تنسج الكاتبة الجزائرية نصها ذاهبة به من مدخل يومي جدا إلى عالم التصوف والوجد، فتجعل بطلتها المخدرة برائحة غامضة تسحبها سحباً من بيتها لتقود سيارتها إلى شيخ جليل يعرض لها في الطريق ويركب معها ويأخذها إلى لحظة وجدٍ صوفي ليودعها حجر السر المسكر في عالمٍ صوفي ساحر.

لحظة في العمق تغرق

الخامسة عـلاوي

 

لم تكن لتخرج بالسيارة مبكرة يوم الجمعة، لكنها فعلتها هذا الصباح، وهي متوترة حانقة، تكاد تفقد السيطرة على رغبة دفينة تجتاحها، تبعثرها حينا، وتلملمها أخرى، وفجأة أخذت مفاتيح السيارة، أخرجتها من المستودع بسرعة فائقة، وراحت تذرع الأرض ذرعا باتجاه طريق محاذ للمدينة، وهي تردد:

لا، لم أعد أحتمل...،

النفس الغريب يحاصرني، والعطر الأغرب يشدني إليه خلسة،

يحملني عبر أثير نفحاته الى عالم التيه،

حيث اللاوجود، اللاتناهي، واللاحدود.

لحظة غارقة في رشة عطر، وأيُّ عطر؟

عطر تماهى في وجودي،

راح يبحث عن خلودي

روحه في الروح تسري،

لاهثا عن تيه لحظة

سابحا في عمق رشة

صارخا في عمق عمقي:

أيها التيه تجلى، وأقم كلّ الحدود

كسّر إن شئت وعودي،

لا تغاضبني فأشقى،

فلما بلغت: كن صبورا، كن وديعا،

لحظتي في عمقي تغرق...".

قاطعها شيخ ملائكي الطلعة، شديد بياض الثياب، اشتعل رأسه شيبا، لا يظهر عليه أثر السفر، دنا من الطريق معترضا السيارة، فتوقفت وهي تردّد:" كن صبورا، كن وديعا، لحظتي في عمقي تغرق"، ثم فتحت زجاج النافذة. اقترب هو بلطف كبير، وكأنّه منصاع لجملتها، قائلا: سلام بكل اللغات ألقيه على زهرة ربيعية حامت حولها أشواك.

فردت عليه دون أن تفكر: سلام على شيخ الدارجين السالكين. فتعجب لأمرها.

ثم أردفت، بم أخدم شيخي؟

رد بسرعة البرق: إلى أول محطة على مشارف المدينة ملاكي...، وفتح الباب راميا بجسده في المقعد الامامي وهو ينظر إليها محدقاً، وكأنه يعرفها منذ عصور مضت، فأوجست منه خيفة، ولما رآها مرتاعة خجلة وليهدئ من روعها قال: "سلام من أصحاب المدارج والسالكين أُقْرِؤه بنيتي"، فاهتزت لسلامه ولم تجد ما ترد به عليه.

فقال: ألا تردّ التحية زهرتنا الندية؟

وهنا لم تدر إلا وهي تقول:" سلام عليكم في الخالدين، سلام علينا في اللاحقين، وسلام على من سبقونا إلى نور اليقين ".

نظر إليها طويلا متعجبا، ثم طلب منها أن توجه وجهها إليه للحظات، فحوّلت نظرها إليه برهة ثمّ عادت ترْقُب طريقها، لكنّه ما فتئ أنّ مدّ يده إلى ذقنها محولا إياها إليه وهو يمعن النظر إلى عيونها، مما جعلها تدخل دوامة خوف كبيرة منه، وليسيطر على الوضع أدخل يده اليمنى بسرعة تحت ردائه وهو يتمتم: تالله أنت هي، أنت المقصودة بالرحلة ...، ثمّ أخرجها تحمل قطعة حجر بنية لا شكل لها ولا حجم كأنها مشطورة من قطعة أكبر.

