بلغة عارية لا مجاز فيها يسرد الكاتب العراقي محنة سجين قضى عشر سنوات في سجن "تدمر" وهو بريء فرأها الأهوال خلالها، هنا في النص يروي لنا طرفاً منها، وهو نص من سلسلة نصوص تفضح بشاعة تلك الأمكنة والأنظمة والسجانين ووسائل الإذلال التي تبدو هنا لا مثيل لها حتى في معسكرات النازية. الكاتب يسرد سيرته وما تعرض له فيكون وقع الجملة وتركيبها جارحاً مرعباً.

السجين

علوان حسين

 

كنت ُ قد ربحت ُ مبلغ مليون ومئتي ألف دولار أمريكي في الكازينو، قبلها كان رأسي أشبه بخلية نحل، يطن بالأفكار والأحلام والمشاريع. لا أدري كيف تبخرت كلها، وكيف أصبحت كالمنوم مغناطيسيا لاحول ولا قوة لي. نسيت العالم كله، حتى قطتي اللطيفة لم أعد أعرف عنها شيئا ً. يبدو بأنها هجرتني بعد أن تنكرت لها حين أصبت الثراء.

ما أتذكره بعد أن أفقت من حلمي الطويل اللذيذ بأني كنت أهبط قاعة الكازينو بأضوائها وصخبها محمولا ً كالطفل المدلل على سواعد فتيات مرحات جمالهن يخلب اللب. أجلس خلف طاولة القمار والفتيات من حولي لا يتركنني ولا حتى للحظة واحدة. كنت قد أشعرت مدير الكازينو بأنني رجل مصاب بنوع من الكآبة الانفعالية ومحروم لفترة طويلة من عاطفة النساء وصحبتهن اللذيذة، وبأني سوف أهجر فندقه والكازينو لو لم أكن محاطا ً بحبهن وحنانهن. كان الرجل جنتلمانا ً حقيقيا ً اختار لي ألطف وأرق وأجمل ما لديه من فتيات غمرنني بعطفهن وحبهن ومسراتهن الشهية. صحيح أنني كنت أدفع لهن بسخاء كما لو كنت ملكا ً أو أميرا ً شرقيا ً، ولكن ما قيمة كل كنوز الدنيا أمام ابتسامة امرأة تتفتح على ثغرها كزهرة يانعة في ساعات الصبح الأولى ؟ كنت ألعب وأحتسي الشامبانيا وأوزع الابتسامات على الجميع. لا أنهض من كرسيي إلا حين أشعر بالجوع أو النعاس وحاجتي لمداعبة الفتيات قبل أن أفيق من حلمي. كان يراودني شعور بأنني أحلم، وأن لهذا الحلم نهاية ما قد لا تكون سارة كما أشتهي.

بإيماءة مني أعود لجناحي الملكي محمولا ً بين الأيدي الناعمة ومغمورا ً

بفاكهة الجنة. في سريري الباذخ أنام في الوسط، على يميني حورية حسناء وعلى يساري أخرى أجمل منها. كل ما أفعله هو أنني أسبح في بحيرة الأنوثة وهن يفعلن بي ما أشاء. أسلمت لهن زمام أموري. جسمي المتخشب صار بين أناملهن الملائكية جسدا ً من ماء. مساماتي التي لم ينفذ إليها حتى النسيم العليل، تفتحت كشبابيك امرأة عاشقة لها موعد مع القمر في ليالي الوحشة. قلبي الواهن تدفقت في شرايينه دماء أظنها شقراء وبيضاء وقرمزية. الكآبة التي كانت تربض فوق صدري تبخرت، حل محلها سرور ماجد، عفوا ً قصدي السرور والبهجة. في أوردتي وشراييني ليس دما ً وماء ً كما يقول العلم، إنما موسيقى تموج في كل خلية من خلايا جسدي. المهم كنت أصحو من حلم فأعود بعدها لحلم أكثر فتنة وإثارة. لست شاطرا في العد والحسابات وكيفية تصريف شؤون المال، لكني أجزم بأني عشت حقيقة ً لا مجازا ً ألف حلم ٍ وحلم. بعدها لابد أن أفيق من أحلامي الجميلة.

