى بي كما أنا؟أغلب ظني إنني أبحث عن شيء آخر لا أعرفه!حين أوقفني ماكس على الحفر العميقة التي غاروا إليها منقبين عن الأشياء القديمة، ولاحت لي عظام البشر الزائلين؛ اعترتني قشعريرة؛ هل جئت من لندن لأرى هذه العظام؟ أبحث فيها عن أهلي وأحبتي الموتى، وما زالوا أحياء في قلبي؟ أم جئت أبحث عن عظامي؛ أريد شرائها من الله ، أم لأهبها لقدري يبعثرها كيف يشاء؟ ما هذه الكوابيس؟ قلت لأمكث هنا فترة وأرى! كان قلبي يخفق، وأور التي جئتها من بعيد؛ صارت أبعد من ذي قبل؛ فأن لا تفهم شيئا أو مدينة؛ تبتعد عنك حتماً! ومع ذلك ظل قلبي يخفق لها وعلى أرضها بفرح ونشوة! ربما لأن ماكس قد غمرني بحنان هادئ صامت، ورفقته ممتعة، أشعرتني بالطمأنينة. شكرت العاصفة الترابية، وتوعك السيدة كاترين، وكل فايروسات العالم، وتمنيت في سري أن يستمر توعكها (فقط أن لا تموت) لكي لا تنتزعني من رفقة ماكس.

 

يا للمقادير! كنت وحبيبي في مدينة واحدة، ولم نلتق! في بلاد بعيدة، خلف بحار، وسنوات ضائعة، التقينا!

اقتادني ماكس إلى الإيوان الرئيسي للمقبرة الملكية المقدسة، وراح يحدثني بصوته الهادئ العميق: كيف أن بعثتهم بقيادة الدكتور ليونارد وولي، عثرت على القيثارة الذهبية تحت أمتار كثيرة من تربة متراكمة حفروها بصبر وأناة، هي قيثارة؛الملكة بو ـآبي وتسمى خطأ الملكة شبعاد، كانت معها قيثارتان أقل حجما عزفت عليها وصيفاتها الترنيمات الجنائزية الأخيرة للعائلة المالكة وهي تموت ببطء مع حاشيتها،ليلحقوا بالملك الذي مات قبلهم وعليهم أن يموتوا معه قبل أوانهم ، هكذا يقتضي الوفاء السومري الملكي! قال ماكس: كان ملك العراقيين آنذاك موسيقارا يعزف على ثماني آلات بينها قيثارة بثلاثين وترا، ويشرف بنفسه على أول معهد للموسيقى في العالم،وحتى في مدارسهم العادية هناك درس إضافي للموسيقى، وكان الطالب الذي لا يجيد العزف يتأخر نجاحه ويزدرى من زملائه الذين يعدون الموسيقى الشرط الأول لنقاء الروح! قال هنا مركز مملكة أور،قلب العالم آنذاك، هنا ولد إبراهيم الخليل،ومن هنا انطلق جلجامش بحثا عن عشبة الخلود حتى وصل إلى جبال الأرز في لبنان، والى شطآن دلمون البحرين حسب رواية أخرى، وعاد خائبا حيث لا مفر من الموت! ماكس يحدثني عن أشياء كنت قد قرأت كثيرا عنها وألهبت خيالي. حين اسمع حديثه الآن عنها بصوته المتأني الصبور أحس بنكهة جديدة للكلمات ومعنى آخر لها، قال هنا عثرنا على الخنجر الذهبي الملكي، رأيته فيما بعد، خنجر ذهبي يلمع تحت الغبار، صار منبع إلهامي، يوحي لي بالكثير في روايتي التي كان قدري أنها تدور حول الجريمة! استيقظت مبكرة ورحت أتمطى أمام نافذة الحجرة؛ بينما شمس الفجر تصعد متوهجة ومع نورها الساطع الغامر وجدتني أكتشف لماذا أتيت أور، لقد جئت لألتقي بماكس مالوان عالم الآثار ، الشاب الجميل، هل هذا معقول؟ هي بشرى بمستوى الحلم الذي أنهكني طويلا، ولكن كيف أتجرأ على حبه، وأنا في التاسعة والثلاثين من عمري، وهو في السادسة والعشرين؟ ألا أبدو كأنني غررت به؟ أو مارست اغتصابا؟ لا ! هو في سن الرشد منذ سنوات طويلة، وأضاف لعمره كما قال لي آلاف السنين من عمر الإنسانية التي ينقب في تاريخها! ولم يبدر شيء مني نحوه سوى كلمات صادقة دون أية نية إغواء، وابتسامتي له من القلب، بل أحس وكأن روحي فيها ترتجف على شفتي!هل هذا اغتصاب؟ ومع ذلك لم أقل له حتى الآن: أحبك، وهو لم يقل شيئا، رغم إنني أحس أن عينيه تقولان أشياء كثيرة، أسمع القيثارة الذهبية تعزف لحنا جديدا لنا وحدنا، للحب هذه المرة، وليس للموت الذي ظلت تعزفه تحت التراب آلاف السنين! أسال نفسي ربما كنا أنا وماكس في لندن في وقت واحد ، في نفس اللحظة وفي نفس الشارع، لا يبعد أحدنا عن الآخر سوى أمتار ولكننا لم نلتق، فصل بيننا جدار أو سيارة عابرة، وربما التقينا وجها لوجه ولم يكترث أحدنا للآخر،ربما مر أحدنا بالآخر غريبين طبعا، من يدري؟ ثم تحتم علينا أن نقضي سنة أو سنوات من أعمارنا، فنقطع آلاف الكيلومترات، لنأتي هنا إلى أور ونلتقي، كم هي الحياة لاعبة ماكرة غريبة تأبى إلا أن تحشر نفسها في أسطورة؟ ولكن أليست الأسطورة غائرة في لحمنا الإنساني تلعب بنا كما الأحلام أو حكايات أطياف السماء؟ وجدتني كلما تطلعت إلى وجه ماكس الجميل أغدو على يقين إنني جئت من أجله! وسمعته يكمل حديثه عن جلجامش: سدوري صاحبة الحانة قالت له :إنك لن تجد عشبة الخلود، لكنك وجدت عشبة الحب التي هي نفسها عشبة الخلود! هل كان يقول أنت جئت من لندن، من أجل حجة، فقطفتي الحب! هاهي تلك الزهرة يفوح عطرها في جوانحي كاللهب! كدت أقبله وأرتمي بأحضانه، لكنني تماسكت، وكنا بين القبور! عدنا إلى البيت نسير على التراب الهش صامتين، كنت من سعادتي أطير! وجدتني أقول لنفسي ها أنا أعرف الآن أن المهمة التي جئت من أجلها بسيطة، ليست كبيرة أو خطيرة كالمهمة التي جاءت من أجلها المسز بيل، هي شغلتها السلطة ، ثمة نساء إنجليزيات جئن مع رجال شركات النفط، يبحثن عن الثروة، وأنا سأبقى بين الأطلال المهدمة أساعد ماكس يستخرج ذاكرة البشر من تحت التراب، وسأكتب ما يعن لي ، هذا كل شيء. الآن عرفت طريقي،عبرت كل طرق العالم إليه.

يبدو إن الحب العظيم يرهقنا في البداية، يتقاضى ضريبته أو تكاليفه مقدما،ثم أخيرا يمنحنا السعادة، ضحكت من خواطري المنهالة سريعا في ذهني، قطع ماكس الصمت: آمل أن يستقر الجو، ويبقى صاحيا، أريد أن آخذك غدا إلى مدينة (نفر)، فهي فاتيكان العراق القديم لا تكتمل صورته لديك ما لم تجوسي ذاكرتها! أوصلني إلى بيت لومبارد، وذهب هو إلى بيته، المجاور له، وكما أيام المراهقة شعرت إنه أخذ قلبي معه، فوقفت على الباب أتأمله حتى دخل البيت، ولكنه لم يلتفت وراءه، ولم يرني!لا أدري ما الذي شغل ماكس، قال سنؤجل سفرتنا إلى نفر، لكننا تواعدنا على نزهة مع الغروب بين أطلال أور. كانت من أجمل ساعات حياتي، جلسنا طويلا، نسينا أنفسنا حتى حل الغروب، وطلع القمر وبدأت أحس بجسدي يذوب في نوره وهالته فشعرت بدوار لذيذ. كان ماكس قد قرب شفتيه من فمي بقبلة خفيفة، ثم حين وجدني متلهفة له راح يقبلني بقوة،استرخينا بنشوة،نقلني لخضرة ندية وارفة، كأن هذه الخرائب عادت لحياتها الزاهية. لم يسألني ماكس لماذا افترقت عن زوجي. أنا الذي حدثته؛ كنت قد أحببته وأخلصت له وأزمعت أن أبقى معه مدى العمر، لا أفارقه يوما وحين اقتضت خدمته العسكرية إبان الحرب العالمية أن يذهب إلى باريس لحقت به وعملت ممرضة في المستشفى الميداني، كنت لأيام عديدة لا أذوق طعم النوم العميق أو الراحة لما يتكدس أمام وداخل المستشفى من أكوام الجرحى والجثث القادمة من جبهات القتال! ما جعلني افترق عنه هو افتقادي الصحبة الحنونة الدافئة معه. أرادني أن أكون مجرد زوجة مضمونة جاهزة، بعد العمل، أبقى في البيت، أعد طعامه وشرابه وثيابه وأنجب؛ بينما هو يقضي وقته في البارات مع عشيقاته وأصدقائه وموائد قمار ولهو، قررت أن اقطع هكذا لعبة سمجة تعيسة! وأترك بسرعة هكذا حياة له وحده، أصغى ماكس لي، ولم يقل سوى جملة واحدة صادقة "أنت محقة يا أجاثا لم تظلميه، ولم تظلمي نفسك!" حدثني هو عن حياته؛ لم يكن ذا تجارب كثيرة ، ولم ألح عليه في أية أسئلة لا بسيطة ولا محرجة، قبلت به كما رأيته، والحب الحقيقي أن تقبل شريكك ولا تحاول أن تعيد صنعه، فتلك قسوة أنت وهو في غنى عنها! أتركها للحياة. وجدنا أنفسنا في عناق حار بين خرائب أور الخالية المهجورة، بعد أن سرت منتشية بجانبه ممسكة بيده شعرت أن أطياف نساء ورجال تخرج من حجارة جدران الماضي السحيق وتلوح لنا بحبور!

 

كان العراقيون القدماء يعاقبون اللصوص والمختلسين ومغتصبي النساء والأطفال بالاعترافات البطيئة في أحواض المياه المسكرة، قبل أن ينزلوا عليهم الموت والعار الأبدي!

ركبنا سيارة حسين وأنا ابتسم، كيف لسيارة كهذه أن تسير بنا قرابة 300 كيلو مترا إلى مدينة نفر. ضحك ماكس وكأنه أدرك سر ابتسامتي قائلا: لا تقلقي، حسين سائق ماهر يعتمد عليه! كان ماكس قد اعتاد التعامل مع حسين وغيره من الرجال العراقيين العاملين في الحفر أو النقل والحراسة. وخبر طبائعهم،وطرائق عملهم. وينبغي أن أجاريه، ما دمت قد جئت إلى هنا؛ لا معني لأية اشتراطات! صعدت بنا السيارة شمالاً. كان حسين مؤدبا ولطيفا، يحدث ماكس عن بعض معالم الطرق ويورد حكايات وطرائف عنها، وعن سكانها. ماكس مع دراساته لأصول اللغة العربية في لندن صار هنا يجيدها وبلهجات أهلها، يحرص أن يترجم لي ما يجده مثيرا لاهتمامي. الطرق ترابية غير معبدة، ولا ممهدة وكثيرة المنعطفات،اهتزاز السيارة وصعودها ونزولها المفاجئ جعلني أترنح، كنت سعيدة، فهذه لحظات مناسبة لأن يضع ماكس بها يده على ظهري أو كتفي ليسندني. دفقات حنانه والهواء والشمس الناعمة ،والسماء الزرقاء الصافية كلها تمتد في قلبي! قمة سعادتي! استرحنا في بلدة صغيرة تدعى عفك، أكلنا اللحم المشوي على الجمر مع أرغفة الخبز الساخنة. واصلنا رحلتنا، رأينا من بعيد برجا كابيا، أمسك ماكس يدي:انظري تلك هي زقورة (نفر)! كنا بعيدين عنها كثيرا، 20 كيلو مترا تقريبا! قامة مارد محترق ينهض فجأة من عمق الصحراء! مصارعا ليفلت من الأرض وينطلق ملتحقا بزمنه الذي فارقه مرغماً. وصلنا (نفر) قال ماكس: نحن الآن على مسافة تقارب 180 كم من بغداد، جهة جنوبها الغربي قليلاً! وقف ملقيا نظرة إلى الأفق صامتا كأنه يستعيد ذكريات عمله لفترة قصيرة هنا، هي العاصمة الدينية المبجلة لدى السومريين والبابليين! لم يبقوا آلهتهم محلقة في السماء؛ أسكنوها هذا البرج العظيم، وحده يليق بها، تنزل الآلهة لتتجول في الأسواق، وتدخل البيوت لترى أن كانت أثداء الأمهات تدر حليبا لأطفالهن، وإن كن هن يجدن طعاما واحتراما من أزواجهن . آلهة مخلصة غير كسولة مدربة على أداء وظائفها في خدمة البشر لا في خدمة السماء، التي لا تحتاج البشر، أشار ماكس إلى بناء طويل منحن مقوس قليلا: هذا من بقايا سورها، كانت مدورة، تقع على الفرات إلا أنها لم تكن منفتحة علية خشية أن يتسلل إليها الغزاة منه، الآن انسحب الفرات عنها بمسافة طويلة، فأضحت الأرض يابسة مفتتة. سور هائل، ينم عن أهمية المدينة، وخطورة أعدائها! مشينا فيها نتعثر بكسر الآجر واللبنات التي تناثرت بعد أن تهدمت مبانيها بثقل آلاف السنين. أجهز على ما تبقى من آجرها أناس من هذا الزمن ليبنوا بها بيوتهم! كان البرج مهشما متآكلا،آيلا للسقوط، ثمة قوة ما تبقيه واقفا مترنحا كثمل يتماسك بقوة لا تخلو من مرح آسر. أشعل ماكس غليونه، ينظر بألفة صديق لقاعدته الدائرية المتهدمة وقد بدت كهضبة. قال: كان ارتفاعه أكثر من سبعين مترا لم يتبق منه، إلا ما يقارب الخمسين مترا، ومع ذلك هو مثير حقا، كان يسكن فيه الإله إنليل الذي كان يعد رئيس آلهة السماء كلها، واعتبروه آنذاك الأب الأعظم، وفيه معبده وحجرات الكهنة وحاشيتهم المترفة، ولكهنتها الناطقين باسمه، الكلمة الحاسمة على بابل وأور والمدن والدويلات الأخرى! يمنحون الشرعية لمن يشاءون، ويحجبونها عمن يشاءون، فما كان يتوج ملك، أو ينصب حاكم، في أية مدينة ما لم يحظ برعايتهم وبركتهم، يأتيهم الملوك والوزراء حاملين الهدايا والنذور لينصبوهم على عروشهم وكراسيهم ويرشوا الماء المقدس على تيجانهم وصولجاناتهم، ويسمحون لهم بالبقاء أطول فترة في الحكم، أو يورثوه لأبنائهم! توقف ماكس، ليصافح حارسا، أشيب، قارب السبعين كان يعرفه،تقدم منه مرحبا ثم انصرف بتهذيب. عاد للكلام: هنا يا أجاثا تجدين أوضح صورة على دور رجال الدين في صنع الحكام وتحريكهم كالدمى! أين يمكن لسائحة أن تجد عالم آثار بمنزلة وخبرة ماكس يكون دليلا سياحيا لها؟ما استخرجنا من هنا كنوزا ومجوهرات وحلي وتيجان تكفي لمتحف كبير. القلائد والأكاليل مصاغة كأعلى آيات الإبداع والإلهام ،معجزات رقيقة حقا! وعدني أن نذهب إلى المتحف الوطني في بغداد، لنراها معا، أشار إلى أدراج وسلالم مهدمة:من هنا يصعد الكهنة إلى حجراتهم المطلة على السماء، متعالية على الناس! صارت هذه الأماكن لفترات طويلة ملاذا للصوص وقطاع الطرق، واليوم يقصدها فقراء معدمون ينبشونها حالمين أن أسلافهم تركوا لهم شيئا من كنوزهم. هنا المركز التعليمي الكبير للسومريين، يقصده طلابهم من شتى مدنهم لتعلم أصول لغتهم كما ينبغي أن تكون في المكاتبات الرسمية. عاد ماكس يشعل غليونه، نسيه في غمرة شروحه وتلويحاته كأنه يخاطب إله وكهنة (نفر) الآن، قال: سميت (نفر) تعني (ضمادة الجروح) ربما لأن مجلس كهنتها كان يحل المشاكل التي تتعرض لها مدن العراق ويلئم جراحاتها! وسميت أبيدو، أي الأبدية والخلود، لأن كهنتها ما كانوا ليتصورا أن مدينة بهذه العظمة والجبروت يمكن أن تبلى بضربات الزمن! ضحك قائلا وسموها أيضا أريدو أي حوض التطهير، يؤتى بالفاسدين من الوزراء والموظفين المختلسين للمال العام والمرتشين، ومن ينتهكون أعراض الناس، فيضعونهم عراة في أحواض ماء فيه مادة مسكرة، ليستمع القضاة لاعترافاتهم البطيئة،بالخدر والمرح يلزمونهم بإعادة ما سرقوه لخزينة الدولة، ويعتذرون للفتيات والغلمان الذين اغتصبوهم مستغلين مناصبهم،ويعوضونهم! وإذا كانت جرائمهم كبيرة،يحكم عليهم بالعار الأبدي، ويعدمون! صعدنا درجات من البرج، أطللنا على فضاء فسيح وقرى وبساتين، وأرض قاحلة ، نزلت بحذر وهدوء ممسكة بيد ماكس،مطمئنة تملأني نشوة الماضي والحب معا. سرنا في دروب مستقيمة وملتوية، أدهشني ماكس أنه يعرفها كأنه كان قد سار فيها قبل أربعة آلاف عام، يؤشر بثقة ودراية على بعض المواقع، هنا كانت أول مكتبة،وجدنا فيها أقدم القوانين وبينها لائحة عن حقوق الإنسان، ونظريات وخرائط في علم الفلك، تقويم زراعي،ملاحم وقصائد مدهشة، وجدنا مخطط ملعب كرة القدم وقواعد لعبتها! هنا افتتح أحد أنصار جلجامش صيدلية منتظرا أن يكون أول دواء يبيعه فيها هو عشب الخلود! وبعد أن عاد جلجامش من لبنان أو البحرين،خال الوفاض، بدأت الصيدلية تبيع زهورات تطرد الغازات، صدمة حتمية الموت، والإفلاس من الخلود، أصابت الكثيرين بالتهاب القولون! ضحكت معه سعيدة وقد سرني إن لديه روح النكتة! نفث دخان غليونه قائلا، قبل أن أأتي إلى هنا ما كنت أتصور أن سكان هذه الأرض قد أنجزوا ذلك قبل خمسة آلاف سنة،ما هذا الانكفاء الرهيب والسقوط في الظلام بعد ذلك؟ سألته: هل هو الطوفان؟ لا ، لا ! قالها بسرعة وتأكيد هذا حدث عابر وقد هول كثيرا! استدار مظللا عينيه بكفه مصعدا بصره إلى أعلى البرج، من هناك كما تقول الألواح المكتشفة صدرت الإشارة بالطوفان,وإلى أتونوبشتم المسمى نوح ببناء سفينته! هل توجد لديكم أدلة قاطعة على حدوث الطوفان؟ ابتسم قائلا: ليس بالشكل الذي تصوره الألواح القديمة والكتب المقدسة طبعا، هذه أرض كثيرة الفيضانات، وتهطل عليها أمطار غزيرة أحياناً، ولا يستبعد أن غمرا مائيا هائلا قد حدث، دمر مدنا وقرى ومواقع كثيرة، ومن الطبيعي أن يلجأ الناس إلى سفينة، وملاح. مخيلة الناس تنسج أكثر مما نسج الماء! أعجبني في ماكس إنه عقلاني رغم إنه يستمتع بالأسطورة والخرافة، يضحك منها كطفل يعيد سرد حكاية الجدة لنفسه، أو يعيد تركيب دميته! عند عودتنا إلى السيارة ألقى ماكس نظرة شاملة إليها كأنه يودعها قال لقد ظلت (نفر) مأهولة بالناس لسطوتها الدينية القديمة في نفوسهم رهبة وخشية، ثم ماتت وانفض الناس عنها عند دخول المسلمين أرضها، اعتبروا معبدها وطقوسها ضربا من الوثنية، من حسن الحظ إنهم لم يدمروها، اكتفوا بإدارة ظهورهم لها! عدنا إلى الديوانية، بتنا ليلتنا في فندق فقير رث، حيث لا يوجد غيره، وفي الصباح قمنا بجولة قصيرة في المدينة، لم نجد شيئا مميزا سوى أن أسواقها كانت تضج برائحة الرز العنبر، رائحة فاغمة عطرة لم أشم مثيلها حتى في أسواق التوابل التركية والهندية، أما مذاقه وطعمه فلا رز يضاهيه أكلته في حياتي! قال حسين إنهم يصدرون الكثير منه إلى بلاد الإنجليز، لكنني لم أكن رأيته هناك!

 

لم يفلت النهران في العراق يوما من باب المعبد الكبير في نفر، يمران عبره،الكهنة يتاجرون بما يهبان من سمك وقمح ولبن، ويلقون فيهما نفاياتهم وأشباحهم!

قال حسين؛ سألتني كثيرا يا ماكس،عن طقوسنا الدينية،الآن جاء وقتها، فهي في ذروتها هذه الأيام! ما رأيك؟ نظر ماكس كأنه يسألني هل أنت متعبة هل أنت بمزاج لذلك؟ وافقته على الفور! هي رحلة شاقة، لكن لا بد من العودة إلى الناصرية؛ فقط علينا أن نغير في طريقنا. راحت السيارة تنهب الطريق، لاحت لنا من بعيد قبة كبيرة كأنها جبل من الذهب يشع تحت الشمس، تتقدمها منارتان. قال حسين وصلنا النجف، ذاك هو مرقد الإمام علي! ظل يشع أمامنا بقوة كلما اقتربنا منه.أوقف حسين سيارته قرب السوق الرئيس القديم، وسرنا نحو المسجد الكبير الذي ضم الضريح. صرنا على الفور قبلة أنظار الناس وفضولهم، راحوا يتفحصوننا بنظرات مستطلعة نهمة لا تخلو من استنكار وغضب، بدا لي إن بعضهم يوشك أن يتلمسنا ليرى أن كنا كائنات غريبة قادمة من كوكب آخر. قال حسين قبل فترة ليست بالطويلة كان من النادر أن يسمحوا للأجانب بدخول المرقد. الآن صاروا أقل تشددا، لكنهم لا يتسامحون مع من لا يراعي تقاليدهم، استطاع حسين أن يستعير لي عباءة من أحد البيوت القريبة، تسربلت بالعباءة السوداء، همس لماكس كأنه يفضي بسر موجها نظراته لي وكأنه يريد أن يسمعني ذلك كتحذير: المتدينون يعتبرون وجه المرأة عورة، وعيب يجب أن يستر، فما بالك بسيقانها وشعرها! سور المرقد بجدران ضخمة. دخلنا من باب عريض شاهق الارتفاع مقوس بشكل فخم ومقرنص بزخارف، وجدت أنني يجب أن أتخلى عن حذائي وأودعه عند رجل يحتفظ بصفوف كثيرة من الأحذية، وأدخل حافية. صرنا وسط ساحة كبيرة، فيها مئات الرجال والنساء بعضهم وقوف خاشعين ويعضهم منكفئون على الأرض أو على الجدران العالية من الإعياء فبعضهم يأتون سيرا على الأقدام من أماكن بعيدة، وبعضهم مرضى ميئوس منهم، جاءوا يرجون الشفاء! صفوف طويلة من الرجال والنساء والأطفال بملابس بالية وسخة يعتصرهم الجوع، ومع ذلك جاءوا باكين شاعرين بالذنب يبتهلون بأدعيتهم وطلب شفاعة إمامهم ليكون شفيعهم في خلاصهم من مرض أو محنة، وإذا لم يكن مفر من الموت؛ يدخلهم الجنة، فهو شفيع موثوق مرتجى دائما عندهم! ثمة حمام وعصافير يبحث عن فتات أي شيء يأكله! قال لنا حسين هم يقتطعون من خبزهم وكساءهم لكي يأتوا ببعض النقود يلقونها من شباك الضريح أو يعطونها لرجال على رؤوسهم عمائم خضر لكي يساعدونهم في إتمام زيارتهم، كان القاشاني الذي يكسو الجدران مزينا بزخرف زهور وحروف جميلة. عرفنا أنهم ينوون إعادة اكساء قباب المسجد بالمزيد من الذهب والفضة فثمة تبرعات كبيرة تأتي من الشيعة في إيران والهند والباكستان. دخلنا ردهة الضريح الكبيرة المفروشة بالسجاد التبريزي العريق،والقبر محاط بهيكل كبير مشبك من الفضة اللامعة المسربلة بحرير اخضر مشرشب. ثمة زائرون وبعضهم فاقد البصر يمسكون بالشبابيك باكين متوسلين! رجال بملابس دينية يتحركون بين الزائرين يتناولون من أيديهم القطع النقدية أو الحلي الذهبية. تغدينا في مطعم قريب، ماكس يفضل أكل المشويات في هذه المطاعم لأنه يستطيع التأكد من نظافتها، قال حسين أرأيت الأشرطة الخضر المعقودة على جوانب الضريح؟ هي لزوار لديهم مشاكل أو علل صعبة آملين أن يحلها إمامهم! حين يأتون بعد أيام لا يجدونها عادة، إذ يكون الرجال القيمون هنا قد حلوها وباعوها لغيرهم، لكنهم يعودون فرحين معتقدين أن مشاكلهم قد حلت! نظرنا أنا وماكس إلى بعضنا قال ماكس هذه لعبة بعض رجال الدين حتى في زمن السومريين والبابليين! وقد شاعت في الكنائس أيضا! انتقلنا إلى مقهى، جلب لنا حسين حلوى الجزر المطبوخ بالسكر والتوابل المعطرة،قال لي ماكس ونحن نغادر المكان متجهين إلى السيارة، في كل حفرياتنا هنا نكتشف أن الكهنة دائما هم الأسياد، الناس يكدون ويتعبون ليقدموا لهم ثمار عرقهم،فيعدونهم برضا الآلهة وبركاتهم، كل التراب الذي نقبنا فيه يكاد يكون عظام الملوك والكهنة و الفلاحين والفقراء معا،صرت مقتنعا أكثر، رغم أن المال والسلطة ،وكل شيء سيصير رمادا، لكن الكهنة في كل العصور قبل غيرهم يصرون على جشعهم وطمعهم!

ـ ولكنكم وجدتم قوانين وعجلات وقيثارات وألواح شعر وملاحم وخوابي خمورفي معابدهم!

أطلق ضحكة فرحة كطفل:

ـ كهنة ذلك الزمان لم يجدوا تعارضا بين تقدم الحياة، والعبادة، لذلك بنيت حضارة، ومضى الإنسان صاعدا مراقي النور والمعرفة!

ـ لكن لم يمض كل شيء بهدوء وسلام وعلى ما يرام دائما.

ـ نعم، والناس آنذاك لم يكونوا تعساء كما هم اليوم!

ـ كانت السماء مقسمة كالأرض على عدة آلهة يدخلون في مسابقة يومية كل يريد أن يمنح رعاياه ما يشده إليه، تعرفين كان هناك إله للمطر وإله الحرب وإله للحب وحتى إله للخمر والخصب،وربما حتى إله للنفايات؛ إبراهيم الخليل صمم السماء بهندسته البارعة: إله واحد أعظم،يقابله على الأرض ملك واحد مطلق السلطة! منذ ذلك الحين صار الحاكم هو الوجه الثاني للإله فعم الاستبداد والتطرف!

سكت برهة، وأشعل غليونه:

ـ أتعتقدين إننا نحفر في الأرض فقط؟ لا يا عزيزتي، نحن نحفر في السماء أيضا!

ـ وأين وجدت الله؟

نظر في وجهي، أطلق ضحكة قصيرة خافتة سريعة:

ـ كيف عرفت إنني كتبت في يومياتي، "ينبغي أن لا نبحث عن الله في السماء، بل على الأرض، وتحتها وفي عظام البشر المتفسخة، وأحلامهم المحطمة،وإذا لم نجده هنا؛ فيجب أن نجده هناك، إنه حاجة قصوى!"

قلت متصنعة الغضب وأنا أضحك في سري:

ـ لا تنس يا ماكس إنني جئت إلى هنا من أجل إبراهيم الخليل!

ـ أنا أيضا أجل أولئك الباحثين عن النور، شقوا طرقا في الصخر والنار، لكنني أتوقف أمام ظاهرة ميلاد الدين كسلطة. لا روحا منعشة تواسي الإنسان في وجوده الصعب والمؤلم.

أخذت يده، ضممتها في يدي، فاستسلمت لي دافئة كطير صغير،رمقني بحنو،ولو لم نكن في هذا المكان ، لتعانقنا طويلا! عدت أردد في سري، أنا جئت إلى هنا من أجلك يا ماكس!

رحت أسرح بصري مع الأفق المتوهج بشمس ساطعة بقوة. وجدنا ثمة أشخاصا وقفوا يتأملون السيارة وكأنها حيوان غريب ، هم محقون، بعضهم لأول مرة في حياته يرى سيارة، فالسيارات ليست كثيرة، بل هي نادرة. مررنا بمقبرة هائلة أشار حسين قائلا:

ـ هذه أكبر مقبرة في العالم كل يوم يدفن بها المئات،الشيعة يحرصون على أن يدفنوا إلى جانب إمامهم، فيطمئنون داخل قبورهم! الموتى في أماكن بعيدة، يدفنونهم هناك بشكل مؤقت كأمانة، ريثما ينقلونهم إلى هذه المقبرة ولو بعد سنين طويلة، الإيرانيون والهنود يرسلون جثامين موتاهم إلى هنا،وكم جاءت إلينا معها من أوبئة وأمراض،أمرنا لله!

استقرت السيارة على طريق كربلاء، قال ماكس:

ـ اسم كربلاء ، غير غريب علي فهو يعني في البابلية ( قرب الإله) ، كانت قرية بابلية، ثم أضحت بلدة مسيحية فيها أديرة وبساتين كروم ومعاصر خمور، وعرفت بمقبرتها الكبيرة، لكن كل ذلك تغير إلى شيء آخر تماما!

في مركز المدينة حيث ضريحي الحسين والعباس، واجهتنا جمهرة هائلة من رجال ونساء يبكون وينحبون يحيطون بصفوف طويلة من شبان بثياب سود وصدور عارية يلطمونها بشدة ويرددون الأهازيج الحزينة، آخرون يضربون ظهورهم بحزم كبيرة من السلاسل الفولاذية، حتى تتورم وتتفجر دما! بعضهم يضربون رؤوسهم بسكاكين طويلة فيشجونها وتسيل الدماء منها على ثياب بيضاء هي أكفانهم كما شرح لنا حسين:

ـ إنها أكثر المناسبات حزنا هنا،أنا شيعي أحب الحسين وأجله كثيرا، لكنني لا أستطيع مشاركتهم اللطم وضرب أجسامهم بالزناجيل والسكاكين! هذه طقوس جلبها لنا الصفويون!

قال ماكس :

ـ والصفويون أخذوها عن فرق مسيحية مهووسة في أسبانيا كانت تصعد الجبال العالية إلى كنائس وأديرة زحفا على ركبهم حتى تتسلخ ويتساقط لحمها بين الصخور والأشواك!

انتابني الخوف من مرأى الدماء والصرخات الحادة الفظيعة قال حسين:

ـــ وصلنا متأخرين،لم نشهد المعركة الأخيرة التي قتل فيها الحسين،ويعيدون تمثيلها كل عام، يأتون برجال بنفس ملابسهم القديمة ولحاهم وسيوفهم وخيولهم، وتجري المعركة،فيرسخونها في أذهان الناس جيلا بعد جيل، فلا تنسى، ولا تغفر!

أضاف بنبرة محتجة مكبوتة:

ـ ما يؤلمني ليس ما يسيل من دم هنا، بل ما سيسيل من دم إذا بقينا متفرقين شيعة وسنة! أنتما إنجليزيان، أقول لكما أن حكومتكما بدلا من أن تساعد الشيعة والسنة على التقارب والتفاهم، عملت على تباعدهم وفرقتهم أكثر!

كان ماكس يصغي له مبتسما ويترجم لي، قلت لماكس:

ـ أنت لم تخطئ باختيارك حسين مساعدا لك!

هز ماكس رأسه موافقا، شعرت أنا بالحزن أن يختلف أبناء البلد الواحد ويتباعدون على قضايا حدثت قبل أكثر من ألف وثلاثمائة عام ، وأن لا يفهم الإنجليز رعاة هذه الدولة أن عليهم مثلما حرروهم من العثمانيين أن يساعدوهم للتحرر من النزعات الطائفية والتوحد في وطنيتهم!

هز ماكس رأسه بحزن،وقلق واضحين.قال:

ــ لقد بنى الإنجليز للعراقيين دولة، لكن هذا ليس كل شيء،هم لم يدركوا أن النهرين في العراق لم يفلت يوما من باب المعبد الكبير في نفر، يمران عبره،الكهنة يتاجرون بما يهبان من سمك وقمح ولبن، ويلقون فيهما نفاياتهم وأشباحهم!

توجس قلبي، هل سيكون مستقبل العراق كما تحلم به صديقتي عائشة؟ وكما يريده حسين هذا الرجل الطيب؟ لم أجد ما أقوله فلذت بالصمت! وعندما رأيت نساء يأتين بأطفالهن لرجال ،كالحي الوجوه،بأيديهم سكاكين لشج رؤوسهم ومباركتهم كما شرح حسين؛ لم أستطع أن أحتمل منظرهم، فجذبت ماكس وسرنا باتجاه السيارة،واجهتنا سحب دخان وروائح قوية لرز ودسم ثقيل، كانوا يطهون بقدور كبيرة، كأنها قوارب مدورة، قال حسين، هذا الطعام التقليدي للمناسبة،اللحم المهروس مع الحمص، وفي قدور أخرى الرز الفاخر، سأل حسين: ما رأيكم أن تتذوقوا شيئا منه؟ كانت شهيتي قد انسدت فعلا من رائحة الدم البشري المسفوح، خاصة دم الأطفال، فانسحبنا مسرعين. بقينا في السيارة صامتين، سيطر الوجوم علينا، لكن حسين ظل مستثارا قال:

ـ رجال دين هددوني لأنني أرسلت ابني إلى المدرسة، قالوا إذا أرسلت ابنتك سنقتلها، الإقطاعيون هددوا الفلاحين بالطرد من أراضيهم،إذا أرسلوا أبناءهم للمدارس، هم لا يريدون لأبناء الفلاحين أن يكونوا أطباء ومهندسين وضباطا، كيف يخضع فلاح للإقطاعي إذا صار ابنه ضابطا أو معلما؟ الظلم الذي يقع علينا هو من مراجعنا وساستنا، وبكل خبث يلقونه على الآخرين!

لم يعلق ماكس بشيء، اكتفي بالنظر إليَّ، قال حسين،علينا أن نسرع قبل الظلام وينفس الوقت نسير بهدوء وحذر على طريق غير معبد،ثم أخلد للسكينة، قدرت إنه كان في كرب وهم ثقيلين ، ويبحث عمن يبثه شكواه، ووجد في ماكس وبي من يصغي له.

رحت أتأمل الطريق، الأرض قاحلة يحتضنها نهران عظيمان، وينبغي أن تمرع بالنبات؛ لكنها الآن صحراء قاحلة، ومع ذلك كأنني أقرأ على ترابها المتصاعد مع الرياح الكثير من الكلمات ممزوجة بالدماء التي سالت عليها في معارك قديمة شتى، وعسى أن تنسى. شعرت بالتعب، عانيت من اهتزاز السيارة وكثرة انعطاف الطريق الموحش،حسين يسابق الشمس قبل أن تغرب ، ويحل الظلام، ولا مصباح في شوارع المدن.ومصباح السيارة كما أعلمنا حسين عاطل. دخلنا الناصرية كالمنتصرين،توقفت السيارة بنا عند باب بيت لومبارد مع آخر خيوط الغروب!

 

قالوا لي إن الذي خطفها من الإنجليزي هو صوت المغني الريفي الجميل، وأين أنت من مكرفون الإذاعة؟

وأعود للسفر إلى بغداد، صرت أشتاق لسليم حتى لو لم يحدثني بجديد عنها، ألوذ به وأجد شيئا من الحماية والأمان، فرغم إنني من دولة تستعمر هذا البلد لكنني أبدا لا أجد نفسي مرتبطا بها أو بأجهزتها أو فكرها الاستعماري، وما ترددي على سفارتها إلا لصداقة شخصية تربطني بكولن! شدني سليم بطيبته وخبرته وصدقه، لم يكن يتذمر من لقاءاتي معه حتى وهو منهك محبط من العمل أو هموم السياسة، ما زال يهتم بها كثيرا رغم إنها أفقرته وجلبت له نقمة الكثيرين كما حدثني،جلسنا في البار البسيط المفضل لديه،بداية كورنيش النهر، فجأة راح يضحك:

ـ اسمع آخر أخبار محبوبتك، قصة طريفة، من الواضح أنها مختلقة لكن من الممتع سماعها!

ـــ لا أخفي عليك، صرت أحيانا أركن إلى أنها مجرد حلم جميل، علي أن أعيشه سعيدا في قلبي، لكنني في أحيان أخرى أعود لأقول لنفسي بل هي حقيقة ويجب أن أواصل البحث عنها، بل ثمة حالة غريبة أخذت تعتريني هذه الأيام، صرت أتطلع في وجوه نساء الهور أبحث عنها، وأقول لنفسي، إنها هنا بينهن، لماذا أبحث عنها بعيدا؟!

ــ لا فرق بين الحلم والواقع سوى كأس عرق واحد، شرط أن يكون من التمر العراقي!

طلب لي أطباق مزة وعصير فاكهة، تجرع كأس العرق دفعة واحدة، أخذ يحدثني ضاحكا:

ـ قبل شهر تقريبا، جاءني رجل يعمل معي مخبرا في الجريدة، ويعد نفسه خبيرا ملما بالنشاط الفني في بغداد، كان يعرف إنني مهتم بأخبار بنت المعيدي؛ أتقصى أية معلومات عنها،كنت أعرف أن هؤلاء المخبرين، وأنا واحد منهم، يكتبون أغلب أخبارهم في الحانات حين يبلغ بهم السكر حد التعتعة، وحتى أخبار صحوهم تأتي عادة مختلقة مبالغ فيها. صاحبي هذا يقضي لياليه وأوقاته متنقلا بين السينمات والبارات والملاهي الليلية،وبيوت المومسات. لكنني رحت أصغي له بلهفة آملا خيرا! قال: تأكد لي أخيرا أن بنت المعيدي قد اختطفت من ضابط انجليزي واتخذها زوجة له رغم إرادتها،لكنه لم يطر بها إلى لندن كما يشيعون، جلبها لتعيش معه في الحبانية القاعدة الجوية العسكرية غربي بغداد، حيث يعمل آمرا للطيارين. أسكنها بيتا فخما بني على الطريقة الإنجليزية. ظلت تكرهه مزمعة الهرب منه في أقرب فرصة، متظاهرة أنها صارت تحبه ليأمن جانبها. كانت تعشق المغني الريفي الشهير حضيري أبو عزيز، أغرمت بصوته الجميل عندما سمعته من كرامافونات المقاهي حين كانت تمر بجانبها وهي تبيع اللبن في الناصرية، وفي البصرة، ثم من الراديو حين صار في بيتها الكبير الأنيق. وجدت أن صوته يعيدها إلى شواطئ الأهوار،.استطاعت التسلل من بوابة القاعدة. وصلت الطريق العام، حملتها سيارة عابرة. في بغداد راحت تسأل من هذا وذاك، حتى وصلت دار الإذاعة. لازمت مدخلها طويلا، التقت بحضيري، فبهر بجمالها، قرر أن يودع حياة الأعزب اللاهي والتنقل بين أحضان عشيقاته الكثيرات اللواتي هن عادة من راقصات الملاهي وغواني بغداد المتهتكات، ويركن إليها فهي في جمالها وحبها له تفوق كل من رأى من فتيات أتين من سوريا ولبنان و مصر! ازددت قناعة أن ما يتحدث به هو من خياله الخصب في تلفيق الأخبار، والتي كانت جريدتنا تنشرها له لقاء دريهمات قليلة؛ لأنها متقنة السبك. وهذا حالنا نحن الكتاب والمخبرين، فلماذا أحاسبه بصرامة؟ مضيت أصغي له، وأوجه له العديد من الأسئلة بكل جدية واهتمام فحتى إذا لم تكن بنت المعيدي حقيقة وقد صارت قريبة منا إلى هذه الدرجة فالقصة كانت جذابة مغرية. طلبت منه أن يرتب لي لقاء مع حضيري. قال إن هذا المطرب المشهور، لا وقت لديه للقاء الصحفيين،ولقاؤه صعب جدا، أعرف أن المخبر يهول الأمر ليفوز بمكافأة جيدة. أعطيته بعض المال كمقدمة أتعاب! رتب لي وبسرعة موعدا معه. كنت أعرف أن ما نريد الوصول إليه ليس هينا، فهو موضوع حساس ويعد تدخلا في حياته الخاصة، اتفقنا أن نقول له أننا نريد لقاء حول أغانيه المثيرة التي يجلس الناس أمام الراديوهات ساعات كل يوم جمعه ينتظرونها، ما سرها؟ وما هذه المعجزة التي اسمها صوت حضيري؟ ثم ندس بين الأسئلة سؤالا قد يوصلنا إلى حقيقة القضية! قابلناه في مقهى صغير مقابل دار الإذاعة، طرحنا عليه الكثير من الأسئلة الفنية للتموية، ثم أخيرا طرحت عليه السؤال المفتاح الذي جئنا من أجله :

ـ هناك رسائل تصلنا إلى الجريدة من معجبات تسأل إن كنت متزوجا، بينها رسالة من سيدة حسناء ثرية جدا، معجبة بك، لذا نريد أن نعرف متى يا فناننا الكبير تودع فترة عزوبيتك الطويلة وتدخل القفص الذهبي؟

أبدى تعاليا وعجرفة:

ـ ألا تعرفان أن الوصي عبد الإله يغار مني لكثرة ما لدي من معجبات؟ اسألا الوصي عن أخباري الغرامية، فهو سيجيب نيابة عني؟

ـ ومن يستطيع الوصول للوصي غيرك؟ ثم نحن نسأل عن زوجة، لا عن معجبات!

ـ أنا لا أتزوج! سأبقى محاطا بالمعجبات الكثيرات، بدونهن لا أستطيع أن أغني وأنظم أغاني واضع إلحاني، منهن أستمد إلهامي، وإليهن فقط أوجه أغنياتي، ولا أتصور الناس حول الراديو سوى أنهم جاءوا لزفافي إلى حبيباتي!

توقف قليلا ثم قال :

ـ ولكن من هي هذه المعجبة الغنية الحسناء؟

ـ إنها بنت المعيدي،المنتشرة صورها في كل المقاهي والفنادق فهي كانت زوجة تاجر كبير مسن في بغداد، توفي وترك لها كل ثروته الكبيرة، أطلق ضحكة :

ـ هذه زوجني الناس منها ظلما عدة مرات، بل كانت مرات طلاقي منها أكثر من مرات زواجي، لو حصلت على بنت المعيدي زوجة لتوقفت عن الغناء وجلست أمامها أعبدها، وأغني لها فقط!

عاد يلح علينا :

ـ هاتوا لي عنوانها، لا أريد لمعجبة تحلم بي ولا تستطيع أن تصل إلي، هذه قسوة وأنا معروف عني حناني وعطفي على حبيباتي!

تأكد لنا أنه لا علاقة له ببنت المعيدي! وإنها ما زالت حلما مفتوحا لكل رجل، أو إنها حلم، ويأس يستطيع أن يحل في قلب أي إنسان! شكرت سليم على ما يتحمله من متاعب لأجلي، قلت له إنني كنت أسمع من بعض أهل الأهوار؛ أنها هي الآن زوجة حضيري، وقد بحث عمارة في ذلك كثيرا، سأل من أشخاص على صلة حميمة بالمغني من أهل الناصرية، وفي العمارة والبصرة، وقد تأكد لنا أن لا صحة لذلك، وإن حضيري يتنقل بين عشيقات كثيرات. وإن ما جعلهم يعتقدون باقترانه بها؛ هو أنهم وجدوا أن لا شيء يليق بجمال وجهها سوى جمال أغاني هذا المطرب الريفي الجنوبي يحمل صوته رائحة أهوارها وزهورها ونسائها. ذلك جعلني استمع له ومثلهم صرت أحب صوته وأغانيه، شرح لي عمارة بعض مقاطعها، فوجدتها ممتعة زاخرة بالصور الساحرة، وجدت أن محبوبتي تحدثني من داخلها!

 

قالت العرافة: أنت لم تخلق لامرأة، ولم تخلق لك امرأة! هل أصدقها؟ أم أظل سائرا نحو ذلك الوجه الجميل؟

عند عودتنا من الناصرية؛ انعطفنا في طريق مائي طويل لم يسبق لنا ولوجه، سألني ياسين:

ـ أتريد أن تقرأ لك العرافة مكية حظك!

كنت أسمع عن العرافات والعرافين هنا، فأراهم امتدادا لكهنة السومريين والبابليين، ويزيدني قناعة بأن أصل عرب الأهوار، سومريون ، قلت:

ـ ذلك جميل!

خطر لي أنها ودون سؤال مني؛ ستتحدث عن فاطمة، فهي عرافة كما يقال! كان ياسين يقود المشحوف بحذر خشية أن يجنح داخل أكمة قصب؛ فتجرحنا أوراقها الحادة:

ـ مكية قبل أن تصير كاهنة كانت أعظم وأشهر عاشقة في الأهوار قاطبة!

ـ لماذا لم تحدثني عنها قبل الآن؟

ـ كنت أظنك ستسخر مني!

ــ وكيف أستخف بعاشقة شهيرة، وحفيدة كهنة!

عاد يبتسم مسيطرا على المشحوف كأنه فارس على مهرة؛ طاوعته بعد عناد، فوجهه إلى مسلك يخلو من الموج ، شمس الضحى تكاد تجعل الماء ذهباً، مضى يتحدث:

ـ حكايتها غريبة وعجيبة، وكانت كما حدثني أبي؛الشاغل الأكبر لأهل الأهوار كلها من الأعالي حتى جزر مجنون، لكنهم بعد ما حدث لها من تحول، سكتوا عنها، بل صاروا يخشون ذكرها!

توقف متلفتا حيث لاح غير بعيد قارب بخاري كبير، إذا مر بنا فستجعل الأمواج الهائجة التي يخلفها وراءه قاربنا يتأرجح، وربما ينقلب، لذا عليه أن يبعد عن مساره! ما قاله عن سكوت الناس عنها جعلني أعرف سر جهلي بها، رغم اجتهادي في التقصي عن اهتمامات الناس،قال:

ـ مكية ابنة شيخ عشيرة، جميلة جدا، أجمل فتاة على الضفاف، ( خفق قلبي، هل هي بنت المعيدي؟ لكن لسانه مضى في منعرج آخر) هي ليست من عرب الأهوار بل من العرب الأقحاح. أحبها شاب جميل وشجاع يدعي ساجر، ابن شيخ عشيرة أيضا، بادلته الحب ولكن المصيبة، هي أن لعشيرة ساجر مع عشيرتها عداوة قديمة وشديدة، فشلت كل محاولات الصلح بين العشيرتين؛ دبرتها مكية بهدوء ومن وراء ستار، طال انتظارها سنوات، وسنوات. كانت مكية ترفض كل من يتقدم لخطبتها رغم أن بعضهم أبناء شيوخ وأمراء. وكان ساجر يرفض الزواج من غيرها رغم أنهم عرضوا عليه فتيات جميلات وبنات شيوخ وأمراء. صار جمالها يذوي ويتلاشى صابرة منتظرة أن يصلح الله قلوب المتعادين من العشيرتين ويحل السلام ويتوج حبهما بالزواج السعيد، ويعيشان في رغد وهناء بعيد عن أحقاد العشائر التي لا تنتهي إلا لتبدأ! ولكن العداوة ظلت تنخر الأكباد، ولا تخلف سوى العذاب والشقاء للجميع!في فجر يوم ربيعي رائق، ركبت مكية واثنتان من أعز صديقاتها خيولهن وذهبت إلى ساجر، الذي كان ينتظرها ملهوفا، كانت الفتاتان هما الشاهدتان على زواجهما! عاشا متخفيين في الأهوار هانئين بحبهما وقد انتصر أخيرا! اشتعلت القبائل كلها استنكارا وغضبا على هذا التحدي، وصارت تطارد الحبيبين تريد قتلهما. فهكذا انتهاك لعرف العشائر يعني بنظرهم فناء حياتهم! فتصور يا عم ولفريد ما سيحدث! اجتمعت ثماني عشائر وقررت قتل ساجر! هيأوا ثلاثة من الرجال الرماة المتمرسين بالقتل غيلة، والتصويب الذي لا يخطئ. أعطوهم بنادق ورصاص جمعوه بينهم، خلطوه بكيس وخضوه كما اللبن حتى يروب، لكي يتوزع دمه عليهم فيضيع الثأر. كان محور المتحالفين من العشائر هم أفراد عائلتها فهم لا ينسون لها أنها غدرت بهم، وخدعتهم، إذ اقترنت بحبيبها غير مكترثة بما لحق بهم من عار وأذى! وقد أزمعوا على قتلها ولكن بعد أن ينتهوا من ساجر أولاً. قتلوا ساجرا فجرا في نفس الوقت والمكان الذي تزوج فيه مكية! وبينما عجز أبوه وأخوته عن الأخذ بثأره، قررت مكية أن تقف وحدها في وجه ثماني عشائر، فانبرت بكل عزيمة وإصرار تقاتلهم متوقعة في أية لحظة أن تنازل أباها وأخوتها في معركة مفاجئة أيضا! فتصور يا عم ولفريد كم هذه المرأة رهيبة عجيبة! كانت تتنقل وتتخفى في مكان لا يعرفه حتى الشيطان من زوايا غابات القصب والبردي! تصور امرأة وحيدة إلا من بندقية حبيبها القتيل، تشن الحرب على أهلها المتحالفين مع ثماني عشائر، تكمن في الأهوار الشاسعة،ثم تشن هجومها على أهلها في الضفة اليابسة. تحولت مكية إلى شبح اسود يختفي في ظلام الهور، يتنقل بين مغاور الخنازير المتوحشة، والثعابين السامة، ولا يظهر إلا حين تومض فوهة بندقيتها بالنار لتصرع رجلا من هذه العشيرة أو تلك! كانت تصوب بدقة وأحكام ولا تقتل إلا في القلب، كأنما تريد أن تقول سأنقل نار قلبي إلى قلبك، وأريك لظاها! مدركة أن ما لديها من رصاص هو معدود، وينبغي أن لا تطلقه عبثا، ظهرت ذات يوم في مضيف شيخ عشيرة شبحا كما اعتادت أن تظهر، كانت قد قتلت أحد رجاله لتتحداه، وجاءته اليوم قائلة:

ـ اعترف لك أن شظية من رصاصك أفقدتني إحدى عيني، ولكنني بهذه العين الواحدة سأصرعكم جميعا! واختفت كما ظهرت! بدأت الإشاعات تسري أن مكية التي صارت بعين واحدة إذا صوبتها إلى رجل أو شيخ تصرعه؛ فيسقط مشلولا على الفور، صارت عينها أقوى من بندقيتها! قالوا أنها صارت بقدرات إلهية خارقة بمجرد أن تفكر بعقاب أحد ينزل عليه العقاب دون أن تتحرك من مكانها! وأنها صارت تتنبأ بكل شيء قبل حدوثه، وأخذت نبوءاتها تترى إليهم مع تقلبات الرياح، تتحدث عن قرب موت شيخ عشيرة،وباء ، أحزان تحل فجأة، مداهمات حكومية،مولد طفل لعاقر، مرض هذا ، شفاء آخر، غرق بيوت وصرائف، قوارب صيادين، نزول نيازك، أو هطول أمطار، فتتحقق كلها وكما تصفها تماما، صاروا يخافون عقلها المخترق لحجب الغيب،كما يخافون عينها الوحيدة التي تشل من تسلطها عليه. وجدوا شبحها يداهمهم وهم في بيوتهم في البر أو طافية على الماء، تأتيهم رسائلها متنبئة بمصائرهم، ترسمها وتصنعها بقوة السحر. صاروا يتوسلون عفوها عنهم، ينحنون عند ذكر اسمها، يرتجون رحمتها ونصائحها،وأخذوا يسمونها العرافة المقدسة، وأخيرا استقر في نفوسهم أنها فعلاً تتلقى وحيا إلهيا، وما العجب أن يكون العاشق المفجوع نبيا؟ هكذا سمعتهم في صباي يقولون! فتصور يا عم ولفريد كيف انقلبوا في نظرتهم إليها! كيف لا يخاف الناس وشيوخ العشائر منها، ألقوا بنادقهم على الأرض، واحنوا رؤوسهم لها، وراحوا يسعون للتفاوض معها يرجونها أن ترحمهم من عينها الواحدة،ومن ذهنها المتوقد بالنحس والبشائر المخيفة، حتى ما كانت تعدهم به من خير صار يقلقهم أن لا يتحقق، أو يزول بسرعة، كل هذا مقابل أن يتنازلوا لها عن الدماء التي سالت منهم معتبرين أن الأمر كان قدرا عليها، وعليهم. فهي ما قتلت إلا انتقاما لرجل أحبته، بل هم عرضوا عليها أن يتوجوها شيخة أو أميرة عليهم لكنها قالت لرسلهم: لا أريد أن أكون أميرة أو ملكة، أنا الآن عرافة، دعوني أتنبا بمصائركم أو أخمن نواياكم أو أعرف حقيقتكم، تلك أعظم هبة منحتها لي السماء، تعبت من القتال والحرب، أريد أن أستريح وحتى الموت اتركوني وحدي أعيش بسلام مع ذكريات من أحبني وأحببته! أعطوها الأمان، لكنهم ظلوا يتهيبون لقاءها، يرسلون وسطاءهم إليها حاملين هداياهم فتردها لهم،دون أن تبخل عليهم بتنبؤاتها ومشورتها، يقولون إن عينها الوحيدة تزداد حدة كلما تقدمت بالعمر، قد لا ترى ما حولها لكنها ترى البعيد البعيد، وراء الأفق، فتخرق الغيب وتعرف مصائر الناس. مات أبوها وأخوتها ولم تحضر جنازاتهم ، وخيم الحزن على الجميع أمدا طويلا، والحزن يا عم ولفريد هنا في البر وعلى الماء ثقيل رهيب كأنه ظلام ما قبل الحياة!