بعدها سحب يدها اليمنى من على المقود وقربها إليه. نفث في الحجر ثلاثاً، فملأت المكان رائحة عطر غريب، أخذها شذاه إلى عطرها المفقود في زمن مضى، فلم تنبس ببنت شفة، بل ظلت سابحة مستمتعة في عمق ريحه.

أما الشيخ فقد أخذ يتنفس بعمق ثمّ بسط كفها ووضع الحجر فيه، ولما همّ بلمّ الأصابع على الحجر، تنبهت هي ...، فراحت تسأله ما هذه الرائحة؟ إني أعرفها، ثمّ ما هذا الحجر أيها الشيخ الجليل؟ هل لي أن أعرف لماذا وضعته في كفي؟ وما سرّه؟

فرد عليها في وثوق وكبرياء، هذا الحجر، حجرك النيزكي العجيب، كنت قد ورثته عن شيخي، وشيخي ورثه عن شيخه، والسلسلة بعد ذلك ممتدة في الغابرين، مهمته حماية حامله من الاشعاعات السلبية، وتزويده بالطاقة الإيجابية، ذو تأثيرات نفسية إيجابية هائلة لأنه يساعدك على تعزيز فكرك ونموك الروحي، ولك فيه مآرب أخرى.

إهدئي، ولا تجزعي ومدي يدك ملاكي.

حينها ركنتْ السيارة، وأسلمتْ يدها الصغيرة إلى يديه، بعدها طلب منها أن تغمض عينيها وأن تستسلم لعطر الحجر أولا ، ولقدرته التواصلية ثانيا، بينما كان هو يداعب أصابعها حتى بلغ الخنصر، حينها أخذ يشدّ عليه بقوة كبيرة من الأعلى إلى الاسفل، حتى أنها كانت ترى ما سبّبّه لها الآخر من ألم يتحول إلى سائل هلامي، كان يخرج من طرف خنصرها قطرة قطرة كأنه صدأ، وفي نفس الوقت كانت تحس أنّ طاقة جذب كبيرة كانت تسري بينها وبين الشيخ، فلما بلغ حد التماهي المطلق معها ترك قبلة على جبينها وروحه تردد :

"أنا بالجسد حال أمنحك اليقين، وأنتِ لروح الحجر فاسكني لتكملي المشوار، وصيتي لك على الجبين".

فلما سكنت نفسها، واجتاحت كيانها هدأة روحية منقطعة النظير، فتحت عينيها فلم تجد أحدا غير حجر النيزك في يدها يكاد يتفتت من فرط الضغط عليه، وبعض الألم على الخنصر، لتعتريها بعد ذلك رجفة عارمة راحت تقطّع أوصالها.

رفعت رأسها إلى مرآة السيارة ففوجئت بعبارته مكتوبة عليها بلون أحمر قان، محتها فانمحت دون أن تترك لها أثرا على اليد.

لكنّ دهشتها كانت كبيرة لأنها قرأت على جبينها مكان القبلة عبارة أخرى، كانت مخطوطة بمداد أسود مفادها: "لا تخافي ولا تحزني، تغمدي حجري بعطفك وتكتّمي"

إمضاء مورِّثُك

حاولت أن تمْحُها فما انمحت، شغّلت السيارة، وبسرعة البرق رجعت إلى البيت وهي تغطي جبينها بخمارها، فلما بلغت غرفتها كشفت على جبينها أمام المرآة فما وجدت شيئا، تنفست الصعداء، ورفعت يديها لله حامدة شاكرة على زوال الأثر، بعدها أسلمت في رضىً روحها لقابل الأيام وفي النفس شيء من حجر، وهي تردد:

سأعود بل نعود

كلنا للعود نسعى

ندعو ربا حاضرا فيما نرى ولا يُرى

كن لنا في سرنا برا كريما حافظا.