بدلا ً من الأيادي الناعمة، حملتني أيد خشنة قوية وقاسية ورمتني قرب حاوية القمامة وأنا نصف مخمور وصداع فظيع ينغل في رأسي. الأوغاد

استكثروا علي ّ حبتي أسبرين لعلاج هذا الصداع اللعين الذي عبث بمزاجي وخربه. فتشت جيوبي فلم أجد سنتا ً واحدا ً فيها. جيوب خاوية ورأس مصاب بصداع ومعدة تبدو أنها تطلب طعاما ً. لا أحلام ولا شبابيك ورد ولا حتى قمر في سماء لاس فيكاس الحجرية. قطتي المسكينة لا أعلم شيئا ً عن مصيرها. تفقدت ثيابي كانت والحق يقال لائقة بمتشرد أنيق وجنتلمان مثلي. لم يعد بوسعي سوى أن أشحذ بعض الدولارات من المارة لأشتري حبتي أسبرين وسندويجة هامبركر. من حسن حظي كان الموسم صيفا ً ونيفادا تكون لطيفة رحيمة الطقس بالمتشردين وقت الليل. الآن وقد تحررت من تركة المال وهموم الجائزة وكوابيسها، عاد لي عقلي ورأسي الذي سرعان ما غزته أسراب من الأفكار والأوهام والمشاريع التي تحتاج إلى مبالغ خيالية لا أملك منها الآن شروى نقير (بالمناسبة مامعنى شروى نقير هذي؟). لا أملك سوى خيالي الخصب وعلاقات واهية وربما هي من طرف واحد، طرفي أنا بالطبع مع شاعرة شيخة من عائلة حاكمة في الخليج، دعتني مرة ً للغداء في قصرها المنيف. كانت تشعر بعاطفتي نحوها. صحيح هي قد تجاوزت الخمسين من عمرها ولم تتزوج، لكنها قطعا ً لن ترضى بصعلوك مثلي ولو كانت لدي ّ عبقرية (المتنبي) أو (بدر شاكر السياب). لدي ّ علاقة حميمة مع السيدة (فيروز) صاحبة الصوت الملائكي، حيث أنا من المدمنين على سماع أغانيها وصوتها الحنون يهدهدني كترنيمة الأم حتى أغفو في أرجوحة صوتها مستسلما ً لعذوبة الأحلام. لو ذهبت إليها في بيتها البيروتي ربما تمنحني مأوى يليق بشاعر متشرد وكل طموحي غرفة في بيتها القريب من البحر تقدم لي وجبتي طعام وقليل من النبيذ وأريكة أتمدد عليها ولا تنسى أن تجلب لي قطة لطيفة تشاركني الأيام الأخيرة من حياتي السعيدة. أذا طردتني فيروز من بيتها أطرق باب الشاعر (طلال حيدر) وهو صديق قديم لي.

صحيح بأننا لم نزر بعضنا البعض، هذا ليس ذنبي بالطبع. هو معتكف

في بيته لا يزور ولا يزار وأنا أحبه من الإعماق. وجودي في بيته سوف لن يكلفه الكثير. دجاجة مشوية تكفيني لأسبوع، وزجاجة خمر أرشفها على شكل قطرات، كما تـُرشف ُ شفاه لذيذة. لدي ّ في بيروت (ديزي الأمير)، و(شوقي أبي شقرا)، الشاعر العذب الذي له الفضل الكبير في نشر قصائدي في جريدة النهار في ثمانينات القرن الماضي. هناك (علوية صبح)، كدنا ذات يوم نخطب بعضنا ونسافر لباريس معا ً. وقتها لم تكن كما هي الآن نجمة لامعة في سماء الأدب. لا أنسى بالطبع محبوبتي الساحرة هيفاء وهبي، سوف تغمرني بالحب والمجد. سأكون رفيقها في حلها وترحالها حيث لا تحلو القصائد الجميلة إلا (لهيفاء وهبي) جميلة الجميلات و(مارلين مونرو) الشرق، سأكون ستشارها الفني والبوصلة التي توصلها للعالمية. لا شك بأن جمالها المأخوذ من ألف ليلة وليلة سوف يدوخ عقول أهل الغرب إضافة لموهبتها الفنية، لمسات قليلة وتكون المفاجأة التي سوف تدهش العالم. في الشرق هناك دوما ً مغارة علي بابا التي تحوي الدرر.