( توجس قلبي مرة أخرى أن مكية هي بنت المعيدي ولكن بقوام وطبيعة أخرى أيضا) هذه الحكاية جعلتني أنسى إنني أطوف على مشحوف فوق الماء وأتصورني كائنا مسحورا بين الأشباح والطواطم والسحرة القدماء ، ماذا يجري هنا في هذه الأهوار مفتوحة أو معزولة غافلة لها براءة الماء، وصمت السماء؟ شبحها وسطوتها؟ كنت يقظا منتشيا في آن واحد، ما رواه ياسين ، سمعه من أبيه أو جده ومن كبار أهل الهور،مكية قدمت من البادية القريبة ،روح هائمة جارحة في هذه المجاهل، ستقولين يا عزيزتي أجاثا! "مأساة عاشها غيرها في أماكن أخرى" نعم ولكنها هنا لها نكهة أخرى! لها رائحة البردي وزنابق الماء وعشبه العطري. سار بنا المشحوف فترة صامتين، .وصلنا الطوف القصبي الذي يحمل بيتها الصغير كأنه عش نسر فوق برج عال لمعبد مجهول هكذا خيل إلي!وجدناها جالسة أمام صريفتها. لوح لها ياسين وأخذت ألوح معه،وهي تنظر إلينا ساهمة جامدة! كانت الشمس قد صعدت عاليا مقتربة بنا من الظهيرة، ناعمة دافئة منعشة في ربيع سخي في صفوه وعبيره، والماء عاد ساكنا إلا من تقافز اسماك صغيرة، ونقيق ضفادع تتقافز على الطين. سرب طيور تنتظم في تشكيل غريب على الماء يمر غير مكترث بنا. أوقف ياسين المشحوف عند منحدر كوخها، نهضت واقتربت سمعت صوتها، حزينا خافتاً ترحب بنا! تجاوزت الثمانين، وجه اسمر صغير دقيق الملامح ملأته التجاعيد وثمة وشم أخضر باهت ينحدر من جبهتها ويمر بين الحاجبين لينزل إلى صدرها، لكنها بدت لي جميلة رغم أنها بعين واحدة. حقا يا أجاثا،المرأة هي الكائن الوحيد في الكون، تظل جميلة حتى لو كانت بعين واحدة! ومهما كانت ملامحها وسنها! (المرأة يا عزيزتي أجاثا وليست مجاملة لك، جميلة فقط لكونها امرأة!فكيف إذا كانت كاتبة؟) أما إذا كانت محبة عاشقة فجمالها الكاسح لا تنال منه عواصف الدنيا كلها! بيدها سبحة طويلة تسقط حباتها وتتمتم، أصرت أن تدخلنا كوخها، وتجلسني على كومة فرش رثة غير مبسوطة، متراكمة فوق بعضها، بدت لي كأنها كرسي الاعتراف، رغم إنني كما يفترض لا حاجة لأن أعترف لعرافة! جلبت لنا طاسة كبيرة من اللبن، قائلة: جلبوه أحفاد أخي قبل قليل!سرني أنها غير مهجورة من عائلتها، وثمة من يرعاها! قال لها ياسين نريدك أن تري طالع عمنا الإنجليزي! خشيت أن يقول " إنه مخبول مثلك"، نظرت إليّ تتأملني صامتة مبتسمة كاشفة عن فم بلا أسنان، كانت الزاوية معتمة لولا بصيص ضوء يتسرب من شقوق وفجوات في جوانب الكوخ القصبي، ربما هو استمرار للطقس القديم الذي كانت تمارسه الكاهنة السومرية في زاوية من المعبد، كنت أستطيع أن أرى وجهها وقد بدأ يعبس ويغيم وراء صمت تأملي مفاجئ، لاحت لي أنها تتواصل مع قوة أو كائنات غائبة بعيدة وجاء صوتها بلغة واضحة سليمة؛مهيبا في ارتجافه وخشوعه :

ـ إيه يا بني ، أنت جبت الدنيا شرقا وغربا، عشت أهوالا، وسوف تعيش أهوالا، أنت جئت هنا تبحث عن شيء ما لن تجده هنا ، ولا في أي مكان آخر، راح تجوب العالم تبحث عنه ولا تجده، لأنك لا تعرف ما هو، ومن لا يعرف ما يريد، يظل يدور حول العالم، وهو يدور حول نفسه فقط! راح تعيش عمرا طويلا، تضرب بإيدك باب المية سنة وما ينفتح!

صمتت فجأة، تساءلت مع نفسي هل سمعت أو عرفت بشكل ما إنني أبحث عن بنت من هذه الأرض؟ لا أعتقد ذلك، فهي منعزلة عن الجميع كما قال ياسين ، أردت أن أسألها عنها، تحرجت، بل خفت أن تنكر وجودها أيضا، وتطفئ حلمي، لكنني سألتها :

ـــ ما هو هذا الشيء الذي لا أعرفه ، أهو امرأة؟

ـــ أنت لم تخلق لامرأة، ولم تخلق امرأة لك!

لم أحر كلاما ، أخذني ذهول، فوجئت أن ياسين، وقد أدرك ما يجول بخاطري يسألها:

ـ هل تعرفين يا مكية بنت المعيدي؟

رفعت رأسها ساهمة العينين، أطلقت ضحكة قصيرة جافة :

ـ وكيف لا أعرفها؟ هي أنا، وكل بنات العرب المهجورات المعذبات!

مرة أخرى تدفعني هذه العجوز إلى ضياع آخر! أربكتني وشغلتني بما قالته عن وضعي الحالي ومصيري. انكمشت مكية بهدوء، وراحت في شرود ووهن واضحين. نهضنا أنا وياسين ، تناولت يدها الجافة ناتئة العروق رأيت على ظاهرها وشما لعين كبيرة، قبلتها، واستللت من محفظتي دينارا، وهو مبلغ يعد كبيرا هنا، وقدمته لها، ضحكت، قالت:

ـ أنا لا أخذ مالا من أحد، عندي مال يكفيني ، أخذت حصتي من ميراث والدي أغنام وأرض، خل المال معك ينفعك فأنت تعيش في الغربة!

خرجنا ، وأنا أشد ذهولا، كيف الهور يقدم لي كل يوم شيئا غريبا! طيلة طريقنا الطويل أفكر في ما قالته" أنت لم تخلق لامرأة، ولم تخلق لك امرأة" أهي مجرد نبوءة لعرافة كبيرة؟ أم هي حقيقة؟ ألم يكن هذا هو إحساسي قبل أن تقلب فاطمة وجهتي من الصحراء إلى الماء، لكنني قررت أن أنسى ما قالته،ألقيت نفسي على فراشي في الصريفة ورحت في نوم عميق!

 

مرة أرى ثيسجر خائنا، ومرة أراه بريئا، أتعس انصياع للمحنة، أن نفقد قدرتنا على الحكم بصواب!

أتى لي عمارة برجل مسن، تجاوز الثمانين، يمشي بخطى واهنة، من الغريب إنني لمحت على وجهه ملامح العاشقين رغم شيخوخته، قال عمارة مبتسما، هذا الرجل كان زوج بنت المعيدي، وما زال يبكي عليها كل يوم، كان مفاجأة كبيرة لي، جلست قبالته، قال:

ــــ لا تصدق كل الحكايات التي يتداولها الناس عن بنت المعيدي، فهي لم يعشقها ضابط إنجليزي، ولا تركي ولا ألماني، لم يعشقها أحد سواي، ولم تحب هي أحدا غيري، لم يخطفها أحد سوى الموت،أحببتها وأحبتني منذ الطفولة، فهي ابنة عمي، أصيبت بالسل وهي شابة فاتنة الجمال، أخذتها إلى البصرة للعلاج، فأعيت الأطباء، أحدهم فتن بجمالها، هو طبيب أجنبي، لا أعرف من أية بلاد، ولا من أي دين أو ملة، لكنني اطمأننت له. كنت أراه ينظر إليها وثمة دموع في عينيه، طلب مني أن أسمح له ليرسمها بنفسه. لم يقل لي أنه يئس من علاجها، لكنني أيقنت بذلك من إصراره على رسمها، والحصول على صورتها! عجز عن إنقاذ جسدها فأراد إنقاذ روحها مخلدة في صورة وجهها الجميل! صورة من قماش أو ورق ،بديلا عنها، أو تذكارا منها! ،وإذ شعرت إنني سأفقدها،وسحقني الحزن، وافقت أن يرسمها. صار يجلس قبالتها في حجرة المستشفى لساعات معه عدة الرسم وبيده الفرشاة؛ تتحرك بقوة وسرعة وعيناه لا تفارقان وجهها الغارق بشحوب السل، في الصورة صارت معافاة متوردة الوجه!

ـــ هل أعطاك الصورة ؟

هز رأسه نافيا:

ــــ انتهى من رسم صورتها قبل موتها بثلاثة أيام! أوصتني أن أغرق جثمانها في مياه الهور لتبقى مع الطيور والأسماك والقصب!

بقيت صافنا، أحدق في وجهه، لا أريد أن أصدقه، لا أريد تصور فاطمة قد توارت تحت مياه الأهوار. لذلك حين جاءني ياسين بعد أيام بخبر يقول أن هذا الرجل مجنون يحظى بفترات صحو ثم لا يلبث أن يعود لجنونه،صدقت على الفور.أضاف ياسين إنه في الحقيقة شقيق زوج بنت المعيدي، الذي بعد أن انتزعها الإنجليزي منه؛ انتحر! وهو الذي أوصى أن يغرق جثمانه في مياه الهور، وفي الموضع الذي كان يلتقيان فيه أيام شبابهما! عالم غريب حقا؛ صار يتعبني في ملاحقة تفاصيله ويزجني في متاهات لا أخرج من واحدة منها، حتى أدخل أخرى! سرعان ما أفيق منها لأعود إلى حلمي أن فاطمة حية وما تزال شابة يانعة وأنها تنتظرني، وسألقاها هنا ذات يوم! كيف أحدثك يا عزيزتي أجاثا عن رحلتي بحثا عنها، وعن حقيقتها، ومعاناتي من أجلها، وكيف يبدو لي من غير الممكن الوصول إليها إلا أذا وقعت معجزة ، وأين أنا من المعجزات؟ قلت لك إنني خضت هذه المغامرة كأنني غائب عن نفسي، منوم تحت تأثير سحر غامض لا أعرف كنهه. أهو الشرق كله، أم نظرتي أنا إليه؟ كلهم يقولون أن فتاة أحلامي سبقني إليها انجليزي من أبناء جلدتي! لماذا قدرنا أن نبحث عن أحلامنا هنا وتحت الشمس الساطعة ولا نجدها، وغيرنا يبحث في الظلام ويجد ضالته؟ كنت أتذكر إنك وجدت حلمك على هذه الأرض المشرقة فوجدته،بزواجك السعيد من ماكس، أنا حبيبتي من أهل هذه البلاد، ومع ذلك لا أريد أن أفقد الأمل، من يبحث عن الحب سيجده، حتى إذا لم يجده، يكون قد وجده في البحث الجميل، هكذا كل نضال صحيح! مضى ماكس يلتهم السطور بقلبه قبل عينيه، كان قد هيمن عليه هاجس أن ثيسجر يحاول أغراء أجاثا لرفقته في رحلاته، وإيقاعها في حبائله، لكنه حين وجده يقول لأجاثا إنها وجدت حلمها بزواجها السعيد منه أخذ يغير رأيه " كنت قاربت الصواب حين قلت لا يمكن ليثيسجر أن يكون أبله خائنا فيعشق أجاثا المخلصة لحبنا وبيتها الزوجي، أو يتصور أجاثا صبية مراهقة غبية دون تجربة ولا خبرة ولا ذكاء لتطاوعه! وقد صح توقعي ، كيف شط بي خيالي لأشك بأجاثا المخلصة الحكيمة؟ أجاثا تعرف أكثر مني خبايا النفس البشرية، وما يعتمل في أعماقها من نزوات واندفاعات، ولا يمكن أن تفسر كلماته إلا بما تحمل من معاني حقا وتعد ذلك في صلب انشغالاتها بإبداعها وضروراته الكثيرة الثقيلة والملحة! ربما هو بريء وصادق وفي تواصل جاد معها محاولاً إعطاءها موضوع رواية هامة، يراها أعمق وأجدى واهم من الروايات البوليسية التي اعتادت كتابتها، اختفت أجاثا فظهرت أشياء كثيرة عند أجاثا وعندي وعند أصدقائنا! ثيسجر ينقب في الماء ،وأنا أنقب في التراب، كلانا يجد أشياء غريبة، هل ما نفعله نحن الإنجليز في هذه البلاد شيء حسن؟ هل سيرضى عنه الناس هنا؟ كلمات الراهب بهنام ما تزال تلاحقني؟ حانت منه نظرة إلى الصورة الفوتوغرافية، فأشاح عنها متوجسا لكن ماكس المضطرب المشوش يعود ليقول هامسا لنفسه: ماذا يعتقد نفسه هذا المجنون؟ إنه يحاول أن يحفر بأصابعه الرخوة صخرة صلدة! أيريد أن يبني سعادته على حطامي؟أم تراني مخطئ؟ أنا في مزاج لا أستطيع معه التخلص من شكوكي وترددي في الحكم على الأشياء.أتعس ما تصيبنا به المحنة أنها تفقدنا صوابنا وقدرتنا على الحكم والقرار! هذه الرسالة رغم تشعباتها أشبه بجرعة مخدر لي. كم أتمنى أن تعود أجاثا وتلبي رغبته وتكتب روايته ، إذ تأكد صدقه، فهو عاشق كبير جميل، كلانا يبحث عن حبيبته، هو يبحث عنها في الأدغال ، وأنا أبحث عنها في مدينة مكتظة بالبيوت والسحر والغموض، أجاثا كانت حقيقة كبرى ثم اختفت، وفاطمة هي الآن وهم، وقد تصير حقيقة! هل سيلقى ثيسجر حبيبته في نفس اللحظة التي ألقى فيها أجاثا؟ كم سيكون ذلك مدهشا وعظيما! وخالد، لماذا لم يأتني بشيء؟ أعطيه العذر، هو لا يقرأ الأوراق فقط بل يفكر ويحلل ويستنتج ويناقش زملاءه ورؤسائه، ولا بد أن يأتي. أنه شاب طيب يحبنا، لم أكن أتصور أن صبيا في مدينة نائية استلطفناه وتراسلنا معه بود فترة قصيرة ثم انقطعنا يظل يكن لنا كل هذا الحب! يا لهذه الساعات القاسية المريرة كم أنهكت أعصابي،يجلس ساعة ،تهدأ أنفاسه صار يجد متعة وسلوى في ما يقرأ: في يوم كنا قد وصلنا أنا والنوتي ياسين إلى الناصرية متأخرين ليلا ،فرسونا بمشحوفنا قريبا من بيت أحد المزارعين، استضافنا في بيته حيث قدم لنا العشاء في حجرة الضيوف الكبيرة، ثم اقتادنا أنا وياسين إلى حجرة للنوم، وعندما أخذ الخادم ينزل لنا الفراش من محمل خشبي كبير مزوق، طالعتني فجأة وكما الحلم صورة فاطمة ملصقة على واجهة المحمل الذي نضدت عليه الفرش،سرني النوم قريبا منها، في الصباح سألت الرجل: هل تعرف شيئا عن بنت المعيدي؟ ضحك واختفى ثم عاد تتبعه عجوز قال إنها والدته وهي تعرفها دهشت،وتصاعد الأمل، تحدثت العجوز:

ـ وكيف لا نعرفها ؟ كانت صديقتي، كنا معا نلعب قدام بيوتنا، ونتزاور، اختطفها ضابط تركي بعد أن رفض والدها المزارع أن يزوجها له، أخذها إلى إسطنبول ومن هناك جاءت الصورة لوالديها الذين فقدا بصرهما، بكاء وحزنا عليها، فصرنا نحن نصف صورتها لهما ويبكيان!

هذه المرة ضابط عثماني! وهل انتهينا من الضابط الإنجليزي؟ بقدر ما أدهشتني رواية العجوز وأنعشت آمالي، أصابتني بالحزن والإحباط، هي إذن بعمر هذه العجوز التي قاربت التسعين، هل من المعقول إنني كنت ابحث عن عجوز عمرها تسعون عاما، حبيبة لي ؟ كم هي ضلالات الحب قاسية وأليمة؟ تذكرت ما حدثني به سليم البكري أن أحد المثقفين حلل حكاية فاطمة ليقول إنها عشتار ، أجمل جميلات وادي الرافدين التي فارقت بيتها الأرضي وهاجرت إلى السماء بحثا عن حبيبها تموز الذي هو شقيقها وزوجها أيضا! فصارت كوكب الزهرة،بذلك جعل عمر حبيبتي آلاف السنين، وأبعدها عني مسافة ملايين السنين الضوئية!هذا هو الزمن يبعد عنا دائما من نحبه، يبتلعه في أعماقه أو يضعه كوكبا في السماء! فلا نجد من أحبتنا سوى الظلال! إلى متى تتكاثر حكايات فاطمة ، حكاية تأخذني وأخرى تأتي بي؟ واحدة تصعد بي إلى السماء، أخرى تلقيني على الأرض، هل الحب يقتضي كل هذه الرحلة الطويلة المضنية؟ أي عذاب واشتياق ورحيل أزلي؟ ذهاب وإياب في العشق لابد منه!

 

وماذا يجدي كل ما حصلت عليه هنا؟ إذا كنت قد فقدت أعز ما لدي هناك؟

رغم استمتاع ماكس بما يأتي به ثيسجر من حكايات، واستبعاد احتمال أن يكون هو وراء اختفاء أجاثا، لكنه ظل متوترا قلقا ، صار يفكر بخالد،لماذا لم يأته لحد الآن، لماذا لم يعطه رسالة ثيسجر؟ هو يستطيع أن يدرسها بهدوء وتأن ودون انفعال مسبق. هل هو مجرد تأخير أم تخل عن القضية، وقد وجدها مستحيلة أو صعبة جدا؟ صمت بغداد الكبيرة ورجالها؛ يكاد يبتلعه كما ابتلع أجاثا! كان خالد على الضفة الثانية من النهر، منكبا على أوراق ورسائل أجاثا يقرأ ويعيد القراءة ويتأمل،عازما في نفسه، سأبذل أي جهد مهما كان شاقا ،حتى لو اقتضى الأمر أن اشق إليها نفقا سريا تحت الأرض! وكلمات أجاثا تتلاحق أمامه تقربه وتبعده عنها دون أن يفقد الأمل في الوصول إليها : كانت هناك في البيت مفاجأة أليمة تنتظرني! حسنا فعلت كاترين، لم تبلغني بالخبر السيئ في الليل، ما كنت طبعا سأستطيع النوم رغم تعبي الشديد من الرحلة الطويلة إلى نفر، ووقوفنا على الطقوس الدموية! ما كنا نستطيع السفر إلى بغداد في ليلة مظلمة. صباحا بعد تناولنا الفطور؛ قالت كاترين أن السفارة البريطانية في بغداد أبلغت لومبارد ببرقية أن ابنتي روزلاند مريضة في لندن، وفي حالة حرجة، ويطلبون حضوري! كانت صدمة قاسية، جلست في حجرتي وحدي صامتة، أخذت ألوم نفسي، لماذا تركتها وجئت إلى هنا؟ ما هذه القلق والتشرد الروحي الذي أعيشه؟ كان وجه ماكس يطل علي فأحس بالطمأنينة قليلا، لكنني أسأل نفسي؛ أما كان يمكن أن ألقاه في لندن دون فراق ابنتي؟ امرأة إنجليزية لا تلتقي حبيبها الإنجليزي إلا في هذه الأرض البعيدة! يبدو إن الأمر ما كان ليحدث إلا هكذا، جئت إلى هنا وحدث ما حدث ، وماذا يفيد اللوم؟ ورحت أبتهل إلى السماء من أجل شفاء ابنتي. هي ستشفى بدعائي لها من محراب الشرق القريب للعرش الإلهي دائما، هكذا فكرت في هلعي! جئت حاجّة إلى إبراهيم الخليل، ثم صرت عاشقة، وما المانع أن أكون حاجّة وعاشقة بنفس الوقت؟ أنا المسكينة الحزينة القادمة بحثا عن القداسة والحب معا، وقد وجدتهما هنا ، هل هذا كثير عليَّ؟ لم أعد مهجورة كما كنت؛ فهنا معي الله، وإبراهيم الخليل، وحبيبي ماكس! كيف لا أستطيع الوقوف بجانب ابنتي حتى تشفى؟ سأراها، سأراها حتما، وإذا كان الله يريد أن يبتليني كما يبتلي محبيه عادة،فأنا راضية بحكمه. ربي دعني أراها مرة أخيرة قبل افتراقنا الأبدي، ربي اشفي ابنتي الصغيرة الجميلة التي حرمت حنان الأب وهي في لفائفها، ولا تحرمها حنان الأم حين أخذت تتفتح، رحت أدعو وأصلي ولا اشعر بدموعي تسيل غزيرة، قررت حين ألقاها؛ أضمها إلى صدري وأكون لها الأم والأب ولن أفارقها أبداً، جاءت كاترين وأخرجتني من الحجرة.مهونة عليّ. ذهبنا إلى ماكس في بيته، وعرف بالخبر، نهض من المائدة ولم يكمل فطوره،أرسل في طلب حسين قائلا: يجب أن نسافر الآن! أصر على مرافقتي إلى بغداد.قال أنا مستعد أن أذهب معك إلى لندن! شكرته، موافقة أن يذهب معي إلى بغداد! شعرت بحاجتي الشديدة إليه، معه أستطيع مواجهة محنتي. ثم ما هو محزن وقع لابنتي، ولا يريدون أن يعلموني به دفعة واحدة، هكذا مضت ظنوني ومخاوفي! أخذ حسين يطمئنني على طريقة العراقيين، في التهوين من الأمور، "ساعات قليلة وتكونين في بغداد،ومن هناك سيكون الطريق سهلا وآمنا! وستجدين ابنتك قد شفيت قبل وصولك!" زوجته تحمل طفلا على صدرها رفعت رأسها إلى السماء، وراحت تدعوا لها مغرورقة العينين، شعرت بالراحة لوجود هؤلاء الطيبين من حولي! عندما تركنا الناصرية وراءنا، التفت ماكس إلى:

ـ ما رأيك أن نطلب من حسين عند مرورنا بالحلة،التوقف بنا ساعة لا أكثر في الحلة، أريك أطلال جنائن بابل المعلقة؟ قلت له دعني أفكر! كنت أعرف أن ماكس بأحاديثه التاريخية التي لا يمل منها؛ يريد صرف ذهني عن التفكير بابنتي ووضعها المجهول لي، لكنني كنت قلقة جدا، والوضع لا يحتمل أي تأخير، رغم أن مواعيد الرحلات وانطلاق القطار إلى أوربا، قد يضيع علي ساعات وربما أياما. ولكن لا ينبغي أن يكون ثمة تأخير من جانبي،فابنتي الآن بأمس الحاجة لأن أصلها ولو لساعة واحدة قبلاً. عدت ألوم نفس على فراقها، وأقر بأنانيتي. تركتها من أجل نزوة مهما كانت سامية؛ فهي لا تخلو من طيش ورعونة! وأعود للأمل والتفاؤل، ابنتي ستتعافى، حتما، وأنا وماكس قد حسمنا أمرنا حبيبين وشدت قلبينا اشراقة نور كبرى! كل شيء طيب، كل شيء على ما يرام، لم القلق والحزن؟ قطع ماكس حيرتي حول بابل، أمسك بيدي:

ــ غيرت رأيي، فجنائن بابل هي في خيالك خضراء مزهرة تتدفق من درجاتها العليا شلالات الماء، والعطور. لا أريدك ترينها الآن كومة حجارة وتراب، والطريق الملكي الطويل المحاط بالتماثيل والرسوم المدهشة الملونة، سترينه خرائب مهدمة، أستاذ التنقيب قال لي وأنا طالب: "ليس المهم ن نعرف من بنى بابل، المهم أن نعرف من هدم بابل، وظل يلاحقها كلما نهضت هدمها" أخيرا سرق منقبون أجانب الكثير من تماثيل ورسومات شارع الموكب العظيم انعطف حسين بنا في سيارته وهو يقول ضاحكا، يريد تبديد جو الوجوم الذي لازمني:

ـ سأدعوكم على حسابي لأكلة سمك مشوي،مسكوف، فأهل الحلة يجيدونه!

نزلنا إلى مقهى على ضفة النهر، مقاعده جميلة منسقة مصنوعة من جريد النخيل، عليها بسط بدوية صوفية ملونة! وقف بنا حسين عند حوض تسبح فيه أسماك الشبوط والبني، اخترنا منها ثلاث سمكات مكتنزات، وضعوا السمك مسنودا بأعواد صلبة أمام شعلة الجمر الكبير المتوهجة، جلسنا على مقعد طويل يطل على شط الحلة يجري أمامنا رائقا! بدا ماكس مترددا، فهو يريد أن يحدثني ليسري عني، بنفس الوقت لا يريد أن يتحدث بأمور تبدو غريبة عما أنا فيه،اكتفى بالقول:

ـ بابل هي (باب إيل) تعني في السومرية ، (باب الإله )، وهي فعلا كانت محطة نزول الآلهة إلى الأرض، ومنها تفرقوا إلى شتى أصقاع الدنيا، كل له إله، ولكل إله ثلة من البشر!

كانت رحلتنا إلى بغداد مريحة رغم الهموم، خفف من ثقلها عليّ، حرص ماكس وحسين على إحاطتي باهتمامهما . نزلنا في فندق ميخائيل زيا في شارع الرشيد، كان ميخائيل بشوشا طيبا، يعامل نزلائه وكأنهم ضيوف في بيته، وقد خصنا برعاية لطيفة يقظة: كعاشقين في بلاد الغربة! هو يعرف ماكس منذ فترة، بينهما صداقة ومودة. وضع ابنتي كان يشغلني ويبدد فرحي برفقة ماكس، لم أستطع أن استغني عن لقاء عائشة. جاءتني إلى الفندق، قلقت معي، ثم راحت تهدئني "ربما هو مجرد نزلة برد، دلال واشتياق بنت لأمها، هي قد تعافت الآن"، وعزت الصمت حولها لصعوبة الاتصالات"لو أردت أنا مستعدة لمرافقتك إلى لندن" شكرتها ودعوتها أن تهتم بأمها، ضحكنا، هنا الأم تحتاج ابنتها، وهناك البنت تحتاج أمها، لعبة الدنيا،حدثتها عن حبي لماكس، فرحت كثيرا، أصرت أن تدعونا إلى بيتها لكنني اعتذرت ببحثي عن فرصة قريبة للسفر، جمعتهما معا على مائدة شاي في الفندق، قالت أنت محظوظة به فهو مع الدكتور لومبارد يتمتعان هنا بسمعة رائعة. حدثتها عن جولاتنا في أور ونفر وكربلاء.أعادوا في السفارة التأكيد أن ابنتي مريضة وإن علي أن أحضر على الفور،مرة أخرى انتابني قلق شديد، لم استطع النوم، انتاب ماكس أرق معي، كنا ننتظر الصباح لأعود إلى لندن،ودعني في محطة الباصات الكبيرة،أوصى بي سائق شركة نيرن. كنت غائبة عن نفسي وأنا أودعه،أخشى أن يكون قد وقع الأسوأ لروزلند!

 

حبيبتك في قبضة أرواح منحدرة من حضارات قديمة، في جزيرة تجذب بمغناطيسها مسامير السفن التي تقصدها؛ فتتخلع وتتلاقفها الأمواج!

كان عمارة وياسين يدهشاني بذكائهما، كنت أقول دائما لو كانت قد توفرت لهما مدرسة، لكانا من المتفوقين،ولم أكن بحاجة لسؤالهما عن سبب عدم التحاقهما بالمدرسة فالسبب واضح ؛ الفقر والجهل المتمسك بنفسه، والمدرسة بعيدة في الجانب الآخر من الشاطئ! أصوات الهور تأخذني من جسدي، ومن الأرض لتلقيني في فضاء شاسع متوهج بالنور والعطر،أحس بجهات الدنيا كلها قريبة مني. صباحا تهب الطيور بأغاريدها والبط، بصيحاته ورفيف أجنحته، يسقط النعاس عن ريشة الملون، قفزات السمك تتوالى على الماء،أصوات السمك كأصوات البشر فيها الكثير من الوهم والغموض، من قال إن السمك لا يتكلم أو يغني؟ كأنه يؤدي لحنه الجنائزي مناديا صياديه؛ ليأخذوه إلى النار! خوار الجواميس، ونداءات النساء حولها، هياج الأطفال ناهضين من النوم، ينثرون أحلامهم بكاءً أو كلمات، عند الضحى وارتفاع قرص الشمس في سماء زرقاء صافية، تتردد أصوات المجاذيف وهتاف النساء والرجال، العمل العمل، أي كسل أو ركون لراحة أكثر مما يجب، يعني الجوع والموت. عصرا تنطلق أصوات الشبان بالغناء الجميل،الحزين دائما، نداءات عشق غير متحققة، أحسها كما لدي، كأنهم يغنون لي معهم أيضا، أنا الغريب بينهم لي حصة في غنائهم! للشيوخ نبرات غناء حزينة آسرة، وداع العمر وتشييع الأماني المقهورة،والاعتراف بالعجز بعد طول مكابرة. غناء شجي يجرح القلب؛ يمتد مع جريان الماء من بداية الغروب حتى منتصف المساء؛ الهور كله يغني، الماء والقصب والطير والظلام، غناء وأنغام لا حصر لتنوعها، القصب والضفادع وحتى البعوض، يغني مع أصوات هؤلاء الشبان العاشقين الحزانى، لم أسمع أصواتا أجمل من أصوات هؤلاء الشبان المحلقين بين الماء والهواء. موسيقى تتصاعد من ماء الهور مع عطر العشب وتراقص ريش الطيور المتعانقة في لحظات عشق أو فراق، كلما أصغيت لقلب الهور؛ أجد إنني قد التقيت فاطمة في هذا الجسد الكوني النادر المنعزل بعيدا عن صخب العالم ولهاثه، فلا أجد إن علي أن أندم أو أرى خطأ في قراري بالمجيء إلى هنا! في هكذا جو تنتعش الأسطورة وتنمو مع جذور القصب، المتجدد دائما، تحدث معي ياسين، قائلا: أنه وعمارة سمعا من كثيرين من أهل الهور، أن بنت المعيدي تعيش أسيرة في جزيرة غامضة غريبة في الهور تدعى الحفيظ،. يقولون أن الجزيرة مسكونة من أرواح منحدرة من السومريين والبابليين جاءوها بعد انهيار مدنهم ومعابدهم وأبراجهم السماوية، وانخساف عالمهم السفلي وفرار أرواح الموتى منه! يخاف الكثيرون أن يقتربوا منها، تحتها جبل من المغناطيس ، يجذب مسامير السفن التي تقصدها فتتخلع وتتلقفها الأمواج! فيجيء حرس ورجال الجان من الجزيرة ويلقوا القبض على الوافدين المتطفلين، يسلخون جلودهم ويشونهم على نار هادئة ويأكلونهم! قال حين سمع شعب هذه الجزيرة بجمال بنت المعيدي أرادوها أن تكون زوجة لمليكهم السومري الذي يدعونه الآن بملك الجان،فتصير ملكة عليهم، خاصة وإن الملك فقد زوجتيه قبل عامين حين استدعيتا إلى البرج السماوي. قامت جماعة من أشباحهم باختطاف بنت المعيدي، وقدموها للملك فانبهر بها وبنى لها قصرا من نحاس يتوهج كل ليلة فيضيء أطراف الهور! قال ياسين ، وكان يثق بقوتي،بل ويعتقد أن لدي قدرات خارقة:

ـ ما رأيك يا عم ثيسجر؟ أنت إنجليزي وتملك خبرة وسلاحا يفل سحر القدماء،إذا أردت نجن معك، نقصد معا الجزيرة، تدخل قصر الملك السومري القديم، وتخلص بنت المعيدي من قبضته. بالتأكيد، هي ستكون شاكرة لك أنك خلصتها من ملك الجان السومري الوحش هذا وسترد لك الجميل بان تكون زوجتك وحبيبتك مخلصة لك مدى العمر!

أيده عمارة، قائلا أنا مستعد للمغامرة من أجلك يا عم ولفريد حتى لو أردت أن نهبط العالم السفلي! ضحكت، إذا كانت حبيبتي بنت المعيدي هي الآن في أحضان ملك الجان السومري، فإن ذلك يعني اليأس بعينه، وإن علي أن أنساها تماما، وكفاني أن هذا الحب قد وصل درجة المستحيل! قلت:

ـ لا أريد أن أعرضكما لرحلة محفوفة بالمخاطر، ولا تؤدي إلى نتيجة!

كنت مذ قررت العيش في عالم الشرق المليء بالسحر والخيال والأوهام أن لا أدخل على أرضة معركة أو صراعا يدخل فيه السحرة والشياطين والملائكة طرفا، ولا يتورعون عن غرس سيوفهم في قلوبنا، وتطبيق ألاعيبهم علينا نحن البشر الضعفاء!

ولم أستغرب هكذا حكايات عنها، وكما قال لي سليم البكري، " بقدر ما هي حلم،هي في الوقت نفسه دلالة، ومنظومة إشارات على ماض وحاضر ومستقبل" الآن أكتشف أنها خارطة أعماقي، فمن خلالها عرفت نفسي أيضاً! وعرفت أن الحب كل حب في الدنيا تحيطه كل هذه الألاعيب والأخطار لكنها تختفي عادة خلف كأس نبيذ في بار فخم أو وضيع، رقصة حالمة، حكايات الأصدقاء والجيران، ثم موسيقى ناعمة! تعالي يا عزيزتي أجاثا لجولة جديدة في الأهوار، لتري أعماقها، ما تحت الماء وما خلف أدغالها وأفقها البعيد، السحر الذي يحيل ورقة البردي إلى جناح طائرة، وأصوات الجواميس والكلاب إلى حوارات بين النجوم والأقمار!

كان ماكس يقرأ الرسالة وهو مستلق على ظهره. أطلق زفرة، أنظر كيف هذا اللعين يغازلها؟ وجد ماكس نفسه يتقبل أن تكون أجاثا رافقت ولفريد في رحلة إلى عرب الأهوار لدراسة حياتهم أو لكتابة رواية عنهم ، "أحبها إلى حد أتقبل زواجها من آخر وسعادتها معه ، فقط أن لا تموت أو تتعرض لأذى!" قال لنفسه كما الهذيان؛ "هكذا حب تعلمته من الموت، كنت أراه يطل عليَّ بعظامه وتكشيرته المروعة في آلاف القبور التي فتحتها!هل أصحابي وأصدقائي في أوربا وصلوا إلى هذه القناعة أم لا زالوا لا يحبون إلا لحظة وجودهم مع الشريك في الفراش؟" مضى يقرأ، يلتهم كلماتها كأنه يقرأ كتاباً لا علاقة له بمؤلفه، لم يره، ولم يسمع عنه شيئا! الآن وهو في هذه المحنة يحتاج لحكاية تشده وتنقله لعالم آخر، ينسى تقلباته في مشاعره إزاء ثيسجر مثل طفل تماما! امتدت يده بحركة لا شعورية إلى صورة ثيسجر، وسحبها كأنها وخزته!

 

هل يمكن لقصة حب أن تمر دون أن تمر بقصة البلد كلها، والأمريكان دائما على الأبواب!

جئت إلى بغداد،لأسافر منها إلى لندن، أريد أن ألتقي بعضا من الأقارب والأصدقاء هناك، وأتزود بأدوية وأدوات أفضل للختان، ومستلزمات طبية أخرى فقد حولني سكان الهور إلى طبيب لهم. أحيانا الناس يصنعون الطبيب، ويهجرون طبيبا صنعته الجامعة! يجب أن أكون حذرا، خطأ بسيط مني قد يجعلني أموت مع المريض أو قبله، فهنا يعدون الطبيب ودواءه سبب الموت، لا المرض! كنت في لهفة للقاء سليم البكري، علني أجد لديه شيئا جديداً عن محبوبتي التي صار يفرحني أن أسمع أن بعض المثقفين هنا يسمونها موناليزا العراق! تواعدنا للقاء في مقهانا قرب سوق الصفافير، حين أخترقه أسمع الناس يتحدثون بالصراخ في وجوه بعضهم لكي يسمعوا بعضهم بعضا، وسط ضجيج،وأصوات الطرق المتصاعد من دكاكين النحاسين، وهم يدقون صفائحهم المعدنية لكي يخرجوا منها مناسف الرز الكبيرة، ودلال القهوة، وصواني الشاي الجميلة! لكن المقهى الذي نجلس فيه رغم قربه من هذا السوق هادئ بعض الشيء. خطر لي قبل لقائه أن أزور كولن في مقره في السفارة البريطانية،علني احصل منه على خبر أو معلومة يسر بها سليم. كنت أعرف إن كولن كعادته سيضحك من تعلقي بفاطمة، وسيسألني ممازحا: "هل ما زلت عاشقا لبائعة اللبن أيها الرحالة العظيم ثيسجر؟ صرت أستثقل مداعباته وممازحته السمجة هذه، لكن لي معه ذكريات في لندن مذ كنا في مدرسة واحدة وبين عائلتينا صلات قديمة، ثم إنني أحتاجه هنا. أعرف أنه يحبني ويرعاني من بعيد ،مع ذلك كان يؤلمني إنه لم يفهم سر هذا الحب الذي اجتاح كياني، قال لي: حتى السفير عرف بقضية هذا الحب وضحك كثيرا، من يدري قد تصل أخبار قصتك الغرامية إلى الملكة، وإلى مجلس اللوردات البريطاني! قلت له "ولم لا يضحكون على هواهم أو عشقهم لتقطيع أوصال البلدان التي يسوقها سوء حظها لتقع في قبضتهم؟" هل تقطيع الذبائح أرقى وأفضل من حب لفتاة جميلة مجهولة؟" ويروح يضحك "لسانك طويل ياثيسجر أتمنى أن تستطيع به إقناع أهل محبوبتك لتتزوجها " ومع ذلك كان يقبل علي مشفقا حنونا، "هل ما زال صديقك يريد أخبار سياسية، مقابل أخبار غرامية؟" قلت له باستخفاف متعمد:

ـ هو لا يريد أخباركم ،يقول إنها مخللات تالفة! ويقول أنكم لا تكفون عن الخبث والتضليل،لماذا أنتم كذلك، العراقيون أناس طيبون لا يستحقون أن تقسوا عليهم!

ويكتفي بالضحك قائلا:

ـ أنت محق سيصيرون أهل زوجتك قريبا!

كنا في نهاية كانون الثاني وكانت بغداد قد استعادت لتوها هدوئها ورونقها الجميل؛ رغم بعض المظاهر العسكرية، بعد أيام مظاهرات صاخبة دامية سقط بها مئات القتلى والجرحى اندلعت احتجاجا على معاهدات كانت تجري مباحثات حولها في ميناء بورتسموث بين الحكومة البريطانية والحكومة العراقية بديلا للمعاهدة المعقودة مع بريطانيا عام 1930 والتي تنظم الوجود البريطاني في العراق. عندما تذكرها كولن انطفأت ضحكاته على وجهه الممتلئ الأشقر وصار عصبيا مستثارا:

ـ أنظر هؤلاء الشيوعيون دمى السوفيت،يسموننا بالإمبرياليين مصاصي دم الشعوب، ولكن عندما تحالف ستالين سرا مع هتلر غضوا الطرف عن جرائم هتلر! وعندما تحالف ستالين مع تشرشل وروزفلت ضد هتلر في الحرب، صاروا يسموننا "عالم الأحرار" "منقذو البشرية" ونوري السعيد الذين كانوا يدعونه عميل الإنجليز صاروا يلقبونه ب"القائد الوطني"، و" أب الأحرار"! هؤلاء جروا الناس هذه الأيام للتظاهر من اجل إطلاق سراح زعيمهم المعتوه "فهد" متذرعين بضرورة إسقاط المعاهدة الجديدة، فكان أن أضاعوها، بغبائهم! نسوا أنهم بذلك أبقوا على معاهدة 1930،التي هي بالطبع أقل نفعا للعراقيين بكثير!

سكت برهة، ظل يدخن ويسرح بنظراته عبر النافذة إلى النهر:

ـ صديقك سليم انقطع عن زيارتي منذ فترة. قال لي في آخر مرة إنه يخشى أن يتهم بعلاقة له معنا بينما هو ليس سوى مخبر صحفي، نحلة تدور هنا وهناك لجمع الأخبار، هو إنسان طيب، بلغه سلامي ولا تنس أن تقول له أن معلوماتنا تقول أن الأمريكان قطعوا شوطا في ترتيب أوضاعهم في العراق، وهم بعد أن اخترقوا تنظيمات العسكر والأحزاب التي تدعي الثورية لترتيب انقلاب عسكري، كونوا علاقات وطيدة مع الأحزاب الدينية ، لديهم الآن علاقات متينة مع أحزاب دينية سياسية في أوساط السنة والشيعة،وأقاموا مع المراجع العليا صلات سرية بمساعدة حكومات في المنطقة صديقة لهم خاصة عبر حكومة الشاه في إيران! قل لصاحبك أن ثمة قوى كثيرة الآن مستعدة لتحطيم العراق بحجة إبعاده عن بريطانيا، هنيئا لهم بالأمريكان، غدا سيترحمون على الإنجليز!

وجدتني انزلق معه ومع البكري في هراء السياسة، قلت :

ـــ ولماذا لا تعلمون الحكومة العراقية بذلك مباشرة؟

قال محتدا وغاضبا:

ــــ أخبرناهم. نوري السعيد لا يريد أن يصدق أن ضباطه يتآمرون عليه. الوصي يعاني الآن من كآبة السلطة، لم يعد يحتمل أعباءها، يتمنى أن يسلمها لمن يأتي ينشدها، ويلجأ مع الملك الصغير والعائلة كلها لبلد بعيد. هو يقول أن العراقيين لا يحبون من يريد لهم الخير، يعبدون من يريد بهم شرا، هكذا سمعت نخشى في هذا المزاج أن يفرط بحياته وحياة الملك، بل بالبلاد كلها، أنها لحظة تاريخية حرجة جدا يا ثيسجر!

حين حدثت سليم بذلك تصورت إنه سيضحك لكن ملامحه جمدت واعتراه وجوم قال:

ــــ هذا ما توصلت أنا إليه باستنتاجاتي، لأول مرة لا أريد أن أبقى مخبرا، أفكر أن أكتب المقال أيضا، لكنهم هنا في الجريدة رفضوا أولى مقالاتي، سكرتير الجريدة قال لي لو حذرنا ضباطنا من التسلل الأمريكي بينهم؛ اعتقدوا إننا نشكك بوطنيتهم، قلت له أنا أيضا لا أشكك بوطنية ضباطنا، لكنني أشك بكفاءتهم وحصانتهم السياسية، فكثير منهم كما نعرف منهمكون بالشراب وليالي الغواني، وأحلام السلطة، زعيم حزبنا كامل الجادرجي له تجربة سيئة مع العسكر في انقلاب بكر صدقي، لكنني لا أستبعد أنه سيتحالف معهم مرة أخرى رغم قناعته أنهم أعداء الديمقراطية ويتسمون بالعنجهية،وكل منهم مشروع دكتاتور، الجادرجي يخاف أن يتخلف عن ركبهم؛ فيضيع بين الأقدام، ها أنت ترى أن المصلحة الشخصية تقتضي في أحيان كثيرة أن يضع الرجال مبادئهم وراء ظهورهم!

سكت برهة،راح يطلق دخان سيجارته كأنما من أحشائه:

ـــ رجال الدين بدأوا يتحركون وقد أوعزوا لأتباعهم برفع صورهم ونشر خطبهم، الأمريكان يعملون بشكل حثيث،وخبيث، يهيئون الشيعة ضد السنة،والسنة ضد الشيعة،وزعماء الأكراد يريدون إقامة دولة لهم حتى ولو على أنقاض العراق كله، والآن لهم مع كل هؤلاء مراسلات ووعود، ولكن هل سيفلحون؟ لا أدري! أعتقد أن الأمريكان لا يمتلكون دهاء أو ذكاء الإنجليز! لكنهم بالتأكيد سينقلون قطار العراق إلى سكتهم؟ إلى أين؟ بالتأكيد إلى الهاوية!

ــ أتعتقد أن الإنجليز أفضل ؟

ضحك بمرارة واضحة:

ــــ وهل هناك فرق بين لص قاتل وآخر؟

ران علينا صمت ثقيل، قال مستدركا:

ـــ بعض اللصوص لا يكتفون بالسرقة ، يقتلون ضحاياهم! ولكن تبا للسياسة. قل لي أين وصلت في بحثك عن بنت المعيدي؟ هل ثم أثر يدل عليها؟

ـــ لو كنت وجدتها أو أثرا يدل عليها لمشيت في الشوارع أصيح كأرخمديس: وجدتها وجدتها!

ــــ لا عليك! حتى إذا لم تجدها، يكفيك سعادة أنك بحثت عنها، كما قلت أنا أشاركك همومك في هذا الحب،أنت هنا بريطاني تبحث عن الحب، عكس أولئك الذين يبحثون عندنا عن النفط أو النفوذ أو سرقة الآثار،وأنا مستمتع معك في هذه الحكاية الغريبة التي قلما يجود زماننا القاحل بمثلها، في البداية حسبتك تعيش أعجابا،أو هوى عابرا، لكنني وقد لمست ثباتك واستغراقك في هذا الهوى الغريب؛ أيقنت أنك تعيش حبا حقيقيا.

قلت بقلب واجف:

ـ لست مخيرا، كأن ما حدث لي قدر أعمى، مصير أسطوري لم أفتعله ، بل لا أعرف كنهه أبدا!

ـ أنت أحببت من الصورة، مثل كثيرين أحبوا ممثلات ونساء مشهورات من صورهن، هناك من أحبوا من الصوت، لكل المغنيات والمغنين عشاق وعاشقات يحلمون بهم، ويتابعون حياتهم بنبضات قلوبهم، وقديما قال شاعر أعمى يدعى بشار ابن برد عاش في البصرة، وقتل فيها:

(يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا!) في حالتك نستطيع أن نصوغ الشعر هكذا: والعين تعشق دون الأذن أحيانا

أضاف سليم بصوت اعتراه حزن مباغت:

ـ على ذكر اتصالات الأمريكان برجال الدين، صرت أرى في هذه الأيام أن صور بنت المعيدي ،أخذت تختفي من بعض المقاهي وتظهر مكانها صور رجال دين وأئمة؛ بينما التصوير محرم في الإسلام! وتصوير النبي أو آل بيته أشد تحريما، وفيه إثم كبير!

يؤلمني أن تختفي صورة فاطمة من المقاهي والأماكن العامة،كما لا أطيق أن ينافسني عليها أحد:

ــ لقد لاحظت ذلك أنا أيضا في الناصرية والعمارة!

رأيته يهز رأسه بأسى ويروح في سهوم عميق!

 

كل أمجادنا الشخصية، ماذا تعني إزاء فقد أبنائنا، وإلقاء صخور من الآلام على قلوبهم الصغيرة؟

في الطريق بدأت استعيد وجه ماكس، تذكرت أن عينيه كانتا نديتين محاولا حجب دموعه، وإنني بكيت دون أن اشعر، تبينت ذلك من رطوبة على وجهي أحسست بها حين لامستها نسمات تتدفق من نافذة السيارة عندما تحركت! كيف اختلطت عندي الأحزان، حزني وقلقي الشديد على ابنتي ،وأساي لفراق ماكس، بكيت، بكيت، بينما الباص ينهب لا مباليا صحراء بادية الشام! وتنفتح قبة برتقالية من نور الشمس حولها وداخلها زرقة السماء،ويهفو قلبي فجأة لأمل وفرح عظيم، ذاكرة التاريخ تذوب في الفضاء كما في عقلي. أحزان البشر منذ بدء التكوين إلى اليوم ، أين ذهبت؟ ستذهب أحزاني ومخاوفي معها أيضاً ذات يوم، لم العذاب؟ ستشفى ابنتي، وسألتقي ماكس من جديد، وسنكون عائلة سعيدة. رحت أتأمل الطريق، لا شيء الآن بعد هذه الإشراقة المفاجئة سوى كثبان وصحراء على الجانبين، تقطعها أحيانا قافلة بدو على الجمال يسيرون وراء الماء والعشب، قرويون يسوقون بغالهم ليبيعوا محاصيلهم لأهل المدن. كل يمضي في طريقه، وأنا ماضية في طريقي إلى لندن، وهناك سأرى أي طريق آخر ينتظرني. عدت أفكر في رواياتي؛ ما كتبت، وما سأكتب، لدي الكثير، فقط أريد سلامة ابنتي،الاستقرار والحب، وراحة البال! لم ابق في حلب سوى ساعات، وأسفت إنني لا أستطيع قضاء ولو ليلة واحدة في البارون. كنت متعجلة وفي لهفة لأتناول قطار الشرق السريع، أريد أن أصل لندن بسرعة، أن أضم روزالندا إلى صدري. طيلة الطريق وأنا أعاود لوم نفسي، كيف تركتها لوحدها هناك، وهي ما تزال صبية صغيرة يافعة؟ أقنعت نفسي أنها مع من تبقى من عائلتي، ومع صديقاتي، يغمرونها بحنانهم ورعايتهم. لكن البنت تشعر بالوحدة دون أمها،حتى لو اجتمعت الدنيا حولها، الآن فقط أدرك هذه البديهية التي تعرفها القطط أيضا؟ يا للغباء، قررت أن أعذب نفسي، اصلبها، لماذا كنت طائشة قاسية القلب إلى هذا الحد؟ انصعت لأحلامي وأوهامي وجنوني ولم أفكر بها وهي التي فقدت أباها بطلاقي منه، وها أنا أتخلى عنها أيضا، بماذا أقنعت نفسي لفراقها؟ بحلم الصحراء؟ بتنسم نور من السماء مر على قلب أب الأنبياء؟ بحلم كتابة روايات في الصحراء؟ بشهواتي . بقطار الشرق السريع، ضفاف البوسفور، وادي الرافدين، والنيل،وجاذبية مصر التي لا تقاوم، وغيرها من الأحلام؟ ماذا يمثل كل هذا؟ كل أمجادنا الشخصية ماذا تعني إزاء فقد أبنائنا وإلقاء صخور من الآلام على قلوبهم الصغيرة؟ أزمعت إذا وجدتها ميتة أن انتحر! هذه المرة لن تفشل محاولتي في الانتحار كما فشلت محاولتي السابقة قبل أعوام! سأفعلها بشكل متقن! أكثر اتقانا من كتابة أية رواية! ستكون هي روايتي الدموية الأخيرة! الانتحار ابسط عقوبة لمن تترك ابنتها الصغيرة نائمة في سريرها وتخرج بحثا عن الأوهام والوعود الخلابة! كل الروايات التي احلم أو اخطط لكتابتها لا تساوي قبلة منها، ضمة لها إلى صدري، كم نحن معشر الكتاب سخفاء ومعتوهين نحطم حياتنا وحياة أبنائنا من اجل كتب لا يقرأها أحد، أو يمسحون بها الأرض حين يندلق عليها طعامهم وشرابهم! الآن فقط أكتشف كم أحب ابنتي، الآن فقط، وهي الآن في أحضان المرض الذي لا يحدثوني عنه بوضوح حتى صرت أتخيله الموت نفسه! دخل القطار محطته الأخيرة في لندن وحين نزلت منه كانت المفاجأة السعيدة العظيمة، ابنتي رزولندا تمسك بيدها صديقتي الحنونة الوفية مارغريت،ضممتهما إلى صدري معا، ما أجمل الأمومة والصداقة في شهقة واحدة، ورحت أتمتم، أهذي كالمحمومة والمجنونة: لن أفارقك يا ابنتي بعد الآن، ليأت إلينا الأنبياء والقديسون! لن نذهب إليهم،ليس لأننا لا نحتاجهم، بل لأنهم الأقوياء القادرون المريدون! لن أغادر بيتي يا ابنتي بعد الآن، الحلم هنا والسعادة والروايات هنا، وليست هناك! لكنني ما أن مرت أيام وتعافت ابنتي وأغدقت عليها الكثير من حناني وصارت تمرح بعيدا عني حتى صرت أفكر بماكس؛ هل ما حدث بيننا كان فورة عاطفة جياشة عابرة؟ هل أخذتني إليه الهالة النورانية في ارض النبي الأول، والشمس المشرقة؟ أم هي عاطفة عميقة هادئة وتفكير رصين متزن. هل ستتلاشى مشاعري نحوه عند أول عقبة أو تحد أو حتى إغراء جديد؟ قلت لأدع الأيام التي أعيشها بعيدا عنه تكشف ذلك! بقيت في لندن هادئة ،مسترخية اقرأ وأفكر بحبكة لرواية جديدة مع ما لدي من حبكات وموضوعات اغتنت كثيرا في رحلتي الأخيرة! قلت سأمكث هنا فترة لتكن أشهرا، سنة،أكثر. هذا يعني إنني قد تخليت عن قراري بعدم فراق ابنتي، والبقاء بجانبها طويلا وحتى تفارقني هي. صرت مبلبلة مشوشة الذهن لكنني سألت نفسي، كم سيدوم أحدنا للآخر، وكما بقيت أنا لوالدتي، وكما ستبقى ابنتي لي؟ تلك سنة الحياة يفترق الآباء عن أبنائهم، والأبناء عن آبائهم،مرة بالحاجة والمصلحة وأخيرا بالموت. لعبة قاسية لم نخترها ولا يسعنا التدخل فيها إلا بقدر محدود. وعدت أفكر بماكس هل أنا أحبه حقا؟ هل هو يحبني حقا؟ وأنا اكبر منه بكل هذا القدر الكبير من السنين. هو الشاب الوسيم المثقف الذي يجذب النساء بقوة شخصيته، وثقافته،وغليونه المعطر أيضا؟ حين أتأكد من حبنا لبعضنا سأغادر لندن إليه، هكذا قررت. كل يوم أحدث نفسي: صبرا انتظري!لا تكوني مراهقة متهالكة! كان تبادل الرسائل بيني وبينه متعبا ويصيبني بالكآبة أحيانا، فهو يستغرق الكثير من الوقت القاسي والمضني، كنت أستعمل البريد العادي عادة، أحيانا ألجأ إلى معارفي في الخارجية البريطانية ليرسلوا مكاتيبي له عبر البريد الدبلوماسي، ولا أعد ذلك تجاوزا. كنت أقول ما ضر أن أكرس دولة بريطانيا العظمى ولو لمرة واحدة ساعية بريد من أجل الحب، أما كفاها أنها شغلت بريدها وبريد العالم بقضايا الحروب؟ عدت إلى هوايتي التي أحبها كثيرا؛ العزف على البيانو. كنت في مطلع شبابي أتدرب ست ساعات في اليوم على عزف البيانو، وكنت أغني الأوبرا. كنت أرتبك إذا عزفت أو غنيت أمام جمهور. قال لي الأستاذ الذي امتحنني في معهد للموسيقى؛ الارتباك في المحفل العام خصلة قاتلة، إذا لم تتخلصي منها الأفضل لك الانصراف لهواية أخرى! ثم إنه وجد في صوتي عيوبا أوبرالية. بذلك قضى على طموحي في أن أكون مغنية أوبرا. لا أدري إن كان قد أسدى علي فضلا في ذلك، إذ لو كنت مغنية أوبرا لما استطعت أن أكتب رواياتي، خاصة عن عالم الجريمة، فعبير الموسيقى لا يلتقي مع رائحة الدم المسفوح! لكنني بقيت أعزف وأغني لنفسي رغم أن من سمعني أعزف أو أغني امتدح عزفي وقال؛ الأستاذ الذي نصحك، بحاجة إلى من ينصحه بالكف عن النصائح! لكنني ألقيت نفسي كليا في خضم الكتابة. استهوتني الرواية البوليسية؛ فحبكة الترقب،وعمق السر، وغموض الأفق؛وكره الشر، هم متعتي قبل أن تكون متعة قرائي. لذلك كنت أنصح من يريد أن يكتب أن يحب موضوعه أولا، ويجد متعته فيه؛ وإلا فليتركه لغيره! قضيت صباحا جميلا في الحديقة المجاورة لبيتنا في لندن ثم عدت إلى البيت بمزاج مرهق اقرب للإحباط. شعرت فجأة أن الرواية التي كتبت نصفها تقريبا، مملة ولا تستحق مواصلة العمل بها، "ابحثي عن موضوع آخر، لرواية جديدة تماما" صوت يكفي لإسقاط الحمل، إجهاض داخلي. صرت محبطة، فاقدة الثقة بنفسي! قررت أن أتوقف عن كل شيء، وأصعد القطار، واذهب إلى العراق، ألقي نفسي في أحضان ماكس أعب من محبته، واستعيد ثقتي بنفسي وبموهبتي وبالحياة ، ولروزلندا هنا رب يحميها! ها قد عدت مرة أخرى للقلق والرحيل، أين وعودي؟ وأين قسمي بأن أنصرف كليا لابنتي، ولحياتي البسيطة هنا؟! فتحت البريد وكانت المفاجأة السعيدة، رسالة من ماكس. ليست كرسائله المترعة بالعواطف، كانت مكوني من سطرين "أنا قادم لنجري إجراءات زواجنا، لم أعد أطيق صبرا، هل ما زلت على قرارك؟ أم أن برد لندن جعل عزيمتك تفتر؟" وهرعت إلى روزلندا اقبلها، أضمها إلى صدري، أخذتها في رقصة سعيدة،الفرح يجعلني أطير بين حجرات البيت. كتبت برقية لماكس "تعال أنا بانتظارك، لا تجعل الشمس تحرق وجهك أكثر فلا أتعرف عليك!" وهرعت إلى منضدة الكتابة وشرعت بكتابة رواية جديدة كانت أفكارها تدور في رأسي من فترة "جريمة في قطار الشرق السريع" ألهمتني إياها إطلالة ساحرة من نافذة القطار المتجه من اسطنبول إلى حلب،كأنني رأيت رجلا يقفز من سطح القطار ويتوارى بين منحدرات الجبال، شيء لا وجود له، لكنني تصورته قاتلا، ترك خلفه في القطار جثة أو جسدا ينزف ويئن،كتمتها في نفسي،وظلت تراودني كحلم، وكذكرى، ومرة كابوسا يجثم على صدري؛ وعلي أن أزيحه بالكتابة! بعد أن فرغت من كتابة صفحاتها الأولى وهي الأصعب عندي عادة في أية رواية أكتبها، جلست وحدي في مكتبي الصغير، تحيطني مجلدات مسرحيات شكسبير وروايات ديكنز والكثير من دواوين الشعراء الإنجليز، ويعاودني نفس الخاطر الذي اعتراني وأنا في أور، يا لهذا الحب الغريب، ناداني من بعيد، بقعة منيرة في الشرق، فقطعت إليه الطريق الطويل المزدحم بالمخاطر، أحقا حدث هذا؟ أم هو مجرد حكاية سحرية سمعتها من أمي وأنا أغطس في أمواج النوم الدافئة في شتاء لندن؟جعلت قلبي آنذاك يذوب ويتلاشى في أحلام البراري البعيدة؟ خاطر صار يكرر حضوره في ذهني، يعتريني كرعشة الحلم، حتى وأنا أعد فنجان قهوتي، أو أطفئ نور الحجرة لننام أنا وابنتي في فراش واحد! "ربما كنا أنا وماكس في لندن في وقت واحد، في نفس الشارع، لا يبعد أحدنا عن الآخر سوى أمتار، ولكننا لم نلتق، فصل بيننا جدار أو سيارة عابرة، وربما التقينا وجها لوجه ولم يكترث أحدنا للآخر، كغريبين،ثم تحتم علينا أن نقضي سنة أو سنوات من أعمارنا،فنقطع آلاف الكيلومترات، لنذهب إلى هناك في أور ونلتقي، ونصبح حبيبين! كم هي الحياة لاعبة ماكرة غريبة تأبى إلا أن تسكن أسطورة، لتكن لؤلؤة، أو قوقعة فاسدة، الأسطورة غائرة في لحمنا مهما تجاهلناها". استقبلت ماكس في محطة القطار أنا وروزلندا فقط، ربما أردت أن أقول له هذه عائلتنا، لا أحد معنا، ونأمل أن لا يكون أحد ضدنا. ضم ماكس روزلندا إلى صدره قبل أن يعانقني، قالت عيناه الدامعتان بصمت: هي ستكون ابنتنا معا،هي كل ذريتنا، لا ترهقي نفسك بالتفكير بالإنجاب، كأنني لم أكن في سن اليأس!أقمنا حفل زواج بسيط هادئ ضم أفراد من عائلتينا وبعضا من أصدقائنا معا، لم نقض شهر عسل تقليدي هنا أو هناك،عشنا أياما جميلة في لندن .

 

وللكرد حكايتهم عنها، ألقوا على كاهلها مع طائر القبج، تحقيق حلمهم القومي!

تحدث سليم بهدوئه المفعم بنبرة حنان تطمئنني كثيرا:

ـ خلال فترة وجودك في الأهوار،واصلت بحثي عنها، سؤال لهذا وذاك، مراجعة لبعض المصادر في العربية، والإنجليزية مقدرا إنك في الهور لا تستطيع الحصول عليها، وجدت بعض الشيوخ والتراثيين لا يعرفون عنها أكثر مما يعرفه الناس العاديين، ليس لقصورهم، بل لأن حماس الشبان في البحث عنها كمعشوقة يزيد محاولاتهم المحمومة للوصول إليها، فهي حلمهم، وذكرى حزينة لدى بعض الشيوخ! ثمة تسابق محموم بين القوميات والطوائف، كل يريد أن ينسبها لقوميته أو طائفته، وهذا طبيعي فالحس الوطني رغم ما تسمع من صراخه يتلاشى فجأة أمام نزعة القومية والطائفة! والكل هنا يبحث عما يميزه على الآخر، ويدخل في سباق معه، وليت كل السباقات حول الجمال والحب! زرت رجلا كرديا مسنا في بيته ببغداد في أمر خاص، رأيت صورة بنت المعيدي في صالونه ، سألته عنها، فوجئت به يقول:

ـ ولم العجب؟ إنها كردية، أنظر إليها: شقراء ريانة ارتوت من ينابيع الجبال، وهوائها النقي،تغذت على لبن ماعزه وعسله وتينه. البيئة الجنوبية الحارة الرطبة لا يمكن أن تنجب هذا الجسد الأشقر الملفوف الجميل، .هي من نسل عريق سبق لنسائه أن استلبن أفئدة وعقول ملوك ورجال الجنوب وأجبرنهم على الزواج منهن! لمن بنى نبوخذ نصر الجنائن المعلقة؟ هو بناها لابنة أحد ملوك الميديين التي تزوجها وجلبها إلى بابل، ثم أصيبت بمرض الحنين إلى وطنها الجبلي؟ والبنت معروفة، اسمها كجي كافروش وتعني ابنة التبان أيضاً، سرد لي نفس قصتها مع الضابط إنجليزي، ولكن باختلاف قد يكون جوهريا! رآها وصويحباتها في نزهة قرب شلالات أزمر في السليمانية، فسحر بجمالها وتقدم إلى والدها لخطبتها يرافقه بعض من وجهاء وشيوخ الأكراد ولكن والدها رفض تزويجها للضابط الأجنبي غير المسلم، وهو سيرحل بها إلى بلده حتما. ولكي يدرأ عن نفسه وابنته سطوة الضابط الإنجليزي، استجار بالشيخ محمود الحفيد الذي كان قد ثار على الإنجليز مطالبا بأن يتوج ملكا على السليمانية مثلما توج فيصل الأول ملكا على العراق! حين عرف الحفيد أن الضابط هو أبن شقيق شرشل؛ قرر أن يحول الحب إلى سياسة، فراح يساومه أن يسعى أولا لدى عمه شرشل بصفته وزير المستعمرات البريطانية ليقدم للأكراد تعهدا بأن تعود بريطانيا للالتزام بمعاهدة سيفر التي تملصت منها وخانتهم متراجعة عن وعدها بمنح الكرد وطنهم القومي! فوافق الضابط العاشق الولهان وسافر إلى لندن، وأخذت البرقيات والمكالمات تتوارد على دائرة البريد في السليمانية؛ مؤكدة أنه استطاع إقناع عمه تشرشل الذي يحبه كثيرا جدا؛ أن يقدم هذا التعهد مع اعتذار للأكراد عن خذلانه لهم وحرمانهم من حقوقهم. شرع الأكراد يجمعون التبرعات ويستنفرون الصاغة ليصنعوا أكبر تاج من الذهب والجواهر لهذه الفتاة الجميلة التي ستحقق بالحب دولة كردستان الكبرى بعد أن عجزت عن إقامتها آلاف البنادق، بكل ما أسالت من دماء وما أزهقت من أرواح من العرب والأكراد والتركمان والآشوريين! لكن العقيد بكر صدقي وهو من أصل كردي وسبق أن قاد حملة عسكرية دموية لإخماد ثورتهم تقربا للحكومة العربية في بغداد، كان قد سمع كثيرا عن جمال هذه الفتاة ،فقرر أن ينتزعها من عائلتها لنفسه، ويحبط اتفاقية الحفيد مع ابن شقيق شرشل. كان في ذلك الوقت رئيسا لأركان الجيش وممسكا بعصب الدولة، وعلى صلة وثيقة بهتلر ودائم التردد على برلين،وقد تناغم معه الملك غازي في ذلك لكرهه الإنجليز! فكر صدقي إنه بهذه الضربة المحكمة يسحب العراق من يد بريطانيا، ويحتمي بألمانيا التي ستصير هي العظمى! ويسيطر على الكرد ويكون جيشا منهم يزيح به الملك غازي ومعاونيه العرب ويعلن نفسه رئيسا على العراق كله متحالفا مع هتلر! لم يجد صعوبة في خطف الفتاة في وضح النهار والطيران بها إلى ألمانيا! تزوجها هناك قسرا، وأراد البقاء معها هناك لقضاء شهر العسل، لكنها قلبت العسل إلى خبال بمحاولاتها العديدة الانتحار، فينقذها أطباء هتلر. وهذا هو سر النظرة الحزينة الآسية في عينيها الجميلتين،وإن الذي رسم صورتها هو الفنان الذي رسم بورتريهات هتلر وغوبلز وهملر. ويمضي الكرد بحكاياتهم فيقولون أن الموناليزا الكردية لم تكف عن محاولة الانتحار وكان آخرها في الطائرة العائدة بها من برلين إلى بغداد،عندما غافلت زوجها صدقي والمضيفين وفتحت باب الطائرة وألقت نفسها. لكنها لم تسقط على الأرض بل تلقفها سرب من طيور القبج كان متجها إلى ارض كردستان موطنه الرسمي، والذي وعدوه بوضع صورته على عملتهم عند الاستقلال، فحملها بكل حنان وأمان وألقاها فوق بيت أهلها. حين فطن بكر صدقي إلى غيابها مد رأسه من باب الطائرة يأمرها بالعودة إلى عصمته الزوجية، لكنها لوحت له ساخرة منه، ثم باغتته الريح وصفعته بقوة وألقت به في البحر،فتلقفته كواسج وتماسيح ما أن التهمته حتى تقيأته لأنها وجدت لحمه متعفنا ومتفسخا! هذه هي الحكاية الكردية وهي رغم ما فيها من مبالغات وشطحات تشير إلى آلام الأكراد الطويلة، وطموحاتهم المشروعة، وغير المشروعة!

قلت ضاحكا:

ـ بعد أن انتهي من تعلم السير على الماء، سأتعلم تسلق الجبال، واذهب للبحث عنها هناك!

ورحنا نضحك ونواصل أحاديث شتى!

 

نتخذ قرارنا ثم ننقضه، كثبان في الصحراء تلمها رياح، وتذروها رياح!

مرة أخرى أترك ابنتي في لندن، وأسافر! أقنعت نفسي أنها قد كبرت،وأنها صارت تعي ما يحدث لها، ولنا بوضوح. وأنها اعتادت فراقي، وإنني سأتركها في رعاية بعض من عائلتنا وأصدقاء طيبين حنونين قدامى وجدد. أفراد من عائلة ماكس غمروها بحنانهم ورعايتهم، وأبدوا استعدادهم لتفقدها بين فترى وأخرى، واستقبالها في بيوتهم متى ما أرادت! وجدت من الأفضل أن تبقى في لندن تترعرع وتواصل دراستها التي نشأت عليها،وإنها قد تتعرض لهزات ونكسات لو قطعت دراستها وجاءت معنا إلى الشرق. هكذا أقنعت نفسي بفراقها، تذكرت ما كنت قد اتخذته من قرار عند مرضها، يبدو إننا نجد لكل قرار أسبابه، كثبان في الصحراء تلمها، رياح وتذروها رياح. عجلنا أنا وماكس في السفر، ربما لكي لا أتراجع. عشنا شهر عسل جميل هانئ مختلف في سوريا بأحضان قرية عين العروس التي تقع على ضفاف نهير صغير في ريف حلب. لا فكاك لي من الإقامة في فندق البارون. قضينا فيه ليلتين،تمتعنا بأطعمته الشهية،وحدثت ماكس عن ذكرياتي فيه. في جو القرية الهادئ أكملت رواية "جريمة في قطار الشرق السريع"، كانت فرحة ماكس بها أكثر من فرحتي، فأنا ما أنتهي من رواية حتى تعتريني كآبة خاصة، يمكن أن أسميها كآبة الإنجاز، مزيج من قلق على نجاح العمل، وقلق على العمل الآتي، هل سيأتي؟

انتقلنا إلى العراق، وبقينا على تواصل مستمر مع روزلندا، كان ماكس يتابعها كأب، أتوقع بثقة أنه لم يأسى يوما إنه لم يكن له أبناء من صلبه. لم يفكر طيلة حياتنا معا بشيء له وحده، ولم أفكر بشيء لي وحدي، دائما نفكر بكل شيء لنا جميعا نحن الثلاثة دون أن تغيب الإنسانية والعمل من أجلها عن اهتمامنا. هكذا مضى مركب حياتنا في بحر الدنيا الهائج بالحروب التي أخذت ماكس مني لسنوات. كانت الحرب كابوسا طويلا كاد يحطمني أو يصيبني بالجنون، كم هي الحروب قذرة! بعد عودته استعدت طاقتي على التفاؤل والأمل، خبرتي تقول لاشيء يقتل الإنسان والكاتب خاصة كما اليأس والقنوط، لذلك بقيت أكافح اليأس كمرض وبيل فتاك! ودائما كنت أنصح الكتاب الشباب أن لا ييأسوا مهما صادفهم من ظلم أو قسوة أو إنكار، في النهاية سينجحون وينتصرون، ويأتي من ناصبهم العداء، والإعاقة يخطب ودهم! كان ماكس يحثني على البقاء في البيت الجميل البسيط المطل على الفرات في الناصرية وأنصرف للكتابة. لكنني ما أن انتهي من الشوط الذي أضعه أمامي للكتابة، حتى أجد أية وسيلة نقل للالتحاق به بين حفر الأرض الأثرية؛ فيستقبلني بابتساماته وسحابات من دخان غليونه! اخذ يعلمني كيف اعتني ببعض اللقى والآثار التي يعثرون عليها ثم بعد أن ننتهي كنا نجلس سوية ليونارد وزوجته الجميلة الطيبة كاترين وماكس وأنا وأحيانا؛ ينضم إلينا أعضاء من فريق التنقيب إنجليز، وهولنديون مع بعض الموظفين أو العمال العراقيين. حفلات شاي وحلوى وأحاديث شيقة تشدنا وتكون منا أسرة عالمية واحدة تبحث عن تاريخها، فأنا حقا أرى أن تاريخ الإنسان واحد، لكنه موزع في أماكن شتى من الأرض! عندما تبين في العمق نتؤات خوابي أو ألواح أثرية، ينزل ماكس ومعاونوه الخبراء ليتولوا إخراجها من تحت طبقات تراب آلاف السنين بكل رهافة وصبر وأناة، كنت أتلقفها من أيديهم المتلهفة المرتجفة أحياناً، ألفها على الفور بقطع قماش حريرية مبللة بالماء، كي امنع ملامستها الهواء الذي يجعلها تتهشم. أنتظر حتى تتكيف مع جو هذا الزمن. أتخيلها تلهث كما الأطفال الجدد، وقد وصلت من رحلة طويلة استغرقت آلاف السنين، ثم أنظفها، وأحفظها،لتفهرس. اشعر إن عملي يشبه مساعدة القابلة التي تتلقف المواليد الجدد من الأرحام،الفرق أن مواليدنا من جوف صحراء تفتت عليها آلاف السنين، عاشت حياتها بجرأة وانقضت، وقد جاءت لحياة أخرى، رغما عنها على أي حال! كنت أحس بنشوة إنني أشاركهم عملهم في صنع حياة جديدة لما طواه الزمن وغادر الحياة منذ أمد بعيد! شعرت بأهمية أكبر لعملي معهم حين جاءني ماكس إلى خيمتي، كنت أكتب في روايتي "جريمة قتل في وادي الرافدين" كان شاحبا منفعلا. قال لدينا أمر هام، يا أجاثا، نريد رأيك! وتبعته، كانت ثمة سرقة للقى أثرية، وهذا أمر في غاية الخطورة! يعادل جريمة القتل، وربما أكثر لدى بعضهم! كان ماكس ومعاونوه يحفرون بموضع في المقبرة الملكية في أور حين لاحت لهم عصابة ذهبية على جبين جمجمة، لكنها توارت فجأة حين انهالت عليها كومة كبيرة من التراب. أوعزوا للعمال بإزالتها، ومضوا لاستراحة قصيرة، لكن حين عاد لومبارد وماكس ومن معهما، بعد إزالة التراب، لم يجدوا العصابة الذهبية، وما كان متوقعاً وجوده معها من حلي ثمينة جدا. لقد حدثت سرقة! لم يكن بحثهم وتحقيقهم مع العمال والخبراء الآخرين مجديا، فاضطر لومبارد وماكس لاستدعاء الشرطة. أخذ مدير شرطة الناصرية وهو من أهل المنطقة، يحقق مع العمال العراقيين فقط، بكل فظاظة وقسوة، ثم أتى بالقرآن، اقسموا جميعهم ببراءتهم. كنت وأنا أسمع ما يدور، أقدح ذهني الروائي البوليسي بقوة وعجالة، وجدت ذهني يشير إلى جون توماس المنقب الإنجليزي المشرف المباشر على الحفر.الذي كان واقفا معنا ضاماً يديه إلى صدره، يرقب بصمت آلام عماله، وهم يواجهون المحقق الشرس. في اللحظة التي ملت بها على ماكس هامسة له بشكوكي بجون توماس، تقدم أحد العمال وقد اخترق خوفه من فقد عمله. ليقول إنه رأى جون توماس ينتزع العصابة الذهبية من الجمجمة مع المجوهرات الأخرى ويخفيها في ثيابه! اتجهت الأنظار إلى جون؛ فتوارى داخل الخيمة، لكنهم لحقوا به؛ فانهار، وسلمهم المسروقات بصمت! كانت الجمجمة لأميرة سومرية، وكانت تحمل مع عصابتها الذهبية قلائد رائعة تمثل في تشكيلها وما تحوي من أحجار كريمة إحدى ذرى الفن العراقي القديم! وهكذا تحمل أكثر من 168 عاملاً عراقياً بريئاً، التحقيق القاسي والإهانات من مدير الشرطة، فقط لأن الشك لم يكن يقف على قبعة رجل إنجليزي! بعد ما حدث؛ شعرت أن عملي معهم سوف لن يتوقف عند حد لف مواليد القبور بالمناديل المبللة!

 

هي حسناء آشورية، حفيدة ملكة، زجت آلاف وآلاف الشباب في حروب كثيرة، لم تكترث لآلام بنات جنسها، ألقت عليهن حزام العفة!

والآن اسمع يا ثيسجر حكاية الآشوريين عن محبوبتك، فهم يقولون أن اسمها شميرام، جمال وفتنة، وجه أشقر مستدير، صدر ناهد،قوام فارع، نظرة قوية جذابة، شعر كثيف ينسدل على الظهر عباءة من ذهب أبنوسي، هذه الفتاة تبادلت الحب مع الضابط الانجليزي ولبرت، ابن أخ تشرشل أيضا، برضاها، وبهيامها وانبهارها! كانت ابنة رئيس قبيلة آشورية كبيرة تعاون مع الإنجليز عند دخولهم البلاد، قائلا؛ "وقفنا معهم لا عن خوف ولا خنوع، بل لقناعتنا أن بلادنا خضعت أربعة قرون للعثمانيين الأجلاف؛ أذلوها وأكلوا لحمها، ولكي تلحق بركب العالم يجب أن تتحالف مع دولة قوية متحضرة مثل بريطانيا"! فشكل جيشا من الشباب الآثوري سمي بالليفي، وعمل تحت إمرة الإنجليز مختصا في إخماد أي تمرد يواجههم! التقى الضابط ولبرت قائد جيش الليفي شميرام في بيت أبيها الكبير، تقدمت له بصينية الشاي؛ فذهل لجمالها وغاب عن وعيه. لم يفق إلا حين رفع قس ألقوش كأس الشاي وقد برد أمامه، ووضع بدلا منه كأسا كبيرا من نبيذ الدير المعتق. أصيبت شميرام بدوار خفيف لذيذ؛ جعلها تأوي إلى حجرتها وترقص لوحدها الليل تحرق رسائل الحب الكثيرة التي تلقتها من شبان القوش والقرى المجاورة وترقص على ضوئها! تخلصت تماما من حيرتها وترددها حيال أي منهم تختاره بعلا لها. وعكس ما لقيه حب فاطمة من عقبات لقي حب شميرام وزواجها كل ترحيب وحفاوة من أهلها وعشيرتها، لم يطلب والدها شيئا له أو لابنته سوى أن يأخذ الضابط من عمه شرشل ورقة تتعهد بها بريطانيا بأن لا تسمح بتكرار المذابح الفظيعة التي طالت الآشوريين على مر القرون الأخيرة.وأن يسمح لهم بممارسة ديانتهم بكل حرية وأمان! تم حفل الزواج في قصر منيف في الموصل بكل مظاهر الأبهة والبهجة. بعد أن قضى الضابط مدة خدمته العسكرية في الموصل، رحل معها إلى إنجلترا. هناك تطوع رسام العائلة المالكة البريطانية،فرسمها بشكل نصفي بوضعيتين؛ مرة حاسرة الرأس، وفي الأخرى تحت غطاء الرأس الآشوري الشهير، وقد علقت صورتها الأصلية في متحف الفن البريطاني العظيم. طبعت في لندن آلاف النسخ منها. أرسلت إلى العراق وبلاد الشام. اعتمدت في كنائس كلوحات لمريم العذراء. مضى مؤرخون آشوريون يدبجون المقالات والمباحث حولها، مؤكدين أنها حفيدة زعيمهم الأعظم آشور بانيبال، وإن جدتها الأولى ملكتهم الشهيرة سمير أميس، المؤتمنة على مكتبته الصخرية العظيمة،أول مكتبة في العالم، أصغر كتاب فيها وزنه نصف طن، لكنه حين يدخل الذهن يصير أخف من ريشة عصفور! جدتها التهمت كل هذه الكتب، وأورثت روحها لحفيدتها شميرام،مع نبوءة تقول: " ثمة قدر غريب سيدخل على أهل هذه البلاد ؛ كما يدخل الثعبان أكمة ورد ، فيفرقهم زمنا طويلا يتطاحنون ويتشاحنون ويفني بعضهم بعضا، حتى تولد لنا حفيدة اسمها شميرام فتجمعهم حول وجهها الجميل؛ كما تجمع الشمس البشرية حولها" يقول البكري، نبوءة رهيبة،لا أدري أن كانوا يقصدون بها عصرنا! وجدت موجز حياة شميرام في كتاب قديم بمكتبة أنستاس الكرملي، وهو مؤرخ مسيحي كبير يبجله الكثيرون! استنسختها لك ، خذها! شرعت بقراءتها؛ بينما هو ظل بجانبي تقرقر نارجيلته مثل طير مخنوق في قفص: " يحكى أن سيولا عارمة اجتاحت نهر دجلة شمالا، وألقت بأسماكه وضفادعه على جانبيه، فجأة ظهرت وسط النهر سمكتان تدفعان أمامهما بيضة كبيرة، وتلقياها على الشاطئ، وعلى الفور هبطت من السماء حمامة بيضاء كبيرة، واحتضنت البيضة، حتى فقست، فخرجت منها طفلة فاتنة رائعة، فجاءتها أسراب حمائم، أخذت ترف عليها بأجنحتها وتصد عنها حر النهار، وبرد الليل. وتأتي لها بغذائها مما لدى الرعاة من جبن وحليب، فعاشت الطفلة هانئة سعيدة! تنبه الراعي أميس إلى أن جبنه صار يثقب، وحليبه في الخابية صار يتناقص. كمن يرقب مخزنه الصغير؛ فشاهد الحمائم تنقر الجبن،وتحمل بمناقيرها الحليب، وتطير. تبعها فوجدها تحط عند منحدر صخري معشوشب منزو. دخله فوجد طفلة لم تبلغ العام من عمرها،بهره جمالها، فأخذها إلى كوخه، أسماها سميرو أي الحمامة، وعندما ألحقها باسمه صار اسمها "سمير أميس" أي "حمامة الراعي أميس"، لكنه قرر بيعها ليسدد ما عليه من ديون! ذهب بها إلى ساحة نينوى حيث يجتمع كل عام شبان وشابات ورجال قادمون من نواحي المملكة لينتقي الشاب عروسته والرجل صبية ليربيها إلى أن تبلغ سن الزواج فيتزوجها أو يقدمها عروسا لأحد أبنائه، شاهد سيما المشرف على خيول الملك، سمير أميس وكان عقيما فخفق قلبه للصبية فاشتراها، أعجبت زوجته بالصبية وفرحت بها وأخذت ترعاها ابنة لهما، كبرت وبرزت أنوثتها، رآها أوانس مستشار الملك، دهش لجمالها فانتزعها من بيت المشرف غير مكترث لألمه وزوجته لفقدها! تزوجها وهي صبية صغيرة، كانت فائقة الذكاء، تقدم له النصح والمشورة في الأمور الخطيرة فنجح في عمله مع الملك الآشوري الذي كعادته كان يعد لحرب جديدة فأمره أن يأتي معه لإدارة المعارك، وحيث أن أوانس لا يقوى على فراق سمير أميس؛ فأخذها معه،تفتحت مواهبها في ساحة الحرب، فأخذت تتابع المعارك وتقدم الرأي والنصح، صار الجيش يكسب المعارك ويمضي قدما، أعجب الملك كثيرا بجمالها وفطنتها، عرض على أونس أن يعطيه ابنته ويتنازل له عن سميرو، رفض أوانس ذلك؛ فهدده الملك باقتلاع عينيه،فاضطر للاستسلام ثم انتحر ندما وحزنا! وقعت أميس في هوس الحروب أيضا،غير مكترثة لموت آلاف الجنود أو غيابهم عن زوجاتهم معتمدة على ما أسمته حزام العفة! قال المنجمون لها؛ أنها ستقتل بيدها من أحبها وأحبته، لم تكترث لذلك، لكن ذلك حدث فعلا فبعدما قتل زوجها الملك نينوس عدوه مضى في دهليز قصره ليبلغها بانتصاره، فلم تتبينه في الظلام، حسبته عدوا، فقتلته طعنا بالخنجر!

ضحك سليم قائلا:

ــ إذا كانت حفيدتها هي محبوبتك، وتحمل روحها، فالويل لك منها!

 

وجهها الجميل متاهة، ولا طريق لنا فيه إلا الحب ، فهل هو آمن؟

أخذ ماكس يتململ، ترك الفراش وذهب إلى الشرفة قلقا، قافزا ببصره النهر إلى المجهول البعيد،حاول من بعيد أن يرى برج القشلة، هل ما يزال اللقلق هناك؟ قال دعبول أجاثا لا يمكن أن تضيع ما دام اللقلق هناك، هل صرت يا ماكس تؤمن بالخرافات؟ يكاد لا يرى شيئا حوله.عاد خوفه يستعر، لماذا لم يطل المحقق خالد عليه؟ ها قد انقضى النهار، أنا التهمت الكثير من أوراق ثيسجر، ألم يفرغ هو من أوراق أجاثا؟ هي ليست كثيرة، أين هما الوصي ونوري السعيد الذين قيل لي أنهما يتابعان بنفسيهما قضية اختفاء أجاثا؟ أين هو بهجت العطية المعروف كما قيل ببطشه بالخصوم السياسيين؟ أين براعته أمام المجرمين العاديين ممن يخطفون ويقتلون؟ أين السفارة البريطانية؟ أين هو ريتشارد والمستر بينج بونج؟ لم أتلق أي اتصال منهما حتى ولو فقط على سبيل التهدئة وإراحة قلبي، وصرت أحس بوجيبه في رأسي! نزل إلى صالة الفندق؛ هل عاد جبرائيل وصاحبه أم ما زالا معتقلين رهن التحقيق والاتهام؟ ثمة صمت حولهما، كلما سأل العامل الجديد الذي جلس وراء طاولة الاستعلامات هز رأسه نافيا علمه بشيء، حاول أن يأكل شيئا وجد شهيته مقفلة، تناول قدح عصير فقط، دخن المزيد من التبغ المعطر، ولم يجد مناصا من العودة إلى حجرته والغرق بأوراق ثيسجر!

ـ كلهم يا ثيسجر ادعوا أن بنت المعيدي ابنتهم، لم يبق سوى الدليم؛ لم أسمع حتى الآن إذا كانوا هم أيضا يقولون أن هذه الصورة لبنت منهم، أو من البدو جيرانهم، من يدري ربما سأسمع قريبا أنها من الصحراء،متجاهلين أن الفتاة متوردة الخدين ناعمة الملامح؛ تشي بترف ورفاهية المدن أو الشواطئ،غير المتوفر في خيام البدو المتنقلة من هجير إلى زمهرير! ثمة من يقول أنه رأى صورتها في تركيا وبلغاريا وارمينا وبلاد السوفيت، ولكن حتى الآن لم يظهر رسام يقول: أنا رسمتها! ربما لو أعلنوا عن جائزة لظهر ألف رسام متشرد يدعي انه هو الذي رسمها،وباعها في حينها بقنينة نبيذ رديء! ولكن دعني أقول الآن لك شيئا، قبل أن أنساه،فقد قصدت رسامين عراقيين بعضهم عاد من إيطاليا وأمريكا، بعد أن أنهوا بعثاتهم الدراسية، سألتهم عن الصورة وصاحبتها، بعضهم هز كتفيه ضاحكا، أحدهم قال أنها صورة شعبية بدائية لا قيمة لها، آخر قال هي من انجاز أحد الرسامين الأوربيين الذين جاءوا بلادنا مستطلعين مجذوبين للنور والدفء ، أحدهم قال أنها كما قال الملك غازي؛لعبد القادر رسام، الذي كان فنانا كبيرا، ولد في مدينة العمارة أواخر القرن التاسع عشر،وكان من رعيل الضباط الذين درسوا في الإستانة، وانفتحوا على أنوار النهضة الأوربية،واطلعوا على أفانين الرسم العالمي،وعندما دخل الإنجليز العراق،وانحل الجيش العثماني، عاش متخفيا من الإنجليز، وانصرف للرسم وعاش كالمتعبد في دكان فقير ببغداد يرسم لوحاته الرائعة. ترى هل إن عبد القادر هو من عاش قصة الحب معها؟ أم إنه أراد أن يرسم ضحية جميلة تكون رمزاً لانتهاكات الانجليز في العراق. هذه الصورة يا ثيسجر،تثير الذكريات والمواجع، معها تخوض رمالاً أخرى،ربما ممزوجة بالدماء والدموع، لا تستطيع أن تجزم هل هي بنت المعيدي،أم التركماني، أم الكردي، أم الآشوري، والأسهل أن تجاري من يقول أنها روح العراق الجميلة وقد انتهكت وضاعت تحت الأقدام! أو أن تقول أنها الجمال المطلق وقد تناهبته النزوات والشهوات عاليها وسافلها! البحث عنها يا صديقي يدخلك في متاهات كثيرة ربما أهونها لغز العراق الذي يبدو جميلا وبسيطا، لكنه في أعماقه شبكة احتمالات وعقد محيرة، بعضهم أراده مزرعة له، أو بئر بترول أو طريق إلى الهند فضاع فيه وغاص في أوحاله! أنت لم تبحث فيه سوى عن وجه جميل،وقد أصبت يا ثيسجر لا طريق لنا إلى الإنسان أو البلدان إلا الحب!

سألته بقلق حقيقي :

ـ هل هو آمن ؟

ــ من يحب لا يفكر بالعاقبة!

صمت سليم البكري قليلا ،حك صلعته الوردية ،وعب الكثير من دخانه مستحثا ذاكرته:

ـ يبدو أن الناس في منطقتنا وجدوا فيها روحا هائمة، معذبة،عرفت يا ثيسجر أنها موجودة لدى الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين،ولا أدري إذا كانت موجودة لدى المصريين! وكلهم يقولون أنها ابنتهم. حكايات الفلسطينيين كثيرة حولها، فبعضهم يقول أنها ابنة فلاح في حيفا، رآها الضابط الإنجليزي وهي تخطر في الحقل تجمع التفاح في سلة تحتضنها إلى صدرها؛ فرأى التفاح يغار من خديها ونهديها فيسقط على الأرض، فافتتن بها! وآخرون يقولون أنها ابنة صياد سمك في عكا وإن الضابط الانجليزي رآها وهي تتمشى مع صويحباتها على شاطئ البحر فأغرم بها، ( الأغنية تقول أن البحر ينسى إنه بحر، وينحني لها ليغسل قدميها) بعد أن عجز عن إقناع والدها بالموافقة على زواجه منها،رغم وساطات كثيرة قام بها وجهاء ورجال دين،ورغم الليرات الذهبية،والثياب الحريرية التي حاول إغراءهم بها، اختطفها وأخفاها في حي يهودي، ولم يفلح أهلها في الوصول إليها، لكنه باعها لثري يهودي، ثم احتمى بثكنة انجليزية،وإن كثيرين قتلوا من اجل استعادتها دون جدوى، وما تزال الحرب قائمة إلى الآن! آخرون يقولون أن الثري اليهودي العجوز اشتراها من والدها بمال كثير خسره على موائد القمار والخمر وبيوت الغانيات! أهل غزة رغم سمرتهم الداكنة، ينسبونها لهم أيضا، وهي الشقراء متوردة الخدين. في حلب يقولون،أنها لفتاة سورية عربية جميلة من الإسكندرونة، بزغت كالنجمة أواخر العهد العثماني، تداول الناس أخبار حسنها وجمالها،فسعى ضابط عثماني كبير كان حاكما للمنطقة للوصول إليها فاستدعى والدها الفلاح الفقير إلى مقره وعرض عليه أن يعطيه قطعة أرض كبيرة إذا وافق على زواجه منها، لكنه رفض، فأوعز الضابط لرجاله باختطافها وإخفائها في بيته الكبير في أعلى قلعة له في الإسكندرونة.، أصيب والداها بالعمى لكثرة ما بكيا عليها، ولم يريا الصورة التي أرسلها لهما الأغا، وظل وجه ابنتهما قمرا في ظلامهما، حتى ماتا بعد سنوات قليلة. آخرون يقولون أنها لفتاة جميلة من دمشق كانت تقف إلى والدها الحلواني في محله، فكانت تبيع كل يوم الكثير من أطباق البقلاوة والزلابية، ولسوء حظها دخل المحل ضابط فرنسي كان خارجا لتوه من الجامع الأموي بعد أن ردد أمام قبر صلاح الدين الأيوبي ما كان قد قاله قائده قبل سنوات "ها قد عدنا يا صلاح الدين" منتقما لهزيمتهم في الحروب الصليبية، وما أن وقع بصر الضابط على الفتاة حتى قرر أن لا يغادر المحل إلا ويأخذها معه وكأنها علبة حلوى! لكن الوالد رفض تزويجه له، بل طلب من المترجم أن ينقل له قوله ( قمر السماء اقرب إليك من قمر بيتي ومدينتي ) لكن الضابط ظل يسعى مستخدما سطوته كمحتل حتى انتزعها منه، وهرب بها إلى باريس قبل أن تنتهي خدمته في الجيش، وفي باريس أتى برسام إيطالي فرسمها بدقة وإتقان ولم يكن هدفه أن يرسلها إلى والدها الذي أتعبه كثيرا برفضه له، بل أراد أن يتباهى ويفاخر بها حيثما حل في بيوت أصدقائه أو حفلاته التي أخذ يقيمها في قصر كبير غير بعيد عن قصر فرساي قائلاً:لدي موناليزا حية فاتنة أجمل بكثير من موناليزا الإيطاليين! لكن الصورة انتقلت مع كثير من المسافرين إلى سوريا. الحكايات تتفق أن الصورة هي لرسام مجهول من الفرنج وقد أراد بها مغتصب الفتاة التخفيف من تأنيب الضمير، وإن الصورة ظهرت واشتهرت وانتشرت، بينما اختفت الفتاة تماما، فأصبحت الصورة بديلا وتعويضا عنها! سكت البكري لحظة ثم قال مع زفرة دخان كثيف:

ـ يخيل إلي؛ أن من يغتصبنا دائما يهبنا كتعويض صورة الحياة، لا الحياة نفسها،ولا حتى جزءا منها، أو هو يهبنا صورة أنفسنا، لا أنفسنا ذاتها، نعم هنا الخلل في علاقتنا مع الآخر، وهنا مصدر الحزن العميق!

ضحك قائلا:

ـ أتريد أن تبدأ رحلة لتبحث عنها في الشرق الأوسط كله؟ لهذا تحتاج ألف عام! خير لك وأنت ذاهب إلى لندن أن تبحث عنها هناك.

ليتك يا أجاثا تدخلين حلبة البحث معنا، لتكشفي ولو برواية بوليسية سرها الغريب الغامض!

 

ذاكرة الطين أقوى من ذاكرتنا، والإيمان كالحب هو أن لا تسألي لماذا؟ وكيف؟ الأسئلة تربك خفقات القلب!

كان لومبارد كثير الصمت والشرود كأنه يعيش مع موتى ما قبل التاريخ؛ يحاورهم يسألهم أين أودعوا أشياءهم الجميلة النفيسة، وعلى أية ألواح طينية أو صخور نقشوا أشعارهم وأناشيدهم وألحانهم. قال لي في لحظة تجل؛ كم أتمنى لو أصل إلى النوتات الموسيقية للسومريين والبابليين. مجتمع كانت لديه كل هذه الآلات الموسيقية والأناشيد والترتيل،لا بد أن لديه ألحانا عظيمة، ولا يمكن أن يكونوا قد عزفوها كلها ارتجالا. لو عثرنا على مدوناتهم نكون قد وهبنا أسماعنا وقلوبنا نفس النشوة والسمو الذي كان يكتنفهم وهم في معابدهم وخلواتهم الروحية والعاطفية يستمعون لتلك الألحان والأغاني العظيمة. كان يشم من الهواء رائحة تلك العهود القديمة، ومن السكون والحجر ألحانها وأصواتها، كان يقول نحن نحتاجها اليوم في عالمنا المنهمك بالمادة وصراع الدول! لم يكن لومبارد وماكس ينظران للعراق كإحدى مستعمرات بلدهما، كانا في المحصلة العامة ينظران إليه كند، هو امتلك حضارة البداية والتأسيس، وبريطانيا امتلكت حضارة القمة، والنهاية الظافرة، وكان هذا يشعرني بالطمأنينة على أن حضارة العالم هي ملك الجميع، ومسؤولية الجميع، عليهم بناءها معا، والحفاظ عليها معاً! لومبارد يقول: جلجامش نبي الجسد، بحث عن الخلود المادي لأحشائه، ليبقي ملكا على الأبدية؛ فردته الأرض والسماء خائبا.وجاء ببضعة كلمات مفحمة من صاحبة الحانة! إبراهيم الخليل نبي الروح بحث عن خلود سماوي ولم يرده الله!فأدرك أن لا حياة سعيدة دون توازن الروح والجسد! تلقى ما تلقى وانبعث بعده موكب من الأنبياء والقديسين يعوضون الإنسان عن فناء الجسد بخلود الروح! كان يعجبني في لومبارد إنه كان يعرف عما يبحث في التراب، الروح هذه التي كلما فقدناها صرعنا الجسد بافتراقه عن نفوسنا، فيفنى احتجاجا! صمت برهة راح ينظر إلى الأفق المتوج بغروب شمس حزينة فوق أور قال لي وهو يبتسم:

ـ جئت ابحث عن إبراهيم الخليل، لم أجده كان قد رحل قبلي إلى فلسطين،يهيئ ليستقبل من السماء ثلاثة أديان! لكنني وكما التعويض الإلهي عثرت على القيثارة الذهبية، وأنت أيضا جئت تبحثين عن إبراهيم الخليل فلم تجديه طبعا، وكما التعويض الإلهي عثرت على ماكس،الآن كل منكما هو القيثارة الذهبية للآخر، وهكذا يبدو أن البحث عن الأنبياء مفيد جدا!

ـ أتمنى أن يعثر ماكس على قيثارة ذهبية تشبه قيثارتك كلما شاخت تكون أفضل، فأنا كلما تقدمت في السن صرت أسوأ!

ـ ليس ماكس وحده كلنا نسمع من وقع أصابعك على الآلة الكاتبة موسيقى العالم كله! فتعيدينا معك إلى شبابنا، الكاتب لا يهرم!

بين فترة وأخرى، لومبارد وكاترين، وماكس وأنا نتجول في أرض التنقيب، تلك الحفر المفتوحة على السماء؛ هي حدائقنا الترابية الجافة؛ نطل منها على أعماق التاريخ؛ أشجاره وزهوره الباقية أبدا، وأتذكر إننا كنا نتحدث عما ورد في الكتب السماوية وما صاروا يجدونه في الألواح من نصوص مطابقة أو مشابهة لها، قال لومبارد :

ـ أستطيع أن أقول لك أن معظم القصص والحكايات، وتفسيرات الظواهر الكونية من قصة آدم وحواء، وخروجهما من الجنة، إلى سفينة نوح الواردة في الكتب المقدسة أخذت مما توارثه الأقدمون عن أساطير وحكايات ما بين النهرين وتراث الفراعنة،هذا ليس دليلا على صحة هذه الحكايات أو خطئها، فهي كانت لدى أولئك القدماء تصورات فطرية بدائية. نحن لا نثبت ولا ننفي، نقدم ما نجده لمن يبحث ويفكر!

كنت قلقة حقا، سألته بلهفة:

ــ قل لي صراحة هل ما وجدته من أصول الحكايات والأفكار جعل أيمانك بالإنجيل يهتز؟

تريث، سرح بنظراته، أعاد إشعال غليونه قال وهو ينفث الدخان:

ـــ الإيمان كالحب هو أن لا تسألي لماذا؟ وكيف؟ الأسئلة تربك خفقات القلب! أعرف أن ذاكرة الطين أقوى من ذاكرتنا ، تصدمنا تجرحنا، إنما في النهاية لدي روح تحتاج السكينة والرضا!

أعرف إنه وزوجته كانا مؤمنين حريصين على صلاتهما وسلامهما الداخلي، وأنا وماكس كذلك ، لكن بحثي في ذاكرة البشر فراعنة أو سومريين جعلني أفكر أعمق، أو لأقل مزعزعة الفكر:

ـ لكنك وماكس قلتما أنكما وجدتما الكثير من جذور السماء في الأرض، على حقيقتها!

ـ نعم ، المنقب كالطبيب، هذا يشرح الجسد، وذاك يشرح الحضارة القديمة، كلاهما غير مسئولين عما يجدان من حقائق مهما كانت قاسية.

تطرقت معه إلى ما قاله الراهب بهنام. قال لابد للعراقيين أن يتولوا بأنفسهم التنقيب عن تاريخهم، سمعت أنهم أرسلوا طلابا إلى أمريكا وبريطانيا لدراسة التنقيب،واللغة السومرية والبابلية، مفارقة طريفة أن يتعلموا لغة أسلافهم من الآخرين، المهم أن يمسكوا تاريخهم بأيديهم!

استخرجنا آلاف الألواح الطينية، كان يؤلمنا عدم وجود مخازن ملائمة لحفظها، أخذت الفرق الأجنبية حصتها من هذه الألواح واللقى الثمينة!عرضوا بعضها في المتحف الوطني، بناية قديمة صغيرة في الرصافة، ألقوا حمولة شاحنات كبيرة من لألواح الهامة في ساحة واسعة في الكرخ مخصصة لبناء متحف وطني كبير، لا ندري كم ستبقى هذه الألواح تحت هجير الشمس، والمطر فالكثير منها أخذ يتفسخ ويتفتت! ما يجعل استخراجنا لها من باطن الأرض جناية عليها! هذه الألواح مكتوبة بالخط المسماري، أو باللغة البابلية، تحوي الكثير من المعلومات عن العهود القديمة،وبعضها مجرد عقود بين الأفراد، في ذلك الزمن البعيد كان استئجار خادمة أو فلاح يقتضي كتابة عقد بثلاث نسخ،اثنان للمتعاقدين، والآخر يودع لدى المعبد. كانت درجة تنظيم الحياة واحترام حقوق الإنسان آنذاك، تدهشنا حقا! خزنوا آثارا هامة في بيت الآثاريين، الذي نسكنه كلما قدمنا إلى بغداد، فأجد فيه إلهامي وأتمنى لو أعيش عزلة طويلة فيه أختلي مع شخصيات الماضي أحاورها وأسبر غورها وأكتب عنها. حقا إن عمرا واحدا لا يكفي للروائي، ليته يعيش أضعاف عمره ليكتب؛ فهو كلما تقدم في العمر ينضج أكثر، لكن من يحصد نضجه في النهاية هو دود القبور! قضيت وماكس سنتين قرب أور، كانت فترة خصب روائي لي كتبت، رواية "جريمة في شارع الرشيد"، "جريمة في كركوك"، "جريمة قتل في وادي الرافدين"،وغيرها. أعددت خططا لروايات أخرى. كان ماكس يساعدني في مراسلاتي مع ناشري كتبي ويبذل جهدا للحد من جشعهم وألاعيبهم ليضمن حقوقنا المادية، وإخراج الكتاب بأفضل رونق، وتحقيق أوسع انتشار له. كان إقبال القراء على رواياتي في مختلف أنحاء العالم بعد ترجمتها قد منحنا أنا وماكس سعادة حقيقية غامرة! لكنه بنفس الوقت جعلني أكثر شعورا بالمسؤولية إزاء ما أكتب، وأكثر اهتماما بتقنيتي الروائية، واختيار موضوعاتها وشخوصها!

سألوني كثيرا لماذا كل شخوص روايتي هم من الإنجليز والأجانب المقيمين في العراق أو في غيرها من البلدان، لماذا لا يكون ثمة أبطال لرواياتي من أهل البلد؟ الأمر لا يتعلق فقط بأنني أتحاشى التورط بمواقف قد تحرجني كأجنبية، بل لأنني أعرف أكثر دواخل وطبائع أبناء جلدتي الذين أعيش معهم في البلد الغريب، وجدت البعض من هؤلاء ما أن ابتعد عن سلطة بلده وقوانينها الصارمة، ورقابة مجتمعه؛ حتى تفجرت في أعماقه نزعات بدائية ومتوحشة، فتهالك على الملذات، واستغرق بحثا عن الثروة، وسيطرت عليه نزعة العدوان والجريمة. ذلك دعاني لتناولهم في رواياتي. لكن هذا لا يمنع إذا وجدت حبكة أو مواضيع وشخصيات محلية أن أغامر بالتعبير عنها في رواية. على كل حال أنا أعول على الإلهام كثيرا، وذكريات طفولتي وصباي!

 

حتى لو وصلت إليها؛ ستجدها عجوزا هرمة، هذا إذا لم تقف على قبرها!