في حاوية الزبالة لم أجد شيئا ً يؤكل. ذهبت للكازينو فلمحت صورتي على الجدار مع مجموعة المحظوظين الذين فازوا بملايين الدولارات أمثالي.

في الكازينو رحت أعب من العصائر وهي مجانية تعوض عن الجوع والعطش قليلا ً. كانت كل أمنيتي الحصول على قطعة من الخبز أغمسها

مع عصير البرتقال كوجبة معتبرة لرجل مفلس. فكرت بالسرقة لكن يدي لم تكن خفيفة وأصابعي تعوزها المرونة والسلاسة المطلوبة. من حسن حظي أني أكره التدخين ولم أدمن المخدرات وليس لي سجلا ً إجراميا ً، وأن ملابسي ومشيتي المتزنة توحي بالأرستقراطية والثراء الكاذب. في يدي ساعة ماركة روليكس مزيفة صناعة صينية تساوي عشرين دولارا، كنت إدخرتها لليوم الأسود. كانت كل الخيارات المتاحة لي تدفعني للجريمة. الأحلام التي في رأسي تـُشبه ُ رغوة الصابون التي سرعان ما يزيلها وحفنة من الماء. جلست أفكر كالخارج من السجن، كيف أنني ربحت جائزة بقيمة مليون ونصف دولار أمريكي، وكيف استردوها مني وأنا كالنائم في غرفة العمليات وفي دمي يسري بنج منوم مفعوله يخدر جملا ً، ضحكت من نفسي. رجل يربح مليون ونصفا ثم يجد نفسه في الشارع لا يملك ثمن وجبة غداء رخيصة. اللعنة عليك (ياصموئيل شمعون)، أليس لديك نوعا ً من حل سحري؟ حلمت بجرائم كثيرة سوف أرتكبها ولو في أحلامي. لم تكن لدي ّ كمية من العنف والقسوة تؤهلني لأكون زعيم عصابة او عضوا ً تافها ً مع مجموعة من اللصوص وتجار المخدرات.

اللعنة على السجون. التجربة الوحيدة التي عشتها في السجن كانت بسبب السياسة. كل السجناء الذين التقيت بهم يتحدثون عن المبادئ والشرف والأخلاق. لو كنت في سجن مدني مع مجرمين عاديين لتعلمت منهم بعض فنون الجرائم وأسرارها. المهم النية موجودة ولكن تعوزني الموهبة، هذه الآفة سوف أكتسبها بمرور الأيام. حين أكون وحيدا ً ساهما ً أبحلق بالمارة المتأنقين، يروق للبعض الجلوس قربي ومبادلتي حديثا ً وديا ً، لكنني سرعان ما أسبر أغوارهم وأكتشف بأنهم من المثليين. أنا من النوع الذي يقرف من الرجال ويكره حتى صداقاتهم ودمهم الثقيل. أنفر منهم وأنسحب إلى أغوار نفسي باحثا ً عن بصيص أمل قد يشرق في عتمة أيامي في أيما لحظة. تعرفت على الإنترنت على امرأة لطيفة تعمل في المحاماة تحب الشعر والشعراء، قادها سوء حظها لتتعرف علي ّ. هي تعيش في اللاذقية ولها مكتب أنيق ومعروفة في المحاكم والقضاء. المهم إنها دعتني للعيش في اللاذقية قرب البحر وعلى حسابها الخاص. أخبرتها بأن لديّ مشكلة قديمة جديدة مع السلطات هناك. سألتني مع من بالضبط ؟ قلت لها مع الرئيس طبعا ً. إذا رغب بحلها وديا ً فلا مانع عندي.

- مع الرئيس مرة واحدة ؟

- نعم يا رائدة مشكلتي مع الرئيس.

- وكيف تسوى هذه النوع من المشاكل؟

- بسيطة، نتفاوض رئيس مع رئيس..

- أرجوك يا صديقي لا تمزح معي في الأمور التي تتطلب الجد..

- ومن قال لك ِ بأني أمزح ؟ هو رئيس دولة وأنا حاليا ً أشغل منصب رئيس البائسين واليائسين والحيارى.

- وماذا تـُريد من الرئيس تحديدا؟

- يعيد فتح ملف التحقيق الأمني الخاص بي ويرى هل أستحق أن أرمى بالسجن كما تـُرمى حشرة حقيرة عشرة أعوام ونصفا؟

- وماذا ينفع هذا الكلام الآن ؟ هل تعلم كم من البشر رموا كالحشرات الحقيرة في السجون دون أن يعلم الكثير منهم عن أسباب اعتقالهم؟

ثم لا تنسى بأن الرجل غير مسؤول عن الحقبة الماضية.

- إذا كان غير مسؤولا ً عنها فعلى الأقل يفتح تحقيقا ً مع بعض ضباط المخابرات في الحقبة السابقة ليعرف من هو المجرم ومن هو البريء.

- تلك حقبة قد مضت بكل ما فيها من خير وشر، علينا أن نبدأ من جديد.. أنت بالذات عليك أن تنسى آلام الماضي ومآسيه لتبدأ حياة ً جديدة ً مثمرة.

- فكرة واحدة وحيدة في رأسي، هي أن أموت وبطريقة دراماتيكية..

- نحن في عصر المهزلة وطريقتك في الموت مهما كانت تراجيدية سوف لن تزعج الرئيس ولا دولته..

- سأقوم بحرق نفسي أمام مبنى السفارة السورية في واشنطن.

- أنت تفكر كالأطفال.. وجودك حيا ً ربما يكون أكثر جدوى لقضيتك من الانتحار..

- لكن ماذا أفعل بنفسي؟

- أتركها وشأنها وعش حياتك كالآخرين.

- وهل لدى الآخرين ما لدي ّ من ألم ورعب وكوابيس؟

- لو كل متألم وحزين فكر بالانتحار لانقرضت البشرية.

- طالما لا يوجد الانسجام في الحياة، والبشرية تأكل بعضها البعض.. تستحق هذه البشرية الانقراض.

- لكن الناس مسرورة بحياتها، لا أحد يفكر بمثل تفكيرك.

- طبعا ً الذين يملكون المال والسلطة وحق استعباد الآخرين، هؤلاء مسرورون بحياتهم.. ماذا عن الذين يأكلون من القمامة وليس لديهم سقفا ً يأوون إليه؟

- أين ذهبت بالأموال التي كانت معك؟

- سرقها مني السراق.

- لماذا سمحت لهم بسرقتها منك؟

- لأنني سرقتها منهم، ولست أكثر ذكاء ً من اللصوص.

لماذا لم توظفها في مشروع أو شركة؟

- وهل تعتقدين بأنهم سوف يسمحون لي بذلك ؟ على أية حال ما أعطوه في اليد اليمين أخذوه في اليد الشمال.. لكنهم على الأقل نصبوني ملكا ً أو سلطانا ً وخليفة للحالمين. جلبوا لي حوريات السماء وعيشوني في أفخم القصور، كنت ملكا ً بحق ولست نادما ً على الأموال التي أغدقتها على أجمل نساء الأرض.. أتعلمين يا رائدة هذه الأيام القليلة التي عشتها كملك أو إمبراطور كانت هي حياتي بالفعل، قبلها كان البؤس، وبعدها يأتي البؤس لا محال فعلام الندم إذن ؟

- هاي طلعت أنت مطلوب للدولة السورية.

- نعم مطلوب لها كثيرا ً ولا أدري كيف أسدد ما علي ّ لها من ديون ؟

- بسيطة يا أخي تأتي لتعتذر لها، كما فعل (سعد الحريري) معتذرا عن موت أبيه، وكما يعتذر السيد (وليد جنبلاط) بشكل مُذل للذين اغتالوا والده .. هذه هي سنة الحياة.

- عندما يجري نهر العاصي مثل غيره من الأنهار لسوف يستبدلون أسمه ولن يعود عاصيا ً.. هذا النهر متى يعتذر عن الدماء الغزيرة التي لونته بالأحمر الدموي؟

- أهل حماه رمموا جراحاتهم وعادوا يعيشون بوداعة وطيبة أهل القرى الطيبين.

- طبعا عادوا وديعين يمشون جنب الحيط بعد أن غيبت صحراء تدمر خيرة شبابهم الذين قضوا معلقين على حبال المشانق في الباحة السادسة في معتقل تدمر السياحي الجميل.

- رائدة، لو سألتك ِ سؤالا ً تافها ً فهل تزعلين؟

- في حالتك النفسية هذه لن أزعل.. هات ما عندك.