تلاحق لهاث ماكس،لكنه واصل القراءة ،معتقدا أنه في صفحة أخيرة أو قريبا منها سيعثر على مفتاح باب قد يفضي إلى أجاثا! قال لي سليم البكري:

ـ لم لا تختار فتاة أخرى غير حبيبتك الخيالية هذه، لتكن من المعدان، المهم أن تكون موجودة الآن، ومن الممكن الوصول إليها، فكما صرت تعرف ثمة بين المعدان جميلات كثيرات، ولا بد أن أهلها سيوافقون على زواجك منها؛ ما دمت تنوي الاستقرار بينهم. فقط اسلم، ولو شكلياً!

أفقت من شرودي لأقول له:

ـ لا يهمني أن أكون في أي دين، أو حتى دون دين، لكنني أنا لا أبحث عن جسد فتاة أحلامي، بل عن روحها، يكفيني الآن أن قلبي يهيم معها أينما تكون، وكيفما تكون!

ـ كيف تحتمل الوحدة والوحشة؟ دعني أسألك بصراحة كيف تقضي حاجتك الجنسية؟ فأنا أكبر منك بسنوات، ولا أطيق أن لا أمارس الجنس مرة كل أسبوع!

أعتقد إن سليم يمارس الجنس مع مومسات، فهو أعزب مزمن كما عرفت،رحت أفكر بوضعي:

ـ مذ جئت العراق، لم اقرب امرأة، لا في الأهوار، ولا في غيرها!

ـ لا ألومك على ذلك، يجب أن تكون حذرا، فالذين يكرهونك هنا كثيرون، ولكن ينبغي أن تعرف أن ثمة فتيات من المعدان حين يذهبن إلى المدينة لبيع الروبه يخضن مغامرة عابرة مع رجل يعرف كيف يستدرجهن بالكلام المعسول أو بالنقود! هذا بالطبع لا يعني أن كل فتاة من المعدان تبيع الروبه يمكن أن تنالها بسهولة! ولكن لا تشل نفسك عن مغامرة مع امرأة حقيقية قائمة خارج أحلامك! لماذا هذا التبتل والرهبنة يا ثيسجر؟ حتى الرجل العراقي المتدين لا يتحفظ مثلك؟ الأوربي حسب ما أعرف يعد الجنس أمرا أساسيا في حياته!

بقيت صامتا، ما يقوله صحيح. سمعت من عمارة وياسين أحاديث كثيرة عن نساء يمكن نيلهن بقليل من النقود، وهما كما عرفت منهما لهما مغامراتهما، ومعرفتهما بالنساء ودروبهن، لكنني أبدا لم أسخرهما لهكذا أشياء. كنت صادقا بما قلته للبكري، لم أقرب امرأة لا في الأهوار ولا في غيرها من الأماكن، رغم حاجتي العميقة الجنس. أهو الخوف في هذا البلد الذي ينظرون فيه إلى الأجنبي بريبة وتوجس، وينتظرون أية زلة منه لينهالوا عليه بسكاكينهم! فكيف إذا كان انجليزيا لهم معه ثارات وحسابات قديمة؟ أم إنني عقدت كل أحلام الحب ورغباتي على فاطمة،وجعلتها تملأ كياني، ولكن إلى متى؟وحتى الآن ليس هناك أي بارقة أمل في العثور عليها، وإذا وجدتها، قد تكون أضحت عجوزا، أو قبرا دارسا، وإذا مازالت حية وبعمر مناسب، لا ضمان إنني سأحصل عليها، قلت:

ـ لم أفقد الأمل بالعثور على فاطمة! قلبي يحوم حولها ويراها! أعرف إنني أشط بعيدا في الخيال أو الوهم، لكنني مطمئن، سعيد بأحلامي وأوهامي!

أطلق سليم ضحكته المعهودة:

ـ لا تتصورني وأنا أساعدك في البحث عنها، إنني مقتنع أنك ستجدها،أنت حتى لو وصلت إليها ستجدها عجوزا هرمة، هذا إذا لم تقف على قبرها، يا رجل عش حياتك هنا! تمتع من النساء الشرقيات! فهن بطعم آخر.غير ما خبرت في أوربا، وعاد يضحك!

ـ جئت يا سليم لأجد عندك الأمل لا الإحباط، حين سأعود إلى لندن يائسا من فاطمة سأتيه في حي سوهو، وأغرق في ملاهيه ومواخيره!

ـ وستجلس في الحانة تشرب كأسك، وتندب حظك ندما أنك فارقت الأهوار، ولم تذق طعم شفاه امرأة منها، اختنقت فقط بدخان روث البقر ولسع البعوض.

أخذ صوته لهجة جادة:

ـ ومع ذلك يا ثيسجر سأبقى أجاريك في جنونك، وأبحث معك عن فاطمة، فأنا السكير الذي لا يضيع امرأة في أية سانحة، لدي توق لحب عظيم كحبك، أنا معجب بك يا ثيسجر،وسأبقى معك حتى تجدها، أو تجد طريقة للخلاص منها وأوهامها!

في جولاتي في الهور أرى ثمة شبان ممشوقي القوام بثياب رثة، وفتيات جميلات بثياب سود مهلهلة، تظهر على ما يبين من أجسادهن طبقات أوساخ من فضلات الجاموس ودهنه، وغبار القصب متقاربين في مشاحيفهم، أو يخوضون نصف عراة، وراء أكمات القصب يتبادلون كما الطيور نداءات الحب بالغناء، ثم بالنظرات والهمسات واللمسات حتى يغرقون في حمى شهواتهم الساخنة. عناقات حارة، ومضاجعات في الظلال الداكنة، ووراء قامات القصب ،فورات شوق ولهفة قد تنتهي إلى زواج سريع أو إلى فشل بطيء ممض، ربما تكون نهايته قتل الفتاة غسلا للعار! ولكن بعد الحب أو قبله لهن جولات عمل وكدح شاق! مع شروق الشمس تنقسم النساء إلى فريقين أو أكثر، نساء ينهضن مع الشمس يعملن خبز الرز، والحليب، الفطور الصباحي للعائلة كبيرها وصغيرها. عرب الهور لا يجدون عادة أرغفة خبز الحنطة الساخنة الشقراء الفواحة المتطايرة كأجنحة النسور من التنور الطيني في بيوت العرب أبناء القبائل الساكنين حول الأهوار. هنا يشوون خبز الرز على جمر من روث الجاموس المجفف يسمونه المطال، ثم يضعون على وجه الرغيف الأبيض الجمر أيضا ليستوي وينضج، كان هذا يجعلني أتقزز، لكنني شيئا فشيئا تعودت عليه،وصرت أستسيغ رائحته التي هي مزيج من عطر القصب البردي، وعصائر بطن الجاموسة. تظل المرأة تعمل بدأب طيلة النهار، ترقب الجاموس كأنهم أفراد من العائلة. تركب المشحوف لتجلب علفهم من غابات القصب والبردي، ولتصطاد في طريقها سمكة أو طيرا، تطعم أفراد العائلة المتزايدة والتي أفواهها دائما مفتوحة جائعة، الأم أو الأخت تشبعهم عادة وتنسى نفسها، ،تدور مع قرص الشمس من بزوغها حتى غروبها؛ لتلقي جسدها المرهق على فراشها المهترئ مع منتصف الليل، بينما الرجال يجلسون في المضايف أو على الشطآن مسترخين يثرثرون، يدخنون ويتضاحكون ويهزجون. ثمة فريق آخر من الفتيات ينشغلن بحلب الجواميس وتحضير الروبه والزبدة، ينزلن بها إلى المدن لبيعها! بعضهن شقراوات بعيون خضر وشعر ذهبي، يجلسن بثيابهن السود مقرفصات في الأسواق،أو يدرن به بين البيوت فلا يسلمن من تحرش رجل أعزب ملوحا لها بنقوده، بعضهن يستجبن لإغراء المال ورائحة الرجل، لكن الكثيرات يرفضن ويثرن بقوة وشراسة. هن عموما متمسكات بعفتهن وسمعتهن، الفتاة تعرف لو أن أهلها وجدوا أنها حامل دون زواج؛ فلا عقوبة لديهم لها سوى أن يضعوها أمام أجمة من القصب ويرمونها بالرصاص. تصوري يا أجاثا حتى الأم لا تلتفت وراءها لتحمل ابنتها القتيلة وتواريها التراب أو الماء،هي تتوافق مع الأب والأخوة لترك جثتها طعاما للأسماك والطيور الجارحة!

 

كنت أنظف وجه التمثال القديم بنفس سائل التجميل الذي أنظف به وجهي،وأقول في نفسي: إن الجمال الحقيقي هو ما يتبقى لنا بعد أن يصفي الزمن حسابه معنا!

رجعت أنا وماكس إلى لندن، أردت أن أكون إلى جانب روزلندا فترة كافية، كانت تحرز تقدما في دراستها؛ متفهمة غيابي عنها. أنا لا أطيق جو لندن ولا باريس أو روما، يمكن أن استمتع بهكذا أجواء لفترة، وسرعان ما يعتريني السأم والنفور. أحب الريف الإنجليزي، حيث ولدت ونشأت، أجد فيه سكينتي وهدوئي وتأملاتي المتأنية،وأواصل الكتابة، يقولون إنني غزيرة الإنتاج، في الواقع أنا فقط اكتب بانتظام، وأطوع مزاجي لكتابتي، لا كتابتي لمزاجي!

عدت مع ماكس إلى العراق عام 1947، في البداية كان ماكس مساعدا للآثاري الكبير كامبل تومبسون مؤلف معجم النبات لدى الآشورين، ومنه عرفت أهمية زهرة البابونج التي كان يقدسها الآشوريون. حفروا صورتها على جدارياتهم الضخمة، كان يضع زهرة منها في عروة سترته كتعويذة، وكنت أنا أضع ملعقة من مسحوقها الجاف في قوري الشاي كل مساء؛ فهي مجربة في تطهير المعدة، وتهدئة الأعصاب! ترأس ماكس بتمويل من إحدى الجامعات الأمريكية،بعثة تنقيب في شمال العراق، بلاد الآشوريين تحوي الكثير من تراثهم ممتزجا بتراث البابليين والأكديين رغم ما دارت بينهم من صراعات، تناوبوا بها النصر والهزيمة! بين هذه الجبال،وفي هذه السهول الخضراء صنعوا فصولا مشرقة من تاريخ البشرية، كان برج (آربيلو) يعني في اللغة البابلية،الآلهة الأربعة (يسمونها اليوم أربيل، وينزل إليها الأكراد في هذه الأيام من عزلتهم الطويلة في أعالي الجبال) وقد نقلت إليه أيقونة عشتار من بابل ليحف بها الكهنة في المعبد المقدس العالي على قمة الهضبة، فكان بمثابة سفارة العراقيين لدى السماء! شمال العراق كان عاصمة نصف العالم، فقد امتدت إمبراطورية نينوى إلى آخر انهار الهند، ورمال الأهرامات في مصر! حكموه بمزاوجة بين السيف والكتاب! حين اعتمدوا الكتاب تقدموا ونشروا الخير والأمان والجمال، وحين أوغلوا بالسيف كبوا؛ فكانت عثرتهم القاتلة! رحنا ننقب في آثار نمرود ونينوى. استأجرنا قطعة ارض من عجوز تدعى "نائلة" ، كان لنا حق الحفر في باطنها شرط عدم أحداث تغييرات أساسية، وجدنا تحت هذه الأرض تحفا رائعة لا تقدر بثمن، وكنا نضحك " هذه التحف لو بيعت تجلب ملايين الدنانير، حصلنا عليها لقاء سبعة دنانير شهريا، حين نسلمها للعجوز نائلة تقبلها وتضعها على جبهتها شاكرة الله على نعمته، وتسألنا بقلق، هل ستبقون السنة القادمة؟ نعم يا نائلة؛ كيف لا نبقى وتحت أرضك المهجورة والتي كان يرعى بها الماعز،وتبول عليها الحمير، ثروات الدنيا من الذهب والمجوهرات النادرة وما هو أهم منها؛ التاريخ والأساطير وملحمة جلجامش نفسها؟ كنا بعد الاستدلال على المكان الذي نتوقع أن تحته بقايا عهد ما، وهو غالبا ما يكون مرتفعا مقببا،تراكم فيه متهدم الأزمنة،نبدأ الحفر ببطء يبعث على الملل وبأدوات يدوية بسيطة تتطلب الصبر والدقة. كان من المفضل أن يقوم بذلك عمال من أهل الشرقاط، فهم بالفطرة يمتلكون مهارة التنقيب والبحث ويمتازون بالصبر والمرح والذكاء، وقد ظلوا يرافقوننا في عملنا محرزين معهم أفضل النتائج، وقد تعلمت التعامل معهم ومع آخرين من قرى قريبة، وشعرت نحوهم بالود والتفهم فحظيت بحبهم،وكنت افرح حين يناديني أحدهم بلهجته المحببة "يا عمتي" أو "يا أمي"! كنت أعيد تركيب حطام جرار الخمر والعسل والماء لتعود كما كانت. اعتني كثيرا بوجوه التماثيل الصغيرة والمتوسطة المصنوعة من العاج أو الرخام الصلد، وأقوم بتنظيفها بدقة وعناية، كان أعظم ما استخرج في نمرود تمثال لأمير آشوري من العاج، كان جميلا سميته موناليزا نمرود، كانت ابتسامته مرحة ساخرة عكس ابتسامة الموناليزا الغامضة، يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، تحفة هائلة، كنت أنظف وجهه بنفس سائل التجميل الذي أنظف به وجهي، وأحنو عليه كأنه طفلي،أناغيه ، وأقول في نفسي إن الجمال الحقيقي هو ما يتبقى لنا بعد أن يصفي الزمن حسابه معنا! كان ماكس يضحك قائلا:

ـ لم أرك تعتنين ببشرتك يوما، ولم تستعملي هذا المستحضر الذي جلبته من لندن، والآن تستعملينه لوجه الأمير الصغير!

وكنت أقول له ضاحكة دون أن أفضي له بفكرتي الحزينة عن الجمال:

ـ أنت أمير يا ماكس، ولا أثير غيرتك إلا مع أمير!

 

الحب ليس حربا بين شريكين، إنه حرب بينهما وبين الموت، هو الحرب الوحيدة التي لا يخرج فيها أي طرف مهزوما أبداً!

هنا المرأة قوية،تشعر بالمسئولية اتجاه زوجها وأبنائها، لها الكلمة العليا في العائلة،مسيطرة على الرجل والأبناء، لها عرش بسيط حقيقي، تبتسم بهدوء أو تطلق ضحكة مجلجلة، لا تهتم بزينة أو تبرج؛ بعقل واقعي، وعاطفة جياشة.حين تعود من بيع اللبن والقيمر لا تكف عن الحركة في الصريفة، تنجز أشغال عيشهم اليومي ولا تخلد للنوم حتى توفر الخبز للعائلة من تنور قرب بيتها القصبي. ترفو أسمال أطفالها، ترعى المريض منهم، تناقش زوجها أو أخوتها أو أبيها في مشكلاتهم، تقول رأيها بجرأة طالما لا يخرج عن تقاليد وأصول العشيرة أو الدين. بعد هذه الأعباء الكثيرة هل انتهى عمل وواجب المرأة نحو الرجال أو العائلة؟ لا،على المرأة أن تتقدم لنجدة وإنقاذ العائلة في شأنين خطيرين، فعندما يحين موعد زواج شقيقها تكون عادة هي الثمن أو المقابل الذي يدفعه لأهل العروس،أي تتحول فجأة إلى مهر، فيكون الزواج الواحد عادة زواجين، زواجها وزواج شقيقها معا، والشاب الذي لا شقيقة له قد لا يتزوج أبدا، إما إذا تورط والدها أو شقيقها وقتل أحدا؛ فتكون هي نصف الثمن الذي ينبغي أن يدفع تعويضا لأهل القتيل. إذ الدية أو التعويض المقابل يكون امرأتين. وهي لكثرة كدحها وعنائها تذوى وتموت في ريعان شبابها. بذلك تكون هي صانعة الحياة في الهور،وضحيتها! كل ذلك يجعلني أنظر إليها بإجلال ولا أفكر فيها متعة عابرة لي بغض النظر عن العقاب، فأنا لو أردت امرأة عابرة لحصلت عليها، فياسين وعمارة طيبان لا يتوانيان عن مساعدتي في لقاء امرأة بعد أن أحباني ووثقا بي، وفي مساراتي الطويلة بين تجمعات الناس في الأهوار صادفت الكثير من نظرات النساء الراغبات أو المنجذبات واللواتي أرسلن لي عبر عيونهن الواسعات الشهوانيات نداءات لم تكن عصية على الفهم! كنت أستطيع أن أقصد مواخير وبيوت اللذة الموجودة في البصرة، لكنني لم أفكر بالمتع الصغيرة العابرة، أحببت أهل الهور بعمق، واحترمتهم، وتمنيت لو استطيع أن أقدم لهم شيئا كبيرا يسعدهم، أو يغير حياتهم، لكن هذا فوق طاقتي. ظلت فاطمة حلمي وأملي، حزمة النور الذي يجذبني إلى الأعالي ، لذا لا أريد لروحي أو جسدي أن يهبطا دونها إلى الأرض مهما ضجت الشهوات في جسدي! أنا فرح يا أجاثا أنني بعد أن نثرت شطرا من عمري في الصحراء ، أنثر الآن الشطر الآخر من العمر فوق ماء الأهوار الذي ضم حبيبتي يوما، روى جسدها وربما يضم روحها أو ذكرياتها وما سيتبقى منها في زمن قادم أو قد يكون زمن مضى ولا أدري! أحيانا أتصور نفسي ميتا ينثر بنفسه رماده ، نصف في البيداء، والنصف الآخر فوق الماء،ومشيعوه ينظرون إليه متضاحكين، فيقشعر بدني. لكنني أعود لصحوي موقنا إنني أبحث عن الجمال يحدوني أمل عظيم! أحدق في صورتها،يزداد سحرها وتأثيرها المسكر، تنهض بقوامها الفارع، عينان تلمان نور الأفق،صدر يزخر بالحنان، خصر أهيف ممتلئ، انخفاضة تحت البطن، قوس زهر،يدان لا تكفان عن صنع الفرح إذ أمنحها أو تمنحني طعاماً أو شراباً أو كتاباً! حين أكون معها أختفي عن كل شيء حتى عن نفسي،لا أجدني ولا أجدها، هل أكون قد ذبت فيها؟ أين هي؟ هل ذابت في ّ؟ رحنا معا،موجة في البحر، أغنية شجية في الريح، وأقول في نفسي، الحب السعيد الوحيد هو حين لا تجد المحبوب، ولا يجدك، تظلان لعبة وهم وأحلام تتكرر، فلا نصدق حياة ولا موتاً، بداية وحسب، نهاية وحسب، أيتها الفاتنة مضى العمر خلفك، لا ندم ولا حساب، كل ما يتبقى في القلب في هذا المسار انتصار. قال لي شيخ من عرب الهور في مضيفه بعد أن سقاني آخر فنجان من القهوة لديه: الحب ليس حربا بين شريكين، إنه حرب بينهما وبين الموت، هو الحرب الوحيدة التي لا يخرج فيها أي طرف مهزوما أبداً! كلا الطرفين يكونان منتصرين، حتى لو هجر احدهما الآخر! ربما تسألينني: لو كنت وجدت فاطمة؛ بعد بحثك الطويل، هل حقا إنك ستتزوجها وتعيش معها الحياة البدائية والفطرية التي حلمت بها؟ هل ستتصرف معها بغير ما فعل الضابط الإنجليزي؟ تنتزعها من أهلها وأحبتها وتذهب بها إلى بلادك مستغلا فقرها وضعف أهلها وقوة الإنجليز؟ قد يكون الفرق كله انك ستكون معها وأهلها لطيفا، أو اقل فظاظة من الضابط، بينما النتيجة واحدة! ماذا أقول؟ لا أريد أن أمتدح نفسي، لكن من حقي أن أعبر عن نواياي،أنا كنت أريد أن أعيش معها على أرضها وبين أهلها وشعبها. لا يعني هذا تنازلي عن مدنية وعلم أو حضارة. بل يعني إدراكي أن ما لدي منها أجعله في خدمة الناس، الحب الحقيقي سيصهرنا معا. سأعيش معها في كوخ يطفو على الماء، أو في بيت أبنيه على الضفاف. سأضع خبراتي الطبية البسيطة في خدمة أهلها وقومها، أليس الأرض كلها بلاد الإنسان؟ حانت من ماكس دون إرادة منه نظرة إلى الصورة، كان سوادها وبياضها لامعا واضحا! فأشاح عنها ،أخذ يشعر بالراحة، ثيسجر ما يزال يبحث عن حب له على هذه الأرض،لم يجده حتى الآن، وأنا أشك به، كم نحن ضعفاء أبناء البشر نخشى من أدنى منافسة، سأواصل قراءة رسالته، ثمة شعور لدي أنه سيضيء طريقي في بحثي عن أجاثا! لهنيهة ظل ماكس يتسمع أصواتا متشابكة مختلطة تأتي من جهة النهر، علها أجاثا عادت يحف بها منقذوها، شرطة أو رجال من أهل هذه البلاد معروفين بإكرام الضيف وحمايته. نهض إلى الشرفة، تطلع إلى الشاطئ، لا شيء سوى الصيادين والقوارب تنقل العابرين، عاد يقرأ: جعلني عمارة أرى في إحدى تجمعات المعدان غير بعيد عن الصحين، رجلا من المعدان قال إنه جن ببنت المعيدي، كان شريدا وسخا رث الثياب شبه عار، ظهرت عورته، يقولون إنه كان قبل سنوات قد رأى صورتها في مقهى بالناصرية، عاد إلى أهله طالبا منهم أن يجدوها ويزوجونها له، سخر منه أهله وجيرانه وعشيرته، ضحكوا كثيرا عليه وأهملوه. أصيب بلوثة،هام على وجهه بين ممرات الماء ينبش في عصاه في الوحل ،لا يكلم أحدا،قلت في سري ماذا أختلف أنا عنه؟كلانا مجنون، الفرق هو بسيط لا يعرف كيف يداري جنونه، وأنا لدي القدرة على إخفائه!

 

أنا وماكس لم نعد نحدد عمرينا، فقد امتدا سبعة آلاف عام في أرض العراق القديم!

كان التاريخ يعود بين أيدينا نهرا من الغبار المعجون بنور كاشف باهر، نرى أنفسنا في مرآته! ماكس يقول:

ـــ أتعرفين يا أجاثا أنا لم أعد أعرف كم هو عمري، لقد دخلته أعمار حقب التاريخ القديم كلها!

ـــ عمرك سبعة آلاف سنة يا ماكس يا لي من تعيسة أنام مع رجل ولد قبل ميلاد المسيح!

وأراه يسرح في الأفق وكأنه فعلا يحمل أحزان آلاف السنين فأقول له ضاحكة:

ــ وأنا يا ماكس عجوز عمرها سبعة آلاف سنة كلانا التهمنا التاريخ كله فضاعت أعمارنا القصيرة به ، هذا منتهى السعادة!

ـ تفوقت على بعض علماء الآثار في خبراتك في الآثار، صار الاستغناء عنك في عملنا صعبا!

كلامه يفرحني، ويؤلمني بنفس الوقت، هذا يعني إنني لا أستطيع أن أكرس وقتا أطول للكتابة،بينما كانت موضوعات وحبكات الروايات تتكاثر في ذهني مع كثرة سفراتي وجولاتي في أرض الشرق المفعمة بالإلهام والوحي! حين اخرج إلى الشوارع في المدينة، وأرى الناس لاهين أو مستغرقين، في هموم وانشغالات ،أشعر بالأسى؛ أنهم يديرون ظهورهم لماضيهم، لا يعرفون عظمة حضاراتهم الكبيرة، وكم أعطت للعالم! بل لا يعرفون قيمة أنفسهم، ولا ألومهم، فهم لديهم من آلامهم وفقرهم وأعمالهم الشاقة ما يكفيهم! ويقول لي ماكس:

ـ نحن نرى الحياة هنا طيبة وسعيدة لان لدينا من المال ما يكفينا لمعيشة مرفهة،هنا أهل البلد لا يملكون خبز يومهم، ذاهلون ، يرون ما فوق الأرض، كيف تريدينهم يرون ما تحتها؟ حتى لو كان تاريخهم وذاكرتهم!

كنت سعيدة بآلة سينما صغيرة بسيطة اشتريتها من لندن، صورت بها مشاهد قصيرة من الموصل، ونينوى القديمة،والريف الجبلي: فلاح كلداني يحرث أرضه ويمهدها لزراعة مقبلة، ،رجل آشوري كهل يقطف عناقيد العنب ويكدسها في معصرته لتغدو خمورا معتقة بنكهة فاخرة، رجال ونساء آشوريون يغنون ويرقصون في حفلة زواج بساحة القرية، راعي كردي بشرواله الفضفاض، ولفة الرأس الكبيرة، يرتقي بماعزه منحدرات جبل إلى كوخه البعيد بين الصخور وأشجار الجوز، تركماني بزيه التقليدي يقف قرب منقلة شواء اللحم في مطعمه قريبا من جامع النبي يونس، ويحيى الناس ضاحكا، تاجر عربي بغترته وعقاله يقف بجانب بضاعة ربما أتى بها من سوريا، بينما عماله يدخلونها إلى محله الكبير، دولاب هواء في مركز المدينة يمرح به أطفال فرحون في العيد، شيخ يزيدي يقف عند باب معبده يبتسم للرجال والنساء القادمين للصلاة، رجل عجوز منهك يبيع الحلاوة بأطباق خشبية صغيرة، شاب موصلي يسير متبخترا معجبا ببذلته الإفرنجية الجديدة، وربطة العنق، مع نظارة غامقة!

والآن ها هي رحلتنا الطويلة قد قاربت النهاية، ماذا استطيع القول عنها؟ كانت على طولها سعيدة جدا،كأننا ولدنا وعشنا على هذه الأرض، متنا وولدنا مرات عديدة، وما زلنا نتنفس هواءهم ونشرب ماءهم سرنا طرق الحضارات وبقوة مخيلتنا،نعيش مستقبل لإنسانية،ونأمل أن يكون سعيدا،خاليا من الحروب، وكلما أحسست بالسعادة خفت أن افقد ماكس: ما زلت متألمة للحظة جعلته فيها حزينا حين سألته:

ــــ أتعرف ماذا أتمنى يا ماكس؟

وهز رأسه بصمت ووجل، ربما راعته رعشة في صوتي، قلت:

ــــ كل ما أتمناه أن أموت بين يديك، وأن تطبق جفني حين تفارقني آخر ومضة من نور الدنيا! وأن تعرف حتى إذا لم استطع أن انطق بكلمة آنذاك إنني أحببتك حتى آخر نبضة في قلبي!

لأول مرة أراه غاضبا نهض دامع العينين ليقول بصوت عاتب متهدج:

ــــ لم أكن أتصورك يا أجاثا تقسين على إلى هذا الحد!

قالها كطفل غافل عن الموت! كأنه لم يعمل عشرات السنين في رماد الموتى، ويراه يتحول في أجساد الناس إلى حياة أخرى!

 

لا أمل لي بها؛ إلا إذا كان الزمن قد توقف معها بانتظاري!

في اليوم التالي لوصولي لندن رحت أسأل من ألقاهم وأعرف عنهم سعة اطلاعهم، إذا كان ثمة ضابط انجليزي قد اختطف فتاة عراقية وأتى بها إلى لندن أثناء احتلالهم لبلادها أوائل هذا القرن! كان جواب أكثرهم إنهم لم يسمعوا بشيء كهذا، بعضهم نصحني " أنت تزج نفسك هنا بأمر معقد وحساس قد يعرضك لمتاعب كبيرة، دعك من ديمقراطية بلدك؛ فهكذا قضايا هي من أسرار الحروب والعسكر، ووثائقها من مقدسات وزارتي الدفاع والخارجية، ولا تكشف إلا بعد نصف قرن على أقل تقدير، وآنذاك، لا يكشف منها إلا ما لا يعرض سمعة بريطانيا العظمى للخزي أو العار" لم أستبعد أن يكون ثمة شيء عنها في دوائرنا العليا، احتلال بلد؛ لا بد أن يرافقه اغتصاب وانتهاك وخطف ودمار، والأشد هولا هو اغتصاب إرادة الشعب نفسه.لكنني بقيت أريد أن أعرف جيء بامرأة كهذه حقا، هل لا تزال هنا حية، كيف عاشت حياتها أو مماتها؟ هل هجرها زوجها بعد أن قضى وطره؟ هل ما زالا يعيشان معا عجوزين، أو قبرين متجاورين؟ هل فقدا الذاكرة أم لا زالا يتذكران كل الأحزان والأفراح؟ هل لهما أبناء؟ أين هم؟ وكيف يشعرون؟ احتمالات كثيرة تبدو مثيرة ومشوقة لي حتى لو لم أكن قد جعلت نفسي طرفا في مأساتها! طبعا لا أمل لي بها إلا إذا كان الزمن قد توقف معها بانتظاري، وهذا مستحيل! وجدت أن التحري عن حقيقة صورة فاطمة ، يعني التحري عن فاطمة نفسها، والعكس صحيح تماما، فهما في غموضهما وسرهما صارا شيئا واحدا! هكذا فكرت،إنها ليست سمكة صغيرة تختفي في أعماق البحر هي امرأة من بلاد الشرق وخلفها مأساة!

البحث في مضمار الفن طبعا، أسهل من البحث دروب السياسة أو أسرار الجيش! زاد قلقي أن أن تكون محض خيال لرسام كرع وهو يرسمها برميلا من البيرة، رغم أن ذلك سيخلصني من تعب وهموم البحث والمعاناة! في مخزن لبيع اللوحات القديمة لا يبعد كثيرا عن حي سوهو، وجدت نسخة من صورتها، بطباعة فاخرة وسعر زهيد،كان صاحب المخزن رجلا مسنا أنحنى ظهره وهو مازال مكبا على أكداس الكتب واللوحات والبطاقات البريدية القديمة،لم يكن جشعا فلم يغالي في سعرها رغم إنه لم يكن لديه سوى نسخ قليلة منها،كان لطيفا بمزاج طيب فسألته عن حقيقة الصورة، قال :أعتقد إنها لرسام مستشرق جوال، مبتدئ أو متدرب! بقيت انظر إليه وقد بدأت خيبة أملي فهو رجل لديه خبراته في مضمار الصور. قال: رأيت الكثير من لوحات رسامين زاروا بلدان الشرق،سوريا والعراق ومصر،ورسموا صور نساء كثيرات في شتى الأوضاع في البيوت،الصالونات، الأسواق،في الحمامات عاريات داخل غيوم من البخار،في أسرة النوم، بأحضان عشاقهن، أعتقد أن هذه اللوحة وهي جميلة دون شك هي من هذا النهر الجميل المتدفق! قد يكون هذا الرسام مفلسا فباع لوحته لإحدى شركات النشر التجاري فطبعت نسخا كثيرة صدرتها إلى بلدان الشرق، فانتشرت هناك! وجدت أجابته منطقية، لكنها آلمتني وحدت من آمالي! ومع ذلك لم استسلم. أخذت منه اسم دار النشر التي أصدرتها في لندن ورحت أبحث عنها! اهتديت إليها بعد جهد، كان الناشر الأول قد توفي.لكنني لم أعرف من أحد ورثته وهو مدير الدار ، اسم الفنان الذي رسمها أو أي شيء عنه. اكتفى بالقول "لا يوجد في سجلاتنا أي شيء عنه" "أعتقد أنه رسام مجهول مر سائحا في لندن، وقد رسمها لتدبير نفقات رحلته إلى هنا أو هناك، ربما هو إيطالي، لو عرضت عليه الآن؛ لما عرفها. طلبت منه نصيحة في بحثي عن حقيقة الصورة، فأخذ ينظر إليّ بضجر واضح! ثمة صديق قديم التقيت به مصادفة في المقهى،حدثته عما يشغلني، لم أتوسع معه بشيء عن قصتي،فهو كإنجليزي بمنطق بارد سيسخر من هذا العشق الغريب ويعده لوثة عقلية! اقتادني إلى صديق له يدعى هنري، وهو رسام ومهتم بنقد وتاريخ اللوحات الشهيرة، كان مرسمه قبوا تحت الأرض، نزلنا إليه بدرج لولبي كاد يخنقني بروائحه وعتمته الثقيلة، كان يرسم على المصابيح الكهربائية. قال كالمعتذر وهو يقف بقامته الطويلة النحيلة ووجهه البيضوي الأشقر كشبح:

ـ هذا قدرنا في لندن، لا نستمتع بالنور الطبيعي!

فتح زجاجة نبيذ،عرض أن نشاركه، تناول صديقي كأسا، تقبل هنري اعتذاري بابتسامة لا تقل غموضا عن ابتسامته لإعجابي بصورة رآها بدائية، أخذ يشرب ويدخن،حدثته عن اهتمامي بمعرفة حقيقتها ، تظاهرت أمامه بالهم الفني والتاريخي المجرد، حك رأسه قائلا:

ـ هي غير معروفة هنا، ويصعب أن نجد هنا من يعتد بها!

ـ لكنها تمثل جرحا لدى العراقيين!

هز كتفه ضاحكا:

ـ كل الصور تمثل جروحا لدى هذا أو ذاك من البشر!

لم يبد اهتماما بها، شعرت إنه وجد انجذابي لها ضحالة فنية أو ذوقية لكنه أراد مجاملتي:

ـ أنظر! الرسام اختار أن لا يرسمها على خلفية مضيئة أو صقيلة لماعة،اختار لها خلفية داكنة معتمة، هي لوحة مغلقة!

ـ هو أراد أن يزيد من غموضها ويدفعها أكثر نحو المجهول، وتركها وحيدة مستوحشة لا شيء بجانبها أو حولها يدل عليها.هذا براعة آسرة! في العراق يسمونها الموناليزا!

أخذ يقهقه:

ـ المونوليزا شيء آخر كل مأساتها تطل من عينيها بدءا من أن زوجها التاجر الثري حاول ترضيتها بهذه اللوحة كي تحتمل تعلقه بعشيقتين سريتين منافستين لها.إلى كونها ما تزال تحب زوجها المتوفى؛ نادمة أنها تزوجت هذا الثري الفاجر، ملتزمة الصمت لا تريد أن تقر بفشلها، مرة بضربة من ملاك الموت، ومرة بضربة من شيطان الخيانة، الألوان على يد رسام عبقري تحكي سيرتها بصمت!

ــ لكن ابتسامتها أيضا ظلت غامضة، محيرة!

ـ نعم ،ولم يكن ذلك سهلا، لقد استأجر دافنشي طيلة الأربع أو الخمس سنوات التي استغرقها في رسم اللوحة مهرجا ليقوم بأعمال وحركات بهلوانية أمامها، لتظل محافظة على ابتسامتها الغامضة، في لوحتك لا ابتسامة، ولا مهرجين يمكن أن أسمعهم، صمت مطبق!

قلت في نفسي أنا المهرج الأكبر ولا تسمعني، خرجنا من مرسمه وأنا أفكر، ترى أي ملاك أو أي بهلوان جاء من الجنة أو الجحيم ليسلي موناليزا العراق لتحافظ على ابتسامتها الغامضة وتنسى أهلها في جنوب أو شمال بلادها، وقد انتزعت منهم، بينما الرسام يحاول أن يسابق منفاها البارد الموحش قبل أن يمتص كل جمالها كما يمتص الأفعوان دم الطائر الجميل!

 

طرق كثيرة إلى لندن، ولا طريق إلى محبوبتي من لندن!

زرته بعد يومين، أعدت عليه حديثي عن قصة خطف الضابط الإنجليزي لها، واهتمامي في تقصي ذلك هنا في لندن، ظل صامتا،بعد أن احتسى زجاجة نبيذ ثانية، أخذ يحدثني بأمر غريب:

ـ قرأت في صحيفة تهتم بالجرائم أن ضابطا متقاعدا عجوزا كان إبان الحرب العالمية الأولى في الجيش البريطاني في العراق، وجدوه مقتولا في بيته الكبير بضاحية في لندن، وقد انصرفت الشكوك إلى زوجته، حيث هي دائمة الشكوى منه ، مكررة القول إنها لا تنسى له إنه قبل خمسين عاما انتزعها من زوجها وأهلها في العراق وبيئتها الدافئة، وأتى بها منفية سجينة في بيته البارد،

ألا يمكن أن تكون هي فاطمة التي حدثتني عنها؟

رغم شكي في الكثير مما يتحدث به، فهو يفرط في الشراب، تختلط لديه الوقائع بالأخيلة وتأخذه الهلوسة، لكنني حاولت أن أعرف منه المزيد، وجدته لا يتذكر اسم الجريدة التي قرأ بها الخبر ، ثم أخذ يتراجع عن حكايته، فقدرت إنه أسير مخيلته المكتظة بالأشباح والصور الغريبة! تذكرتك يا أجاثا، قلت حتى إذا كان ما تحدث به هنري مجرد هلوسة، أليس هو ممكن الحدوث؟ أو حدث فعلا، ألا يمكن أن يتحول عبر مخيلتك الخصبة إلى رواية بوليسية مثيرة؟ وربما لفلم يتحدث عن علاقة الشرق بالغرب؟ شعر هنري بغرقي في لجة أخرى بعيدا عنه:

ـ اذهب إلى باريس لترى الموناليزا، في اللوفر فقد تتسلم من يديها مفاتيح هذه الصورة!

" أفكر بذلك" قلتها، ودعته وخرجت وقد خامرني شعور أن لا طرق لي إليها من لندن،رغم أن كل الطرق تفضي إلى لندن! بحجرتي في بيت أهلي القديم رحت أستعرض ما أعرفه عن موناليزا اللوفر،تذكرت أنها تنقلت بين قصور ملوك في أوربا، وإن شابا فرنسيا يعمل صانع إطارات للوحات قام بسرقتها من المتحف الوطني الفرنسي. عندما حاكموه، قال إنه وجد في اللوحة صورة حبيبته التي أحبها كثيرا، لكنها ماتت بعد فترة قصيرة، فأراد أن يستعيدها من الموت محمولة على هذه اللوحة. كان الحاكم عاطفيا رومانسيا فاقتنع بعذره، وحكمه بالسجن سنة واحدة فقط.أنا مثله الفرق بيننا أنه أحب صورة حبيبته التي غابت، وأنا أحببت صورة حبيبتي التي لم ألقها بعد! صرت وأنا أسير في شوارع لندن أتصور إنني سألقاها على رصيف، في مخزن،في مطعم ، مقهى أو حتى في بار، ألا يحتمل أنها وقد انتزعت من أرضها الدافئة الزاخرة بالطيور المهاجرة والآبدة، وغابات القصب أو أية بقعة جميلة أخرى، وألقيت في لندن تحت الضباب،والدخان قد جعل منها مدمنة خمر أو مخدرات؟ أو قد أراها في قصر بكنكهام جنب الملكة كما قال لي بعض المعدان؟ قلت سأعرفها مهما تغيرت ملامحها واختلفت عن صورتها. سألمح بعينيها حزن امرأة فارقت وطنها وأهلها ومن تحب لتتزوج رغم أرادتها من لا تحب،أو أنها أحبته تحت تأثير الرهبة والمال والبزة العسكرية الخادعة. نظرة فاطمة أكثر حزنا وعمقا من نظرة الموناليزا،سألتقط هذه النظرة في عينيها وأدرك كنهها، فهي نظرة إنسانة خائبة مثقلة بأسى المنفي الإجباري التي لا تخطئها عين نابهة!من يفارق وطنه مرغما ستعرفه حتى وهو يسير منتصب القامة في شارع أو حديقة، ستفضحه رفة من عينيه،رجفة من شفتيه،شحوب مبكر على وجهه، مسامات جلده ستطلق تلك الرائحة الشبيهة برائحة غصن تفسخ بعد أن جرفته السيول بعيدا عن شجرته! كم جعلنا وجودنا صعبا في هذه الدنيا، حكاية فاطمة حتى إذا كانت مختلقة مصنوعة من الأوهام، فإن هناك في هذه العالم كل إمكانات وأسباب أن تكون واقعة وصحيحة!لست معتوها كما يقول بعض أصدقائي وقد ضيعت زمنا أركض فيه على ماء الأهوار أناجي جواميسها وطيورها وثعابينها باحثا عن وجه جميل لفتاة مجهولة! لم أكف عن البحث، قلت كيف أغفلت مكتبة المتحف البريطاني، لأذهب هناك واقرأ بعضا من صحف ووثائق حقبة احتلال الانجليز للعراق، رسائل المسز بيل، أحسست بوخز قلبي. من يتحدث عنهم المتحف يكونون قد ماتوا!لا أريد أن أحتسب فاطمة بين الأموات، سأعرف تاريخها ذات يوم، أما هي نفسها؛ فعلي أن أبحث عنها في الحياة نفسها! لم تستطع لندن بكل مغرياتها أن تبقيني في أحضانها، كنت أردد مع نفسي" أنا الصعلوك والمتسكع الأبدي في الصحاري والمستنقعات وأرصفة الشوارع الفقيرة، إذا لم أجد فندقا راقيا أو لائقا نزلت فندقا حقيرا مزريا، أو كوخ، كله سواء عندي، فقط أن تتوفر حشية ألقي جسدي عليها، وفي أرض أخرى دائماً!

 

رجال شركات النفط يكرهونها، يخافون أن نظرة عينيها ستشعل الآبار كلها!

صعدت الطائرة المتجهة من لندن إلى بغداد، احمل صورة فاطمة بطبعتها اللندنية الكبيرة الفاخرة،بإطارا ذهبي جميل. حقيبتي الكبيرة المشحونة ملأتها بأدوية وأدوات طبية كثيرة. كان يجلس بجانبي رجل أنجليزي أنيق،بدأ الحديث معي، قال إنه يعمل مهندسا في شركة النفط الإنجليزية العاملة في العراق، راح ينظر إلى اللوحة وينفث دخان غليونه، كان بدينا، قيافته مبهرجة، فتحت المضيفة الإنجليزية الجميلة مائدة مقعده ووضعت عليها زجاجة ويسكي مع ثلج وزجاجة صودا، ملأ الكأس، وكرعه دفعة واحدة،قال:

ـ أينما أذهب في كركوك تواجهني هذه اللوحة، سمعت عنها الكثير، سئمت منها،وكرهتها، بعض عمال شركة النفط في كركوك يعلقونها في مطعم الشركة،هي لا تستحق هذه الهالة المثيرة التي أضفوها عليها، هم مكبوتون وجائعون جنسيا، ولا أستغرب أن يجدوها مفرغة لشهواتهم!

لم استغرب تعريضه بعمال شركته، كنت أسمع عن إضراباتهم،وثوراتهم ضد شركات النفط، التي تغمط حقوقهم، وترفض زيادة أجورهم، أو تحسين ظروف عملهم. كان كثير الكلام كأنه يدرأ به مع كؤوس الويسكي التي احتسى الكثير منها، خوفه من الطيران، شعرت إنه يحط من ذوقي ويهينني في استخفافه باللوحة، اكتفيت بالنظر إليه جانبيا بين فترة وأخرى،أطلق لسانه ساخرا من كل ما رآه من مظاهر حياة العراقيين:

ـ أنا لا أختلط بأي عراقي، حتى لو كان مثقفا أو يجيد الإنجليزية، لدينا ناد جميل، مطعم وبار ومرقص، كلها على أحدث طراز انجليزي، حي الشركة قطعة من لندن.

جرني لمناقشته،حاولت تسفيه آراءه، كنت أعرف أكثر منه مظاهر تخلف سكان البلاد، لكنني أعرف أيضا أسباب تخلفهم، وإمكانات تطورهم، وجدت أن من العبث أقناعه بشيء، فلذت بالصمت وتركته وحده كأنه يهذي. لم يبق كلمة سيئة إلا وقالها فيهم:

ـ هم صراصر؛ لا يطيب لها العيش إلا في الأماكن القذرة، سترى أي مستقبل تعيس ينتظرهم!

لم أعد أعيره انتباها، رجال شركات النفط يكرهون الشعوب، ينظرون لحكامها كدمى، ويدللونهم كما يدلل الأطفال الدمى، يتمنون لو أن هذه الشعوب تصاب بالعمى والصمم، أو تموت كلها دفعة واحدة، لينهبوا ما في أرضهم من ثروات، فهم يعرفون أنهم يضمرون لهم الكره، ،ليس غريبا أن الرجل يكره هذه اللوحة، فهو بشكل ما يحس أن هذين العينين الجميلتين يمكن أن تشعل آبار البترول المغدقة عليهم كل هذه الثروات، بينما أبناء البلد يتضورون جوعا! أكثر من إشعال غليونه، المضيفة تنظر إليه مستغربة سحابة الدخان المتصاعدة منه، أزعجني أنهم حجزوا مقعدي في صف يسمح فيه بالتدخين، فالتقيت هذا الرجل الثرثار،عاد صوته يجرح اللوحة:

ـ عرفت إنها مجرد إعلان تجاري، صورة رسمها فنان انجليزي يعيش في الهند، بورتريه لفتاة مشتهاة من النيبال، ربما كانت عاهرة أو موديل مؤجر لا أكثر، ليست قديسة كما يتحدثون عنها،ليست فتاة مظلومة مغتصبة كما يريدون أن يلطخوا سمعة ضباطنا البواسل الذين بنوا لهم دولة وجيشا ودستورا ومدارس ومستشفيات، ولولاهم لظل العراق إسطبلا لخيل العثمانيين!

قلت محاولا إغاظته:

ـ هي لدى العراقيين رمز لانتهاك جمال بلادهم من قبل المحتلين!

أطلق ضحكة حانقة ، راح يربت على كرشه ، منقلا ربطة العنق العريضة على جانبيه:

ـ كيف وأنت رجل إنجليزي متحضر، يعرف أخلاق شعبه، وحضارتهم، تصدق كلامهم؟ قلت لك إنها إعلان تجاري كان يلصق على جوانب صناديق الشاي،مع نسخة أخرى صقيلة توضع كهدية داخلها، عندما بدأت الشركات الإنجليزية تعرف العراقيين بالشاي الهندي والسيلاني، بعد أن كانوا يشربون نقيع أوراق الشجر من السواقي الآسنة!

ــ ليكن، أعلانا أو غير ذلك، حولها العراقيون إلى شعار لمقاومتهم محتلي بلادهم ، شعب يحارب ويقاوم بالجمال، وبوجه فتاة حسناء، له مستقبل عظيم وليس تعيسا كما تقول!

ظل يزمجر ، أدرت له كتفي ، وتجاهلت محاولاته جري لمواصلة الحديث معه،وجدتني مصرا أن لا أجعل حلمي الذي تمثله هذه اللوحة يتلاشى من قلبي! أو قلوب الناس هنا، لست ضد الحقيقة ولا أريد تجاهلها، ولكن دائما ثمة وجه آخر لها يحاول هذا الرجل سحقه.

 

حلم جميل وكبير، يكفي ليس لشخص واحد بل لأناس كثيرين!

توقف ماكس عن القراءة، وضع الأوراق على المنضدة؛ قريبا من الآلة الكاتبة، خرج إلى الشرفة، راح يتطلع إلى النهر، كأنه يحترق ويذهب ليبترد به، يرنو إليه يجري وقد غمره نور باهر، وقوارب العابرين والصيادين تتقاطر هادئة متمهلة تبعث منها صيحات ونداءات وأغنية تعلو مثقلة بحزن صار يقبض صدره. ماذا جرى لأجاثا؟ ماذا جرى لي؟ وماذا جرى للسلطة في هذه البلاد؟ حتى الآن وقد مرت كل هذه الساعات الطويلة لم تأتني بشيء عن مساعيها في التحري والتحقيق. قالوا إنهم سيفعلون المستحيل للوصول إليها. وحتى الآن لا شيء سوى الصمت. مطبق أكثر وحشة من صمت المقابر القديمة! أين خالد؟ أحيا أملاً في قلبي ثم غاب، أخشى أن أكون قد خدعت به، ماذا يجري لنا في هذه البلاد؟ عاد مرتعش اليدين. جذب الكرسي الذي تجلس عليه أجاثا ، أشعل المصباح المنضدي المتوج بمظلة حريرية وردية مطرزة بزهور زرقاء ،جانبا،وعاد للقراءة: بعد عودتي من لندن، قررت البقاء في بغداد أياما قبل أن أواصل رحلتي إلى الأهوار. سارعت للاتصال بسليم البكري لأحدثه بما توصلت إليه عن فاطمة في لندن، وحكاية الإعلان التجاري، واعدني في بار "البلابل الخمسة" . بار صغير معتم في زقاق يتفرع من شارع الرشيد، صار سليم يكثر من الشراب وينفث دخانه من أعماقه كأنه يستعجل موته، كان مرهقا وحزينا لكنه قام لي باشا، وعانقني فرحا بعودتي قال مازحا :

ـ من الواضح إنك لم تجد بنت المعيدي، أو وجدتها أصبحت انجليزية كباقي الإنجليزيات؛ فطار غرامك الغريب من قلبك!

ــ ليتني وجدتها على أية هيئة، المهم أن تكون حية معافاة!

حدثته بما لدي عن رحلتي، فاطمة غير موجودة في لندن، صار واجما، يكتفي بهز رأسه أو النظر إلي مستغربا قال:

ـ لا أبرئ الإنجليز،ولا أي محتل من أية جريمة يتحدث بها الناس عنه، ولكن حكاية بنت المعيدي أكبر من كل تفاصيلها، عدم استطاعتك العثور عليها حتى في لندن؛ يعني أنها حلم جميل وكبير، يكفي ليس لشخص واحد بل لأناس كثيرين،وإنها نبوءة قد تؤشر لنا على ما سيحدث أيضا.

صمت برهة ثم قال، وثمة رعشة في صوته:

ـ في هذه الأيام وجدت أن صورة بنت المعيدي، قد اختفت من بعض المقاهي، بدأت تظهر مكانها صور كبيرة ملونة لطفل يبكي تسيل على خده دموع وعلى وجهه تقطيب خوف وفزع، إلى جانبه صور رجال دين، سكت وسرح ببصره بعيدا.

عرجت على ما سمعته من الإنجليزي المهندس في شركة النفط، فقد ظل يحز في نفسي،فوجئت أنه لا يستبعد أن تكون الصورة أعلانا تجاريا:

ـ خلال بحثي في غيابك سمعت شيئا من هذا القبيل، صاحب دار النشر الإنجليزي الذي طبع الصورة، جاء مع تاجر عراقي إلى بغداد يحمل كميات كبيرة منها، بيعت كلها خلال أسابيع. ذلك شجعه على طباعة أعداد كبيرة أخرى مسربا حكاية الضابط الإنجليزي، فالوطنية سوق أيضا، ثم لم تلبث الحكايات أن توالت وتكاثرت؛تركمانية وكردية وآشورية وغيرها،لم يكف التاجر الإنجليزي ذلك، راح يضرب على أوتار قلوب الرجال العراقيين الظامئين للحب والجنس فاستعان بعراقيين تحدثوا عن شبق بنت المعيدي ومفاتن جسدها تحت ثيابها،مخترقين المحظور، قائلين أنها المرأة النموذجية للفراش، وإنها هي نفسها الأنثى الملتهبة التي قصدها كتاب "رجوع الشيخ إلى صباه" ،وهو كتاب قديم مشهور في الشرق مثل كتاب ألف ليلة ولية، ويبحث في أسرار الجنس،وطرائق الجماع، وخصائص النساء،الشبقات الساخنات والباردات، فباع عشرات آلاف النسخ الأخرى، مكوناً ثروة كبيرة، فافتتح مكتبا تجاريا له مستعينا بإدارة شركة لنج للملاحة وأخذ يشتري الحنطة والرز الفاخر والتمر والجلود بأبخس الأثمان ويصدرها إلى إنجلترا ويستورد الجوخ الإنجليزي والويسكي الاسكتلندي! فتصور أية صفقات وثروات هائلة تحققت بفضل جدائل بنت المعيدي!

شعرت إني حزين ومحبط حقا،لا ريب هو قد لحظ ذلك، قال:

ـ لا ينبغي أن ينال هذا من حلمك، فأنت في قلبك وخيالك فتاة جميلة على هذه الأرض، مطابقة لفتاة الصورة، استمر في حلمك لا تدع أحد يحطم حلمك، ولا حلمي معك!

 

المحقق خالد، يعاكس التيار في بلد يراد فيه حتى للنهر أن يمتلئ بماء السياسة الأحمر والأصفر!