- في معتقل تدمر السياحي، لماذا كان معظم أفراد الشرطة العسكرية وطبعا ً مديرها وآمر الفوج والرقباء من طائفة واحدة.. صحيح بأن هناك الشوايا وقليل من الأكراد لكن الأغلبية هي من طائفة واحدة.. هل لديك تفسير لذلك

- والله يا صديقي صدق أو لا تصدق، أنا ضد الطائفية ولا أعلم السبب ؟

- طيب لماذا كانوا يعاملوننا بوحشية وضراوة وقسوة تجاوزت حدود المألوف ؟

- لأنهم ليسوا من نوع البشر.. كانوا ذئابا ً بشرية والقسوة من طبيعة الذئاب..

- والله لقد ظلمت الذئاب وتجاوزت على طبيعتها.. الذئاب لا تقسوا لكنها حين تجوع تطالب بحقها في الطعام.. هؤلاء كانوا يسرقون طعامنا ويذلون كرامتنا ويدوسون على القيم البشرية وغير البشرية.. هل تصدقين بأنهم كانوا يمزقون المصحف أمام أعيننا ويشتمون الدين والرب بسبب أن الأغلبية من السجناء هناك محكومين بتهم لها علاقة بالدين ؟

- الرئيس كان يصلي في المسجد الأموي..

- بينما كان الرئيس يتأبط ذراع (الشيخ كفتارو) ويصلي معه في المسجد الأموي، كانت شرطته العسكرية وبأوامر من (الشيخ علي دوبا) شخصيا تقوم بجلد المصحف بالكرباج ثم تقوم بجلدنا على فروة الرأس حتى تتورم منا العيون، وعلى الظهر حتى يتمزق لحمنا ويتناثر منا الدم.. لا يستحون وهم يجلدون الله أمام أبصارنا، وإذ كان الله نفسه يُجلد ُ أمام مخلوقاته الضعيفة فماذا نفعل نحن الذين أتينا من جحور الجرذان؟

- ليس لديكم سوى الحب.. ألم يقل المسيح أحبوا أعدائكم؟

- ليتهم كانوا أعداء ً.. أنهم أخوتنا وأولادنا وبني جلدتنا من كانوا يسومننا سوء العذاب.

- على الأقل كانوا يطعمونكم.. في المعسكرات النازية كانت الناس تموت جوعا ً..

- صدقت.. كانوا على الأقل يطعموننا لغرض التسمين.

- وماذا كانوا يقدمون لكم من أصناف الطعام؟

- كان الطعام يأتي ساخنا ً من مطعم ماكسيم في باريس.

- لابد أنك تمزح؟

- ولماذا أمزح في أمور الجد؟

- لدينا مطاعم كثيرة في دمشق وحلب وحمص فلماذا مطعم ماكسيم بالذات؟

- لأننا ضيوف على الحكومة السورية ومن واجبها إكرام الضيف حسب التقاليد والأصالة العربية.

- أنت كعراقي هل أعجبك المطبخ السوري؟

- ليس المطبخ السوري وحده ما أعجبني، هناك نوع من الحلويات الشهيرة لديكم يسمونها (الكرابيج) لا أنسى ما حييت طعمها ومذاقها الشهي.

- ها عدنا للمزح.. ماذا أعجبك حقا ً من الطعام السوري؟

- أكون واضحا ً وصريحا ً معك عزيزتي اللاذقانية.. حين نفيق من الكوابيس أول شيء نفعله بعد المشاجرات الطويلة من أجل قضاء الحاجة، هي إخراج جاط الزبالة، وفيه وعذرا ً لقلة الذوق الأظافر المقصوصة على الحيطان والشعر والبعض من المترفين الذين لا يحبذون أكل قشور البيض يرمونها مع الزبالة.. قشور البرتقال تؤكل وممنوع رميها كذلك الموز فأننا لا نراه حتى في أحلامنا، هناك الغبار والذباب الميت وأشياء لم أعد أتذكرها. بعد ساعة أو أكثر تـُفتح ُ الأبواب فتقوم السخرة بإدخال جاطات الطعام تحت ضرب الكرابيج والشتائم وما إلى ذلك من الأمور المألوفة للمساجين.

نأتي هنا للطعام وعذرا ً عن قلة الذوق من ناحيتي، نجد بقعة ملونة بالأحمر أو الأصفر تتوسط بقع أخرى بالأسود وألوان ثانوية موجودة حسب مقتضيات اللوحة. اللوحة سريالية بكل معنى الكلمة. ولو وصفتها لسلفادور دالي لسقط على قفاه من الضحك ولأتهم السلطات السورية بسرقة الأفكار من بنات خياله. بعد التمحيص والتدقيق والتفتيش وضرب الودع نكتشف حفنة صغيرة لا تتجاوز بضع ملاعق من المربى موضوعة بعناية مع الأظافر المقصوصة والشعر وغبار الطلع وكل ما أخرجناه في جاط الزبالة عاد لنا سالما ً غانما ً دونما نقص، بالعكس فقد زُيد معه الفطور الشهي.. أما عن الشاي، يقوم المقام السامي التدمري وممثله الشرطي العظيم الذي له كل صلاحيات نابليون بونابارت غير منقوصة وعيونك رائدة الحلوة، يقوم هذا الشرطي أبن البلد وأمام أعيننا بالتبول في جاط الشاي قبل أن نقوم بإدخاله للمهجع. وأبن شرموطة وأبن كلب من يقول لك ِ بأن نفوسنا تعاف شرب الشاي أو الامتناع عن أكل نصف ملعقة المربى الممزوجة مع الأظافر المقصوصة والشعر والغبار والذباب الميت لأننا في تلك الحالة سوف نموت من الجوع. هذه الحالة مستمرة ولا يد لنا في تغييرها فماذا نفعل؟

- ولماذا لا تشكوه للمسؤولين؟

- نشكو من ولمن؟

تشكو عناصر الشرطة لآمر العناصر المسؤول؟

- تعنين نشكو عنصر الشرطة (لمحمد نعمة) المساعد الأول في معتقل تدمر؟

- يا لخيالك البديع.. (محمد نعمة) هو الشخص المسؤول عن كل صغيرة وكبيرة في المعتقل.. (محمد نعمة) وليرحم الله (جمال الدين السفاح ومسرور السياف وعبد الكريم الجندي والشيشكلي وكل الجنود البواسل) كان هو ومن بعده الرقيب الأشقر وآخر يسمونه السجناء (أبو جورج) وعنصر تافه وجلاد حقير يسمي نفسه (الضباب) وأبو كف (هذا الشرطي لا يضرب السجين سوى كفا ً واحدا ً وبهذا الكف الوحيد يصاب السجين إما بجلطة دماغية أو بالصرع والشلل والجنون والعطب في الدماغ.

كم من الأفلام التي تـُدين النازية رأيت (وأنا بالمناسبة من عشاق السينما) لم أر أو أسمع عن سجانين وجلادين بمثل وحشية وقسوة وجبروت عناصر الشرطة العسكرية في تدمر ومن مديرها (غازي الجهني) وآمر انضباطها (محمد نعمة) الذين كانوا يتلقون التعليمات وطرق وحتى المناسبات المعينة للمبالغة في التعذيب كمثال على ذلك (في كل الأعياد الدينية تزداد وتتنوع وجبات التعذيب، كذلك اليوم المصادف لموت الخميني) ولا أدري ما علاقة سجناء تدمر بموت وحياة الخميني ؟ كان التعذيب مبرمجا ً ومدروسا ً بدقة وعناية ومن قبل أعلى سلطة في الدولة.

- أليس لديكم أطباء ربما يخففون عنكم بحكم عملهم الإنساني؟

- نعم لدينا أطباء وعملهم لا نشك بإنسانيته، وإليك الدليل.. كان لدينا طبيب مجند في المعتقل، صدف وجوده هناك مع مجموعة من أبناء دورته طلبة الطب. وكان من سوء ونكد حظهم أن تعرف عليهم هذا الطبيب المجند (يُقال ُ بأنه كان فاشلا ً في دراسته وكان موضع سُخرية الطلاب) المهم وشى هذا الطبيب بهم ولم يكتف بذلك فقد تولى هو شخصيا ً أمر جلدهم وتعذيبهم بيده الكريمة حتى فارقوا الحياة.

- لا هذا كثير.. لاشك بأنك تبالغ.