كلما توغل خالد في قراءة أوراق أجاثا يحس بالأمل أنه يقترب من أولى خطوات الطريق إليها، إنها هنا في بغداد لم تبرحها، كيف تغادرها، وهي المحبة المتعلقة بها كثيرا؟ ثمة صوت يناديه، يا خالد ألا يمكن أن تكون بغداد قتلتها كما قتلت الكثيرين من محبيها؟ لسع قلبه،ولكن بغداد لم تقتل محبيها،هم قتلوها! هي رحمتهم في النهاية، ثمة من غفلت عنهم،ثمة من نجوا بأعجوبة، لا تظلم بغداد فهي ليست قاسية إلى هذا الحد، ومهما قست فهي لا تقتل ضيوفها، لا بغداد قاتلة ، تمزق عشاقها إربا وتمسح بهم الأرض، أنت لا تعرفها مصاصة دماء! ورغم ما تناهبت رأسه من أصوات، فرغ من قراءة أوراق أجاثا في المقهى، أزمع أن يقرأها ثانية وثالثة فهو قد شعر أن فيها سر اختفائها بل خيل إليه وهو يسرح بنظراته مع أمواج النهر أن أجاثا تومئ إليه من خلال الكلمات المتدفقة مع النهر، لكنه قرر أن يعود لدائرته ليرى ماذا تحقق هناك، أمتعض وأحس بشيء من الإحباط، حين تذكر أن بهجت العطية مهما أعطى لمرؤوسيه من حرية الحركة في التحقيق أو المتابعة فهو في النهاية سرعان ما يجرهم إليه كما يجر الفارس لجام حصانه، هو يرى نفسه ليس مديرا للأمن العام بقدر ما هو مديرا ل(الشعبة الخاصة) المعنية بملاحقة المعارضين السياسيين خاصة الشيوعيين، العطية مهما قال عن قضية أجاثا، هو ما يزال يعتقد أنها مؤامرة شيوعية، سوفيتية لتمريغ أنف بريطانيا وحكومته الموالية لها في التراب! وجد خالد في الحجرة المخصصة له في دائرة التحريات الجنائية أربعة رجال بثياب رسمية ومدنية، استقبلوه بترحيب، لكنهم عادوا لصمتهم يقلبون أوراقهم يكتبون أو يتبادلون الكلام ، سأل دون أن يقصد أحدا بعينه:

ـ هل من جديد في قضية أجاثا!

رد أحدهم على الطريقة العراقية:
ـ صاموط، لا موط !

تذكر إن معنى هذه الكلمات صمت وموت، ولا يقولها محقق جنائي إلا حين يكون على حافة اليأس نافضا يده من القضية. وهذا بالنسبة له أفظع ما يمكن أن يسمعه في قضية أجاثا، وقد أصر في نفسه أن لا تصل إليه قضية أجاثا! قلب بضعة أوراق وضعت على منضدته، كانت كلها تدعو إلى اليأس، كل التحريات لم تفض إلى شيء، ربما هذه المرأة قد انتحرت، يقال أنها كانت لها سوابق ذهول ومحاولات انتحار في لندن، لننتظر، أوصينا فلاحين وصيادين ونوتيين في مناطق جنوب بغداد من النهر بمراقبة الشواطئ، وإخبارنا على الفور عند عثورهم على جثة ما! لم يجد خالد ملاذا له سوى أوراقها فتحها وعاد يقرأ:

كان لدى ماكس ما يفخر به من الاكتشافات، ألواح من ملحمة جلجامش تكمل الألواح التي عثر عليها المنقب العراقي هرمز رسام ،والإنجليزي وليم ليفتوس منتصف القرن التاسع عشر، ثم الرأس البرونزي للملك الأكدي سرجون ( بعضهم يقال إنه لحفيده، وهو آية في التشكيل والنقش وإبراز الملامح الخفية للشخصية، حتى ليخال لنا أننا نراها ليس من مسافة ثلاثة آلاف سنة بل من مسافة لمحة عين!) عثر عليه في حفرياته في نينوى غير بعيد عن بقايا معبد عشتار الإلهة الفاتنة المتربعة على عرش سماء العراق بسلطة مطلقة هي مزيج من السياسة والجنس والحكمة! لم أحمل من كل ما مر على يدي من لقى وكنوز بحفرياتنا في نينوى سوى ملئ ملعقة طعام من التراب الذي كان يضم أحد الألواح الاثني عشر التي دونت عليها ملحمة جلجامش، بنسختها الآشورية في المكتبة الشخصية للملك آشور بانيبال، حفظت قبصة التراب كما ذرور الأزهار في قارورة عطر صغيرة فارغة، كنت أضعها بجانب آلتي الكاتبة وأترك نكهة وعطر هذه الملحمة يهبني إلهامه العميق. ما أن ترجمت مقاطع من هذه الملحمة الشعرية العظيمة إلى الإنجليزية، حتى أوقعتني في سحرها دون حراك، هي ذروة الأدب البابلي والإنساني، دونت قبل أكثر من ستة آلاف سنة لكنها ما تزال تحتفظ بحرارتها إلى اليوم. تحكي فجيعة الإنسان بحقيقة الوجود، أنه ضعيف هش سريع الزوال أقرب للغبار منه إلى الماء،لا مفر له من الموت مهما طغى وتكابر! وأية محاولة للتمرد والبحث عن الخلود مصيرها الفشل وهل يستطيع القش داخل النار أن لا يكون رمادا؟ نحن قش داخل هذه النار الأزلية التي تسمى الحياة، وعلينا أن تذوق رمادنا قبل القبر علنا، نجد متعة أو جدوى في عيش العمر القصير!

استوقفني مقطع يلامس العقل والقلب كما يلامس كف عجوز رحيمة رأس طفل، السيدة سدوري صاحبة حانة على الطريق وراء جبال الأرز إذا كانت في لبنان، وأمام قوارب صيادين و أكواخ جامعي اللؤلؤ إذا كانت في البحرين، تحدث جلجامش قائلة:

إلى أين تسعى يا جلجامش؟

إن الحياة التي تبغي لن تجد!

لما خلقت الآلهة البشر؛ قدرت الموت عليهم! واستأثرت هي بالحياة!

أما أنت يا جلجامش فاجعل كرشك مملوءا!

وكن مرحا مبتهجا ليل نهار

وأقم الأفراح في كل يوم من أيامك!

وارقص والعب ليل نهار

واجعل ثيابك نظيفة زاهية

واغسل رأسك، واستحم في الماء!

ودلل الطفل الذي يمسك بيدك.

وافرح الزوجة التي بين أحضانك

وهذا هو نصيب البشر!

ماذا تريد حضارتنا الصاخبة؟ ماذا يرد الإنسان اللاهث خلف المال والسلطة، أو المناصب الرفيعة، أكثر من هذه النصيحة البسيطة والصحيحة المرسلة إليه منذ ستة آلاف سنة لكنها لم تصل إليه حتى اليوم! أين الخلل؟ هل هو في البريد؟ الذي يجلبه لنا الموتى الطيبون قاطعين إلينا آلاف السنين؟ أم هو في المرسل إليه الذي أينما يكون، يخاف أن يعطي عنوانه لأحد! أو يخاف أن يفتح الرسالة إذا وصلته! كم مرت على الناس في هذه البلدان من ويلات وكوارث،شتتهم وفرقتهم أيضا. غاب كثير من العقل والإلهام تحت التراب، أحد أهداف أو آمال رحلتنا إلى سوريا أن نجد نص ملحمة جلجامش كاملة، لي كل الثقة أن ماكس سيجد الطريق لمجرفته المرهفة البارعة لتصل إلى ذلك الكنز الشعري العظيم الذي لا يعادله كل ما وجدنا من ذهب وجواهر وأحجار كريمة! كان ماكس يقول: الذهب يظل بريقه البليد مختبئاً وراء زجاج المتاحف، بينما النص الشعر والأدبي حين يصل عقول وأرواح الناس يشع جمال الحياة وعدالتها وقوتها!

ربما سأواصل كتابة ما سيتحقق من تجربتنا، لكنني آمل أن أجد بعض إجابات أو حتى تساؤلات جديدة عما فاتني الوقوف عنده، أو ظل عصيا على مداركي في محاولتي الكتابة عنه!

 

إذا لم تجد حبيبتك في المكان الذي هفا إليه قلبك، لن تجدها في المكان الذي أشار إليه غيرك!

كان سليم يحتسي شرابه بهدوء ويدخن، وكنت أكتفي باحتساء عصير الليمون محتملا جو البار الخانق، الصاخب ،مستمتعا بكلامه وجلوسي معه، قال:

ـ صرت أكثر قناعة أنها حلم، مهما قيل في أصلها أو فصلها أو ما جرى لها، ليس حلمك وحدك بل حلم الكثيرين هنا، وإذا كنت أنت مجنونا كما تقول عن نفسك فكل هذه الملايين مجانين أيضا. اسع وراءها، انتظرها ما تشاء، ولكن عش حياتك العادية، تزوج أو عاشر نساء فهذا لن يتعارض مع حلمك بها، لا تحرم نفسك من المتع ولا تحرم نفسك من حاجاتها الطبيعية، فهذا لن يطفئ حلمك بها، على العكس سيزيده اشتعالا!

أحسست بضحكة مريرة تعبر فمي قلت:

ـ أنا أتغذى من حلمي ، ذلك يكفيني !.

هز رأسه دون أفهم إن كان يوافقني. عدت أقول له: كلمة كنت قد سمعتها من رجل في دمشق لمتصوف عربي قديم " إذا لم تجد محبوبتك في المكان الذي هفا إليه قلبك، لن تجدها في المكان الذي أشار إليه غيرك" راح يضحك قائلا:

ـ سنضمك إلى رتل المتصوفة الذين ملئوا بغداد دموعا وحسرات على أحبتهم الذين لا وجود لهم على الإطلاق!

ـ أعرف يا سليم إنني أسير في حلم مجهول كالنفق الطويل المفتوح إلى السماء فقط، سأعود إلى الأهوار،أركض فوق الماء وراء السراب،هل رأيت إنسانا بيده كأس الماء، لكنه يصر على البقاء ظمئاً بانتظار كأس من السراب؟ هو أنا،أحيانا يا سليم أجلس وحدي مرتعشا من حمى مفاجئة تعتريني ولا تتركني حتى استحم بعرقي .رفع سليم كأسه قائلا:

ـ سأشرب نخبك! أستغرب يا ثيسجر وأنت في هذه الروح الهائمة ولا تقرب الخمر!

ـ أنا أصنع خمرتي في أعماقي!

ـ وأنت تحلم من أعماقك! عشيقة الأحلام، لا تكلف سوى قليلا من الدموع، وبضعة ليالي سهاد.

وجدت أن بحثي عن فاطمة قد أخذ منى كل طاقتي،دون أن أصل إلى نتيجة مفرحة أو حسنة، لم يحدث أن استنزفت بهذا القدر، لكن توقي لهذا الجمال والإيحاء كما قال سليم سوف لن ينتهي،عدت إلى الفندق، وضعت صورتها أمامي ورحت أحدثها:

ـ أتعبتني يا فاطمة ، بحثت عنك كثيرا، أين أنت؟ رأيت شفتيها تتحركان، وجهها يغيم خلف سحابة حزن، لا أدري! شعرت إنني غفوت في حضنها بعمق ولوقت طويل، استيقظت صباحا وأنا أحس ببهجة وتوق عظيم لصباح بغداد الجميل. لمحت على المنضدة مغلفا فيه قميص وربطة عنق حريرية كنت قد جلبتها هدية لسليم، ونسيت أن أحملها إليه في لقائنا أمس!

كلما حللت في بغداد أرتاد مقاه في علاوي الحلة، المنطقة الشعبية، التي يتجمع فيها عادة الكثير من الرجال القادمين من الجنوب، ومقاه في شارع الرشيد وباب المعظم،أشرب الشاي على الطريقة؛ أسود مغليا مع الهال، أستمع لأحاديث الناس، أو أتطلع إلى وجوههم، وأستمع لأغانيهم وموسيقاهم من الراديو. أرى فاطمة في عيونهم كثيرة الحركة فأحس قربها مني ومنهم، وإنها كائن موجود وهؤلاء الناس شهود على ذلك، قررت أن أستمتع بالتسكع في بغداد منحت نفسي إجازة من الركض في الأهوار،لختان وتطبيب قروح جلدية عضالية،وأمراض مزمنة! وجدت صورتها تختفي من مقاه كثيرة، لتحل مكانها صور كبيرة ملونة لطفل جميل حزين تسيل على خده دموع صافية كاللؤلؤ، ذلك ما حدثني عنه سليم! تساءلت في نفسي أما كان بالإمكان الإبقاء على صورة فاطمة مع صورة الطفل؟ بدا لي وربما لرواد المقاهي أيضا، أن الطفل يبكي أشياء لا ترى ولا تحس، لأول وهلة عندما رأيت صورته لم أجد تناقضا بينه وفاطمة، كأنه شقيقها أو ابن شقيقتها الصغير، وهو يبكي لفراقها،( لم أجرأ على تصوره ابنها) فكرت إنه يمثل البراءة، حزن الطفولة إلى جانب الحزن الأنثوي. أرى كثيرا من الرجال يتأملون صورته بوجوم ودهشة، لم أتوقف كثيرا أن بعض الرجال كانوا ينظرون إليه باشتهاء (هنا ثمة رجال شاذون جنسيا)! بدأ الناس كعادتهم ينسجون حوله الحكايات،وصاروا يسمونه (اليتيم)، أحدهم يقول إنه طفل فقد والده شهيدا في المظاهرات الأخيرة ضد حكومة عملاء الإنجليز.آخر يقول إنه طفل فلسطيني شريد يبكي باحثا عن أهله الذين بدأ تشريدهم من بلادهم. آخر يقول هو ملاك يتجلى على هيئة طفل يبكي لكثرة شرور ورذائل البشر،وابتعادهم عن طريق الله، لا بد من ظهور المنقذ، المهدي المنتظر قريبا. حكايات كثيرة أهالوها على رأس هذا الطفل،تذكرت ما قاله لي سليم، مخيلة العراقيين خصبة جدا في نسج الحكايات، مستعينين عليها بالصور، صور أخرى، أحزان أخرى، هموم وتاريخ آخر، ولا أحد يسبقهم في تمزيقها وتحطيم أسطورتها! لا بد من عودتي إلى الأهوار، فإذا كان أملي في العثور عليها قد تضاءل هنا، فهو هناك سيشتعل ويتصاعد!والناس الذين أحببتهم وأحبوني هناك كثيرون وينتظرون قدومي،ويحتاجونني، وما جلبته من ومستلزمات طبيبة بسيطة تناديني للذهاب بها إليهم، فهم بأمس الحاجة لها. بعضهم يقصد المدن القريبة بحثا عن دواء،أكثريتهم لا يستطيعون، يسكتون على المرض ويتعايشون معه يتحدثون عنه كأليف أو صديق، لهم،حتى يفاجئهم بالموت، هم معي يبحثون عن فاطمة!

 

الحب هو ان لا نتملك المحبوب، بل أن يتملكنا؛ حد أن نبتعد عنه بسلام؛ إذا وجد سعادته مع آخر!

رجعت إلى الهور بلهفتي الأولى، حدثني عمارة وياسين أن الناس في الأهوار في فترة غيابي التي طالت لشهرين تقريبا صاروا يسألون عني ويذكرونني بالخير، بعضهم قال "لقد أخطأنا بحقه كان يساعدنا كثيرا، ولم نعرف قيمته إلا بعد أن فقدناه" كانوا يتصورون إنني هجرت الهور نهائيا، وإنني لن أعود! كانوا يفرحون حين نقول لهم إنك ستعود بل ستجلب معك أدوية جديدة لهم، قلت في نفسي أنهم تصالحوا معي وأنا في لندن، ولو لقيت فاطمة في لندن، لتصالحت مع الموت والأقدار كلها!

فعلا وجدتهم بعد عودتي يرحبون بي بطلاقة وعمق، شعرت إنهم صاروا يفهمونني ويثقون بي أكثر،وجدت في هذا عزائي وسعادتي حقا، كنت أفرح حين أجد دواء بسيطا يعيد العافية والبسمة لطفل أو عجوز،أحس أن هذا جزء من الحلم الذي حدثني عنه سليم.

كنت أستقل زورقا بخاريا يقوده رجل قارب الأربعين. نعبر الطريق المائي الطويل بين بلدة المجر وناحية الفهود على مشارف الهور. رذاذ الماء المعطر بعبير القصب والزنابق،أنعش جسدي المرهق وفتح خلاياه! أنا الذي بدأت الحديث مع السائق وكعادتي في إدارة دفة الحديث نحوها قلت متصنعا العفوية، هل حقا بنت المعيدي هي من سكان الهور؟ انطلق يتحدث بحماسة، من الواضح إنه أيضا عاشق لها، هي المعشوقة العظيمة الوحيدة التي لا يغار عشاقها من بعضهم البعض، يحسون أنهم كلهم فانون في حبها المستحيل، يتسلون ويفرحون في تبادل حكاياتها المختلفة عنها! قال: "هي معيدية أصيلة من منطقة الجبايش، لها اسم آخر غير فاطمة،لن أنطقه، لو جرى على لساني لأذابني على الفور،وأعادني ماء إلى الماء! جمالها الفتان جعل شابا يعمل حارسا لدى الإنجليز يعطي كل ما جمع من مال في عمله لوالدها مهرا لها. حيث اشترى به ثلاث جواميس! تصور هذا الأب الأبله يبادل ابنته الفاتنة الساحرة بثلاث جواميس! لو كنت حاضرا يومها الصفقة؛ لقتلته! ذهبت هذه البنت لتعيش مع زوجها في الكوت. بهر جمالها طيارا إنجليزيا في الثكنة التي يعمل فيها زوجها منظفا فراح يتقرب إليها. كانت تسأله عن طائرته: هل الطائرة طير كبير؟ هل هي من حديد أم لحم وريش؟ فيجيبها بلغته العربية المكسرة تعالي لتريها بنفسك! ويطلق سائق الزورق الزفير بعمق: صعد بها إلى الطائرة، وطار بها إلى لندن! خاف قائد الثكنة الإنجليزي من الفضيحة، وثورة الأهالي فأقنع زوجها أن الملائكة هي التي جاءت من السماء وخطفتها؛ لأنهم تذكروا أنها ملاك هبط إلى الأرض دون علمهم فجاءوا يستردونها. فصعق زوجها وندت عنه صرخة واحدة فقط لا غير وسقط ميتا! ويلتفت السائق نحوي ليقول: هل رأيت يا ثيسجر من هم بمثل خبث أصحابكم الإنجليز؟ ويضيف كالمعتذر عن تقصيره: كنت آنذاك لم أزل صبيا غرا في ريف الكوت، عندما حدثت هذه المصيبة. كان ذلك قبل أن تنتهي الحرب العالمية الأولى بسنة. العراقيون والعثمانيون يساعدهم الألمان يصارعون الإنجليز لمنعهم من احتلال العراق. ولم يكن أحد يستطيع أن ينقذ بنت المعيدي! أفلح الطيار الإنجليزي في جعل هذه الحسناء التي لو نطقت اسمها لانقلب الزورق، تنبهر بأجواء لندن، بما أغدق عليها من ملابس وأطعمة شهية وحلوى لذيذة. أدخلها مسابقة ملكة جمال انجلترا ففازت بالتاج الذهبي. طار بها إلى البندقية لتشترك في مسابقة جمال العالم؛ فأدهشت أعضاء لجنة التحكيم، وشلت نظراتهم وألسنتهم؛ فانتخبوها ملكة جمال العالم! ولمزيد من التحدي أرسل الطيار نداءً من لاسلكي طائرته إلى سكان الكواكب الدائرة حول الشمس، وفي الكواكب الأخرى ليرسلوا فتياتهم الجميلات إلى لندن للدخول مع محبوبته في مسابقة على تاج ملكة جمال الكون وفي حالة عدم مجيء فتياتهم الجميلات فستكون هذه الفاتنة هي ملكة جمال الكون! لم يصل من هناك أي كلام، فتوجها المحكمون في البندقية ملكة جمال الكون! كان يسير وإياها على جسر التنهدات في البندقية، فوجئ بها تصعد حاجز الجسر وتلقي نفسها في البحر! ظل مشدوها، تذكر أنها كانت منذ أيام تتحدث عن الموت وأنها تريد أن تنتحر، وحين يسألها لماذا؟ تقول لها أنها حزينة يائسة، وتتعذب كلما قارنت بين أهوار أهلها في الجبايش وأهوار البندقية وتعبت من التساؤل مع نفسها، لماذا بيوت أهلي من القصب والبردي، وليست كبيوت أهل البندقية مبنية من الصخر والحجارة الملونة؟ لماذا لا تكون لدى أهلي مثل ما لدى الناس هنا أسواق ومدارس ومستشفيات؟ مياه البندقية مالحة ومتعفنة، بينما مياه الهور نقية عذبة صالحة للشرب،لماذا الناس فيها مرضى وتعساء؟ وتأخذ بالبكاء،وتقول أنها حسمت أمرها، وستنتحر قريبا للخلاص من هذه الدنيا الظالمة! يقول الطيار إنه كان يضحك في سره ويظنها تثرثر ببعض سخافات النساء الجميلات، ولم يكن يصدق أنها ستنتحر لهذا السبب التافه وغير المعقول. لكنها انتحرت على كل حال، واختفت من الوجود، كأن هذه الدنيا لم تستطع أن تحتمل شدة جمالها! أشعل سيجارته وأخذ ينفث الدخان من أعماقه. قلت: ولكن هذا كله يصعب تصديقه، إنه أشبه بالخيال. نظر إلي بغضب واضح:

ـ ولكنك تعرف أننا هنا لا نتعاطى الحشيشة،ولا أية مخدرات! أنت زرت العالم كله، أليس في البندقية جسر يسمى جسر التنهدات؟

قلت: نعم موجود! قال بلهجة المنتصر،وقد وجد الدليل القاطع: خلص! هذا يعني أن الحكاية صحيحة، فهي قد ألقت بنفسها من جسر التنهدات إلى البحر وغرقت!

ليتك يا أجاثا تأتين لتطلي على هؤلاء الناس المعذبين المعزولين والمنبوذين،وهم في أحلامهم وأوهامهم ومعاناتهم، ستجدين الكثير من حكاياتهم الغريبة، ربما هي مضحكة، ولكن كم فيها من الحزن لو تأملناها بهدوء! ألم تكتفي من مجاورتك لحفر وقبور التنقيب؟ هي لم تعطك سوى أشباح القتلة والسفاحين، فصرت مرة تكتبين "جريمة في قطار الشرق السريع" ومرة "جريمة في وادي الرافدين" وأخرى "جريمة في شارع الرشيد" "جريمة في كركوك" جريمة لا أدري أين،حيث اختصرت الحياة كلها بالجريمة والمجرمين، خاصة قصص هؤلاء الذين يرتكبون الجرائم ترفا أو جشعا أو أبهة، وليس اضطرار كالمجرمين العاديين المساكين! ومع إعجابي برواياتك .وتقديري الكبير لها، لكنني أرى أن من الضروري أن تدخلي عالما جديدا نظيفا نقيا منعشا! كانت زيارتك للأهوار قصيرة موجزة، لو أقمت فيها فترة أطول لوسعت فضاء روايتك، ليضم هذه المساحات المائية الشاسعة، وما فيها من حيوان ونبات وطيور آبدة أو وافدة! صدقيني يا عزيزتي أنا لم أر طيور أوربا، في أوربا، رأيتها هنا في الأهوار، لم أرَ السماء والنجوم والقمر والشمس في أوربا، رأيتها في الربع الخالي،والخليج العربي! تعالي إلى الهور اركبي مشحوفا بسيطا، ستجدين في قاع الماء الصافي الجوهرة الروائية التي تبحثين عنها، أو تتطوع سمكة تقفز من الموج لتلقيها في أحضانك، وعلى أوراقك، فتهزين بها العالم!

هز ماكس رأسه غضبا، بماذا يهذي مستر ثيسجر؟ أليست هذه وقاحة؟ كيف يتدخل في عملها وطريقة كتابتها؟ كيف يتوقع أن أجاثا ستسمح له بالتطاول على إبداعها؟ أيريد أن يستفزها لتكتب روايته؟ أم لكي تلتفت له وتقع في غرامه. وجد يده تمتد إلى صورته،سحبها من أوراقه؛ يظهر فيها ثيسجر وبيده بندقية جاثما على أسد قتيل، وثمة كتابة: قتلت الأسد بهذه البندقية في منطقة نيور العربية في السودان عام 1938. لماذا يرسل هذه الصورة إلى أجاثا؟هل أراد أن يظهر قوته الخارقة لها؟ أم لتبرزها في روايته؟ هل أراد شعوريا أولا شعوريا أن يقول إنني مستعد لأن اقتل الأسد الذي معك لتكوني لي ؟ أم تراني صرت شكاكا على غير ما عهدت بنفسي وغير ما عهدت بي أجاثا، كم تغيرنا المحن حتى لننكر أنفسنا! يا للمجنون كلما رق قلبي له وتفهمت همومه، أجده يشط ويخرج عن أصول التعامل بين المثقفين، والناس، أقرأ أوراقه متعلقا بقشة، إلى أي حال من الضعف والحاجة وصلت؟ فجأة راح يتساءل، أيهما أفضل أن تكون قد خطفت وقتلت، أم أن تكون قد تركته وذهبت مع ثيسجر؟ وجد نفسه أنه يحبها إلى حد تقبله زواجها من آخر وسعادتها معه، فقط أن لا تموت أو تتعرض لأذى! الحب هو أن لا نتملك المحبوب، بل أن يتملكنا حد أن نبتعد عنه إذا وجد سعادته مع آخر! هذا درس تعلمته من الموت، كنت أراه كل يوم يطل عليَّ بعظامه وتكشيرته المروعة من القبور التي فتحت منها المئات بل الآلاف حتى الآن!هل أصحابي وأصدقائي في أوربا وصلوا إلى هذه القناعة أم لا زالوا لا يحبون ألا من ينام معهم في الفراش؟ مضى يقرأ ويلتهم الرسالة كأنه يقرأ كتاباً لا علاقة له بمؤلفه،لم يره ولم يسمع عنه شيئا! مازال الصمت يكتنف كل شيء، فلا الشرطة ، ولا السفارة يصدر منهما شيء عن مجرى التحقيق والتحري، ولا أجاثا أطلت، أو جاء عنها نبأ، وخالد ربما ما يزال يقرأ الأوراق؛ يحلل ويفكر، ربما!

 

هل ذهبت أجاثا كريستي إلى مصر؛ لتحقق في جريمة حدثت في زمن الفراعنة؟

خلال انهماكي بأعمال التنقيب، كانت رواياتي نصب عيني، سواء تلك التي أعكف على كتابتها أو تلك التي أخطط لها، وأفكر بها، كثيرون في لقاءاتي معهم، أو في رسائل الإعجاب التي تصلني مع كل بريد من قراء في شتى أنحاء العالم بينهم منقبون ومؤرخون في مصر وسوريا وفلسطين لهم رأي خلاصته: أن رواياتي تجمع بين سحر الشرق، وكنوزه التي ما زال كثير منها هاجعا تحت تراب الزمن، وبين طلاسم الرواية البوليسية، وذلك انطباع أعجبني حقا وصرت أحرص عليه، وربما على أساسه كتب لي منقب الآثار السيد كيزر رئيس المعهد السويسري، تلميذ المنقب البريطاني الشهير هاورد كارتر مكتشف مقبرة توت عنخ آمون، يقول: يسرني أن أنبئك( هل يمكن أن نعدها بشرى سارة، بينما هي حزينة ومثيرة للمتاعب؟) ، لقد توصلنا إلى اكتشاف هام: وهو أن توت عنخ آمون، الفرعون الشاب البالغ من العمر حوالي( 18) سنة، لم يمت بشكل طبيعي كما كنا نعتقد، لسنوات عديدة، لقد تسلل إليه قاتل وهو نائم في مخدعه، وضربه على رأسه بهراوة ثقيلة! هذا الكشف الباهر سيهز محافل التاريخ الفرعوني، لكنه يلقي علينا مسؤولية كبيرة، أن نعرف القاتل ودوافع جريمته ومدى ارتباطه بصراع الكهنة الديني والسياسي، وربما علاقته بمسألة التوحيد الإلهي، ومفترق الطرق بين نظرية تريد وحدة الإله، وبالتالي وحدة السلطة، واليد التي تتصرف بثروات مصر الهائلة،وبين نظرية تريد تعدد الآلهة وبالتالي توزيع السلطة والصراع الدموي والحروب بين أقطابها على العرش والثروات والجاه، بينما الناس مبعدون مغيبون مخدرون بجرعات من الدخان المنبعث من مجامر المعابد،ومن رذاذ أفواه رجال الدين المتمرسين بالكذب والخداع! لا أحد من المؤرخين حتى الآن يريد الخوض في هذه المسألة المعقدة الشائكة.وجدنا أن النصوص المكتوبة على البردي أو الجدران وهي قليلة ناقصة غامضة نقشت في ظل سلطة فرعونية تلوي عنق الحقائق لصالحها لا تكفي للوصول إلى نتيجة حاسمة فيها. لذلك أنا ومنقبون جادون معي نعول على المخيلة والإلهام الروحي للوصول إلى حقيقة ما حدث فعلا في هذه الجريمة الكبيرة، والتي ما تزال حتى اليوم جريمة، وإن أضحى المجرم أو المجرمون فيها تراباً ذرته الرياح إلى النيل العظيم الذي جرى كثيرا منذ ذلك الزمن السحيق! نحن نتطلع إلى ذكائك وخيالك وخبرتك في كشف الجرائم الغامضة، وننتظر أن تأتي إلى القاهرة لتحلي مع أصدقائك المحققين هيركيول بواروا بشاربه المعقوف كجناحي عصفور، أو المس ماربل لتكشفوا ملابسات هذه الجريمة، بذلك تجودين على الأدب البوليسي بجوهرة روائية أخرى، وتقدمين للمصريين إضاءة عميقة تكشف لهم الدسائس والمؤامرات التي لعبت بقوة وقسوة لتحرف تاريخهم،وهذا سيفيدهم كثيرا اليوم وهم في حقبة صعبة قاسية من تاريخهم،.يسعدنا أن ينضم إلينا معك أيضا الآثاري المرموق ماكس مالوان، فأنت وهو متكاملان في البحث عما هو جوهري وأساسي في التاريخ والفكر الإنساني، فالكتابة البوليسية نوع من التنقيب عن الآثار،والتنقيب عن الآثار نوع من الكتابة البوليسية، هل أنا مصيب يا عزيزتي أجاثا؟ انتظر رسالة منك تحمل لي بشرى قبولك وماكس العمل معنا!

لك فائق مودتي وتقديري!

ملاحظة: الأمانة، ونزاهة العمل العلمي تقتضي مني أن الفت انتباهك أو أذكرك أن ثمة أخبارا تناقلها مختصون وآثاريون عما يسمى بلعنة الفراعنة! أنا لا أميل لتصديقها وأراها محض تهيؤات أو تهويشات مغرضة ، وإن كل من مرض أو مات ممن اكتشفوا كنوز قبر الفرعون توت عنخ آمون، تعرض لتلوث يعود للبيئة الحالية ولا علاقة له بالماضي. لكنني لا أخفي عليك أرى بنفس الوقت أن ما حدث لأستاذنا كارتر،والممول كارنافون وعشرات من الرجال المنقبين المكتشفين من مصائب وكوارث يدعوني للتوقف والتأمل في هذه الظاهرة الغريبة المحيرة، ودراستها لا كلعنة فراعنة، بل في احتمالات قوى غيبية وربانية أخرى ،وعدم استبعاد خطرها نهائياً! الأمر متروك لتقديرك، وأي كان قراركما أنت وماكس فأنه سيكون موضع تفهمي وتقديري. لك وماكس مرة أخرى أطيب تمنياتي!

بقدر ما فاجأتني رسالته وجدتها منطقية بشكل ما، ثمة مؤرخون أعوزتهم الأدلة المادية للكشف عن حقيقة فلجئوا إلي خيال الروائي. هذا يؤكد مرة أخرى أن الروائي محقق جنائي وتاريخي،رغم إنه ليس قاضيا! عرضتها على ماكس واكتفى بابتسامته الهادئة المطمئنة! توقف المحقق خالد عند هذه الرسالة؟ أتكون أجاثا قد سافرت إلى مصر؟ ليس غريبا ولا صعبا على أجاثا، أن تذهب إلى مصر اليوم، لتكشف من قتل الفرعون وهو نائم في فراشه قبل آلاف من السنين؟ مع أجاثا يمكن أن تكون الجريمة بلا عقاب، ولكن لا يمكن أن تكون دون رواية! ولكن الغريب أن لا تخبر ماكس؟ أيكون هو غير موافق على هذه الرحلة فاضطرت للذهاب لوحدها؟ هل أرادت أن تعاقبه لعدم مطاوعته لها في قرارها، لكنني كما لمست، أيام زيارتهما لمدينتنا إنه كان يتبعها ويصغي لها كطفل مع أمه! رحلتها إلى زمن الفراعنة احتمال ضعيف، ولكن لا ينبغي إسقاطه، فكم يكون في التحقيق الجنائي مالا نعيره اهتماما، هو البلية كلها!

ما أن قلب خالد الأوراق حتى وجد رسالة صغير مكتوبة على نصف ورقة ، كيف لم يلحظها سابقا، كانت حائلة اللون رطبة، راح يلتهم سطورها: عزيزي الدكتور كيزر

تحية طيبة.. اسمح لي أن أبدأ رسالتي بما انتهت به رسالتك، أنا يا عزيزي لا أؤمن بما يسمونها لعنة الفراعنة، ولنأخذ مثلا بما حدث للباخرة العظيمة تيتانك، التي غرقت في الأطلسي قبل فتح قبر الفرعون بحوالي عشر سنوات. ذكروا أن ربانها قال عنها: ( حتى الله نفسه لا يستطيع إغراقها) لكن ثمة من رد عليه إنه لم يكن يعلم أن على متن سفينته مومياء لكاهنة فرعونية عظيمة أرسلها أحد اللوردات الإنجليز من لندن إلى متحف في نيويورك، وهي التي ستدفع بذراعيها السحريتين السفينة لتصطدم بجبل الجليد، وتغرق! هكذا تحدثوا عن لعنة الفراعنة، ترى، لو كان هناك كهنة يرقبون من قبورهم في مصر تيتانك وهي تغرق وفق مكيدتهم ولعناتهم، كيف يرتضي هؤلاء السحرة الأذكياء أن تغرق كاهنتهم في أعماق المحيط بدلاً من أن تكمل رحلتها إلى أمريكا لتتجول بين متاحفها وشوارعها وحدائقها وتستمتع بالوجوه الجميلة التي تطل عليها؟ وربما تسحر الأمريكان وتوقعهم في حبائلها الفرعونية! ثم لو كانت هناك لعنات فرعونية تنزل على من يقلق راحة ملوك الفراعنة أو كهنتهم وحاشيتهم في قبورهم، فإنها ينبغي أن تنزل على لصوص الآثار أيضاً! أنا لا أتحدث عن أولئك الفقراء الذين دخلوا قبور الفراعنة لينتزعوا منها أكفانها ويجعلوا منها ملابس لهم ولأطفالهم العراة، أو أنهم أكلوا من خوابي العسل القديم ليجدوا في داخلها مومياءت صغيرة محفوظة كالمخللات! بل عن أولئك اللصوص الأثرياء الذين سطوا على هذه القبور بكل وقاحة وشراهة، فنبشوها وعاثوا في المومياءات وانتزعوا ما معها من ذهب ومجوهرات، ثم اقتلعوا أحجارها وشيدوا بها قصورا لهم، لو كانت اللعنات قد نزلت عليهم لماذا هم وسرقاتهم في تكاثر؟ لصوص الآثار صاروا أثرياء من عظام القبور،لا ينفكون يفرغون الأهرامات والمدافن الخفية من كل محتوياتها الثمينة التي هي ملك المصريين جميعهم. لو كانت ثمة لعنات لاختفى هؤلاء اللصوص! ثمة دليل آخر يا عزيزي كيزر يطمئنك، لو كانت ثمة لعنات يطلقها الكهنة القدماء، لماذا لا يكون للكهنة العراقيين سومريين بابليين أكديين آشوريين لعناتهم وهم كانوا دائما يتبادلون الخبرات والأخبار مع الفراعنة؟ لقد عشت وماكس هنا سنوات طويلة، رأينا وسمعنا عن لصوص آثار ، وعن منقبين شرفاء،ولكن لم نسمع حتى الآن عن لعنات نزلت بمن يستحقها فعلا، سواء كانوا أجانب أو من أهل البلد! وجدت أن العراقيين كانوا يثقون بالجسد الإنساني ويعتقدون إنه يستطيع أن ينهض من ترابه في الوقت المناسب حتى لو صار ترابا. فزودوا موتاهم بخوابي الطعام والشراب، مع حليهم ومجوهراتهم وقيثاراتم، لكنهم لم يحنطوهم كما فعل المصريون القدماء وأتقنوه بشكل مدهش حقا. لقد تعرضت قبور ملوكهم للنهب والسرقة في القرن الماضي. ألا يقودنا المنطق للتساؤل؛ لماذا لا ينزل الأسلاف المصريون والعراقيون، إذا شاءوا، لعناتهم على من يمس أحفادهم من الأحياء وممتلكاتهم وثرواتهم وهم كما نرى ونسمع تعرضوا على مر التاريخ للكثير من الغزوات والانتهاكات من خارج حدودهم؟ وهذه أفظع من نهب القبور، عن أية لعنة يتحدثون؟ لا أريد أن أتحدث أكثر، وقد قررت أن لا أقارب السياسة! قد تسألني: كيف تعدين الخوض في قضايا حفريات الفراعنة تدخلا في السياسة؟ رسالتك تجيب على ذلك،ماذا لو شخصت قاتل الفرعون الصغير، كم ستتغير من أحكام ومواضيع؟ نحن اليوم في عالم حتى لو تحدثت فيه عن الذئب أو الثعلب في الغابة فإن اللصوص والمذنبين من السياسيين يعتقدون إنك تقصدهم؟ لكي أكتب روايات مقنعة قررت أن أبتعد عن الملوك والرؤساء قديمهم وحديثهم، وأكتب عن الناس العاديين؛ لذلك فأنا لا أستطيع الخوض في ما حدث للفرعون الشاب سواء كتحليل تاريخي مباشر، أو كعمل روائي، أرجو قبول اعتذارنا أنا وماكس عن عدم استطاعتنا اللحاق بكم في عملكم الراقي والنبيل.متمنين لكم النجاح في مهمتكم الصعبة والهامة.

تأكد خالد أنها لم تذهب إلى مصر، هذا طبعا لا يعني أنها لم تغادر بغداد، لكنه عاد يؤكد لنفسه، إنها ما تزال في بغداد ، حية معافاة وبخير، أكاد أشم عطرها من مكانها الحالي كما كنت أشم على مدى السنوات الماضية عطرها القديم ممزوجا بأريج القداح حين كانت تجوب وماكس دروب بساتين أيس، ونحن الصبيان نتقافز أمامهما كالعصافير!

 

منجل وأفعى موهومة تقطعان عضوا حساسا لدى رجل مسكين، وحلما جميلا في رأسي!

صحوت من نومي مبكرا ،وجدت الفجر رائقا، يفتح لي حضنه، قررت أن انزل للقارب وحدي وأندفع به لأطوف بين أكمات القصب وأسراب البط والطيور الوافدة، في هذه الأيام بلغت ذروة تجمعها. تقافز السمك يزداد؛ ربما لشعوره بخطر المناقير القادمة جائعة من سفر طويل عبر القارات،الشمس الصيفية الناعسة تنهض لتوها من الماء فلا تكون حارقة لاهبة.

قبل أن أحل حبل القارب اقبل عمارة بمشحوفه يجذف مندفعا نحوي بسرعة أقلقتني، أعرف عمارة من بعيد حين يكون وراءه شيء ما، قد لا يكون خطيرا لكنه يكفي لانشغالي وإعادتي لهموم أتمنى أن لا تكون معي وسط هذا الجو الصافي الساحر، نزل ليقول:

ـ لنسرع ياعم ياثيسجر هناك رجل ملقى على الشاطئ، ينزف بغزارة وعلى وشك الموت!

علي أن أغير وجهتي،وأتخلى عن حلمي اللذيذ في أن أكون في أعماق هذا الفجر، والنهار المتألق الخلاب. ودون أن أسأله شيئا هرعت إلى حقيبة أدواتي، وهي جلدية بنية مستطيلة بجوانب صلبة، وضعت فيها الكثير من القطن الطبي والمعقمات وبعض خيوط وإبر استعملها مضطرا في خياطة بعض الجروح العميقة، وجدت عمارة قد أعد القارب وأمسك بالمجذافين، ما أن جلست في القارب حتى انطلق مسرعا! وأنا صامت مذهول،كل ظني أن الرجل أصيب بطلق ناري، الناس هنا عموما مسالمون لكن الخطر يأتيهم من سكان اليابسة وشواطئها،حيث العرب الأقحاح يسرعون إلى بنادقهم كلما تفجر بغتة عراك بينهم، يكون وراءه عادة نزاع على امرأة أو بقرة أو قطعة أرض! وقبل أن أسأله ماذا جرى للرجل، وبماذا أصيب؟ فجأة ، انطلقت ضحكة عمارة وهو يردد بلهجته :

ـ شإجاك يامناشد ما تميز بين عيرك والحية؟ شنوا ما تعرف عيرك؟ ما شايفه ولا مرة؟

تطلعت إليه مستفهما، وأخذ أ يحدثني بما جرى لمناشد: خرج مناشد فجرا مع ابنته، كل في مشحوفه؛ ليجلبا البردي، كان مناشد عاريا تماما غائصا في ماء الهور حتى خاصرته، وبيده منجله الطويل يقطع البردي بهمة وعجالة،فجأة برز أمامه طرف قضيبه في الماء من بين سيقان البردي يتلوى مسترخيا مع الموج، ظنه أفعى فهوى عليه بمنجله الحاد فقطعه، انطلقت صرخته،وجاءت ابنته إليه، وسارعت لوضعه في المشحوف، وهرعت به إلى شاطئ صريفتهم! تصور يا عم ثيسجر إنه لم يغم عليه، بل ظل ممسكا بالقطعة الثانية من قضيبه، بينما أنا حين سمعت بما حدث له؛ كاد يغمى علي. جاءوا إلي يطلبون مني أن أحضرك لعلاجه!

كدت لا اصدق ما حدث، وجدتني أقول :

ـ لابد أن قضيبه كان بطول غير اعتيادي!

ـ نعم هم يضربون به المثل، "مناشد قضيبه كبير، وعقله صغير"، لذلك وقع له ما وقع! زوجتاه الآن تولولان وتصيحان: هذه عين أصابته، وعين الحسود عساها بالعمى!

ـ لكن النساء هن اللواتي عادة يخرجن لحش البردي!

ـ مناشد من الرجال المعروفين بمساعدته لزوجتيه في كل شيء، هو فقير وطيب حتى ليسمونه بالأبله، ولا يستحق ما جرى له!

وجدتني أفكر ما هذا الذي جرى؟ أفعى موهومة، ومنجل يهوي؛ فيقطعان عضوا حساسا لدى رجل مسكين، ورحلة صغيرة إلى حلم جميل كنت سأعيشه صباح اليوم في أعماق الهور، يالتقاطع أحداث الدنيا!وصلنا الرجل، وشرعت بعلاجه، لا علاج لدي أكثر من تنظيف العضو المبتور وتطهيره، وكبح النزف بلفه بالقطن والشاش.طلبت منهم أن يجعلوا نومته معكوسة، يرفع رجليه من تحت ظهره على محمل خشبي. الغريب إنه ما زال ممسكا بالجزء المقطوع من قضيبه لا يتخلى عنه رغم آلامه الفظيعة، وهو يقول لي متوسلا:

ـ مروتك خيطه، خيطه،رده لمكانه!

أفهمته إن هذا غير ممكن الآن، ربما عليه أن ينتظر خمسين عاما آخر، ليصل الطب إلى طريقة تعيده له كما كان! علق عمارة " بذاك الوقت يركبولك اصطناعي ملون، مو مثل هذا الأجرب" هنا فقط أجهش الرجل بالبكاء وأخذ ينوح متمتما بكلام لا أفهمه! أحدهم قال له ضاحكا:

ـ ما تبقى منه يكفي لرجلين، لماذا تبكي؟

آخر قال :

ـ هو فقط صار بلا عمامة، هذا أحسن، شسو بينا أهل العمايم!

لم تخلُ عملية علاجه من ضحكات وتعليقات،وممازحات من الناس الذين تجمعوا حولنا من الصرائف المجاورة. للناس هنا قدرة عجيبة على تحويل المأساة إلى ملهاة واصطياد النكتة،والتعليق النابت، بالسرعة التي يصطادون بها سمكة أو طيرا!

بقيت بين فترة وأخرى أتردد عليه،اطهر جرحه الذي كان عميقا وخطيرا فعلا ، وما كنت أتصور إنني بإمكاناتي البسيطة سأشفيه وأدرأ مضاعفات جرحه في هذا الجزء الحساس! لكن قضيبه طبعا صار ناقص الصلاحية،ولا أدري كيف سيعالج أمره مع زوجتيه، وإحداهما كانت شابة حسناء! ظل عمارة يوافيني بأخباره ، يحدثني أن مناشد فقد الكثير من هيبته بين رجال السلف، الذين يرون الرجولة في هذا العضو الذي أصبح مبتورا، رغم إنه هو الذي بتره، وليس غيره بتره له، لكن مناشد لم يكف عن إلقاء الذنب علي :

ـ ليش الحجي الإنجليزي ما خيطه؟ اشجان يضره؟ كان كسب ثواب كبير، بس ذوله الانجليز ما يطلع منهم خير!

ولا أدري إن كان عمارة جادا أو إنه يمزح، أو يتهكم عليه، كالآخرين، قال لي أن مناشد دفن قطعة قضيبه عند الجهة اليابسة من الشاطئ، في قبر صغير، وإنه يتردد عليه كثيرا ويبكي عنده، بل إنه والعهدة على عمارة، يصطحب زوجتيه لتبكيان معه عند هذا القبر الغريب،وقد أوصى أهله :

ـ لما أموت وتدفنوني بوادي السلام؛ خلوه ويا لشتي،أريد من يشفعلي الإمام، وأدخل الجنة، أكون مستعد، مو تنسون!

 

كلمات الراهب من قلب مثقل بالأحزان وليست نذير قصاص وشؤم!

استوقفت خالد ورقة منفصلة تحمل تاريخ 20 _3 1948 ، معنونة ".كلمات عن اللقاء بالراهب الآشوري بهنام" خارجة عن سياق مذكراتها أو يومياتها، كأنها فصل من رواية أو بعض من أوليات لها، وبخطها، وجد أنها تضع مصير أجاثا على طريق مجهول،قاس وأليم، تتصارع فيه حساسية الكرامة الوطنية مع الأطماع الأجنبية. عاد يقرأها: وكيف ننسى تلك الليلة في باحة دير "البتول الرحيمة" الكبير في قرية قرب القوش. في ضيافة صديقنا الراهب الآشوري بهنام. تعرفنا عليه في سهل نينوى، حيث يعتكف مع كتبه وكرومه ورعيته من الرهبان المنقطعين عن الحياة الدنيا على سفوح خضراء متموجة. يتكلم العديد من اللغات، بينها الإنجليزية. قال لنا إنه كتب نصوصا دينية وشعرية بالإنجليزية. طويلُ ،أشقر، جسد تضافرت على نسجه التقوى والنسك والعمل الشاق في الأرض مع النبيذ والعسل لجعله متينا مفتولا كأنه من خيوط الفولاذ، قارب الثمانين، وما يزال يمشي بخيلاء شاب! يلتهم كأس النبيذ كما الماء. عند اقتراب موعد مغادرتنا مواقعنا، وتهيئنا للسفر إلى بغداد، دعانا لحفلة وداع خاصة بنا نحن المنقبين من الأجانب. أقام لنا مائدة شواء كبيرة، جلب الكثير من لحم الضأن وطيور القطا والقبج رغم إنه لم يكن يتناول اللحم، ويقتات على الخبز والجبن، طلب من الآخرين ممن لا يشربون الخمر أن يسمحوا له بوضع خابية خمر معتقة منذ ربع قرن تقريبا على المائدة،قائلا أن فيها شيئا من نكهة دم المسيح، وهل تنسى نكهة دم إنسان صعد الصليب من أجل الناس؟ هي هناك في أعماق سراديب الأديرة. روح هائمة تبارك العنب والقمح واللبن وكل ما يمنح الحياة للإنسان مقترنة بالصدق والجمال. قالها كأنه يلقي علينا موعظته الأخيرة، وما حدث فيما بعد جعلني أدرك لماذا قال ذلك! تأسفت إنني لا أشرب ولا أحبذ لماكس أن يشرب، لكنني سمحت لماكس أن يشرب دون إفراط! نقاوة نبيذ هذا الدير،وطعمه ونكهته على ما لاحظت جعل ماكس ينظر إلي بتوسل لكي أسمح له بشرب المزيد! في مسألة الخمور من الضروري أن نعد أزواجنا أطفالا ونرضعهم بالقطارة! لكن ماكس تلك الليلة شرب كأسين تقريبا، فاعتبرته قد أفرط ووبخته ولولا وجود آخرين لضربته على قفاه! كانت أمسية لطيفة، شعرنا بالنسمات الباردة لأواخر الشتاء تلسعنا؛ فانسحبنا من تحت القمر المتألق حيث اصطفت مقاعدنا الخشبية في مرج من العشب والزهر المبكر، وركنا إلى شرفة محاطة بالجدران الصخرية تطل على السفوح الواسعة المزدانة بالكروم وأشجار التفاح والمشمش، عاد الدفء يدب في عروقنا.وقد مضت الحفلة ممتعة سعيدة لولا أن بهنام وقريبا من نهايتها أضحى فجأة حادا وعصبيا، أخذ يتحدث عن التنقيب وأهدافه. لا أدري هل لعبت الخمر القديمة القوية برأسه، أم أنه تفجر بما عاناه المسيحيون في هذه البلاد من الحيف والعزل على مدى قرون طويلة ولم يجدوا شيئا من الإنصاف والمواساة إلا أخيرا مع تولي الملك فيصل الأول قيادة البلاد! كان في صدره الكثير من الغضب،فراح يتحدث، موجها الكلام إلينا أنا وماكس دون غيرنا من المنقبين الحاضرين قال :

ـــ سرق المنقبون الأوربيون قبلكم الكثير من آثارنا، أستطيع القول إنهم سرقوا ذاكرتنا، وقطعا من أرواحنا، كيف سمحت لهم التعاليم المسيحية وقيمهم الحضارية الجديدة بذلك؟

هنا تذكرت موعظته وهو يضع خابية الخمر الكبيرة على المائدة، انبرى ماكس محاولا إيضاح الأمر وتهدئته لنعود لجو الحفل الجميل:

ــــ لا أنكر إن المنقبين الأوربيين الذين توافدوا على العراق منذ بداية القرن التاسع عشر،استغلوا فساد السلطات العثمانية، وإهمالها وجهلها بقيمة كنوز الماضي فقاموا وبشكل وحشي في النبش في مواقع الآثار العراقية المهمة بدءاً من أور إلى بابل وحتى نينوى، فهربوا إلى بلدانهم الكثير من آثار العراق، العظيمة والنادرة، عبر سفرائهم وقناصلهم وضباط في المخابرات والنشاط العسكري، يمكن القول أن هؤلاء قطفوا من البيدر ثماره الناضجة الأولى، لكن بعثتنا جاءت ، وهي تحمل في أعماقها ما يشبه الشعور بالذنب، ونزعة التكفير عن الخطيئة، الدولة الآن حريصة على حماية آثار البلاد،ساطع الحصري مدير الآثار الذي أحكم قبضته على المواقع الأثرية وما يستخرج منها، كان يقول لنا كلما قابلناه، أو جاء ليتفقد عملنا:

ــــ مهما أحكمنا الرقابة عليكم لا نستطيع ضبط كل لقية ثمينة تستخرجونها، لذا أنا أستصرخ ضمائركم أن لا تفرطوا بحق العراقيين،آثارنا هي ملك الإنسانية جميعا، ولكن من الضروري أن تحددوا كم ساهم العراقيون القدماء في حضارة الإنسان! وإذا لم تبخسوا حقهم فهم أيضا سوف لن يبخسوا حقكم، ويعطون لمتاحفكم ما تستحق! أستطيع القول أيها الراهب الطيب أن بعثاتنا في القرن العشرين؛ غيرها في القرن التاسع عشر، أشاركك الرأي أن كثيرين ممن جاءوا في ذلك العهد كانوا لصوصا ومهربين، كما كان بينهم جادون ومخلصون لمهنتهم وثقافتهم، ومع ذلك أقول لك بضمير نقي عمليات التنقيب اليوم تقوم على أسس علمية ومهنية وبأقل نسبة ممكنة من الخلل والفساد!

استمع بهنام لماكس ّ متحفزا كالذئب قال:

ـ ها قد انتهيتم من عملكم الطويل، وصارت في أيديكما أدلة كثيرة عن الماضي، ماذا ستقولان؟ هل لديكما الجرأة لتقولا إن أرض أجدادنا هذه قد استولت عليها أقوام غريبة تعمل الآن على إجلائنا أو إبادتنا، فاضطر الكثيرون منا إلى الهجرة بعيدا عن ديارهم وجذورهم إلى بلدان بعيدة في أمريكا وكندا وإنجلترا.

ـ يا صديقي، هذه قضية أخرى وليست مهمتنا، نحن لا نعمل في السياسة، ولا نتدخل في شئون بلدانكم، عملنا ينحصر في استخرج مخلفات التاريخ ، نسلمها لحكومتكم وينتهي واجبنا.

وقف بهنام كأيقونة ضخمة تطل من الماضي البعيد، كأسه الكبيرة بيده:

ـ بل هنا يبدأ واجبكم، أن تقولوا الحقيقة! ماذا وجدتم، وما هو معناه ودلالته! من يقود البعثات الآثارية؟ أليس أنتم أيها الإنجليز؟ مس بيل بعد أن انتهت من صنع ملوك الحاضر،التفتت لصنع ملوك الماضي أيضا وعلى هواها؟ شكلت ذاكرة البلاد والناس وفق مصالح الإنجليز، هذه طعنة للتاريخ الذي ينبغي أن تظهر حقائقه كما هي!

ــ لا أريد مناقشة كل ما قلته يا سيدي بهنام، تفسير دلالات التاريخ هو واجبكم، ونحن ساعدناكم بوضعها تحت أيديكم، ليس من العدل أن تلقي واجبكم على كاهلنا!

شعرنا أن الراهب قد شرب كثيرا، وصار صوته متعثرا،بان اثر العمر الذي قاومه طويلا وكان متفوقا عليه دائما، قال خبير من بنسلفانيا:

ـ سيدي أشكركم على هذا النبيذ، إنه قوي، وأنت تشربه دون أن تأكل اللحم، هذا خطر يؤثر على صحتك.

كان يريد أن يقول له أنت قد سكرت، لكن الراهب الثائر كان أذكى منه، وكان متألماً حقا:

ـ على العكس، هذا النبيذ العتيق يضيف لذهني ذاكرة الماضي كلها.

أضاف الهولندي:

ـ الناس هنا أهملوا تاريخهم ، ونحن أخرجناه لهم ،لماذا يغضبون علينا؟

أخذت يد بهنام ترتجف وهو يمسك بالكأس فتقدم مساعده الشاب وتناول الكأس منه.كان متعبا حزينا، أخلد للصمت،جفونه ترتعش. خيم علينا سكون متوتر. كنت حقا متأسية ومعذبة، ولم يسبق لي أن كنت هنا كذلك، حاول رهبان شبان ترطيب الجو بإنشاد بعض الأغاني الكنسية العذبة،لكن الجو صار فاتراً. شعرنا أن الوقت قد حان لانصرافنا. شكرنا الراهب بهنام وعانقناه، وغادرنا الدير إلى بيوتنا الصغيرة في القرية. في اليوم التالي علينا السفر قبل انتصاف النهار. ونحن في القطار متجهين إلى بغداد، أخذت أستعيد كلام الراهب بهنام ، قلت لماكس، أنه محق، كثير من حملات التنقيب التي حصلت بإجازة من السلطات العثمانية الجاهلة والفاسدة كانت أشبه بعمليات تفويض بسرقة ونهب آثار هذه البلاد. قال ماكس هو يتحدث بقضية سياسية وتاريخية كبيرة ومعقدة فوق طاقتنا، بل فوق طاقة حكام البلاد الحاليين! ويأخذني صمت وشرود طويلين ثم أعود أتمنى أن أعود لأحاوره،أنا مثله أريد أن أصل إلى الحقيقة. حديثه ترك جرحا في قلبي وضميري. أحقا نحن ضالعون في نهب آثار هذا البلد العريق؟ لماذا بقيت ساكتة؟ لماذا لم أقل له كلاما يطمئنه ويساعده في تكوين رؤية صحيحة عن التنقيب في آثار بلاده؟ قلت لماكس كلمات الراهب : من قلب مثقل بالأحزان وليست نذير قصاص وشؤم! هز رأسه: ولكن هذا لا يعني أن ليس في هذه البلاد من يكرهنا، يعدنا لصوصا، وقد يتهور فيؤذينا! هل يمكن لي أن أمزج بين مهمتي الروائية، والبحث في أعماق التاريخ؟ روايتي القادمة ستوضح لي شيئا من خفايا التاريخ الذي صار ترابا،كما ستوضح لي شيئا عن خفايا نفسي التي أراها تتسكع على ضفاف التاريخ دون أن تدخل إلى أعماقه! عليّ أن أخوض مغامرة الكتابة فيها سريعا ودون تأخير، سأجلس كالتلميذة الصغيرة أمام القيثارة الذهبية، وأدعها تنقلني بنغماتها السرية إلى أقصى البقاع في نفسي وفي الأزمان الغابرة على هذه الأرض وأكتب روايتي. لا ينبغي لي أن أغفل شخصية المس بيل المثيرة في الرواية، لقد بنت للعراقيين متحفاً وطنيا رائعا، هل هي صانعة ملوك أم لصة آثار كما عمل بعضهم على تشويه صورتها؟ ما أعرفه إنها لم تحصل من كنوز العراقيين ولو على محبس ذهبي صغير، هي لم تسلم حتى على عظامها لتعود بها إلى بلادها، دفنت في هذه الأرض التي أحبتها، ومع ذلك من يدري؟ كل شيء قابل للبحث والتحري،الرواية تصنع نفسها!

 

على الطفل الباكي أن يزيح صورتها من الجدران!

في الناصرية والعمارة لم أجد صورة فاطمة، في بعض المقاهي والمطاعم التي كنت أراها فيها، لكنها ما تزال في مقاه أخرى. وجدت صورة الطفل الباكي تحل مكانها أو تعلق إلى جانبها وتغدو الأكثر بروزا وانتشارا. بدأت هواجسي، ثمة شيء ما يعتمل في الأجواء، قلبي ينقبض، يبدو أن هناك سرا وراء ظهور صورة الطفل الباكي! هل أرادوا أن يستعملونه مكنسة يزيحون بها صورتها؟ ويبشرون بمستقبل سيحل به اليتم والحزن والبكاء؟ فاطمة جمعت حولها رؤوس الرجال على الفتنة والجمال كما تجمع قطعة المغناطيس برادة الحديد؛ كيف يستطيعون محوها من ذاكرة كل هؤلاء الرجال؟ ولكن من هم الذين يريدون إخفاءها، وطردها من حياة الناس وأحلامهم؟ كلما قضيت شهورا في الأهوار وزرت بغداد وعدت إلى الناصرية وجلست في مقهى يطل على مرسى القوارب، أو في البصرة بمقهى على شط العرب، أو في وسط المدينة ، أجدهم قد وضعوا إلى جانب صور الطفل الباكي صورا متنوعة لرجال دين بمختلف السحنات والهيئات! هل هم يريدون القول أن رجال الدين يمثلون العدالة والقوة وإنهم يرعون اليتيم والمسكين؟ وهم أب لمن فقد أباه؟ في صدارة مقهى كبير واسع في الناصرية يطل على النهر، كان ثمة حشد كبير من الصور، يطل منها أشخاص كثيرون بوجوه سمراء ممتلئة،وعيون واسعة تبرق، تحفها لحى بارزة مشذبة، تعلوها عمائم سود وخضر، يتقدمهم رجل بملابس خضر قشيبة،على رأسه عمامة سوداء،جالسا على بساط وثير، بجسد ضخم قوي، ووسامة، وقد ربض أمامه أسد كبير رشيق قوي ينظر منتبها مثله،لكنه كان مستكينا خاضعا له تماما،ذلك يزيد من قوة الرجل وجبروته، كان يضع يده على سيف ضخم طويل، نصل السيف يلمع وينتهي بشفرتين مهيئا للانقضاض. وجوه أخرى بنفس ملامحه ومهابته، وسطوته، على خيول مطهمة يحملون سيوفا،ورماحاً،تخيلتهم قادمين لتوهم من صحراء زمان بعيد بعد أن خاضوا حروبا طويلة، وقد حف بهم رجال من العصر الحالي كأنهم يستقبلونهم وقد دعوهم لحروب جديدة، لا أدري مع من، ولا لماذا، كانت الأجواء عموما غامضة معتمة! ورواد المقهي جالسين على التخوت الخشبية المتهرئة، يتأملونهم بوجوم ودهشة وخشوع. معظم الصور متخيلة مرسومة بالفرشاة والزيت وبألوان زاهية، بينما صور رجال الدين الحاليين فوتوغرافية مكبرة ومطبوعة بالأسود والأبيض، على ورق صقيل وبأحجام كبيرة وبشكل متقن. أبقى صاحب المقهى صورة فاطمة على مسافة من الصور الدينية، انقل بصري بين وجهها ووجوه رجال الدين، لم تكن المسافة بينها وبينهم مترا كما قدر صاحب المقهى، كانت دهرا طويلا، تاريخا عسيرا، رأيت وجهها حزينا مذعورا، وقد أضحت بعيدة عني وعن بلادها أكثر مما كانت، وإن هؤلاء الرجال والشبان المتطلعين إليها من بين اللحى والعمائم قد فقدوها إلى الأبد، كما فقدوا أماكنهم الأولى أيضا، وقد أضحوا الآن في مكان آخر،وزمن آخر! صدر المقهى كأنه مقدمة جيش كبير قادم باتجاهنا، تساءلت في نفسي، ترى إلى أين يمضي كل شيء هنا؟ أفقت على صوت صاحب المقهى يصيح بي كأنه ينتهرني:ألا تريد شيئا؟ وهذه إشارة إلى أن جلوسي قد طال، وعلي أن أجدد شرابي وأدفع له ثانية! وقبل أن أقول شيئا نهض فجأة رجل بعباءة سوداء وعمامة بيضاء، ووجه أسمر داكن ولحية وخطها الشيب، وهو يصرخ بوجه صاحب المقهى:

ـ كيف تضع صورة هذه الفاسقة الفاجرة بنت المعيدي إلى جانب صور أئمتنا، ومراجعنا العظام؟

توقف صاحب المقهى مشدوها متلعثما لا يعرف ماذا يقول وهو يتطلع ممتقع الوجه إلى رجل الدين هادرا بصوت خطابي؛ ملقيا كلماته الحادة وإشاراته العصبية باتجاه الجدران المغطاة كلها تقريبا بالصور، تلعثم صاحب المقهى مرددا:

ـ سيدنا،.. سيدنا سامحني،.. سامحني ولله .. والله،

ثم يتحشرج صوته وينقطع، ويأخذ بالسعال. زاد صوت رجل الدين علوا، وتحول إلى موعظة دينية عنيفة(كانت لهجته إيرانية واضحة، جولاتي يا أجاثا في المنطقة جعلتني أعرف لهجات سكانها) انبرى صاحب المقهى يأمر عماله، سحبوا مقعدا طويلا،،صعدوا عليه، وأنزلوا صورتها، وألقوها جنب صفيحة كبيرة للزبالة! استمر صاحب المقهى ينظر إلى الرجل الغاضب بتوسل معتذرا طالبا السماح والمغفرة:

ـ يلعن أبو بنت المعيدي، وأبو الجابها، هاي منو ورطني بيها ؟

سيطر الوجوم والترقب على أكثر الجالسين في المقهى، نهض آخرون ممن كانوا قبل قليل يبحلقون بصورتها بتلذذ واضح، وراحوا يقرعون صاحب المقهى:

ـ هذي الفاجرة، الكلبة بنت الكلب شلون تخليها ويه صور الأئمة والمراجع، هاي شإجاك، تخبلت؟

آخر يصيح به:

ـ ما تستحي! ظالم! ما بقيتنا شفاعة عدهم!

أغلب جلاس المقهى أصابتهم سكتة جماعية ودسوا رؤوسهم في لعب النرد والدومينو، سمعت همهمات خافتة، ولم يجرأ أحد منهم على الكلام مع رجل الدين! طبعا أنا يا أجاثا لا أستطيع أن أقول شيئا، أية كلمة مني ستضع من سأدافع عنه بجانب الاستعمار البريطاني كله، ثم هل أجرأ أنا على الكلام بين أهل البلاد؟ . انتهى رجل الدين من هجمته، دفع المنضدة الصغيرة المرتفعة وأسقط استكان الشاي الفارغ على الأرض وسمع صوت تكسره، وخرج مبرزا صدره أمامه، دون أن يدفع ثمن شايه، ولا ثمن طعام كان قد طلبه من مطعم مجاور! عم صمت ثقيل، أحسست أن المقهى يلفظني ، فنهضت مغادرا، قام أحدهم معي خارجا وقال هامسا:

ـ راح اتصير حياتنا سودة مصخمة!

 

يريدونهم أن يبتلعوا السماء على معدة خاوية!

في فندق بالبصرة،نزلت فندقا قريبا من سوق الهنود. وجدت صاحبه قد أنزل صورتها، أحزنني ذلك، ملكة تخلع عن عرشها، قلت للرجل وكانت بيننا معرفة وأحاديث شتى:

ـ ماذا فعلت بنت المعيدي فأنزلتها عن عرشها؟

قال بكل بساطة وهدوء وهو ينفث نفسا عميقا من سيجارته:

ـ اكتشفوا أنها جاسوسة خائنة.

ندت عني ضحكة مرة:

ـ هذه الجميلة الوديعة، جاسوسة، كيف؟

أحتد صوته:

ـ قحبة يهودية كانت تعمل مع الإنجليز في الهند، وهي..

وراح يشرح لي بجمل متقطعة متناثرة كيف إن التجار اليهود يستوردون صناديق الشاي من الهند، يبيعون الشاي للأفراد بسعر الجملة؛ فلا يربحون شيئا منه، لكنهم ينتزعون عن الصندوق الفارغ صورتها، يبيعونها لأصحاب المقاهي والفنادق بثمن مرتفع، فالناس تدفع من أجلها أي ثمن،ثم يبيعون الصندوق خشبا، قلت هذا ذكاء اقتصادي اشتهر به اليهود. رد بنزق كأنه ينتهرني:

ـ انتظر! لم أكمل كلامي، اليهود يأخذون الفلوس التي يحصلون عليها بفضل هذه القحبة بنت المعيدي، يشترون بها أسلحة وعتاد ومؤونة، ويرسلونها لأصحابهم اليهود في فلسطين!

يصعب مناقشة مثل هؤلاء، فهم قد يضربون من يجادلهم إذا أعوزتهم الحجة بأحذيتهم،أو بخناجرهم، ومع ذلك لم أسفه كلامه، سكت! خرجت إلى شاطئ شط العرب لأتنفس الهواء النقي، بعد أن كادت رئتي تختنق بأحاديث ودخان هذا الرجل الوطني أكثر من اللازم. جلست في مقهى أرقب القوارب الكبيرة وزوارق الصيادين تمخر عباب النهر العريض. رحت أفكر بكلامه، كنت قد شربت الشاي والبسكويت مع الإنجليز في شرفات حامياتهم وقنصلياتهم والقصور التي نزلوها في العراق، بينما صار قدح الشاي مع رغيف الخبز لدى الفقراء كل غذائهم، رأيت بمقهى في البصرة عمالا بأسمال مهلهلة يأكلون خبزا مع الشاي، سيكدحون طيلة اليوم بهذه الوجبة، وينقلون تلالا من أكياس الرز والحنطة وصناديق الفاكهة المجففة إلى الباخرة التي ستبحر بها إلى إنجلترا! أن تكون فاطمة فتاة دعاية تروج شاي شركة الهند الشرقية، لا يغير من الأمر شيئا، لقد استقر في نفسي أن هذه الفتاة الجميلة هي حلم وكفى! اختفت صور فاطمة شيئا فشيئا، وما بقي منها ملصقا على الجدران تناوشها الإهمال والعناكب ودخان الأراجيل،والرطوبة فتشقق وجهها، وتمزق صدرها الناهد.وتساقط بقاياها فتاتا مع طلاء الجدران. زرت صديقي صاحب فندق الأمل في الناصرية، وجدته ما يزال يضع صورتها في صدر صالة الاستقبال في الفندق، ضحكت بأسى، قلت له:

ـ كثيرون تخلوا عنها، لماذا أنت ما زلت متمسكا بها؟

ـ لن أنصاع لفتوى رجال الدين وأضع صورهم.بدلا عن صورتها!

بقيت أتطلع إليه، أدرك ما توصلت إليه أنا أيضا، مضى يقول:

ـ في البداية قالوا لا يجوز عرض صورتها إلى جانب صور الأئمة ورجال الدين، ثم أفتوا بتحريم النظر إلى صورتها، جلبوا من إيران أكداسا من صور الأئمة ورجال دين إيرانيين أذريبجانيين وباكستانيين أخذوا يوزعونها على المقاهي والمطاعم والمحلات، بينما التصوير في الإسلام حرام وغير مسموح به للناس العاديين، فكيف بالرجال الذين يقدسونهم؟ لكن هؤلاء في أطماعهم المبرقعة بالمذهب أباحوا لأنفسهم كل شيء!

صمت برهة، أشعل سيجارة راح يجذب دخانها بعمق ،بقيت أتطلع مندهشا يتحدث بحزن كأنه يناجي نفسه: صور تصعد الجدران، رجال يصعدون المشانق، بشر ينحدرون إلى الشقاء، سمعت أنهم سيصدرون فتاوى تحرم الغناء والموسيقى و السينما والمسرح لكنهم لن يفلحوا، كثير من الناس هنا متعلقون بالشعر والآداب والفنون وبالشراب والغناء وبالحياة،وأصواتهم جميلة جدا، الصراع هنا يشتد يا ثيسجر، ولا ندري إلى أين سيفضي بنا. أتعرف ماذا يعني اختفاء صورة بنت المعيدي؟ أنه يعني اختفاء الجمال والحب والوئام،وبذا تصير حياتنا جحيم في جحيم! اللحى الكثة الآن تزحف طاردة كل نسمة عذبة،وبتنسيق ودعم من قوى خارجية!

يا عزيزتي أجاثا رغم ما شهدته من سطوة رجال الدين، وجدت لدى العراقيين ميلا للعلم والحضارة. في القطار المتجه إلى الناصرية،كان يجلس بجانبي شاب بدأ معي حديثا،وحين عرف بانجذابي لأجواء الشرق وللحياة الفطرية في الأهوار، ندت عنه ضحكة هازئة قال:

ـ كيف تأتي من أوربا أرض العلم، والسعادة ،لتدخل في غيبياتنا وخرافاتنا وتعاستنا؟

رحت أحدثه عن قرفي من مادية أوربا وقسوتها وعجرفتها قال:

ـ مع كل ذلك، يكفي أن أساطيرهم وخرافاتهم هي "الكهرباء" " "البنسلين " "التلفون" "الراديو" "السينما" "الطائرات" بينما أعظم منجزاتنا هي "الأربع زوجات"، "وللذكر مثل حظ الأنثيين" . وتحريم الخمر والموسيقى والشطرنج، ثم البكاء واللطم والخلاف على أئمة ماتوا قبل أكثر من ألف عام! ‍

حمل كتبه ونزل من القطار قرب الناصرية ذلك المكان الذي يقولون أن إبراهيم الخليل خرج منه. كيف يا عزيزتي أجاثا يمكن إقناع هؤلاء الجوعى المعذبين بأن يبتلعوا السماء على معدة خاوية؟ هؤلاء كما أتوقع سيسيرون في طريق العلم لا الخرافات، لكنهم بالطبع سيعانون ويتألمون كثيرا! والقادم أفظع! توقف ماكس عن القراءة، أحس بالتعب، لكنه وجد إنه ينسى ولو لساعة أو هنيهات موضوع اختفاء أجاثا!نزل إلى باحة الفندق،سأل عامل الاستعلامات :

ــ هل سأل احد عني!

ــ سيدي لو سأل أحد عنك لأتيناك على الفور!

ألقى نفسه في المقعد الجلدي وراح يدخن شارد الذهن لساعة تقريبا، لم يجد مناصا من الصعود إلى حجرته، تناول أوراق ثيسجر، صار يحس إنه يحترق ثم يبترد مع ثيسجر بماء الأهوار!

 

أنت ستكون آخر من يسأل عن بنت المعيدي، صور أخرى ستصعد على الجدران كما الزواحف الوحشية البدائية ؟

ظل سليم يعب العرق، وتغيم عيناه وراء أفق بعيد معتم، كان صامتا وأنا أحدثه بما رأيت وسمعت في مقاهي ومطاعم الجنوب، واختفاء صورتها وتواريها تقريبا من مقاه ومطاعم كثيرة، وظهور صور كثيرة لرجال دين يتقدمهم الطفل الباكي، قال :

ــ هذا يحدث أيضا في بغداد، سمعت أن رجال الدين الذين كانوا يكرهون صورة بنت المعيدي وكل صورة إلا صورهم ، أخذوا الآن يقولون؛ علينا أن ننشر صورتها في كل مكان، هذا سيؤدي لكثرة الفسق والفجور ويعجل بظهور المهدي المنتظر، آخرون خالفوهم، قالوا لنطهر كل مكان منها تمهيدا لظهوره، يبدو أن الغلبة لهؤلاء الآن، والأمريكان بدأوا منذ الآن يتواصلون وينسقون مع رجال الدين وأحزابهم وجماعاتهم سنة وشيعة. أنت تعرف أن المتدينين ضد الشيوعية، والأمريكان يرون فيهم جيشهم السري والعلني لمناهضة الإتحاد السوفيتي!

ـ لكن كولن قال أنهم الآن يتواصلون وينسقون مع ضباط في الجيش؟

أحسست بمرارة ضحكته:

ـ أتعتقد أن الأمريكان يخلصون لأحد؟ هم يهيئون منذ الآن الحصان وبديله البغل أو الثور، يخيفون هذا بذاك، وذاك بهذا، حتى تتم لعبتهم! في النهاية سيحطمون الدولة المدنية في بلادنا! سترى يا ثيسجر في المقاهي بدلا من صور رجال دين؛ صور ضباط ببزاتهم العسكرية والنياشين على أكتافهم،العسكر خلال السنوات القليلة الماضية قاموا بانقلابين فاشلين الحقوا بهما أفدح الضرر ببلادنا، لكنهم لا يكترثون، ولا يكفون عن محاولاتهم لأخذ السلطة،هم يكرهون الدستور والعقل،فارغون من الثقافة والوعي، مغرورون، كتلك الصعادات يطلقونها في احتفالاتهم، تعطى وهجا مبهرا ثم تتساقط رمادا! يا ثيسجر الصراع على النفط يشتد في بلادنا وسيظل رجال الدين والضباط يتهارشون؛ ديكة مدربة، مرة هذا ينتصر، ومرة ذاك،من سيقف على السطح ويطلق صيحة الفجر الدامي دون شك، أحد دمى الأمريكان، يمتاز ببراعة الجمع بين هذا وذاك،كلعبة، أو كصفقة تجارية!

سألت مندهشا:

ـ والمعارضة المدنية، ألا تحرص على الديمقراطية؟

ضحك، بينما وجهه منقبض متألم:

ـ هي أكثر طيشا من السلطة،والعسكر، يتصدرها سياسيون مترهلون متهالكون على المناصب. وفي الشارع يصول ويجول الشيوعيون بكل غبائهم وهوسهم بستالين،وتهالكهم على تحقيق نفوذ لدكتاتوريته في العراق، فتصور أي مستقبل للديمقراطية عندنا!

لسليم قدرة على التحليل السياسي لا أمتلكها طبعا، هو من أقنعني باستدراكاته وإيضاحاته لما أواجهه هنا ومن معاناة في وجودي في الأهوار أننا نحن الكارهين للسياسة، العازفين عنها، سنصحو ذات يوم لنجد أننا دون أن ندري، كنا نمارس السياسة بشكلها السلبي أو الصامت، أي أننا مارسنا أسوأ أنواع السياسة. لا مهرب منها لمن يعيش في عالم اليوم. واصل سليم حديثه بينما أنا صامت، أفكر مترددا هل أحدثه بواقعة غريبة حدثت لي، لا أدري هل كنت خجلا أم خائفا، ليس منه بل من نفسي، وأخيرا قررت أن أفضي له بما حدث:

ـ قبل أن تنصحني صرت مقتنعا، أن من الأفضل لي أن أعيش على أن فاطمة هي حلم جميل كبير وبعيد، وأن لا أمني نفسي بما هو أكثر من ذلك. لكن لا أدري يا سليم كيف حدثت لي تلك الواقعة الخطيرة والمرعبة. ربما لأن ثمة مشاعر يأس وإحباط كانت تكتنفني وترهقني كثيرا. كنت قد ركبت تواً القطار المتجه من الناصرية إلى البصرة. كنت صرفت ياسين وعمارة في إجازة. قررت أن أتسكع في هذه المدينة الساحرة وحدي. لا أدري من أين جاءت الفتاة الجميلة واقتربت من نافذة القطار تحمل على رأسها طوابق الروبة. كانت دون العشرين بوجه جميل ساحر. فتاة ناضجة، أحسست على البعد ما يضج في عروقها من شبق وعطش لرجل، سمعت هاتفا من أعماقي "ها هي فاطمة نفسها جاءتك من أقصى أعماق الوجود يا ثيسجر، كيف يقول سليم إنها مجرد حلم؟ هي واقع، وهو ماثل الآن، الضابط الإنجليزي لم يفر بها إلى انجلترا، حتى لو وضعها أسيرة في بيت تحيطه الأسلاك الشائكة،هي الآن استطاعت الإفلات من سجنه،عرفت إنك تبحث عنها فجاءتك! امسك بيدها، ستكون لك وإلى لأبد! نسيت مسألة الأعمار والزمن.قلت؛ سأفضح الضابط الذي خطفها، وأعمل على أن ينال القصاص الذي يستحقه. ما خطر لي لم يكن حلما، كان واقعا على أرض تدفع لي حرارتها تحت الشمس عبر النافذة. لا أدري هل أومأت لها أن تصعد إلى القطار، أم هي التي صعدت لوحدها وقد تلاقت نظراتنا، رأيت كل سحب اليأس السوداء تتلاشى من سمائي دفعة واحدة، جلست بجانبي، وضعت أطباق الروبه في الممر بين المقاعد.مالت قليلا إليّ، لم تكن تقصد عناقي طبعا في قطار بدأ يتقاطر عليه الركاب، أرادت الاقتراب تريني كيف لبنها رائب ودسم ومعطر، بالتأكيد أنا الذي ملت إليها أكثر، وقد ضجت كل عروقي نحوها، تأخرت يا فاطمة، وطال بحثي عنك، مالت علي أكثر من المعتاد، اندفعت نحوها أريد أن أضمها إلى صدري! نسيت إنني في قطار، وبين الناس. لا أدري هل هي نست العالم مثلي في تلك اللحظة أم لم تكن مبالية،فمالت إلى صدري! ندت عنا طبعا أصوات الإثارة المفزعة، شوق ولهفة ، ماذا دهاني؟ أحسبت نفسي في أوربا؟ أم حسبت أن حياة الفطرة والبدائية يمكن أن أعيشها في القطار كما في زاوية من الهور؟ لا يمكن يا سليم شرح ما حدث سوى إنه غيبوبة عن الوعي، وانفصام عن الواقع. لم يحدث لي من قبل! لم أعد إلى وعيي إلا بعد أن انقضت علينا بغتة عاصفة صراخ، وأيدي قوية انهالت علي بالضرب، رجال هبوا عليّ عصبة واحدة؛ وراحوا يتجاذبونني، هذا يصفعني، وذاك يركلني؛ جاء شرطيان أنزلاني من القطار واقتاداني إلى مركز الشرطة قريبا من الناصرية.لا أدري ماذا حدث للبنت،لم أرها، ربما لم تسلم من ضربهم أو محاسبتهم. حرروا لي محضر تحرش بفتاة معيدية، كيف؟ هل كان ذلك كابوسا أم حقيقة؟ بت ليلتي في مركز الشرطة، تأخذني كوابيس أن فاطمة قد ظهرت وأبعدوها عني، طلبت الاتصال تلفونيا بكولن في سفارتنا . أصررت على إفادتي: إنني، لم أتحرش بها، وإنني دعوتها لأشتري منها اللبن . بعد أيام من الأخذ والرد والمكالمات التلفونية مع السفارة البريطانية؛ أطلقوا سراحي، لكن ما حدث افقدني الثقة بنفسي وحطم آمالي وبإمكانية عيشي بين الناس هنا! صرت أحس إنني أمر بلحظات ذهان وتهيؤات مرضية، وصرت أخشى أن يتكرر ما حدث، وإذا كنت في هذه المرة قد نجوت ولم تسجل الواقعة كاغتصاب أو شروع فيه، أو أن ينبري لي رجل يقتلني على الفور.فإن أي حادث بسيط لي مع نفسي أو طيف فاطمة، لن أخرج منه سالما! أنا لست خائفا من أهل الهور،يا صديقي سليم ، بل أنا خائف من نفسي، بدأت لا أسيطر عليها!

ظل سليم صامتا،يتطلع في وجهي بين فينة وأخرى. فجأة اعتراه غضب وحدة:

ـــ اسمع يا ثيسجر، أنت كما تقول درست سكان الأهوار وسميتهم عرب الأهوار، هنا كثيرون لا يقرونك على ذلك! هم يصرون على تسميتهم بالمعدان، لا أعرف أصل هذا الاسم ،لكنني أرى بوضوح أن سمعتهم سيئة، رجالهم كسالى عديمو الإحساس أو الغيرة، يتكئون على جدران القصب يدخنون، ينتظرون زوجاتهم أو بناتهم أن يأتين لهم من المدينة بالنقود ولا يسألونهن عن شيء.بينما هن لا يبعن اللبن بقدر ما يبعن أجسادهن! كثيرون هنا يخشونهم، فهم يتصفون بالوقاحة والاستهتار، ثمة أناس يقولون لا ندري ماذا سيفعلون بنا غدا،لو تكاثروا في بغداد،وصارت لهم سطوة، فحتى لو غدا أحدهم شرطيا فإنه سيعيث في الناس فساد وقسوة، أنا شخصيا لا أقر هؤلاء على نظرتهم المتعالية المطلقة،أراها جائرة متجنية،لكنه واقع حال لا يمكن تجاهله، ليس كل المعدان كذلك، فيهم طيبون وفيهم متخلفون أجلاف،ومع ذلك؛ لا تورط نفسك بهكذا اندفاعات وتحرشات معهم؟ أخشى أن يقتلوك، بل يمزقونك إربا!

عجبت لما سمعته منه عن عرب الأهوار، بالطبع هذا لا يعني أنه مؤمن بما ينقله من كلام الناس، لكنه هو نفسه كان قد حثني على إشباع حاجتي الجنسية مع نساء مستعدات لذلك من أهل الهور، أو في مكان آخر، أنا لم أتحرش بامرأة بحثا عن الجنس؛ ما حدث مع هذه الفتاة كان شيئا غامضا وخارجا عن إرادتنا، لماذا يلومني على ما حدث؟ لم أشأ أن اذكره بما تحدث به سابقا معي ، يبدو إنه ينسى، أو يقع في تناقضات كأي إنسان، صار أحدنا يتطلع في وجه الآخر، خيم علينا صمت خلته سيطول، صرت قلقا حقا، بدا وجهه منطويا على حزن قديم،لا أدري هل إن ما حدثته به، أم الكحول قد جعل وجهه يتفتح بحديث آخر ،كان صوته حزينا هادئا:

ـ أنس ما حدث! لا تقلق، فتفقد ثقتك بنفسك، هذه تهيؤات طبيعية، كنت أتوقع أن يحدث لك مثل هذا في الهور، ولكن وجود ياسين وعمارة معك كان يجعلك تفكر وفق ما هو معتاد بين الناس، ولا تنقاد لمخيلتك! حين نعجز عن جعل أي شيء حلما كبيرا بعيد المنال، نبدأ نقع في اليأس، لنتعلم تدريجيا أن نكتفي بالحلم، وهذا لا يتأتى بسهولة،كثير ما تحدث نكسات! لا تقل يا ثيسجر أنك خائف من نفسك! أنت يا ثيسجر لم تفشل، ما زلت تعيش حلما جميلا، وطيبا!

ـــ أشكرك، أنت تعيد لي شعوري بالأمان كلما تبدد!

ـــ أنا الذي أشكرك، عرفتني على بنت المعيدي وأنا العراقي! حلمك بها أنعشني أيضا! لا شك أن بحثنا صار أكثر صعوبة، ولكن ينبغي أن نحذر التصديق أنها مجرد إعلان تجاري!

شعرت بالراحة لكلامه، قلت:

ـ أزمعت ما أن انتهي من علاج مرضى وعدتهم بدواء جلبته معي من لندن حتى أخرج من الأهوار والعراق كله، أريد أن أبدأ رحلة في صحارى أفريقيا!

قال ضاحكا:

ـ ستخترع لنفسك هناك بنت معيدي أفريقية، هذه المرة ستكون ساخنة ، أحذر فقد تهشم عظامك في أول عناق!

سكت برهة ،سكب بالقدح ما تبقى في القنينة، وطلب قنينة أخرى، أشعل سيجارته،تأملني طويلا كأنه يراني لأول مرة، بقي متوقدا، قال كأنه يفجر قنبلته الأخيرة:

ـــ أتعرف يا ثيسجر ، إنني أراك طفلا ، بجسد ضخم، طفلا فقد دميته وما زال يبحث عنها مهما مرت عليه السنين، بنت المعيدي هي دميتك، لا تجزع، ابق على روح الطفل فيك!روح الحالم الجوال، قد لا تجد بنت المعيدي ولا شقيقتها الإفريقية، لكنك ستجد طفولتك،وتعيش أحلامك يا صديقي كم تستحق طفولتنا وأحلامنا أن نبحث عنها حتى لو أنفقنا عليها العمر كله ولم نجدها، هذا هو الرد الأعظم على الموت!

تكون لدي هاجس إنه سيموت قريبا، هو لا يكف عن الشراب والتدخين،والحزن العميق. يذوى، ولا يفقد صحوه، على العكس أجده مع الشراب؛ يتألق ، ممسكا بروحه، واصل حديثه:

ـ بنت المعيدي هي حلمنا بالجمال والحب، كثيرون يريدوننا أن نفقدهما دون أن نحس ، ولكن لا لن نتخلى عنها، يا ثيسجر حتى إذا غادرت بلادنا ونسيتها، ونسيتني،تمسك بهذا الحلم الجميل!

رفع كأسه كأنه يرفع نخبا،شعرت به قريبا جدا مني؛ صديقا وأخا،قال:

ـ حتى إذا كانت إعلانا تجاريا فنحن سنظل نقول إنها حقيقة!

ـ يا صديقي سليم ، أنا لا أشغل نفسي بما تفكر به، أنا فقط أحببتها دون تفكير، ربما أنا مجنون!

 

ــ حتى لو كنت مجنونا ، يمكنك أن تدرك ما يكتنف مستقبلنا من مخاطر، ربما ستكون آخر من يسأل عن بنت المعيدي!من يسأل عن شهرزاد في ألف ليلة وليلة؟ من يسأل عن ليلى المريضة في العراق؟ عن عشتار ربة الأنوثة في وادي الرافدين؟ كل هذه أصبحت من المضحكات، إلا في القلوب الحزينة كقلوبنا! قلبي يقول أن هذه الصورة وذكرى صاحبتها ستختفي ، ستصعد على الجدران كما الزواحف الوحشية البدائية صور أخرى؟ كثيرون الآن يعدون صورهم وشعاراتهم وأنيابهم، الضباط منذ الآن أعدوا صورهم بأقصى بريق النرجسية، القوميون من العرب والكرد والتركمان والاشوريين هيأوا صورهم، الشيوعيون لديهم صورهم وشعاراتهم، الإسلاميون شيعة وسنة رأيت صورهم وسترى أكثر، صور، صور وشعارات تملأ الجدران، لغة الصور يا ثيسجر أفظع اللغات وأكثرها تدميرا، لدينا اليوم صور رهيبة مرعبة تصرخ من الجدران،هيا أيها الناس اقفزوا من المركب، ليبتلعكم البحر، السفينة والرحلة لنا وحدنا! لا أحد منهم يريد غيره أن يشاركه السكنى في هذا الوطن،الآن صور، صور، صور، وغدا عواصف وزلازل وأنهار من الدماء، استكثروا عليك وعلينا صورة فتاة جميلة وحيدة واحدة فقط لا غير! كل شيء جعلوه يختفي وراء صورهم! أتعرف يا ثيسجر، كم أنا حزين؟ في اليوم الذي تختفي فيه صورة هذه البنت من مقاهينا وبيوتنا سيختفي معها الجمال والسلام. صار يبكي ، هل أفرط بالشراب، أم أخذه حزن حقيقي؟ اعتذرت له " آسف سببت لك ازعاجا" هز رأسه، ربت على يدي ، وعاد بسرعة لابتسامته!

 

كنت في الصحراء أركض على الرمال وراء السراب، الآن أركض فوق الماء وراء السراب!

توقف ماكس عن القراءة، شعر بألم لمعاناة ثيسجر، ولما وصل إليه من تداع نفسي، وسلوك لا يليق به.هو رحالة جاد، وإنسان طيب ومسالم، لماذا يعرض نفسه لهكذا مواقف؟ بدأ يقلق عليه. صار يحب سليم البكري لطيبته، وحنوه على ثيسجر. تمنى لو كان قد تعرف عليه، كان سيذهب إليه ويجد لديه عزاء وتفهما، وربما شاركه البحث عن أجاثا، هكذا رجل طيب مؤنس يشعر صديقه معه بالأمان والطمأنينة، تعاطف معه في حبه لوطنه، وأحزانه من أجله، تاركا آراءه السياسية له وللحياة. عاد يقرأ منجذبا لأسلوب ثيسجر في الحديث عن معاناته في بحثه عن هذه البنت الجميلة الغامضة، متأملا شغف العراقيين بها، فهي لها سطوتها الواضحة عليهم سواء أحبوها، أو شكوا بوجودها! بدأ يتفهم انبهار ثيسجر بوجهها، لكنه لا يقر اندفاعاته المجنونة نحوها، فقد تودي بحياته، لم يعد يستثقل استطراداته وتشعباته الكثيرة،بها دخل غيبوبة عن مأساته باختفاء أجاثا، وجد الرسالة أشبه بجرعة مخدر له، بدا له إنه كان صادقا ودقيقا في سرد كل ما يعن على باله، كأنه بهذه التفاصيل يحقق لقاءه بهذه الفتاة الجميلة،ويقضي أطول فترة ممكنة معها قبل أن يصحو على خيبة مرة! لاح له ظل من الحقيقة ، بل جانب محير منها، أجاثا ليست مع ثيسجر، ولا علاقة لثيسجر باختفائها! بذلك ازداد تشوشا وارتباكا،فمصير أجاثا أوغل أكثر في المجهول والغامض! لم يذهب إلى الشرفة ليبترد منها بالنهر. نزل إلى الاستعلامات يريد أن يتناول التلفون، لماذا شبكة تلفونات الفندق قد تعطلت هذه الأيام؟ ألهذا علاقة باختفاء أجاثا؟ هل هناك مؤامرة كبيرة محلية أو دولية تريد أن تطبق علينا؟ تناول السماعة وطلب ريتشارد، قال له إنه الآن في بيته الملحق مع التلفون بالسفارة،رحب به لكنه صدمه بسؤاله:

ـــ ها يا ماكس، هل عادت أجاثا؟

ــــ لا ، أنا أنتظر جهودكم، ماذا فعلتم؟

ــــ اطمئن، أبلغتنا الحكومة العراقية على أعلى مستوى أنهم يتابعون القضية بكل اهتمام، وقد استقدموا موظفين جدد للبحث والتحري. الدولة هنا كلها في استنفار، ثمة بوادر طيبة مطمئنة، لا مجال الآن للحديث بها!

ــــ لكنك لم تتصل بي ،في الأقل لتطمئنني ، أنا قلق جدا يا رتيشارد، رأسي يكاد ينفجر، أنت تعرف أنا أعاني من ارتفاع في ضغط الدم وسكر ووساوس!

ـــ معذرة يا ماكس، أنت في بالي دائما لكنني شغلت هذا اليوم كله بمتابعة قضية ولفريد ثيسجر!

ــــ ماذا به؟

ــــ هو للمرة الثانية يتحرش بفتاة من المعدان، فيهاجمه أشخاص، يضربونه ثم يعتقل، أطلقنا سراحه في المرة الأولى بسهولة في الناصرية، هذه المرة أعتقل في البصرة، كاد يقتله شبان غاضبون، وأنقذ في اللحظة الأخيرة!

ـــ هذا مؤسف، لكن أرجو أن لا تشغلكم قضية عن قضية أخرى، قضية حياة أجاثا خطيرة جدا!

ـــ نعم، بالتأكيد يا ماكس أمهلنا قليلا، وستكون النتيجة مفرحة حتما!

عاد ماكس لحجرته، كم ظلمت ثيسجر، حسبته يتخذ من حبه للمعيدية قناعا، هو متدله بها حقا، حتى لو كان حبا مضحكا سخيفا لكنه يملأ جوانحه، ها هو يتعرض للموت من اجلها مرتين، المسكين فقد عقله! ظلمت أجاثا أيضا، ماذا صنعت بي هذه المحنة؟ كيف لا يطير هذا القلق بعقلي؟ صعد إلى حجرته، سأنتظر يوما يومين، أسبوعا، لا يهم فقط أن تكون هناك نتيجة طيبة. تناول ما تبقى من أوراق ثيسجر: عدت إلى الأهوار محاولا أن أنسى ما حدث لي في القطار وأعده كابوسا عابرا، لكن لا تلبث الحقيقة أن تواجهني في ظلام الليل،فأشعر إنني لم أسترح داخل حلمي الكبير بل ما زلت أبحث عنها حقيقة، وإنني بذلك أقوم بلعبة غريبة، كنت في الصحراء أركض على الرمال وراء السراب، الآن أركض فوق الماء وراء السراب،أو وراء بقعة أرض ثابتة يقف عليها حلمي بها. أشعر إنها بعد كل هذا العناء من الدوران والانتظار، صارت أبعد من ذي قبل، لم أكن أعرف في البدء أن بيني وبينها كل هذه المسافات الطويلة العمياء، صار لقاؤها مستحيلا؛ إلا أذا وقعت معجزة، وأين أنا من المعجزات؟ أحيانا أجلس وحدي وأشعر بقلبي يبكي، أنا الذي لم أكن أعرف البكاء، أو حتى الحزن العميق، كنت دائما أتحلى بالشجاعة والإقدام،الآن صرت مترددا خائفا، أهكذا يفعل العشق بالإنسان؟

 

خالد يجازف ويشير إلى خاطف أجاثا: عرفته؛ أجاثا انقادت له بإرادتها وما علي سوى أن أعرف مكانه!

من تلك الصفحات الهامسة بالذكريات والأماني معا، استوقفته حكايتها مع القيثارة، ما سر ولع أجاثا بها؟ هي تعبدها، مستسلمة لها ، أيمكن لأنغام وهمية من قيثارة محطمة أن تجتذب قلب إنسان بهذا الشكل العجيب؟ كأنها تخطفه ومن؟ قلب هذه الكاتبة المتمرسة بمقاومة جاذبية البشر والأشياء؟ كانت طيور السنونو تحلق فوق رأسه تحت سقف المقهى العالي حيث بنت أعشاشها في جذوعه الخشبية الناتئة. النوارس أمامه، في الفضاء المنير تلاعب الأسماك مع الأمواج في النهر بخبث، كأنها لا تريد افتراسها بل ترقص معها وحسب! بدأ هو أيضا يسمع صوت القيثارة السومرية الذهبية! تكمل لحن الوجود حوله، أو تصنعه من جديد! ثمة موسيقى شجية تنهض حوله وكأنها تقوده إلى أجاثا، أين تكون! أحقا بدأ كما الكشف النوراني يعرف أين هي الآن؟ إذا لم يعرف هذه الساعة بالضبط، فإنه سيعرف بعد وقت قصير جدا! عليه أن يقرأ أوراقها عدة مرات، هواجسها وتهويماتها ونزعاتها العميقة الغامضة. كان حسن المسن عامل المقهى يغدق عليه بالكثير من استكانات الشاي الذي يجيد تخديره ممزوجا بزهور عطرة. عندما كان خالد طالبا، يناديه "وليدي" و "عزيزي" ، الآن صار يناديه" أستاذ " أستاذنا" ضحك خالد، هل صار أستاذا يستطيع فك ألغاز الجرائم والقضايا المعقدة الواقعة في مدينة كبيرة، ما تزال أرضها تنز دما من صراعات توالت عليها مدى عصور طويلة، خلفاء وملوك وخدم وأتباع، أشراف وأوباش؛ كانوا كل يوم في طعن وقطع رؤوس يتبادلونها بينهم كهدايا وكطقوس واجبة الأداء،سيوف تطيح بأجمل ما يسهر الإنسان على تكوينه من نفسه وأبنائه وصحبه فتهوي إلى التراب والنسيان. هل ستطوى قضية أجاثا كريستي معها أيضاً؟ من حق ماكس وأجاثا أن يشعرا بالخوف من الحياة في جوف هذه المدينة التي يختلط فيها الإنسان بالوحش، الجوع بالثراء، الطمأنينة بالرعب، وعلي ّ أن أقف إلى جانبهما، بحكم واجبي أولاً، وكصديق قديم لهما أيضا! عاد يقرأ ما كتبته أجاثا: أقدم آلة موسيقية في العالم، تلاحقني. عمرها أكثر من خمسة آلاف سنة، ولا تزال فتية يافعة، بجناحين سحريين تحوم حولي، حمامة رشيقة أبدية تصدح بنغماتها العذبة في أذني، تغني نشيد الوجود كله من الميلاد المفرح، المحزن، إلى الموت الحزين، المفرح. ما تزال أنامل العازفات الجميلات على أوتارها دافئة رغم الزمن الطويل وترابه البارد الثقيل. هي إنسانة مبدعة تنكرت بإهاب حمامة وديعة، تحط على كتفي، تدخل صدري،وروحي! قبل ما يقرب من عشرين عاما اكتشفها صديقنا الآثاري ليونارد وولي مع قيثارتين أقل حجما منها، في المقبرة الملكية السومرية المقدسة في أور. على عمق أكثر من عشرة أمتار تحت الأرض. بعد جهد طويل مضن، أفلح أخيرا في الوصول إلى القبر الخاص بالملكة السومرية بو آبي ، والقبر الخاص بزوجها الملك أبار كي، والذي هو بمنزلة إله. عرفت الملكة الملقبة بشبعاد بذوقها الرفيع في اختيار تاجها،وإكليلها، وأبهة عرشها، وحليها وزينتها. وموسيقاها ومغنيها، اليوم المرأة التي ترى إكليلها الذهبي المكون من أوراق وزنابق الذهب واللازورد، لا يسعها سوى أن تتلمس شعرها، متمنية أن تضع عليه مثل هذا الإكليل! كيف اجتمعت هذه القيثارات الثلاث والكؤوس وخوابي الخمور مع الهدايا الجنائزية في هذا المدفن الملكي الكبير؟ وكيف اجتمع في القبرين الكبيرين 74 هيكلاً عظمياً أيضا؟ إنهم حاشية الملكة وزوجها الملك، هم المقربون إليهما من الوزراء والأعوان والمستشارين والأصدقاء الذين اختاروا أن يموتوا معهما. جاءوا بكامل ملابسهم الرسمية وزينتهم، تتقدمهم الفتيات العذراوات يعزفن على القيثارات إلى ردهة المدفن،وسط انحناءات الجنود، ودموع الفرح الشعبي، وصلوات الكهنة. ولكن لابد من حفلة أخيرة، داخل المدفن المقدس. يجلس مرافقو الملكين في رحلتهما الأخيرة حول جثمانيها المعطرين المثقلين بالثياب الملكية. هم سيكونون لهما أنيسين مهذبين مرحين في طريق الأبدية الطويل. وسيخدمونهما في جنات العالم الآخر بكل تفان، مثلما خدموهما في الدنيا، وسيكونون معاونيهما الأشداء هناك، مثلما كانوا معاونيهما الأشداء هنا، الآن سيحولون سرداب الأموات إلى حانة رقص وغناء وفرح سماوي، هذا هو نشيج الوداع الرسمي الأخير! توقد الشموع والمباخر، وتستلم الهدايا للعالم البعيد، وتبدأ العذارى المنذورات في عزف الألحان الجنائزية والعاطفية التي كانت تحبها الملكة والملك في لحظات صفوهما وتأملهما،يغلق عليهم باب المدفن الكبير عبر تلويحات المودعين، ويأخذون جميعهم بشرب النبيذ الممزوج بالسم الخفيف اللذيذ لينقلهم ببطء وهدوء إلى عالم الموت الاختياري الجميل. فيغادرون جميعا جثامينهم، ويلتقون في العالم الآخر أرواحا وأطيافا فقط ، هناك الخلود، والفرح الأبدي، هناك الكأس معتقة طافحة دائما، لا تنفد ولا تنكسر، هناك الجسد يتفجر بأشواقه وشهواته وعنفوانه دون نهاية. سيلتقون ملوكا وأمراء، شعراء ومغنين ومغنيات وقيثارات صادحة، ثمة بجع يطير على الضفاف، والأشجار تنثر عطرها من السفوح، والمطر يهمي فيغسل الأرواح مما أثقل عليها الأسى. وجد المنقبون هياكل ثلاث عازفات حتى اليوم كانت عظام أيديهن ملتصقة بأوتار القيثارات الثلاث، فهن بقين يعزفن حتى اللحظة الأخيرة التي دب فيها السم بأجسامهن الجميلة فأوقف قلوبهن، كم كان الموت العراقي القديم عجيبا حقا! أجوائهم مثيرة حزينة ومحيرة. القيثارة الذهبية الكبيرة تكاد تصل إلى هامتي، أنا الطويلة كما يقولون عني.، مكونة من صندوق صوتي مصنوع من خشب الأرز ولها ساقان خشبيان ممتدان إلى الأعلى مغلفان بشرائط ذهبية ومطعمان بقطع مثلثة من أصداف وأحجار مختلفة ملونة، بنهاية قمتيهما يستقبلان حامل الأوتار وهو أنبوب خشبي مدور نصفه الأمامي مكسو بالفضة، تحتوي على أحد عشر وترا مثبتة إلى الأعلى بمسامير ذات رؤوس ذهبية، مطعمة بالذهب والصدف، يزين مقدمتها رأس عجل من الذهب ملتح. لماذا الثور بالذات؟ بعضهم قال هو رمز للثور السماوي المقدس الحامل ألحان السماء لشعب ما بين النهرين. كانوا يزينون به، وبقرنيه الحادين تيجان الملوك، آخر قال: هم يريدون به تهدئة الثيران التي تقاد قرابين للذبح حيث يوزع لحمها على الفقراء. زينت واجهة القيثارة بنسر له رأس أسد يقبض بمخالبه على عنزتين. شجرة يشب عن يمينها ويسارها ثوران، يقهران نمرين، ثمة صراع بين أسد وثور، مشاهد تكشف سر الموت القاهر، وتنشد الخلود، والبعث بعد الموت، وتجسيدا لأسرار تموز وأنانا، وهما يحكمان من السماء، وبمزاجيهما المتقلبين، أهل الأرض المساكين. ثلاث قيثارات فيهم تفاصيل النغم الشرقي، تفرقن كما تتفرق الشقيقات والصديقات الحبيبات أثر نكبة، في أنحاء العالم. الكبيرة معروضة بشموخ وفخار، في متحف بلادها في بغداد، الأخرى في لندن، ما أن أحل في لندن، حتى أذهب لأقضي ساعات معها، الثالثة هي الآن في متحف جامعة بنسلفانيا في أمريكا لقاء الدولارات القليلة التي أنفقتها على بعثة التنقيب. لو أمتد بي العمر لطرت خصيصا إليها. لأبلغها تحيات شقيقتيها وأكمل معها الرواية التي في ذهني. ستكون هذه القيثارات بطلات فيها، لا بوليس، ولا محاكم محامين ولا ضباط، ولا أحذية ثقيلة. سأجعل أحداثها تدور في ذلك الزمن البعيد ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد! أخرج فيها من قطار الشرق السريع، وشوارع لندن وباريس المغرقة بالضجيج. وهذه الزمن الذي أنهكته الحروب الساحقة، لا أريد أن أستحضر أرواحهم إلى حاضرنا، أريد أن أكون أنا من استيقظت في الحاضر ،( كان مستقبلهم البعيد) وذهبت لتعيش بينهم،امرأة غير مرئية، ترى ولا يراها أحد، سأكون في الرواية أنا الضحية الهائمة، روح آتية من زماننا أو المستقبل إلى ذلك الماضي المدهش، يشعر الملك والرعية معا، أن ثمة جريمة ارتكبت وأذى وقع على روح لا يعرفون من هي وأين تكون، بالطبع أنا القتيلة والجريحة المعذبة التي لم يسعفها العالم القائم فذهبت تستجير بهم، يريدون أن يمسكوا بي وأنا ما أزال خائفة مترددة. لا ، لا ، القضية هي أن أذى يقع علي لأنني أرفض الاستجابة للصوص الذين يريدون انتزع القيثارة من قلب بلادها، رغم الإغراءات الكثيرة والضغوط الفظيعة، لأول مره هناك بحث عن الضحية لا عن الجلاد، عن المجني عليه، لا عن الجاني، هم بالطبع يريدون أن يبرئوا ضمائرهم. يجند كل شخص في أور نفسه من الملك والكهنة وحتى الناس العاديين، للبحث عني، وروحي تتنقل أمامهم وخلفهم كأنني أمازحهم أو أعذبهم،تحل في القيثارة، تقفز إلى قنديل الكاهن،إلى أكليل شبعاد إلى صولجان الملك. في النهاية أظهر لهم،ويحدث ما يحدث، ستتخلل الرواية الكثير من المشاهد الحادة المثيرة، رواية بوليسية يمتزج فيها خيال جامح مع واقع صلب لكونه قد انتهى وطواه النسيان. لكن الحبكة ستجري على نحو معاصر مثير ومفيد، هل أستطيع ذلك؟ أنها تستلبني،وتعيقني عن أية كتابة، حتى إذا لم تكن هذه رواية ناجحة؛ فإنني يجب أن أزيحها عن ذهني؛ لأستطيع العودة إلى كتابتي العادية المألوفة! لا بد من أداء ديني وواجبي للقيثارة! من هنا ، صار خالد يرى أجاثا تلوح له وتدعوه لأن يوافيها في مكمنها الغريب، يراها تسير نحوه كما كانت تسير حذرة بين سواقي النواعير والبساتين وعيون الغاز المشتعلة.اجتاحه فرح غامر، لقد اقترب كثيراً من المكان الذي فيه أجاثا كريستي، ولكن هل هي حية أم ميتة؟ ما هذا السؤال الكئيب؟ كيف أسأل ذلك، وهاهي ترفع يدها عاليا تلوح لي؟ صرت أرى ملامح وجهها الأشقر وقد لوحته الشمس الصاعدة مغدقة عليه سمرة الشرق! لا أستطيع تصور هذه المرأة الجميلة القوام والعقل ميتة!