- أسمعي يا رائدة اللاذقانية وأبنة الجبل الأشم هذه الحكاية الصغيرة التي جرت معي شخصيا ً.. مرة ً كنت ُ واقفا ً أنتظر دوري للدخول إلى المرحاض لقضاء حاجتي، فأبصرني شرطي من الذين يحبون وطنهم ولكوني عدوا ً للوطن في نظره فقد جن جنونه وكأنه رآني وأنا أخون وطني.. ماذا تتصوري قد طلب مني؟

- ربما أن تعود لمقعدك وانتظار الشخص الذي في الداخل ريثما يخرج..

- لا يا صديقتي.. ببساطة طلب مني إخراج السجين الذي في الداخل بحالته كيفما كانت، بعدها أمرني أن أجلب زبدية نسميها نحن (طاسة) وأملأها بالخراء حتى آخرها وأبدأ بالأكل أمام عينيه..

- أراهن بأنك لم تفعلها..

تذكرت ما فعله الشاعر (ناظم حكمت) حين رموه الجندرمة الأتراك في حفرة كبيرة مليئة بالأوحال، فقد رفع عقيرته بالغناء متحديا ً جلاديه الذين أرادوا إذلاله.. فكرت بالغناء أو حتى الرقص لكن هلع المكان وصراخ الشرطي وحالة الروع التي دهمتني بغتة كانت سببا ً في الموت الأبيض الذي أرتسم أمام بصري على شكل غيوم كثيفة كانت سببا ً في الإغماء.

صرخ الشرطي برئيس المهجع وطلب منه سكب جاط ماء فوقي والدنيا زمهرير.. المهم فقت من الدوخة وطلب الشرطي من رئيس المهجع أن يخرجني حين تفتح الأبواب (هذا معلم من اطلب منك المعلم بتطلعوا)

هذه لغة سحرية لا يفك طلاسمها سوى سجناء تدمر.. المهم جاء وقت فتح الأبواب وصرخ الشرطي.

- المعلم يطلع بره.

خرجت إلى الباحة وأنا أرتعد من الخوف وأمعائي لاتزال تتقلب. صرخ الشرطي بي.

- ولا ليش بتخالف الأوامر.. بنقلك تاكل خرا يعني شو تاكل؟

- أنا بصوت متضرع ومخنوق.. آكل خرا حضرة الرقيب.

- شو أنته ولا؟

- أنا صرصور حضرة الرقيب.

- صرصور يا أبن الشرموطة ؟ ولا الصرصور عندو شنب، وين شنبك أنت؟

- حضرة الرقيب ما أنا سوى دودة حقيرة بلا شنب.

- ولا الدودة الها نفع بالدنيا.. بس أنت شو نفعك بالدنيا؟

- حضرة الرقيب أنا كلب أبن كلب.

- أسمع الشرموط شو عم بيقول .. آل كلب آل.. ولك الكلب أهم منك ومن بيك ومن أجدادك كلهم..

- لا حضرة الرقيب الكلب مو بس هذا، وأحسن من الأمة يللي أنجبتني.

- ولا بتشتم الأمة ولا عرص.

- لا حضرة الرقيب، عم بشتم أمي أنا.

- ولا روح جيب الفأرة الميتة وهلق بدك تاكلها أمامي.

- حضرة الرقيب أنا قبل شوية أكلت خرا وأمعائي تعبانة.

- يعني بتخالف الأوامر يا أبن الشرموطة؟

- لا حضرة الرقيب.. بس....

- لا بس ولا بسبس.. تاكل الفأرة يعني تاكل الفأرة.

- أمرك حضرة الرقيب.

حملت الفأرة لاأدري من ذيلها، من بطنها، من رأسها، المهم كانت ميتة ودسست رأسها في فمي وحاولت بكل ما أملك من وضاعة وحقارة وتفاهة الدنيا في أن أجعلها تغوص أكثر حتى بلعومي فلم أستطع. وضع رأسي تحت البوط العسكري وراح يضغط عليه وعلى الفأرة اللعينة في أن تدخل في أحشائي لكنها أبت الدخول. لا أدري كم بالضبط طالت أو قُصرت هذه الفترة لكني أتذكر ومعي بالتأكيد سجناء مهجع ( رقم عشرة ) في الباحة الثانية يتذكرون حين حملوني إلى داخل المهجع على عازل وكل بقعة في جسدي المزرق من الضرب قد تورمت والفأرة الحقيرة لاتزال عالقة في فمي.

 

alwanhussein@yahoo.com