 

سأعود إلى لندن لأقضي شيخوختي ومعي تلك الذكريات الغاليات. سوف لن يكون موقد النار خاويا، سألقي فيه من بردي الأهوار وقصبه فيتوهج البيت بنور ذاك الغروب الجميل، يا لحياتنا! أقصر من شعلة بردي!

  • في اللحظة نفسها،التي فكر خالد فيها أنه قد اقترب من أجاثا ، كان ماكس يفكر، هل أن خالد يفكر مثلي أنه قد يعثر على شيء يهديه إلى أجاثا من كلمة أو حتى حرف كتب بطريقة ما، بالتأكيد،فهو خريج كلية الحقوق، درس التحقيق الجنائي، بطريقة أكاديمية حرفية وهو يقرأ أوراقها الآن ببرود وهدوء ليس على طريقتي وقد قرأتها منفعلا، والآن علي أن لا أقرا أوراق ثيسجر منفعلا أو متحاملا عليه مفترضا إنه وراء اختفاء أجاثا ، قد يكون هو فقط الشاهد أو المراقب. مضى يقرأ سطوره الأخيرة:.قلت زياراتي للمدن، صرت أخاف على نفسي من اعتداء غوغائي. فقد كثرت في هذه الأيام المظاهرات والإضرابات والاضطرابات، في كل مكان تقريبا كنت أسمعهم يهتفون "يسقط الاستعمار" "تسقط الحكومة العميلة" "اغلقوا سفارتهم، أطردوهم" وهم يقصدوننا نحن الإنجليز، قال لي عمارة، إنهم في الأهوار عادوا يقولون إنني جاسوس، والحلاقون الذين أوقفت تقريبا عملهم في ختان الأطفال؛ صاروا يحرضون علي طردي من الأهوار، ورجال الدين تكاثروا وسيطروا على الناس المساكين، وقد التقى معهم الشيوعيون، مواصلين ادعاءهم أنني جئت لأتجسس على نشاطهم الثوري، ويحثون على طردي أو قتلي! هذه الرحلة ستكون رحلتي الأخيرة، وهي للوداع. قال لي عمارة أنهم قد هددوه وأمروه أن يتركني وإلا فسيقتلونه لعمله مع رجل كافر جاسوس فاسق. قلت له وياسين أنا لا أقبل أن تدفعا ثمنا باهظا من أجلي، رجوتهما أن يبحثا عن عمل آخر، وكنت أعرف إنهما لن يجداه، فهنا البطالة شاملة مطبقة. لا أستطيع البقاء طويلا في الأهوار، كثيرون صاروا يرصدونني، سأودعهم قريبا ( لا أستطيع ترك بضعة أطفال وعجائز مرضى بدأت معهم علاجا وأحضرت لهم أدوية ينبغي أن أعطيها لهم بيدي، سأرعاهم حتى لو قتلت خلال هذه الأسابيع القليلة) بدأت مراسلات لكي أنتقل إلى أفريقيا! كثيرون ممن سيسمعون بحكايتي سيقولون أنني ذلك الإنجليزي الأبله الذي ركض سنوات طويلة فوق الماء وراء امرأة حسناء، ليكتشف في النهاية أنها مجرد صورة على صناديق الشاي الهندي، خطتها ريشة رسام مخبول سكير أو مأجور! لا يهمني ما سيقولون، فأنا أعرف رغم إنني جديد على العشق، كم على العاشق من ضرائب يجب أن يدفعها حتى عن غيره من العاشقين،فهو يدفع ثمن تجربته من روحه ودمه، ليقدم الخبرة والعبرة لغيره من العاشقين ، ثم ماذا في صورة على صناديق الشاي أتذكر كلمة جميلة قالها صديقي سليم البكري، " وهل أحلامنا أكثر من إعلانات لصناديق مغلقة تتهادى على أمواج بحر بعيد!" لم أجد فاطمة ،و لن أجدها. لكنني لن أخرج من رحلتي الطويلة فاشلا، لقد أحببت عرب الأهوار رغم متاعبي معهم! كانت بيننا عشرة طويلة وذكريات عميقة.فهم أهل فتاة أحببتها على أي حال، لا أندم إنني أنفقت سنوات من عمري بينهم، أحببتهم شعبا حزينا متواريا عن الأنظار! سواء كان أصلهم سومريا،عربيا، نيباليا، هنديا غجريا، لا يعني الأمر عندي شيئا فهم بشر مثلنا، تبعثروا فوق الماء كما أضواء النجوم الصغيرة إذ تذوب فيه معهم ليلا،وبين الأسماك اللامعة فيه عند الفجر. أحس حزنهم يذوب في الماء مع غبار سكر القصب، وحليب الجواميس تدر فيه عند الغطس بعد فرط اكتناز، ليبتسموا. ،أداروا ظهورهم لليابسة وما عليها من ناس يتقاتلون على الثروة والسلطة وألاعيب المتدينين. لم ينتسبوا لقبيلة، ولم يكترثوا أن شيوخ القبائل لم يبسطوا عليهم أنسابهم، استعاضوا بشجرة الخلود المروية من مائهم عن أشجار الذهب والألقاب والأحزاب. صورة بنت المعيدي مجرد إعلان شاي، ولا وجود لصاحبتها أبدا. ربما هي وهم أو حلم كأي خفقة لذيذة منعشة تستلب قلوبنا لحظة ثم تتوارى. لكن ما عشته بين عرب الأهوار جعل لها وجود في قلبي، كأنها ولدت في أحشائي، عشت بين أهلها البسطاء، اقتسمت معهم الخبز والحكايات، ورجفة القمر تحت خبطة مجذاف أو ضربة رمح لشك سمكة! أعطيت لياسين وعمارة ما استطعت من مال قليل ، قالا أنهما لن يتركاني وحدي ، سيظلان معي ولن يفارقانني إلا في محطة قطار الناصرية أو البصرة مودعين حين أترك المنطقة نهائيا،وسيظلان يرقبانني حتى لو سيقتلا! بعد أن أنتهي من رحلتي إلى غابات وأدغال أفريقيا سأعود إلى لندن لأقضي شيخوختي ومعي تلك الذكريات الغاليات. سوف لن يكون موقد النار خاويا، سألقي فيه من بردي الأهوار وقصبه فيتوهج البيت بنور ذاك الغروب الجميل، فتدفأ عروقي ويجري بها دم شبابي الأول، يا لحياتنا! أقصر من شعلة بردي! ستكون في حجرة نومي وصالة بيتي وصدر مدخل البيت صور لفاطمة، رافقتني في رحلة البحث عنها، تطل عيناها ترمقاني بحنو وأسى، معتذرة أنها لم تظهر لي ،متفهمة عجزي عن الوصول إليها،طالبة مني أن أعذرها أنها لم تستطع أن تصل إلي، كم سيكون وجهها حانيا جميلا وهو يحتضن شيخوختي وأحزاني ووحدتي بعيدا عن الناس في لندن التي لن تعرفني ولن تتذكرني طبعا. سأتحدث معها كل يوم وسيكون العراق ،وأصدقائي فيها معنا ، أنظر من نافذتي: آه يا أهل لندن، لي هنا في بيتي أصدقاء طيبون جاءوا معي من أرض بعيدة في هذا العالم، إذا أحب أحد منهم أن يجلس معكم في مقهى أو حانة لا تنظروا في وجهه شزراً، اسمعوا حكايته وأغانيه الحزينة، ستشعرون بالفرح وتدركون كم يغدوا العمر غنيا ومديدا إذا أضفنا له شطرا من عمر الآخرين والإنسان أينما وجد! تكون الحياة مستقرة هانئة إذا شدت لجذور عميقة في التاريخ، ذلك درس استقيته من عيشي مع الناس في العالم كل هذه السنين الطويلة! ( كم سيكون عمري آنذاك؟ سبعين؟ مئة؟ كما قالت العرافة!؟) تلك ثمرة تنتظرني لسنين قادمة في بيتي الأخير الذي سيكون في لندن ، هذا هو زادي العظيم عند عودتي لوطني المشبع بالضباب إذا امتد بي العمر يا عزيزتي أجاثا، ليتنا نلتقي معا في لندن عند تقاعدنا،لنتحدث عن حصاد رحلتنا الطويلة، ماذا حققنا في بلدان المشرق وفي العراق الذي جمعنا وفتح لنا أرضه وقلبه، هل للمغامرين من أمثالنا سن للتقاعد؟ ولكن لابد للعمر من نهاية!

لو كتبتي روايتي قد لا تجد رواجا كرواياتك البوليسية، لكنها ستكون تذكار لحياتنا معا نحن المثقفين الإنجليز في هذه الأرض الجميلة. ما جئناها نحمل أسلحة؛ بل الحب والمعرفة؛ فواجهتنا الأسلحة، أنا شخصيا لا أتهم أهل البلاد المعذبين، ولا أنسى أن جيشا هائلا من الإنجليز والهنود دخلوا قبلنا يحملون الكثير من الأسلحة، عمروا لهم الكثير، لكنهم تركوا في أعماقهم جراحا كثيرة أيضا، أنا من سوء حظي إنني سقطت في هذه الجراح! وضعت أمامك يا عزيزتي أجاثا خلاصة تجربتي ومشاهداتي، وما سمعت أو عرفت في الأهوار. بالطبع أنا لا أطمح الاقتراب من أسلوبك القصصي البارع،( أرجو أن تسامحيني عن دعاباتي السابقة لأسلوبك الإبداعي الذي لا يعلى عليه) اترك هذه المادة الخام لتصوغيها رواية أو مسرحية، وأنت حرة في ما تحذفين أو تضيفين، المهم أن تحافظي على جوهر ما ذكرته من تفصيلات عن رحلاتي أو مغامرتي في هذه الأماكن النائية والمهجورة، وبين أمزجة الناس هناك وثقافاتهم. أردت من ذلك تقديم الجو الواضح لرحلتي وأترك لك وللآخرين تقييمها فيما إذا كانت بحثا عن الحقيقة والجمال أم عن مكسب شخصي! فإذا وفقت في ذلك أو في بعضه، فذلك مبعث سعادتي، وإذا كنت قد فشلت، فليضف هذا الحزن إلى أحزاني الأخرى، والمهم إنني لم أؤذ أحدا، ولم أتسبب في ضرر أو إزعاج لغيري، لك الفضل في دفعي لجمعها من هنا وهنا، ولك الشكر لو فقط تجشمت عناء قراءتها!

انتهى ماكس من أوراق ثيسجر رغم إنه لم يجد ما يهديه إلى أجاثا لكنه أحس بالراحة،وقف في الشرفة يتملى النهر، وجد نفسه يائسا من مجيء خالد، وحتى لو جاء فإنه لن يخرج من الأوراق التي قراها بأكثر مما خرجت من أوراق ثيسجر ،لاشي يهدينا إلى أجاثا سوى الصمت ربما يتفرقع واسمع صوتها من تحته كعادتها لتقول:

ـــ ماكس أنا هنا، مالك شاردا متحيرا ماذا جرى؟

ـ ألا تعرفين ماذا جرى؟ تختفين أياما ولا تعرفين ماذا جرى! أتظنين نفسك في رحلة وراء الآلة الكاتبة لا على ظهر القدر؟

ولكن ها قد مرت أيام طويلة ثقيلة دون أن تظهر أية إشارة ملموسة تجعلني أعرف ماذا حل بأجاثا،هل ستعود؟ أم ستكون قد اختفت إلى الأبد، هذه الليلة لن أستطيع النوم أيضا!

 

خالد يرى أن أجاثا وقعت تحت تأثير إغواء ما، وماكس يرى أنها ضحية لصوص الآثار، وبينهما الريح تلعب بستائر بيت الآثار!

توقف ماكس عن القراءة، وضع الأوراق جانبا، خرج إلى الشرفة يتطلع إلى النهر، وجد أفق الفجر يسيل دما من السماء، "لم أر الأفق يوما هكذا، هل تغيرت عيني؟ أم هذا نذير تعيس مع اختفاء أجاثا، هل قتلت؟ ربما هناك لعنة للفراعنة، وأخرى للعراقيين القدماء؟ لأننا مسسنا أشياءهم المقدسة أو الغالية عندهم؟ والقيثارة المولعة بها أجاثا ماذا تحمل نغماتها لنا من إيماءات وإشارات؟ وكم من لعنات الأسلاف يجب أن تنزل علينا وغيرنا جراء ما فعلته حكوماتنا بهم؟ قال الراهب بهنام في الدير، بصوت حزين : "حكوماتكم بضعت شعبنا، مزقته، حكمته بقاعدة فرق تسد! جعلت بلادنا مجرد محطة نفط على الطريق، أين تفر من عقاب الله؟"اختفاء أجاثا المفاجئ والطويل أليس لعنة؟ إذا كانوا غاضبين على دولتنا التي غزتهم، وفرقتهم كما يقول الراهب، ما ذنبنا نحن الذين أحببناهم وعملنا في الصحراء تحت الحر الشديد، والبرد القارص لنجلو ذاكرتهم، وننتزع لهم تاريخهم من يد الفناء؟ يخيل إلي أن أطياف وشخصيات الماضي يفرقون بين من يريد سرقتهم، ومن يريد أن يصل إليهم بنزاهة ليعرفهم للعالم،أو يطلق سراحهم من سجن الموت،لا ،أجاثا بخير وستعود! نزل بثياب خفيفة ‘صالة المطعم، أكل شيئا، لابد من غذاء لمواجهة ساعات التوتر، رجع إلى حجرته ، ظل مستلقيا دون حراك!

كان خالد في المقهى، نظراته مع النهر الذي بدأ يغدو عكرا وعاليا، إنه ذوبان ثلوج الشتاء في أعالي جبال المنابع. لكي أعرف أكثر، وأقترب من أجاثا بالقدر الكافي، وربما أصل إليها؛ أحتاج لمعلومات أخرى.مع ما حصلت عليه من هذه الأوراق المهمة، يجب أن أوجه لماكس بعض الأسئلة، وعلى ضوء، أجابته سأرى طريقي جيدا.عاد يتأمل كل شيء بهدوء وارتياح،الأوراق والفضاء الرحيب ،السنونو بين الشاطئ وسقف المقهى، برج القشلة على الضفة الأخرى، يرتاح لمرأى اللقلق يقف هناك آمناً، الشاي المطيب بالهال والزهور، ونكهة المدينة، ضجيجها الأليف، لم يجد ضرورة لتدوين أسئلته فهي قليلة، واضحة، نهض مسرعا! دخل الفندق والشمس تقارب الضحى، إنه اليوم السابع لاختفائها، وإذا لم يمسك خطوة صحيحة على الطريق، فإن حل لغز اختفائها سيكون أكثر تعقيدا مما يظن. الحل والوصول إليها لا يتم بالتمنيات ولا بالثقة بالنفس وحسب. الشمس التي يراها ماكس الآن من شرفة حجرته دامية مخيفة؛ غير الشمس التي لمس خالد سطوعها الصافي وهو يدخل الفندق. هي أشرقت على بغداد تريد أن تجد كل شيء في مكانه الصحيح، فلا تجاوز ولا اعتداء، كل شيء ينبغي أن يكون تحتها آمنا مطمئنا، هكذا تقول وجوه المارة في شارع الرشيد! استقبله ماكس بلهفة صامتة. صافحه محاولا أن يبتسم، كان قد يئس كثيرا. ظهور خالد في هذه القضية هو يد الأمل تمتد إليه وهو في لجة عميقة. شعر كأن ماكس يقول له، "لوحت لي بنهاية سعيدة، ثم ذهبت و تأخرت، وأبطأت!" قال:

ــــ معذرة لتأخري ، ها قد مضى أسبوع على اختفاء عزيزتنا أجاثا، إنه وقت طويل وعصيب عليها وعلينا، لكنني أعتقد أننا بدأنا نقترب من لقائها!

تفتحت أسارير ماكس قليلا ، رغم إن قلبه نكشه، هل اقترب من لقائها حية أم ميتة؟ ومع ذلك سأله إن كان يرغب في قهوة أو شراب بارد، أراد خالد أن لا يطلب شيئا،ولكي يطمئنه بجو عادي طلب قهوة، أخذ ماكس ينظر في وجهه قلقا مستفهما، ماذا استجد لديه؛ فجعله متفائلا؟ لا بد إنه توصل لشيء جدي، لم يسمع به من المحققين الذين استجوبوه من قبل، يتذكر احدهم كان جلفا عابس الوجه ينظر إليه شزرا، كأنه يتهمه بقتلها والخلاص منها، ربما لأنها تكبره سنا! جلس قبالته، على المقعد الجلدي الفخم في البهو، سأله خالد بهدوء:

ـ أريد أن أعرف،هل القيثارة الذهبية في المتحف الآن؟

قال ماكس وكأنه بدأ يتلمس شيئا ،الآن فقط:

ـ لا، هي في البيت الذي كنا فيه، جاءوا بها لترميمها وصيانتها!

ـ وأين يكون هذا البيت؟

ـ إنه في الكرخ قبالة فندقنا تقريباً؟

ـ من يسكن فيه الآن؟

ـ لا أحد، لقد انهينا عملنا فيه، من المحتمل أن ينزل فيه بعد أيام من الآن فريق العمل الهولندي الذي سيقوم بترميم القيثارة، وغيرها من التحف!

ـ هل تستطيع أن تصفه لي؟

ـ إنه قصر كبير،بحجرات عديدة، أغلبها مهجورة، استعملت مخازن لتحف وألواح كثيرة،نسميه بيت الأشباح، ولكن فيه حجرات مؤثثة بشكل جيد، سكناها طويلا ، لها شبابيك وشرفات تطل على النهر، كنا نجلس فيها عصرا أو مساء نشرب الشاي، ونسمر مستمتعين بنسائم النهر!

ــ هل نستطيع زيارته الآن؟

ـ لا، لقد ذهبت إليه بحثا عن أجاثا، وجدت أن حارسه قد قفله من الخارج وذهب إلى أهله!

ـ هل نستطيع أن نعرف أين يكون الحارس الآن ؟ هل لديك عنوانه؟ وأين أودع مفاتيح البيت؟

ـ سافر إلى أهله في الشرقاط، أبقى مفاتيح البيت عنده. كما لدى مديرية الآثار مفاتيح أخرى، سأعطيك اسمه وعنوانه!

أخذ يقلب مفكرته الصغيرة دون تركيز، وقد شحب وجهه، راح ذهنه باتجاه جديد، كأنه استيقظ من نوم طويل لتوه، هل الحارس أحمد، هو القاتل؟ أهذا معقول؟ راح يتصور ما جرى، استدرج أجاثا إلى بيت الأشباح، المليء بالنصب، ووجوه وأقنعة الموتى، حاول الوصول إلى غايته الدنيئة معها ولم يفلح، فقام بقتلها. أو ربما ثمة أحد ما أغراه بالمال ودفعه إلى قتلها! نحن مستهدفون من جهات عديدة سياسية، أو متاجرة بالآثار، لماذا لم يخطر لي ذلك إلا الآن؟ نظرات أحمد إلى أجاثا لم تكن مطمئنة، فيها رغبة واشتهاء، ولكن هذا أيضاً يصعب تصوره، كان يناديها أمي. هي بعمر أمه. أخذ ماكس يحدث خالد كأنه يفكر بصوت عال، وخالد يتأمله وقد تركه يتكلم بما يعن له فذلك يجعله يقترب من حقيقة ظنونه، والتي هي تدور حول شيء آخر غير ما يفكر به ماكس:

ـ اسمه: أحمد ناصر، كان يرافقنا منذ سنوات، جاءنا يافعا، دون الثامنة عشره، دربناه، وقمنا بتربيته، ابنا لنا، أجاثا اقترحت أن يأتي معنا إلى بغداد، فهي أيضاً تعامله بود، هو نظيف، وذكي ومطيع وتعلم الحديث اليومي بالإنجليزية بسرعة،منهمكا بعمله معنا لا يتركنا إلا عند ساعات الراحة، ولم أجد لديه اهتمامات مريبة، ولكن لماذا اختفى بنفس الوقت الذي اختفت فيها أجاثا؟ هل كان ذلك مجرد مصادفة؟ لا أدري، صرت أتحرج في اتهام أحد بعد اعتقال جبرائيل وزميله! وتنهال الأفكار وتتداعى في رأسه كأحجار جدار ينهار،لكنه يستبعد أن يكون أحمد قاتلا " لماذا لم يفعلها في موقع التنقيب حين كانت تبقى في خيمتها ساعات طويلة، تكتب أو تقرأ، أليس هناك أسهل له أن يقوم بفعلته الفظيعة، فيكون بحماية قبيلته المعروفة بالقوة والشراسة؟"

فجأة يجد نفسه يسأل خالد:

ــ هل من الممكن أن أحمد قد استدرجها من الفندق، أعلمها مثلا بوصول الخبراء الهولنديين وأنهم يريدون مقابلتها، وهي المولعة بالقيثارة، فتبعته إلى البيت؛ لتراهم وتتحدث معهم عنها، وكيف القيثارة تلاحقها وتحوم حول رأسها كطير أسطوري، ثم تعود إلى الفندق قبل أن أستيقظ، لكنه هناك ارتكب فعلته الشنيعة، وترك جثتها داخل البيت وهرب إلى أهله وقبيلته؟ ما هذا؟ لماذا تركت كل هذا يحدث؟ أية غفلة رهيبة أخذتني إلى الجحيم، لماذا استبعدت هذا الاحتمال كليا من ذهني طيلة هذه الأيام التعيسة؟

أبتسم خالد قال بهدوء:

ـ في هكذا حالات لا نستبعد شيئا، ولكن أرجو أن لا تأخذك الظنون القاسية التي ستتعبك، دعنا نفكر بهدوء. متى جاءوا بالقيثارة الذهبية إلى البيت؟

شعر ماكس بالحنق، أين يذهب خالد بالتحقيق؟ هذا الشاب ما زال أمامي صبيا يتقافز في أيس! يظهر قاتل أجاثا أمامنا بوضوح، وهو ما يزال يسأل عن وضع القيثارة؟ ومع ذلك أجابه:

ـ قبيل تركنا البيت بساعات!

ـ كيف نظرت أجاثا إليها، وتعاملت معها وقد حلت ضيفة في البيت؟

ضجر ماكس وامتعض من أسئلته، وجدها تشط بعيدا عن القاتل، لكنه لم يرد أن يفرط بأية معلومة مهما كانت صغيرة قد تكشف عن شيء لا يتوقعه، فهو قد منحه ثقته على أي حال:

ـ لم تفارقها لحظة واحدة، قالت يا لسوء حظنا،إنها حلت هنا في البيت بينما سنغادره، ليتني أستطيع أن أتعلم العزف عليها، ليتني أستطيع استعمالها آلة كاتبة، وأغرق بأنغامها السرية الخفية الملهمة!

قال خالد بثقة وعزم:

ــ أنا بحاجة لدخول البيت، نحاول فتحه ولو بكسر الأقفال، أو في الأقل دعني أعاين وضعه، أبوابه وشبابيكه!

نهض قائلا:
ـ تعال معي من فضلك!

ـ إلى أين ؟

ـ إلى البيت، لا بد لي من دخوله!

ظل ماكس ينظر إليه مستغربا مندهشا ممتعضا، بدلا من ملاحقة الجاني أولا؛ والذي يلوح الآن إنه أحمد، يريدنا الذهاب إلى بيت الأشباح المقفل، أهو يفكر أننا سنجدهما هناك مقتولين؟ أخذ يرتجف! كان خالد متأنيا بطبعه، لا يريد أن يبدي تفاؤله وما يراوده من أمل، خشية أن يكون ثمة شيء غاب عن باله هو رغم صغره، تكمن فيه الكارثة كلها! فثمة أشياء ما تزال غامضة، ولا يستبعد احتمال تعرض أجاثا لأذى، أو أنها قتلت، لا يستطيع أن يؤمل ماكس جديا بشيء حسن محدد، قد يتحقق عكسه فيصدم ماكس أكثر، كان يكتفي بقوله له "نأمل أن تكون بخير" ، دون أن يفصح عما فكر به، وما الذي قاده إلى هذا الاستنتاج الذي يضمره!هو الآن يريد أن يذهب لرؤية بيت الأشباح هذا ويرى محتوياته فأن يكون مقفلاً من الخارج ليس دليل براءة، فظلامه وعتمته الآن مكتظتان بمردة وسحرة وغيلان وشياطين، والقيثارة ربما الآن تعزف لحنها الجنائزي كما كانت في المدفن السومري! هناك سيجدان معا السر!

نهض ماكس، مثل صبي أمسك بيده من يقوده كيف يشاء، كان شاحبا، شارد النظرات، قال خالد بهدوء:

ـــ أفضل أن نذهب معا، ولكن إذا كان ذلك يرهقك تستطيع أن تبقى هنا لترتاح،وأنا أذهب وحدي إلى البيت؛ فقط دلني عليه، لدي صلاحية بفتحه بإشراف دائرة الآثار!

ـــ سأرافقك، فقط اسمح لي أن أغير ملابسي!

صعد ماكس الدرج يجر جسده الثقيل إلى حجرته وجلا مرتبكاً، ما هذا الذي يحدث؟ أية ورطة وقعت بها؟ ما الذي أتى بنا إلى هذه البلاد؟ أية ساعات رهيبات لا تريد أن تمضي، سيذهب مع خالد إلى بيت الأشباح، سيفتحونه على أي حال، ليجد أجاثا جثة ممدة بين الألواح الطينية المنقوشة، ربما أحدها يحمل مصيرها المقرر من أقدم الأزمنة. والقيثارة على المنضدة تطل عليها لبؤة اكتفت بمص دمها، وراحت تتأملها بهدوء ومتعة!ماذا فعلت بنا هذه القيثارة الماكرة؟ أغوت كاتبة عظيمة، متآمرة مع الخاطفين القتلة؟ الحكاية أضحت واضحة؛ ثمة لصوص آثار تواطأ معهم الحارس أحمد؛ استقدموا أجاثا إلى البيت، سرقوا القيثارة، وتحف أخرى ثمينة وقتلوها! ترى ماذا يستفيدون من قتلها؟ إنه شرط الحارس أحمد لكي يقول عند التحقيق أنها صفقة تمت بين اللصوص وأجاثا بغيابه، ولا علاقة له بذلك! هكذا أدارها ماكس في عقله الذي ازداد اضطرابا وهذيانا حتى صار صوت تفكيره مسموعا، أهكذا كانت نهايتك أيتها الكاتبة الكبيرة؟ كيف خذلتك براعتك؟ تلعبين بمصائر أبطال رواياتك ولا تعرفين كيف تتعاملين مع مصيرك؟ أي مصير مرعب قدتها أنا إليه؟ تهربت من رؤية الجثة التي دعاني ريتشارد لمعاينتها،ومرت بسلام ، كيف أتخلص الآن من الآلام الفظيعة التي ستسحقني حتما عند معاينتي لجثتها في البيت الذي شهد الكثير من جلساتنا الجميلة؟ هل أدع خالد يذهب لوحده ويرى كل شيء، هل سيتفهم وضعي؟ أم يعدني جبانا رعديدا يخاف مواجهة الأشياء؟ وجه خالد الباسم لا يوحي أنه يتوقع أن نجدها جثة، بل لا يوحي أنها هناك أصلا، كيف تكون في البيت وهو مقفل من الخارج وبالحزام الحديدي المتين؟ قرر أخيرا أن ينتهي من هذا الأمر سريعا ولا يدعه لوقت آخر، كل دقيقة تمر تخترق قلبه وتوجعه كثيرا، الدقائق الثقيلة البطيئة تزيده وحشة ورعباً.

 

ماذا فعلت أيتها القيثارة ، قبل آلاف السنين قدت موكب العذراوات إلى الموت الإجباري، واليوم أجتذبت أجاثا كريستي إلى موكب آخر!

نزل ماكس وخالد إلى ضفة النهر،الوقت يقارب الظهيرة،على الشاطئ وخمة ورائحة سمك وأشنات متفسخة. كثير من البلامة تقدموا بقواربهم إليهما، لم يكن دعبول بينهم، يبدو إنه في الليل قد أثقل في الشرب ولم ينهض لعمله. الشمس تتوسط السماء ناعمة ذهبية، والماء يرسل لمعانا من توهج الشجر والنخيل والجسر البعيد. استقلا القارب، كان النوتي صامتا، واجما، وماكس يرمق خالد بتوجس، بينما خالد يحاول طمأنته بابتسامة مترددة واهنة. رسا القارب كما أشر ماكس للنوتي، منح خالد للنوتي قطعة نقدية، وقفز من القارب يتبعه ماكس بخطوات سريعة، وبصره مركز على البيت الذي تعرف عليه وهو في عرض النهر. عند الباب قال ماكس:

ـــ انظر إنه مقفل من الخارج.

تفحصه خالد ، ابتعد عن الباب ووقف أمام البيت على مسافة وراح ينظر إليه من جوانبه وزوايا التقائه مع البيوت المجاورة، استرعى انتباهه أن النوافذ كلها مقفلة بإحكام وإن ستائرها مسدلة بشكل بدا له مبالغ به، كان ماكس واقفا عند الباب محبطا منكس الرأس. راح خالد يتجول في الشارع المبلط الذي يفصل البيت عن النهر، ينظر إلى الشاطئ والنهر، ويعاود النظر إلى البيت كأنه يقيس المسافات الخاصة بمداخل ومخارج مسرح هذه الجريمة أو الحدث المفترض.كان ينظر جهة النهر حين سمع ماكس يتحدث بصوت مرتفع مندهش، تلفت فوجده يتحدث مع شاب، اقترب منهما، قال ماكس وقد بدا موزعا بين شتى المشاعر:

ــــ أقدم لك الحارس أحمد!

تطلع خالد إليه، كان بقامة متوسطة ممتلئة ووجه أسمر مستدير؛بعينين كبيرتين نابهتين، أضاف ماكس متأرجحا بين قلق وخوف وغضب وفرح غامض:

ـــ لابد إنك سمعت بما حدث لأجاثا، هل لديك خبر عنها؟

أقلقه صمته، تجاهله لسؤاله، أضاف بنبرة وجلة:

ــــ حضورك الآن مصادفة طيبة يا أحمد، نحن نريد أن ندخل البيت، هل معك المفاتيح؟

لم يحر أحمد بشيء ،كان يبتسم بهدوء ،ورغم إن ابتسامته مطمئنة، لكن ماكس راح يفكر، المجرم يحوم دائما حول مكان جريمته، هذا ما كانت تردده أجاثا في روايتها، لم يشأ ماكس أن يقدم خالد لأحمد، ويفصح عن وظيفته ومهمته، لا بد من الحذر معه فقد يكون هو القاتل رغم أن وجهه وابتسامته الواهنة الحزينة منحته شيئا من الطمأنينة!

ساد صمت ثقيل مضطرب، قال احمد فجأة بصوت مرتبك:

ــــ سأفتح لكم البيت!

وراح يدير مفاتيحه في عدة أقفال بعضها لم يكن ظاهرا! دفع الباب الكبير ليجد ماكس وأحمد أمامهما ما لم يكن يتصوراه، يحدث بهذه السرعة وهذا الشكل، أجاثا كريستي نفسها واقفة على مسافة قليلة عن الباب الخشبي الكبير، تبتسم مثل طفلة ارتكبت ذنبا صغيرا، واختفت مشاكسة والدتها وراء دولاب الملابس، ظل ماكس في مكانه متجمدا، مبهوتا غير مصدق، ينظر إليها مدققاً تحت شلال الشمس كأنه يتعرف عليها لأول مرة، وببطء انفتحت يداه واندفع نحوها يحتضنها متمتما بكلمات غير مفهومة لخالد، أطال عناقه لها، راحت تضربه بخفة على كتفه:

ـ كفى! كفى أتريد أن تخنقني وتلحقني بالأموات حيث لا يطيب لك إلا لقاء الهياكل العظمية!

أنهى عناقه، وفجأة تذكر إنه غاضب عليها أيضا، ولم يعرف تماما سر، وجودها هنا:

ـــ لماذا أنت هنا يا أجاثا ؟ أتعرفين ماذا فعلت بي؟

قالها بين المزاح والتأنيب، وجدها لأول مرة منذ زواجهما متلجلجة مرتبكة، لكنها نطقت:

ـــ مع القيثارة! لقد أنهكتني وأنا أركض أمامها وهي تلاحقني! قررت أن أكتب روايتي على أنغامها وأنتهي منها، وأزيح كابوسها الرهيب!

ابتسم خالد، أحس بنشوة كما توقع تماما، لن نجدها إلا جنب القيثارة التي كتبت عنها بخشوع وابتهال! لمح ماكس في وجهها شحوبا، وفي صوتها رجفة، ما حدث لها ليس عملا إراديا، إنه نفس الشرود الذي أخذها ،وغيبها عن نفسها ،في لندن قبل سنوات طويلة. ذهول عميق يصعب إدراك كنهه، أهو شرود مرضي؟ أم انصياع لحلم بعيد الغور في روحها وقلبها، لم يكترث لقولها حين سمعها تقول مع ضحكة أقرب لصوت جنوني:

ـ ربطتها برواية ثيسجر وبنت المعيدي! هما والقيثارة يتيهون في حلم بعيد، الزمن الهارب الزائل والمستقبل المراوغ كسمكة في خليج، القيثارة تنعي الحياة بأنغام حزينة والعاشقان اللذان لا يلتقيان يكشفان خدعة الدنيا للقلب البشري! استغرقت جنب القيثارة، بكتابة متواصلة هدتني تماما، لم أكن أنام الليل، رحلة روحية ممتعة، رواية قصيرة، نوفيل، ليس فيها جريمة ولا قتلة!

قال ماكس مندهشا:

ـ ولكن أوراق ثيسجر وجدتها في حقيبتك،مع خواطرك عن القيثارة وبهنام الراهب، لم يخطر ببالي مطلقا انك جالسة في مكان آخر تكتبين روايتك عن كل ذلك!

ـ أنت تعرف يا ماكس أنا بعد أن أقرأ الوثائق والرسائل ألقيها جانيا وأدع الحدث والشخصيات وصراعاتها كلها لتنمو داخلي وحدها دون تدخل لا مني ولا من الأوراق، بذلك تأتي مختلفة تماما مع أشكال أصولها، متفقة معها في روحها وجوهرها!

ظل ماكس يفكر ،هي وقعت وكما حكم القدر تحت تأثير نوبة ذهول عميق مزلزل ، لا يمكن من أجل كتابة روائية أن تنعزل في هذا البيت سبعة أيام، دون أن تعلمني، فتثير حولها مصائب مع السلطات والسفارة وتقلب الدنيا على رؤوس الناس! هذا أمر فظيع لا يحتمل، لا بد أن يكون وراءه دافع مرضي لا إرادي. هي الآن فقط صحت ووعت وأخذت تفلسفه! ربما ستقول لي بعد قليل أنها فعلتها من أجل كسر رتابة الحياة الزوجية، لها كلمة اشتهرت بين أصدقائنا " الحياة الزوجية تحتاج لصدمة بين فترة وأخرى تشحنها بحرارة اللهفة والشوق" يبدو هي لا يهمها أن يكون ثمن هذه الصدمة متاعب كثيرة لدولة ومجتمع وأحزاب وأجهزة شرطة ومصائر أناس كثيرين! وقف خالد يرقبهما وهما يتحدثان بكل شيء يستعجلان تفاهمهما، وأحمد يقف على مسافة كأنه يشعر بالذنب إنه شارك أجاثا في ما فعلت، وفي أذى ماكس. قالت له "لا تخبر أحدا عن وجودي هنا، حتى ماكس نفسه" هو يعرف أنها تريد الاختلاء بنفسها لتكتب مثلما كانت تفعل وهي في الخيمة، ورغم إنه رسميا مرتبط بماكس لكنه لطالما تلقى الأوامر منها أمام ماكس، ولا يعترض! لم يكن يعلم أن ماكس يتعذب إلى هذا الحد،وما سيترتب على اختفائها من مشكلات كبيرة! ومع ذلك غمرت ماكس طمأنينته المعهودة مع أجاثا، كل السعادة والأحلام التي كانت في خطر عادت لأعماقه، وضع يده على كتفها، وسارا باتجاه حجرة الاستقبال . التفت إلى خالد ثم إليها قائلاً:

ـ أتعرفين هذا الشاب الجميل؟

التفتت إليه مدققة النظر في وجهه،مرت هنيهة حتى عرفته، صاحت:

ـ كيف شغلني ماكس بعواطفه الأثرية عنك؟ أنت خالد، وكيف لا أعرفك مهما كبرت.

أقبلت إليه، ضمته إلى صدرها:

ـ كم مضى على آخر رسالة بيننا يا خالد؟

ـ أنا لم أنسكما، كنتما دائما في قلبي!

مضى ماكس يعرف بوظيفته ومهمته وسبب وجوده معه. وأجاثا تهز رأسها مستبشرة، قال أحمد ليخفف الذنب عنه:

ـ معذرة ، تأخر القطار قليلا،جئت من المحطة مهرولاً لكي لا أبقيك محبوسة أكثر مما أردت.

ـ أنت لم تتأخر، جئت في موعدك، حتى لو لم تأت كنت، سأستعمل التلفون، أو أقف على السطح، وأصيح فيهرع كل الجيران لنجدتي!

جلس أحمد على الأريكة المجاور للأريكة التي تجلس عليها أجاثا وماكس، كان قد ألف أن يجلس معهما وضيوفهما، ما كانا يعاملانه كخادم أو شغيل مساعد، استرخى خالد في أريكة مقابلة، كانت الأرائك من ألوان وطرز مختلفة كأنها جمعت من سوق الأثاث القديم، لكنها متينة محافظة على بقايا فخامة! رأت أجاثا أن وجه ماكس ما يزل ممتقعا، وأصابعه ترتجف، ولا يستطيع السيطرة على نبرات صوته، فغمزته بطرف عينها، كأنها تعده بليلة ساخنة لترضيه. ظل خالد يتلفت باحثا عن القيثارة ولم يطل تجوال عينيه، رآها منتصبة مثل عروس أبدية على قاعدة أبنوسية خاصة صنعت حديثا، نهض إليها أجلالا واستطلاعا، وقف بجنبها كانت ساحرة،أجاثا محقة أنها وقعت تحت تأثير سحرها كالمنومة مغنطيسيا، انبعث صوته هادئا:
ــ عادة يلقي البوليس القبض على المختطف، رجلا أو امرأة ،ويكون من الأشرار عادة، هنا المختطفة قيثارة جميلة فاتنة طيبة، كيف نلقي القبض عليها؟

ضحكت أجاثا قالت:

ــ نعم هذا غريب فعلاً.

اكتفى ماكس بابتسامة قلقة، فهو غير مصدق ما هو فيه. ظل خالد يدور حول القيثارة متأملا،قيثارة تختطف امرأة؟ ومن ؟ كاتبة مشهورة! لو لم تكن كاتبة لما اختطفتها قيثارة! وهذا ما قادني إليها! مضت أجاثا؛ ذات الطفلة المشاكسة، عادت لتوها من تيه في الغابة بعد ملاحقتها غزالة شاردة، تتحدث بنشوة وبساطة ولامبالاة عن مغامرتها بين الأدغال والوعول والطيور الملونة وقمر النهار متجاهلة دموع وعذاب الأهل، منقلة نظرها بينهم، حيث عاد خالد للجلوس:

ـ هكذا بدأ الأمر، كنت على الشرفة أتطلع في أفق بغداد وقد تموجت أشعة الشمس المشرقة لتوها في أفقه،قوافل جمال ذهبية تحلق في السماء،حكني أنفي قليلاً، عطست، قلت كما تقول العجائز في ريفنا القديم: "هذا بشير خير" قطرات دم انبثقت، قلت هذا ليس شؤما، وحتى أنفي يعمل معي في كتابة الروايات، "لقد أزف موعد الرواية" رأيت قطرات الدم تتناثر على الأرض. قلت من هنا سيبدأ البحث عني وخيط القص المثير.لا بد أن أختفي، وأجعلكم تبحثون عني، ستبدؤون من قطرات الدم حتماً. سأكون مع القيثارة الذهبية هناك، هرعت نازلة درج الفندق، والقيثارة تلاحقني كأنها قبعتي، غيمتي، نجمتي في السماء. لم يكن موظف استعلامات الفندق في مكانه، ولا أي شخص في البهو. الكل نيام. ذلك سهل خروجي دون أن يعلم أحد، حتى لو كان أحد موجودا كنت سأغافله، وأخرج دون أن يراني، لم أعبر مع دعبول كعادتنا. أخذت سيارة تكسي مسرعة. كان أحمد لم يغادر البيت بعد. فوجئ بمجيئي، اتفقت معه أن يتركني وحدي ولا يخبر أحدا، حتى أنت يا ماكس. اشترى لي كل حاجياتي من الطعام لأسبوع وأكثر، حزمة شموع، وأشياء صغيرة أخرى. طلبت منه أن يأتيني هذا اليوم. قطعت حرارة التلفون. طلبت منه أن يقفل الباب من الخارج ليبدو البيت خاليا،ومهجورا تماماً! كنت أكتب على ضوء الشموع مستعيدة جو المعابد. أسدلت الستائر بإحكام لكي لا يتنبه الجيران الذين يعرفون أن البيت قد خلا من ساكنيه الأجانب. هذه الأيام القليلة كانت كافية لوضع كل شيء على الورق بعد أن كانت فصول روايتي القصيرة تدور في ذهني تبحث عن روحها التي سأتلقاها من القيثارة ، مصغية لموسيقى الزمن البعيد من أوتارها التي سترتجف لوحدها! معذرة يا ماكس لقد أقلقتك وأتعبتك كثير، ولكنك ستجد رواية تهزك وتستمع بها. أطلق ماكس ضحكة قصيرة قائلاً:

ـ نعم لقد هزتني قبل أن أقرأها، وأكثر من اللازم يا عزيزتي!

ابتسمت هي أيضاً لسخريته المرحة، قائلة:

ـــ يصعب علي َّ الآن الحديث عن حبكتها بدقة، حاولت أن أجعلها بسيطة تمتزج فيها الموسيقى بالحب،السراب بالماء، الرمال بالنور، لكنني لم استطع تفادي الحزن،المنبعث من قيثارة تخرج من مدفن سومري لتعزف لعاشقين من عالمين مختلفين،لا يلتقيان!

سألها خالد:

ـــ ولكن لماذا قلت أن الرواية ستبدأ من قطرات الدم المتناثرة على الأرض؟

ــــ أفكر في رواية أخرى ، أكتبها لاحقا،أكون فيها ملاحقة من قبل عصابة دولية لسرقة الآثار، يتمازج فيها عالم التاريخ الزاخر بكل ما هو مدهش، بعالم اليوم الحافل بالدسائس الدولية، والمكائد البوليسية المثيرة. تعمدت التمويه باختفائي، حتى إنني لم أحمل آلتي الكاتبة، استعملت الآلة الموجودة هنا،كان يهمني أن أعرف كيف سيتابع البوليس اختفائي لإنقاذي، لذا أريد منك يا خالد أن تزودني، فيما بعد، بموجز عن إجراءاتكم وأنتم تبحثون عني!

أخذ ماكس يضحك:

ـ طريقة جديدة يا أجاثا في الكتابة لم أألفها منك، أن تكتب الشرطة رواياتك!

ما يزال ماكس غاضبا عليها. كل هذا العذاب سببته له فقط لتكتب، بينما سابقا كتبت الكثير من الروايات بصمت، هل غبار قبور الكهنة ألحق بدماغها شيئا من التعقيد الذي كانوا يتصفون به وهم يمارسون طقوسهم للتأثير على الناس واستلاب عقولهم؟

عاد يتأملها، رغم إنها تتحدث بكل وعي عن روايتها وتفاصيلها، لكنه لم يكن يستطيع أن يفهم كيف تحبس نفسها هنا هذه المدة دون أن تعلمه، غير مقدرة ما سيترتب على فعلتها من نتائج خطيرة، أهو ضرب من الجنون الإبداعي الجديد عليه أن يتهيأ له؟ نظر إلى خالد،كان يبتسم يرقبهما سعيداً، فتحليله لاختفائها كان صحيحا وقادهما إلى المكان المطلوب، قالت ضاحكة:

ــ كنت أتصور نفسي أكتب بالقيثارة الذهبية، متذكرة قول ماكس، تكتكات آلتك الكاتبة أجمل موسيقى، بثلاثة أصابع فقط كتبت كل هذه الروايات، كم ستكتبين لو استعملت أصابعك العشرة؟ وأقول وبماذا سيفكر لو رآني أكتب بموسيقى قيثارة عمرها أكثر من خمسة آلاف عام!

لم تفارق لهجة ماكس نبرته الساخرة الغاضبة:

ــ بالتأكيد، ولكن لا تنسي أن قراءك يريدون أن يتابعوا حكايات مثيرة لا معزوفات موسيقية!

نظرت إليه بحزن ، وكأنما أخذت عيناها تترقرقان بالدموع، قالت بلهجة فتاة صغيرة عاشقة:

ـ هل لم تعد تحبني يا ماكس؟

ظل صامتا برهة قال:

ــ كيف لا أحبك؟، لم أمت بعد!

 

لكي أبدع علي أن أعيش جو روايتي تماما، حتى لو اقتضى الأمر ان أهبط إلى قاع قبري، ويبحث العالم كله عني ولا يجدني!

كان خالد يصغي فرحا، أنه التقى بأجاثا وماكس بعد فراق طويل معتقدا أن علاقته بهما قد انتهت إلى الأبد، لم يكن يتصور إنه سيلقاهما في هكذا موقف، غريب مدهش، لكنه لا يخلو من فرح إنساني، فاختفاء أجاثا كان بإرادتها، وتكلل برواية. كان فرحا كطفل وليس كموظف مهم في السلك القضائي! وجدها في المكان الذي توقعها فيه. كان يعرف بحادثة شرودها وتيهها القديمة، لكنه استبعد أن يكون اختفائها نتيجة حصوله ثانية. فهي ممغنطة مسحورة بالقيثارة السومرية، ولا بد لها أن تنتهي من سحرها الآسر الذي وجدته مكبلا لها. تذكر إن عليه الآن أن يعلم مدير التحريات الجنائية بهجت العطية بظهور أجاثا، لكي يوقف إجراءاته في الاعتقالات والتحقيق، وما يرافقها عادة من تعذيب وضغوط على المتهمين وذويهم. ضحك في سره، إنه سيستقبل النبأ ببرود واستعلاء رغم فرحه به، فهو كان يتمنى لو وجدوها في وكر سري للشيوعيين، ذلك سيقرب اليوم الذي يلف به حبل المشنقة على عنق قائدهم، صديقه القديم، نهض قائلا:

ـــ هل أستطيع أن استعمل التلفون لدقائق؟ أريد أن أزف للمسئولين بشرى سلامتك.الكل يتابع قضيتك من الوصي حتى اصغر شرطي!

ضحكت، وقد شعرت بمزيج من الذنب والعظمة:

ـ نعم لقد أعدت له حرارته في اللحظة التي انتهيت فيها من الكتابة.

التفت إليها ماكس متجهما، أحس أنه لم يصف كل حساباته معها، على فعلتها الطائشة :

ـ ماذا فعلت يا أجاثا؟ لقد قلبت الدنيا في بغداد؟ اعتقلوا العشرات، وربما المئات،كثيرون دفعوا ثمن روايتك من دمهم ودموع أهلهم! أهكذا تكتب الروايات؟

كأنها أحست فجأة بالذنب كله:

ـ أنا آسفة، ليتني أستطيع أن أعتذر لهم واحدا واحدا.

فكر ماكس؛ أكانت تريد تجديد حبهما؟ هي التي كتبت في مخطوطة لها" حين يقع حبيبنا في محنة أو مرض، ونحس أننا نوشك أن نفقده، يتجدد حبنا له" لكنها أعطتني جرعة ثقيلة، هي أيضا الآن مرهقة، كأنها عانت فعلاً من خطف واعتقال وسجن وتعذيب، حقيقة لا خيالاً.هل حقا أن القيثارة قد اختطفتها؟ أم هي مجرد قناع وقد اختطفت من قبل نفسها وأضحت رهينة نفسها لا غير؟ أن يختطف الإنسان من قبل أشباحه الداخلية فتلك مصيبة رهيبة!إنه أبشع اختطاف تتفنن مردة وشياطين في داخلنا في تعذيبنا خلاله كل لحظة. وفق هذا القانون كثيرون منا مختطفون من قبل أنفسهم دون أن يعلموا! أنا كنت مختطفا، ليس من قبل ثيسجر وأوراقه بل من قبل أشباح كل القبور التي فتحتها في هذه الأرض! ما تزال أجاثا مذعورة معذبة منهكة، حاولت تأدية قربانها وفديتها بكتابة طويلة متواصلة، أشبه بطقس أو صلاة لتنال المغفرة وتتطهر! وجهها شاحب حزين، كأنها رحلت إلى الأزمان كلها، تتابع القيثارة القديمة محلقة كالطير في سماء من الموسيقى! وسماء القلب ، هي مبدعة معذبة تبحث دوما عن جو ملهم لعملها!وجد نفسه مستعدا أن يغفر لها شطحاتها، وزلاتها، خاصة هي بريئة راقية جميلة. أخذ ينظر إليها بحنان وهي تتحدث بهدوء:

ـ أردت يا عزيزي ماكس أن أنقب في أعماق روحي وأنا في أعلى درجات التوتر، والعزلة تجربة ثقيلة من أجل الكتابة، كما أنت بإخلاصك لعملك تنزل إلى أعماق القبور،وسراديب العالم السفلي، أنا نزلت إلى أعماق الألم الإنساني،مشيت في أعماق قبري وقد تصورت نفسي مستلبة من حلم قاهر، مصير فاجع يلاحق عاشقين يائسين، لكي أبدع علي أن أعيش جو روايتي تماما، حتى لو اقتضى الأمر أن أهبط إلى قاع قبري، ويبحث العالم كله عني ولا يجدني!

صمتت برهة ثم قالت فجأة:

ـــ معذرة يا ماكس، لقد مات ثيسجر في الرواية!

تحير أيضحك أم يبكي على موت ثيسجر في روايتها، التي لابد فيها من موت،أو قتل، سألها:

ــ كيف مات المسكين؟

ــ ستعرف ذلك في الرواية!

ــ ذلك أفضل! استراح من عذابه في هذا الحب المجنون! كم من المجانين بيننا نحن الإنجليز!

نظرت إليه، مرتابة لكنها ظلت صامتة،رغم شعوره بأعمق الحب نحوها الآن، لكنه شعر بقلق أن تكرر ما فعلته، قال في نفسه " متعب أن يكون الشريك مبدعا،ومتعب أكثر أن يكون الشريكان مبدعين!"قالت بصوت هامس:

ـــ لم أغب عنك طويلا، أسبوع واحد فقط!

ـ أطول من دهر، أنسيت ما ترددينه عن كاتب فرنسي: "ليست السنين هي الطويلة، إنما الدقائق"!

ارتعش صوتها وخالطه أسى :

ـ قدر الكاتب أن يتعذب، ويعذب أهله وأصدقاؤه معه.أضافت كأنها تعترف بالخطأ كعادتها: "ربما المبدع يبالغ في قيمة إبداعه، وتقديرهم له، حتى ليستخف بعذابات الناس من أجله!"

كانوا يسمعون أصوات الصيادين والملاحين وهم يصدحون بأغانيهم وصيحاتهم العالية، ثمة مهرجان فرح غامض يجري وقد تعدى الوقت الظهيرة وقارب المساء. أنهى خالد مكالماته التلفونية وعاد ليقول:

ـ أخبرت مدير التحريات وبعضا من زملائي، كانت فرحتهم عظيمة، كادت أزمة كبرى تحدث بين بريطانيا والعراق. كادت بريطانيا تحتل العراق من جديد. الآن سيعلمون الوصي ورئيس الوزراء والسفير البريطاني. الأهم إنهم سيطلقون سراح الموقوفين الذين اعتقلوا بتهمة الخطف أو القتل. مدير التحريات ومعاونوه يريدون أن يلتقوا بكما هنا أو في الفندق. متى تستطيعان ذلك؟

هزت أجاثا رأسها بوهن وضعف واضحين, لم تحر شيئاً؛ فهي بطبعها تكره لقاء المسئولين والحكوميين وتفضل الاختلاط بالناس البسطاء،وارتياحها لخالد لا كمحقق رسمي،بل كصديق قديم. التفتت إلى ماكس قال :

ـ يسرنا أن نلتقي بهم لشكرهم على جهودهم، لقد أتعبناهم حقاً!

أضاف ملتفتا إلى أجاثا:

ـ كان موقف خالد طيبا جدا ولا ينسى، وكان دوره رائعا!

قال خالد بهدوء وهو لا يزال واقفا متهيئا للخروج:

ـ لا فضل لي في ذلك، فأجاثا كانت ستخرج، سواء أتيت بك إلى هنا أو لم آت!

ــ ولكن وجودك يا خالد بيننا طمئننا وأسعدنا!

نظرت أجاثا إلى ماكس:

ـ أرأيت اختفائي لم يكن سيئا دائما، لقد أتى لنا بخالد!

قال ماكس وكأنه يشعر بالتقصير:

ـ تصور يا خالد أنا الذي عشت مع أجاثا كل هذه السنين، وعرفت عاداتها في الكتابة والتفكير، وجو العمل ،لم يخطر ببالي أنها جاءت إلى هنا، بينما أنت عرفت ذلك بسرعة!

قال خالد مبتسما، مطيبا من خاطره:

ـ لا تستغرب ذلك، الحزن يشل الذهن، هذا دليل حبك العظيم لأجاثا!

ضحكت أجاثا وهي تقول:

ـ حين مت في نظره، أو قاربت الموت صرت قطعة أثرية وتحت الأرض، بذلك صار يحبني أكثر!

ضحك ماكس:

ـ لم أتصورك لحظة واحدة إلا حية معافاة!

قالت أجاثا لخالد:

ـ أنا مسرورة بمواصلة صداقتنا، أتمنى أن نذهب معا برحلة إلى أيس!

ـ بكل سرور، سأحصل على إجازة أريد أن أستعيد أيام صباي ومرحي على شواطئ مدينتي عندما كنت وماكس تأتيان ونقوم بجولاتنا بين بساتينها ونواعيرها! يسعدني بقائي معكم الآن،لكنني أريد أن أعود إلى مقر عملي،لأتابع إطلاق سراح العشرات الذين اعتقلوا بتهمة خطف أو قتل أجاثا كريستي!

قال ماكس وهو ينهض ليودعه:

ـ لم يحدث لرواية أن دفع الناس من أجلها هذا الثمن الباهظ!

توقف قليلا، متوجها لخالد:

ـــ أريد أن أعتذر لجبرائيل وزميله، والمدير أتمنى لقاءهم قريبا!

ـ بالتأكيد، سنطلق سراحهما مع مدير الفندق ،بسرعة، وسأعتذر لهم بنفسي.

كانت أجاثا منهكة، تحاملت على نفسها واقفة، قالت فجأة منقلة بصرها بين خالد وماكس:

ـ أنا لم أضع عنوانا للرواية،لقد عرفتما موضوعها ، ماذا تقترحان؟!

أراد ماكس مداعبتها :

ـ ليكن العنوان " نزوة كاتبة مجنونة"

قالت كالمنتقمة:

ـ إنه عنوان سمج ،تقريري مفضوح!

تطلعت إلى خالد منتظرة فابتسم قائلا:

ـ إذا سمحت لي كقارئ معجب برواياتك لا كمحقق عدلي أن أقترح عليك عنواناً " قيثارة أجاثا كريستي الذهبية"

قالت متهللة:

ـ ما تزال أيس، تمنحنا من أجوائها اللطيفة ولكن اسمح لي أن استبعد الذهب ، فالموسيقى بالطبع أغلى وأعظم جدوى!

ضحك خالد قال:

ـ لتكن إذا " قيثارة أجاثا كريستي" فهي أصبحت قيثارتك، لم يسبق لأحد أن كتب بنغماتها رواية! قبلته مودعة: سنتواصل لنرتب سفرتنا إلى أيس!

 

وجدت بعض أوراقي وذكرياتي ، هل سأجد بقايا الروح تحت الأنقاض؟

أثناء كتابتي هذه الرواية انتابني قلق وخوف أن يداهمني الموت قبل إكمالها، كانت أشهرا طويلة من الأرق، وضغط الدم يهدر في رأسي شلالات تنحدر من جبال شاهقة. كانت ليلى، أختي ، تمدني بأكواب القهوة، تفتح باب الحجرة قليلا وتسترق النظر لتطمئن علي، ولا تكف عن نصحي بالتوقف عن التدخين! انتهيت،واعتقدت أنني سأنال راحة واسترخاء، لكن وجدتني أكثر قلقا، وأرقا! ما جدوى رواية تتحدث عن أجاثا كريستي وولفريد ثيسجر وبنت المعيدي، والأحجار القديمة؛ في هذه الأيام الطافحة بالدماء والدخان والحروب بين الأشقاء والأصدقاء والأعداء؟ لقد مضى زمن أجاثا، وزمن الجرائم الصغيرة، دخلنا الآن عصر الجرائم الكبرى، أشخاص يحولون أنفسهم إلى قنابل ليقتلوا بشرا أبرياء لم يؤذوهم يوما، انقلابات دموية،مؤامرات، حروب أهلية، مذابح طائفية وعنصرية يتحول فيها البلد الأعزل إلى خرائب تصول وتجول فيها الوحوش والشياطين! وروايتك كالقطة العمياء في منعطف من الشاطئ تبحث عن بقايا سمكة! زادتني حيرة، وربما شكا أو توجسا من أجاثا كريستي؛ أن جدتي حلت في حجرتي فجأة ليلاً، كأنها نسيت حكاية لم تروها لي في طفولتي، وتذكرتها بعد موتها: دخل شاب على رجل في بيته وطعنه بخنجر في صدره، أمسك به من في البيت يريدون قتله: لكن الرجل قال وهو يلفظ أنفسه الأخيرة دعوه،أعفوا عنه، القاتل في مكان آخر! وكانت النهاية أن حامل الخنجر ذهب بنفسه وقتل من أرسله!وفق هذه الحكمة أو القانون فإن كل الذين أمسكت بهم أجاثا كريستي كقتلة هم لا يزيدون وزنا عن الرصاصة ، أو ملعقة السم الذين استعملوها في جرائمهم ، والقاتل الحقيقي هو في مكان آخر! ويعني أيضا أن الصبيان المعتوهين الذين حولوا أنفسهم إلى متفجرات وقتلوا آلاف الأبرياء ينبغي أن لا يجعلوننا ننسى أن القتلة والمجرمين الحقيقيين هم في مكان آخر! وهؤلاء الصبيان الأغرار هم ضحايا أيضاً،نبلغ ذروة إنسانيتنا لو استطعنا إنقاذهم،فنكون قد أنقذنا معهم الناس جميعا! وبدأت من جديد أقرأ أجاثا كريستي: هل هي حقا اكتفت بإلقاء القبض على المجرمين الصغار ثم جلست في شرفة بيتها تشرب الشاي وتأكل البسكويت وتتحدث مع ماكس عن أرقام مبيعاتها من الروايات؟ اكتشفت و"للتقدم بالعمر فوائده" أن أجاثا كريستي لم تذكر أسماء القتلة الذين هم في مكان آخر، لكنها أشارت إلى الطريق الذي يفضي إليهم، عصب الشر الذي لسبب ما يلتهم عصب الخير في أعماق إنسان، ويسلمه للجشع والكسل وكره الآخرين! وتركت لبديهتنا تشخيص ملامحهم : فهم كبار جدا، مستعدون أن يحرقوا الدنيا كلها من أجل مواقعهم وملذاتهم وبقائهم خالدين! هم بأحجام هائلة، أحدهم يستطيع ابتلاع ألف خزينة بنك، وألف تمثال مقدس، وكل كراسي السلطة دون أن يصاب بالتخمة! يحول السماء إلى قبعة ويضعها على رأسه معتقدا أنها صنعت من أجله، وهي ملك العائلة، وعلى الآخرين أن يهيموا على وجوهم بحثا عن سماء أخرى! مؤكدة أن المجرمين الصغار يحملون نفس الصفات الوراثية للمجرمين الكبار، فالشر واحد، والمجرمون مختلفون! بذلك لا يجوز أن تسجل الجرائم ضد مجهول! الفاعل هو إما ذلك الكبير القابع في مكان آخر، وعلينا الإشارة إليه بأصبع لا يرتجف، أو هو نحن، أنفسنا ما دمنا سكتنا مؤثرين السلامة! هي لم تغفل بقعة النور في أعماقنا، قالتها بكلمات كثيرة غير مباشرة : تلك الشمعة التي ينبغي أن تبقى مشتعلة داخل العاصفة. لم تبالغ في مطالبتنا بالشجاعة، ولا مطالبة نفسها بها: فالكاتب لا يستطيع أن يقترب بنا كثيرا من فم الأسد؛ لكنه يستطيع أن يجعلنا نشم رائحته! ورائحة الدم الكثير المسفوح حول عرينه، من مسافة بعيدة! أليس هذا أهم ما نحتاجه لمجابهة الشر والرعب ثم الخلاص من الشقاء؟ فلم التردد في القول أن أجاثا كريستي ما تزال تعيش معنا،وهي الجدة التي تأتي لتحكي لنا، لا لننام بل لنكون يقظين نعرف الأشرار كما نعرف الأخيار! وروايتي هي عن أخت أو جارة تخاف أن تخرج بأطفالها إلى الحديقة خشية أن يمزقهم انفجار أرسله الكبار . عندما قلت لليلى " الآن انتهيت من هذا العبء الثقيل" سألتني بقلق وخوف: هل ستعود إلى السويد؟ لا يا أختي، كيف أتركك وحيدة وسط هذا الدمار! أما كفاني إني تركتك وأمي قبل ثلاثين عاما للعذاب والقهر والعوز،ورحت أنا هناك بعيدا؛ أعيش عذابا آخر؟ لا، سأبقى هنا هذا وطني، إذا عاش عشت، وإذا مات مت، وإذا تمزق تمزقت، وكفى! سأبقى هنا في بغداد حتى لو لم أجد لي مكانا فيها، وبقيت منعزلا في حجرتي لا يسأل أحد عني ولا أسأل عن أحد، اقرأ وأتأمل وأتذكر وأتنسم هواء المدينة الذي فقد عبيره القديم، وصار اليوم مشبعا بالبارود ورائحة اللحم البشري المحترق ،هل انتهت مهمتي هنا؟ هل لم يعد لي مكان في بغداد التي أحببتها وتشردت من أجلها؟ لا أدري هل انتهيت من رحلات البحث الطويلة؟ ماكس والشرطة والسفارة البريطانية يبحثون عن أجاثا. أجاثا تبحث عن مكان يجمعها بالقيثارة لتكتب رواية تكافح بها الشر بالموسيقى. ولفريد يبحث عن بنت المعيدي. الأمريكان يبحثون عن ضباط في الجيش يرومون القيام بانقلاب في بغداد.سليم البكري يبحث عن أخبار لحزبه وجريدته، وأنا بحثت عن نفسي، وروحي وذكرياتي،فوجدت أوراقا قد حرقت، وأخرى محفوظة بعناية في بيت صديقي. كم علي أن بحث لأجد بقايا روحي ونفسي الضائعة على هذه الأرض، وقد انهالت فوقها ركام حروب وأنقاض كثيرة؟ الآن هدأت النفس، ولو الآن فقط. لم أكن أعلم أن شخصين عزيزين يبحثان عني في هذه المدينة، وقد حسبتها نسيتني تماما!

 

جلست في شتاء السويد أدون ذكرياتي قبل أن تتحول في رأسي إلى عروق ثلج وخشب!

غرقت بعدها لأشهر بأحداث هزتني، بل قلبت حياتي كلها. يصعب الحديث عن سعادة خاصة في وطن يزخر بالشقاء والموت. ولكن لابد أن نعيش حياتنا الهانئة مثلما علينا أن نتجرع ما يخالطها من ألم وعذاب. سوف أترك صديقي ساهر يتحدث عما جرى في تلك الأشهر الحاسمة المنصرمة من حياتي هنا، فهو أدق مني وأعمق في التعبير عنها! كان ساهر قد عاد إلى السويد ملمحا إنه سوف لن يعود إلى العراق، وإنه سيموت ويدفن هناك، "إنها ارحم بنا من وطننا الأصلي"، رغم إنه في لحظة أخرى يقول "لا مهرب لنا من العراق سوى إلى العراق!". كتب لي : جلست في شتاء السويد أدون ذكرياتي قبل أن تتحول في رأسي إلى عروق ثلج وخشب وموت! أرسل لك منها الجانب المتعلق بلقاءاتنا في بغداد وما حدث لنا، قد تستفيد منها أنت أيضا، ولكي لا ننسى ما حدث لنا في زيارتنا لبلدنا بعد غيبة طويلة. عندما عدت مثلك من منفاي في السويد إلى بغداد، سكنت مشتملا صغيرا أجره لي "بديع"، ابن شقيقي، كان ملاصقا لبيته في الحارثية، بعد أكثر من شهر لسكني هناك، جاءتني زوجة بديع تقول:

ـ هناك جارة لنا؛ عندما عرفت مني إنك قادم من السويد؛ سألتني إن كانت تستطيع مقابلتك لبعض الاستفسارات!

عرفت أنها تسكن وحيدة مع خادمتها في البيت الفخم المقابل الشبيه بقصر، والمحاط بحديقة كثيفة واسعة، دعتها إلى البيت وجلسنا معا. كانت قد تجاوزت الستين، لكنها ما زالت جميلة، بل فاتنة،أنيقة ومحتشمة. سألتني إذا كنت أعرف كاتبا أو صحفيا، ويعيش في السويد منذ زمن طويل، وأعطتني اسمك، قلت لها:

ـ نعم أعرفه، وقد عشنا معا في مدينة واحدة في السويد لسنوات عديدة، لكننا افترقنا عندما انتقلت للعمل في مدينة أخرى!

ـ كيف هي صحته وأحواله؟

ــــ عموما جيدة، هو يعاني كأي منفي مثلنا أمراضا مزمنة؛ ضغط وسكري وكآبة،أمراض تعايشنا معها، وصادقناها!

ظلت تتأملني وتدير نظراتها، شعرت أن شيئا يشغلها، بعد دقائق سألتني بلهفة مكتومة:

ـ هل هو متزوج؟

ـ حتى افتراقي عنه قبل خمس سنوات لم يكن متزوجا، ولا أظنه قد تزوج، فهو متمسك بعزوبيته، عاش وحيدا متبتلا طيلة حياته في السويد!

كدت أضيف ".أعتقد ثمة مأساة عاطفية في حياته"، فقد دار في خلدي سريعا أن هذه المرأة هي سر عزوفك عن الزواج،لكني أحرجت! انفرجت أساريرها الحزينة. شعرت كأن وجهها ازداد جمالا، وبدت أكثر اندفاعا في الحديث، كانت صريحة، طلقة بعد أن انفتح بيننا الحديث، ولم تخف إنها كانت تربطها بك علاقة حب، مضيفة:

ـ لقد عاكست حبنا الظروف، سوء فهم كثير، أرجو أن تساعدني للقائه!

عرفت أن اسمها عواطف، فقدت زوجها الضابط بعد سنة ونصف من زواجهما، لم يقتل في أي من الحروب الكثيرة التي طحنت العراق، وإنما في حادث سيارة على الطريق السريع قرب بغداد، كان ذلك منذ ما يقرب من ربع قرن،كنت أنت في الخارج،ليس لديها أبناء،ولم تتزوج ثانية، وبعد سنوات من ترملها بدأت البحث عنك هنا وهناك:

ـ بحثت عنه كثيرا، لم أهتد لعائلته، الناس هنا كما ترى، تحذر، وتخاف الحديث عن المختفين أو الغائبين، وهو كما كنت أعرف كانت له أنشطة سياسية معارضة، ومع ذلك ذهبت إلى صديق له يعمل حارسا في بيت الآثاريين، لم أجده. أخبروني إنه ترك العمل في البيت! كل ما عرفته عنه أنه غادر العراق، وبعد سقوط الحكم السابق، ومجيء أناس من الخارج، علمت من بعضهم إنه في السويد، لكن لا أحد منهم يعرف عنوانه بالضبط!

فرحت كثيرا حين قلت لها:

ـ سمعت إنه عاد، لكنني لم ألتق به هنا حتى الآن، ولا أدري إن كان ما يزال في العراق، سأبذل ما أستطيع للبحث عنه!

كان أحد معارفنا قد قال لي إنك كنت معه في الطائرة القادمة إلى بغداد،وقد تحدثتما بشكل عابر ولم يعرف منك أين ستقيم، وكم ستبقى. أحزنتني حكايتها، وأفرحتني أيضا. صرت أقول في نفسي ربما لا يوجد نبأ مفرح في الدنيا أعظم من أن تأتي إلى شخص وتقول له "هناك من يحبك، أو كان يحبك ، ويبحث عنك" فكيف إذا كان امرأة على هذا القدر العظيم من الوفاء والجمال، رغم تقدمها في العمر. خمنت عمرها، لا استنادا لملامحها التي ما تزال حيوية،جذابة، بل من علاقتها بك أنت وقد غادرت العراق قبل حوالي ثلاثين عاما، ورثيت لحالها أو حالك حين ستلقاك فأنت حسب آخر لقاء بيننا بدوت لي شيخا متهدما، أبيض شعرك، وتساقط معظمه، وامتلأ وجهك بالتجاعيد، وبدوت نحيلا حزينا، لكنك كعهدي بك دائما مشرق الوجه خفيف الظل أقرب لروح هائمة، بثياب جميلة أنيقة. قررت أن أتأكد أولا إذا كنت قد عدت إلى السويد، لكن من اتصلت بهم في السويد قالوا إنهم لا يعرفون شيئا عنك، ولا يعرفون أين تذهب أو تجيء، وكما تعودت أنت منهم ،انتقدوك على عزلتك، واتهموك بالتعالي على الآخرين، فلم أقرهم على رأيهم ، وكما تعرف؛ كنت دائما متوجسا من أغلب علاقاتنا كعراقيين في الخارج المخربة بصراعات تافهة، وسوء الفهم والنوايا.زادتها تفاقما في الآونة الأخيرة الشروخ الطائفية والقومية. فأنا رغم الجفوة التي حصلت بيننا وانتقالي إلى مدينة يتبوري، لم أنس يوما أنني عاشرتك سنوات طويلة. كنت الأقرب إلي، كما أنا أعتقد إنني كنت الأقرب إليك، فقد التقينا على حب الثقافة والإبداع وهموم اليسار المنكسر، وأحلام الوطن الضائعة.كنت أتفق معك أن ما حصل من كوارث لشعبنا وما نعيشه اليوم من مآسي تقع جريرتها على الحاكمين والمعارضين معا! وكنت أحس بعمق أحزانك، رغم إنك لم تحدثني عن حبك القديم الكبير، وها أنا أعرفه الآن فقط من عواطف،لكنني كنت أقدر أن صمتك وشرودك وعزوفك عن الزواج، أو علاقة عاطفية عابرة مع نساء جميلات اعترضن طريقك، كان وراءه جرح حب نازف مع الزمن! واليوم وقد رأيت حبيبتك عواطف هذه المرأة الجميلة الطيبة، أقول أن قلبك لم يكن مخطئا حيت توقف عندها لا يريد تجاوزها، وإنك محق حين كنت تحجم عن النطق باسمها، وترتبك كلما تحدثنا عن حبيبات الماضي، ومواجع الحب! على كل حال، حكاية عواطف معك اليوم زادتني قناعة أن الحب الأول للإنسان هو الحب الأخير حقاً. اتصلت تلفونيا بالرجل المدعو أبو رافدين كنت أعرف كما أنت تعرف إنه متحجر المشاعر بليد لا يطاق،والأدهى إنه رفع اليوم راية الطائفية بعد أن كان يلوح براية الأممية، من أجل صفقاته المالية في بغداد،وإنه لا يرتاح لك كما أنت لا ترتاح له، لكنني مضطر للاستفسار منه عنك فهو كما أعلم يعيش معك في نفس المدينة أودفالا، بل وفي نفس العمارة، وهو متتبع لأخبار العراقيين، قال:

ـ لقد تركت أودفالا وانتقلت إلى ترولهتان،هذه مدينة تجارية نشيطة..! وراح يحدثني عن صفقاته التجارية مكتفيا بالقول عنك "لا أعرف عنه شيئا، تعرف إنه انعزالي" ثم عاد يتحدث عن تجارته وأخيرا سألني كم سعر الرز البسمتي الآن في العراق؟

صمت لحظة، كعادته حين يلوي الأمور:

ـ أنا الذي أريد أن أسألك، هل صحيح ما سمعته، إنه قتل في العراق في انفجار شارع المتنبي؟!

دهشت، وغاص قلبي :

ـ لأول مرة أسمع بما تقول، أرجو منك أن تكلف نفسك السفر إلى أودفالا،ةتسأل عنه، وتتحرى إذا اقتضى الأمر من استعلامات البلدية!

وعدني أن يقوم بذلك، لكنني وكما توقعت كلما اتصلت به أجده يتعلل بمشاغله التجارية:

ـ إذا كان قد مات في العراق؛ من يتطوع لإخبار السويديين بموته؟ وإذا كان قد أعطى لأحد وكالة على حسابه المصرفي حيث يتجمع راتبه التقاعدي فقد يجد أن من مصلحته التكتم على خبر وفاته، فلا يبلغ السلطات عنها. أحاديث سخيفة يستطرد بها دائما، دون أن ينسى سؤاله: لو تمر على وزارة التجارة وتسألهم ماذا نستطيع أن نصدر لهم من السويد للحصة التموينية؟ هو لا يشبع من صفقاته، فتركته!

سمعت أنت في حينها طبعا بالانفجار الإرهابي في شارع المتنبي ببغداد،وعرفت أن أكثر من مائة شخص، قتل أو جرح فيه. صاحب مقهى الشابندر الكائن في مدخل الشارع فقد أبناءه الأربعة، وحفيده الصبي الصغير. تهدمت أغلب بنايات الشارع واحترقت مكتباته ومخازنه،ومطابعه التي خرجت منها أقدم وأهم الصحف. وقع الانفجار يوم 5 آذار 2007؛ تذكرت أنك عدت إلى العراق في شباط من نفس العام. هذا يجعل ما قاله محتملا. تألمت كثيرا، وأخذ يساورني القلق! ظلت عواطف تتردد علينا مستفسرة، ولم أقل لها بما سمعت. لم أفقد أملي أنك حي، و ما تزال في العراق.وكما تعرف يصعب التجوال في بغداد، فالانفجارات والاغتيالات الطائفية، والانتقام الشخصي، ومن أجل المال تتوالى وتتزايد، ولكن لا بد لي من الذهاب إلى شارعي الرشيد، والمتنبي، وسط بغداد. لا مكان أهم منهما لبدء رحلتي في البحث عنك. أكثر من سألتهم في مقاهي شارع الرشيد، والمتنبي قالوا إنهم لم يروك منذ رحيلك، ولا يعرفون إن كنت قد عدت إلى بغداد، وصاروا هم يسألونني عنك، أين تعيش؟ ولماذا لم يقرءوا لك شيئا منذ وقت طويل! وجدت شارع المتنبي لا يزال مهدما، تكسو جدرانه المحترقة وأعمدته المائلة المشروخة اثر الانفجار طبقات سود من الدخان والأوساخ. دهشت إذا وجدت أن الحاج محمد الخشالي الذي طال الانفجار مقهاه ونكب بفقد أبنائه وحفيده ثم زوجته أثر صدمتها الأليمة، قد أعاد إصلاح مقهاه وفتحها لروادها من الكتاب والصحفيين والمثقفين، والمتقاعدين، ووضع لافتة لها (مقهى الشهداء). كان يبتسم بحزن، وجهه الأسمر الأشيب ما يزال مفعما بالقوة والإصرار على مواصلة الحياة. بالطبع يصعب عليه أن يتذكرنا نحن رواد مقهاه الذين هاجروا دون عودة قبل سنين طويلة. كانت لي وأصحابي ذكريات غالية في مقهاه، فقد شهد أحلامنا وآمالنا ولحظات تحطمها وتلاشيها، أتذكر؟ كنا قد التقينا لأول مرة في هذا المقهى؟ وبنينا أساس صداقتنا التي تواصلت لسنوات عديدة في السويد،ثم تسلل إليها ثلج وظلام المكان وتسمم أمزجتنا رغما عنا. اليوم ألتقي في المقهى بأصدقاء قدامى تذكرتهم وهم قد نسوني. وبآخرين تذكروني، وكنت قد نسيتهم، كلا الحالتين جرحت قلبي، بعضهم قال لي إنه كان يعتقد إنني قتلت خلال حملات الاعتقالات والإعدامات السريعة والملاحقات التي شنها النظام السابق على الشيوعيين واليساريين وأنصارهم قبل ثلاثين عاما. في هذا المقهى أحسست إنني في محراب كبير تتلى فيه الصلوات على شكل ذكريات جارحة، وحسرات،ولحظات صمت ووجوم. أسئلة وتعليقات وعتاب وأحكام تتراوح بين الجائرة والحائرة. كان الحاج الخشالي قد وضع صور أبنائه الأربعة وحفيده، بجانبه حيث يجلس وراء طاولته الخاصة قريبا من باب المقهى. لم أرهم في صورهم وراء الزجاج، بل رحت أراهم من وراء ضباب أيامنا ونحن في أيام شبابنا، نتناول من أيديهم؛ وهم صبيان أقداح الشاي. لم نكن آنذاك تحت أفظع الكوابيس يمكن أن نتصور ما جرى لهم ولنا اليوم. بماذا كنا نفكر ونخطط ونعمل ونحن في هوس عملنا الحزبي والسياسي في تلك الأيام؟ وماذا يغير من الأمر أن أجدك، وأجعلك تلتقي بحبيبتك؟ عن أي حب نتحدث في هذا الجو الرهيب من الأحقاد والدماء المتفجرة؟ بعض رواد المقهى تعرفت عليهم، وتعرفوا علي بصعوبة وبعد توهم كما يقال. كان الجدل حد اللغط يتواصل بين من أعرفهم ومن لا أعرفهم، أحد الذين قال إنه يعرفني من أوائل السبعينات وكان يساريا آنذاك سمعته يتحدث، بصوت حاد:

ـ أي قلوب متوحشة يحملها هؤلاء الإرهابيون ليفجروا شارعا مزدحما بالناس المسالمين،ولا وجود فيه للأمريكان أو رجال الحكومة. حقنوهم بهرمون الشبق لحوريات جنة صنعوها على مقاساتهم، حولوا جنتهم إلى حي للدعارة. هؤلاء لا مكان لهم في جنة الله!

يسكت برهة ينفث دخان سيجارته، ويسحق عقبها بيد ترتجف غضبا:

ـ لا يمكن لذي ضمير أن يبرئهم، لكن بنفس الوقت لا يبرئ الذين حولوا هذا الشارع إلى وكالة للإيرانيين يطلقون منها كتبا تطبع في "قم" تستفز أتباع المذهب الآخر، تحرف دينهم، وتشتم أصحاب الرسول،وآلافا من الصور لخميني وخامنائي توزع مجانا هنا وهناك. كيف يحتمل من قتل ابنه في الحرب التي بدأها صدام، وأطالها الخميني لثماني سنوات أن يرى صور قتلة ابنه تطالعه حيثما أدار وجهه؟ كيف لا يتحول إلى حاضن أو مساعد للإرهابيين؟

ثمة رجل كان يجلس على يمينه، يفصله عنه رجلان جلسا صامتين يصغيان بسهوم، رد عليه بحدة ونزق:

ـ أنت تبرر للقتلة!

رد وهو يكاد يختنق من جفاف ريقه وسحب الدخان:

ـ أنا لا أبرر للإرهابيين خستهم ونذالتهم، لكنني بنفس الوقت لا أغفل عن خسة ونذالة من يستفزهم ويهيجهم لقتل الأبرياء ولمصلحة دولة أخرى؟

صاح آخر من بعيد:

ـ أنت تتستر على السعودية وتركيا وقطر، هم الذين يدفعون الإرهابيين إلينا!

وجدت إن الحديث المتوتر قد جر الجلسة لعراك وشيك؛ ملت على رجل آخر كان قد قال لي أنه كان صديقي في السبعينات ولم أتذكره، وقال إنه رآك في هذا المقهى قبل أشهر:

ـ متى رأيته ؟ قبل التفجير أم بعده؟

وإذا به ينفجر أيضا في وجهي منفعلا:

ـ والله انت بطران. شمدريني، ليش أنا أدري بنفسي هسه إذا كنت آني ميت بالتفجير، بس دأمشي من الضيم، لو بعدني حي؟ صدك لو كالوا أوربا خربت عقولكم،عمي احنا دايخين، خلينا بحالنا!

بقيت أنظر إليه مندهشا، ماذا أقول له؟ سمعت كثيرا كيف إن الظروف العصيبة أنهكت عقول الكثيرين هنا، وأفقدت البعض توازنهم، لم يسعني سوى أن ألقي عليه نظرة،أسى ورثاء، فهو لم يستطيع أن يتماسك مثل آخرين وجدتهم على طيبتهم وبساطتهم القديمة. أشاح عني واشتبك بالنقاش الحامي الدائر حول الإرهابيين ومن يدفعهم ويمولهم. ثمة شاب كان يرقبنا وكان يجلس قدامي على تخت تراص فيه الجالسون، وجه كلامه لي قائلا:

ـ بعد أن تبدد دخان وغبار التفجير، وماء إطفاء الحرائق، ظهرت عشرات الجثث محروقة مشوهة ولا يمكن التعرف على أصحابها، كثير منها بقيت في الثلاجات أياما دون أن يراجع عليها أحد، قد يكون صاحبك بينهم؟ الجثث التي لم يأت ذووها، دفنت من قبل أمانة العاصمة!

ما هذا؟ لا يسعني سوى التسليم أنك قتلت في هذا التفجير، أو في أفضل الأحوال صرت بين المفقودين مجهولي المصير. بدا أن الجدل حول الإرهابيين ومن يصنع ظروف وأسباب الإرهاب قد تحول إلى عراك،وشتائم، وتعالت أصوات كثيرة من شتى التخوت، هذا يقول" "إيران هي التي تنظمهم وتمولهم لمزيد من الانتقام ولحرق الطائفة الأخرى، ومد نفوذها على المنطقة"، وذاك يصيح بوجهه : "بل هي السعودية وتركيا وقطر ومن يرتبطون بهم، المال والفكر منهما، لماذا تنكر؟". فنهضت بصعوبة، كأن أعضائي مبعثرة، وقفت أدفع حسابي، وأتأمل وجه هذا الشيخ الذي فقد أولاده وحفيده ولم يتخلَ عن همته في العمل، وفي المكان الذي استشهدوا فيه. خرجت وأصوات المتجادلين تلعلع في رأسي، وأنا أهمس في نفسي، يا لنا من مغفلين أو مغالطين،بعد كل هذه السنوات، وكل هذه السيول الجارفة من الدماء حتى الآن،لم نعرف من هم أعداؤنا! كم نحتاج من وقت لنعد أنفسنا، ونتصدى لهم؟ وماذا تبقى من أعمارنا؟ قطعت شارع المتنبي حتى نهايته المفضية لشارع الرشيد، تأخذني تأملات هي الأخرى كانت مشتتة غامضة،قريبا من كومة أحجار توقف لي تكسي مضى بي إلى الحارثية. لم أستطع أن أتصور أنك جئت من السويد فقط لكي تموت هنا، وبهذا الشكل المريع.عدت أبعث الأمل في نفسي، أن خبر موتك غير صحيح، قد لا يكون مختلقا، فأنت كما أعرف ليس لك أعداء يكايدونك، بل ربما هو اشتباه أو خلط في الأسماء أو نقل غير دقيق. كلما رأيت نظرات عواطف الصامتة والمتسائلة؛ أشعر بألم عميق، وبالذنب أيضا. بدأت أفكر: هل إن العراقيين ممن مارسوا السياسة طويلا وانتهوا لهذه الخيبة، يعتريهم نفس الشعور، أنهم جميعا ساهموا في هذا الدمار والخراب الشامل!أم تراهم مازالوا يتحدثون عن غيرهم فقط ، لا أدري! بقيت لفترة اصبر عواطف بقولي ثمة صديق كان قد التقى بك قبل فترة قصيرة ووعدني بعنوانك. بمضي الأيام كفت عواطف عن السؤال، وحتى عن التطلع في وجهي. ربما كي لا تحرجني، والتزمنا الصمت. أحيانا يعترني يأس فأقول أنك فعلا قد رحلت عن دنيانا، فالموتى وحدهم يستطيعون أن يفرضوا صمتهم على الأحياء! لكن عواطف لم تتوقف عن زيارة عائلة بديع، وزيارتهم لها، وصرت أنا قدر الإمكان أتحاشى جلساتهم، رغم إن المرأة كانت قد كفت عن أي حديث يتعلق بك، لكن مجرد وجودها صار يثير في نفسي ذكرى تحزنني كثيرا.

 

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا

كل ما جئت لتحقيقه في العراق لم استطع أن أنجز منه شيئا، طلبي في الحصول على تقاعد بعد عمل لسنوات طويلة في مؤسسة الكهرباء عرقلوه طويلا، فاضطررت لتركه. قضايا عائلية تتعلق بميراث وحقوق أخرى لم تحل ولم يتحقق منها سوى المزيد من النفور والشقاق العائلي، خيبة أمل في كل شيء. حسنا فعلت،إنني لم أتزوج ولم أورط أبناء معي في هذا الوجود الملغوم بالظلم والخطأ والتفاهة. صار السأم والفراغ ينخر أيامي في بلدي الذي تحملت الغربة حالما بعملنا جميعا على بنائه وجعله سعيدا متطورا. لكن قوى هائلة منعتنا وصدتنا بعيد! بدأت أتهيأ للعودة إلى السويد، كنت قد حدثت بديع عن رغبتي في الحصول على بعض "الكمأ"،أحمله معي لأعد منه طبخة نادرة ستسر بعض أصدقائي العراقيين والسويديين ممن كنت حدثتهم عنه.وكيف إنه يتكون في صحارينا بكثرة، ويباع بأسعار معقولة بينما هو في أوربا يعادل وزنه ذهباً. أخذني بديع بسيارته إلى الشارع العريض الذي يدخل بغداد ممتدا من بادية الشام،قال هناك سنجد الكثير ممن يبيعون الكمأ في بسطات على الطريق، وجدنا الكثير من الباعة يعرضونه في أكوام مصنفة مرة حسب جنسه الأبيض ذكور، والأسود إناث، هكذا قالوا ،ثم حسب حجمه. وقفنا عند بسطة ، كان الكمأ عليها جيدا، طازجا ومكتنزا، لكن البائع الشاب البدين يلف حزاما عريضا على دشداشته،كان نزقا، لهجته منفرة، كنت على وشك تجاوزه عندما سمعت صوتا من خلفي يناديه:

ـ ضع لي كيلو من هذا ..

اجتذبني الصوت، فلم يكن غريبا عليَّ، وتلفت، وإذا بي أمامك، أنت كاملا صحيحا معافى، كم كانت فرحتي عظيمة، ورحت تنظر إلي حزينا متعبا، احتضنتك، لم تقابلني بنفس الحرارة، لا يعود ذلك لجفوتنا الأخيرة، بل هذا هو مزاجك الحزين الهادئ،والإحباط هنا كثير،وقد زادك عزوفا عن الناس والأشياء. ثم أنت لم تكن تتصورني كما تصورتك ميتا وقد عاد إلى الحياة، كيف لا أستقبلك بلهفة وفرح؟ ورحت أردد دون وعي: أين أنت؟ الدنيا كلها تنتظرك! رحت تتلفت غير مدرك طبعا ما أقصد! قلت لي "أنا هنا يا صديقي منذ أِشهر " ورحنا نتحدث ضاحكين مدخرا مفاجأتي لك، شعرت بسعادة لم أجدها طيلة مكوثي في بغداد. ربما هي لحظة الفرح الوحيدة التي عشتها في خضم الآلام، أن أستعيدك، صديقا طيبا، من يد الموت،فكنت أنت على طريقتك الصامتة ودودا فرحا باللقاء، احتملنا نزق البائع بمرح، قلت لك ضاحكا:

ـ لو كنت أعلم إننا سنلتقي عند الكمأ؛ لقطعت الصحراء كلها أجمع الكمأ!

ضحكنا بفرح ،عرفتك على بديع. لم تكن معك سيارة، كما كنت في حياتك في السويد ، أصر على أن يوصلك إلى بيتك بسيارته قائلا: "سعدت بمعرفتك وعمي بحث عنك طويلا، كنا قلقين عليك". بقيت أتحين اللحظة المناسبة لأزف له الخبر السعيد، ونحن نتجه إلى السيارة في منعطف هادئ من الشارع، سألتك:

ـ هل أنت مثلي تزمع العودة إلى السويد، لذلك جئت تشتري الكمأ؟

جاءني صوتك هامسا حزينا:

ـ قررت أن أبقى، لا أريد أن أترك أختي العجوز لوحدها.

ملت علي وهمست كطفل:

ـ عدت للكتابة، أنجزت رواية ، وأتمنى أن تقرأها وأعرف رأيك بها!

ـ وأنا لدي لك مفاجأة سارة أخرى وعظيمة!

توقفت عن السير، بقيت تحدق في وجهي،

ـ ماذا؟

ـ امرأة اسمها عواطف تبحث عنك!

أشرق وجهك؛ كما لو سلط عليه ضوء، بقيت تنظر في وجهي غير مصدق:

ـ هل حقا هي عواطف؟ عواطف نفسها؟

وصرت أداعبك:

ـ لا أدري! عليك أن تراها بنفسك، وعليك أن تسرع؟ قل لي كم عواطف كانت لديك؟

الخبر أشعلك، صنعك من جديد، أقبلت عليّ تحتضنني وتقبلني، أنت الذي أعرفك في السويد ساكنا متحفظا باردا،صرت هذه اللحظة في غروب الشمس متحرقا، رحت تسألني:

في السيارة اشترك معي بديع في حديث عن عواطف، وكنت تطرح السؤال تلو الآخر، قبل أن نكمل الإجابة، اغتنمت لحظة صمت منك قلت:

ـ أستغل الوقت ، لا تضيعه كما ضيعناه سابقا، ستعرف كل شيء، أريد أن أسألك أين كنت حين وقع تفجير شارع المتنبي؟

ـ لماذا تسأل عن ذلك؟

ـ لو تدري كم عشت من كوابيس حين أعلموني أنك مت في هذا الانفجار!

ندت منك آهة قصيرة:

ـ قد لا تصدق لو قلت لك كان بيني وبينه مسار دقيقة واحدة، كنت عند باب الجامعة المستنصرية القديمة؛ حين دوى الانفجار، فأحسست بالأرض تهتز تحتي، وكدت اسقط!

ـ يبدو أن من قال أنك مت في الانفجار لم يتحدث عن وهم أو اختلاق،ربما رآك متجها إلى هناك فظنك وصلت مع الانفجار!

ران علينا صمت، وظلت السيارة تتلوى بين الطرق المحفورة إثر تساقط قنابل أو انفجار ألغام، مليئة بالماء والأوحال، أوصلناك إلى بيتك، أصررت أن ندخل معك البيت، لكن بديع اعتذر منك:

ـ لا يخفى عليك الأوضاع لا تحتمل أن نتأخر!

تبادلنا أرقام التلفونات وأكدنا إن لقاءنا سيكون قريبة وسيتواصل، قلت ضاحكا :

ـ لن أدعك تعود إلى السويد!

ـ الآن بدأت زيارتي لبغداد!

عندما تحركت السيارة، رأيتك تبكي، وأنت عند الباب تلوح لنا، ومع ذلك؛ صرت بمزاج طيب لم أعهده بك من قبل! بينما كانت السيارة منطلقة، وهواء الربيع في الشارع الفسيح يتغلغل في صدري،فتح بديع كاسيت السيارة، كان مغرما بمقامات يوسف عمر، انبعث صوت يوسف الشجي الذي يفت الصخر: وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس والليل خاليا

قصيدة قيس ابن الملوح مجنون ليلى،أحسست عيني تغروقان بالدموع. لحظ بديع ذلك، مد يده إلى المسجلة ليوقفها، قلت له دعه دعه أرجوك، وتواصل الغناء:

قضاها لغيري وابتلاني بحبها فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا

هذي شهور الصيف عنا قد انقضت فما للنوى ترمي بليلى المراميا!

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا

ورحت في صمت، تركت قلبي يبكي مع اللحن القديم حتى نهايته، وسمعت بديع يقول: وصلنا، نزلت من السيارة وأنا أفكر ، الآن لدي خبر سار جدا لعواطف! تولت سامية زوجة بديع إيصاله إليها، مع رقم تلفونك. التقيتما لوحدكما، لا أستطيع تصور لقاء حبيبين بعد فراق دام حوالي ثلاثين عاما ولا أريد أن أجازف في توقع تفاصيله، حتى لو كنت أنا من يلتقي حبيبته بعد هذا الزمن الطويل، لما استطعت الحديث عنه، ولو بكلمة واحدة! دعاكما بديع إلى بيته على الغداء حيث اجتمعنا معا، كانت جلسة سعيدة هانئة، ظلال الحزن الطويل لم تنسحب عن وجهيكما رغم فرحكما العميق،سلمتني قرص روايتك التي حدثتني عنها. تركتكما لحالكما، أيقنت أن دوري قد انتهى ولا ينبغي أن أتطفل عليكما، رغم إنني غيرت موعد عودتي! بعد أيام قليلة خابرتني وطلبت لقائي، خشيت أن يكون قد وقع شيء بينك وعواطف! لكنني فكرت ربما إنك قلق تريد أن تعرف رأيي بروايتك، كنت قد قرأتها، استمتعت بها حقا، وسجلت ملاحظاتي عنها، أعرف أنك لا تتحسس من النقد، بل تحبذه وتعده حاجة وضرورة، وتشاركني الرأي أن أحد مصاعب ومشكلات الإبداع في بلادنا هو عدم وجود نقاد جادين، مثابرين يرافقونه!التقينا كما تذكر في مقهى بالمنصور، على أقداح الشاي المر؛ فكلانا نعاني من السكر: سررت إذ وجدتك فرحا طليقا، على وجهك رواء الشباب كأنك عدت ثلاثين عاما نحو الصبا والتصابي! تغيرت ملابسك، وغدت زاهية مبهرجة بعد أن كانت غامقة رصينة،وجهك حليق يلمع، وكأنما اختفت تجاعيده، وليس كما كان نابتا أبيض دائما! ذلك أفرحني وأضحكني. أعلمتني إنكما ستتزوجان، وتريديني أن احضر شاهدا على عقد الزواج،وحدثتني عن مكان وموعد حفل الزواج البسيط وتحاشينا أن نسميه عرسا أو فرحا والأحزان حولنا في كل مكان! شكرتني وقلت لي " لك الفضل في سعادتنا" قلت لك: "الفضل أولا وأخير للقلب الإنساني إذا امتلأ بالوفاء والصدق. أنت وعواطف خلقتما لتعيشا معا، هذا كل شيء" حدثتني أنك قلت لعواطف لا شرط لديك سوى أن تعيشا من راتبك التقاعدي السويدي، وأن تبقى ترعى شقيقتك كذي قبل،فوافقت. لكنها اشترطت أن لا تتركا بيتها الكبير، ففيه حديقة زرعتها بما تحب من زهور وشجر، وكلب وقطة ودواجن فاحترمت رغبتها! قلت لك لقد أجلت موعد سفري لأسمع هذا النبأ المفرح. قلت لي رتبناه ليكون قبل سفرك! أعلمتك إنني قرأت الرواية ,واستمتعت بها، أنت برأيي لم تخطئ حين شغلت نفسك بذكريات أربعينيات بغداد ، هربت من بغداد اليوم، إلى بغداد التي كانت! لا هرب لنا من العراق، إلا إلى العراق، لم تعد تريد الهرب إلى بلد آخر، تحدثت أنت بصوت ما زال حزينا رغم الحدث السعيد الجديد:

ـ بعد أن ذقت المنفى، لا أريد أن أموت فيه، كثيرون يعتقدون أن السويد جنة، الناس يأخذون فيه النقود من جدار على الطريق،هي على كل حال منفى، والمنفى أقسى من الموت. كنت أنت تعمل في شركة تقطع الأخشاب من الغابات لمعمل ينتج التوابيت، كنت تقول لي لا أدري أية شجرة أقطعها سيصنع منها تابوتي!أنسيت؟ كم تابوتا صنعت لنفسك من هذه الأخشاب طيلة هذه السنين؟ قلت لك، هنا كدت تموت في انفجار المتنبي، وإذا نجوت مرة قد لا تنجو في الأخرى، وكثيرون هنا خاصة بين المثقفين يكرهوننا، يسموننا أهل الخارج. كان هنا ثمة خنوع وتدليس كثير، نحن تفهمنا ظروفهم، ولم نشأ محاسبتهم، وهم لم يفهموا ظروفنا، ومصرون على محاسبتنا،هم يريدون تغطية ذنوبهم بذنوبنا، ربما ذنوبنا جميعا أوهام، ربما ذنوبهم أكثر، ربما ذنوبنا أكثر،لندع الحساب،و ننظر للمستقبل!

ـــ أنا أزمعت العزلة، ليكرهني كل هؤلاء، أنا لن أكره أحدا! هنا حياتي كلها ستكون لحبيبتي ولشقيقتي، فكرنا أنا وعواطف أن نتبنى طفلا أو طفلين من يتامى الحروب والإرهاب!

صمت برهة اتخذ وجهك، هيئة جادة بل صارمة:

ـ قرأت عواطف روايتي، وأحبتها، وتمنت أن أواصل كتابة الرواية لكنني أبلغتها إنني سأتوقف عن الكتابة. هذا آخر عمل لي!

سألتك مندهشا لماذا؟ ورحت تتحدث بصوت فيه رعشة غريبة لم آلفها فيك من قبل:

ـ أتعرف ما الذي جعلني أفقد عواطف في مطلع شبابي؟ إنها هموم المعرفة والبحث والتأمل والكتابة، أريد أن أنصرف الآن لعواطف وحدها بعد الآن، لا قراءة ولا كتابة ولا نشر،لا شيء سوى التأمل والموسيقى والتطلع إلى وجه حبيبتي، وتقبيل يديها ووجهها وقدميها أيضا!

أخذت أتطلع إليك، بصراحة داخلني شعور أن ثمة لوثة قد داخلتك، لكنك مضيت تقول:

ـ لقد فقدت هذه المرأة الرائعة بسبب ثرثرتي بالأفكار والسياسة والآثار وغيرها من الخزعبلات، والآن لا أريد أن أفقدها مرة أخرى! هنا بعد عودتي لوطن فارقته ثمانية وعشرين عاما، حجرت نفسي أشهرا، أكتب رواية عن أجاثا كريستي وماكس مالوان وثيسجر، وبنت المعيدي ، بينما عواطف تبحث عني، ولا أعلم ، وقد غمرني اليأس من لقائها تماما!

صفنت لحظة، جف ريقك فحملت قنينة الماء ورحت تشرب من فمها،رغم وجود قدح أمامك:

ـ كنت أعاني واجمع تجاربي وخبراتي منذ شبابي، فضيعت حبيبتي وحياتي كلها،ما هذا؟ أليس الكتابة ضرب من الجنون، نعاني ونشقى ونفني أعمارنا ونفسد حياة عوائلنا وأحبتنا، ثم يأتي من يحرض علينا لقتلنا، أو لسجننا أو إزاحتنا للمنافي، وفي أفضل الأحوال يضحك علينا ويسفه ما نكتب، ويتخذه دليلا على جنوننا أو فشلنا؟

ـ ولكن هناك من يقدر الإبداع والمبدعين، ويصغي لكلمتهم، لا تيأس! ثم ستكون الحياة قاسية عليك دون كتابة؛ فأنا مذ عرفتك؛ لا شيء في حياتك سوى الكتب والقلم والأوراق!

ـ الآن قررت أن أكف عن كل هذا، قلت لعواطف؛ لقد كنت على حق قبل أكثر من ثلاثين عاما حين هربت مني وأنا أدور بين التماثيل ومحتويات القبور،الآن قررت أن لا اغفل عنك لحظة واحدة، أريد أن أعوضك عن كل ما فاتنا في زمن خرب نفسه، وخربنا! قالت لي، أنا لن أغضب منك بعد الآن لو قضيت الوقت كله تقف أمام التماثيل ورفوف الكتب!عودتها لي شيء عظيم لا تعادله كل شهرة أو مجد، ولا حتى الخلود نفسه! لم يتبق في العمر سوى القليل، أريد أن أكرسه لمشاعري! بقيت متحيرا انظر في وجهك، سألتني فجأة كأنك لم تتحدث قبل هنيهة عن هجر الكتابة كأنك لتوك انتهيت من كتابة الرواية ، وفي شك من جدواها:

ـ ألا ترى أن هذه الرواية بعيدة عن همومنا الراهنة؟ لا ، لا، قلت لك على الفور، على العكس إنها في صميم الهم التاريخي الذي نعيشه،فمن يحرك الأحداث في عالمنا اليوم هم العدوانيون لا المسالمون، الهدامون لا البناءون، القتلة لا الضحايا، وقد لجأت إلى أجاثا كأفضل قاضية في عصرنا، حيث غاب القضاة، أرجو أن لا تتردد في نشرها! وحبذا لو جعلت عنوانها "ظلال قبعة أجاثا كريستي!" قلت منتفضا: لا ، لا، أنغام القيثارة هي لحن ماضينا الحزين، هي النشيد الجنائزي الذي نشيع عليه أحلامنا القديمة إلى مثواها الأخير! ورحت اضحك قائلا:

ـ صرت أكثر تشاؤما، بينما بعد لقائك بعواطف ينبغي أن تكون متفائلا، أجبتني بهدوء، أنا فرح لما هو شخصي، حزين لما هو عام، لا ينبغي تجاهل الحقيقة مهما كانت قاسية! ناولتك ورقة بملاحظاتي،قائلا، أنا كما تعرف عامل كهرباء اشتغلت في الصحافة مساء، وكنت أحرر صفحة الوفيات، وأحيانا أكتب قصائد قلما انشرها، من الغريب إنني في السويد عملت في إنتاج خشب التوابيت، ثمة حزن عميق يشدني للكتابة! قلت لي انك تقدر ذائقتي وخبرتي،وإنك، تعتز بملاحظاتي وستأخذ بما ستقتنع به منها!لاحظت إنك أقللت من التدخين، طيلة جلستنا لم تدخن سوى سيجارتين. كنت أرقبك. قلت لك وجود عواطف إلى جانبك سيكون محفزا لتستعيد قدراتك التي جمدتها ثلوج السويد، وتقدم ما كنا ننتظره منك، رواية ومقالات، فأنت لديك الكثير مما يجب عليك قوله، لكنك لذت بالصمت، ونظراتك تعبر نافذة المقهى الكبير باتجاه فضاء حديقة عامة كبيرة في جوارنا، حدثتك أن روايتك ازدحمت بقصص الحب الكثيرة، حب أجاثا، وماكس، حب ثيسجر لبنت المعيدي،حب الكثيرين لها مع وحشية الضابط الإنجليزي، حب ذلك الطباخ للراهبة في حلب وانتحاره، ربما في كل هذه كنت تحاول لم حطام كأس الماضي الذي كان مترعا بالحب وهوت به يد غليظة! قلت: وأنا أكتب الرواية كنت اشعر إنني ألاعب الموت وأشغله عني، فقد كان يخيفني كثيرا، كيف أموت دون أن أراها؟ بعد أن عادت لي عواطف، اشك إنني أستطيع أن أكتب شيئا جديدا، فالموت لم يعد يخيفني، لماذا أشغله عني؟ لأترك قاربي يمضي في هذا النهر المكون من الحب والموت معا مع الكثير من الورد والشوك ينمو على جانبيه! قلت لك ونحن نهم بالنهوض لمغادرة المقهى:

ــــ كنت في الرواية تلعب مع الحب، لا مع الموت، كان الموت غافلا عنك يلعب مع نفسه، كل أبداع هو مراوغة للموت، لذلك فإن عواطف بذكائها وفطنتها لن تدعك تتوقف عن الكتابة لأنها تريدك أن تعيش طويلا، وهي أيضا ترفض أن تكون أيقونة للعبادة، لا تنس هي لديها كتب وصديقات وأهل وكلب وقطة ودواجن وأزهار وشجر في الحديقة، وربما طفل أو طفلان!

رحت تبتسم فرحا كطفل وأنت تردد، كيف عرفت؟ هي فعلا كذلك. أتذكر ذلك؟