هذه شهادة خاصة ومن وجهة نظر مهمة ولكنها بالغة الخصوصية عن مبارك، تتكامل مع تلك التي ننشرها في هذا العدد أيضا عن استشراء الفساد في عهده، وعن أهمية الثورة الشعبية العارمة عليه، من أجل الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. وتكامل المقالين مهم في هذا المجال.

النسر العجوز .. الهبوط الأخير

عيد اسطفانوس

 

بعد آلاف الساعات من الطيران بسرعة الصوت فى جميع الاجواء على مقاتلات وقاذفات مرتديا بدلة الطيران المهيبة، أخيرا هبط النسر العجوز هبوطا أخيرا لااقلاع بعده، وللتاريخ نسرد نبذه سريعة عن سيرة الرجل وقد عايشته الحقب الثلاث كاملة، حقبته العسكرية وكان قائدى الاعلى كفرد من أفراد سلاح الجو المصرى، ثم حقبته السياسية كنائب ثم رئيس، ثم الحقبة الثالثة المأساوية وهى العقد الأخير من حياته، وسوف أحاول توخى الحذر الشديد كي لا أنجرف متجنيا عليه، لأننى وكل أبناء جلدتى من المصريين الأقباط عانينا فى أيام هذا الرجل أشد المعاناه، ولا أغالى إذا قلت أن حقبة مبارك هى الاسوأ للأقباط منذ عهد المماليك، وفى الوقت نفسه سوف أتوخى الحذر الأشد حتى لا أخرج عن الحياد والموضوعية حيث يتملكنى صراع عنيف فى الحكم على حقبتين الأولى حقبة مبارك الضابط الطيار المقاتل أو الرجل العسكرى، والثانية حقبة مبارك نائب الرئيس ثم الرئيس .

أما عن المرحلة الأولى من حياة الرجل فسوف أتحدث عن السنين التى عاينت أحداثها بنفسى وهى السنين الخمس الأخيرة من خدمته 1970 ــ1975 رئيسا لأركان سلاح الجو المصرى ثم قائده، وهنا أؤكد أن ما سنسرده هنا من أحداث لم ننقله أو نستقيه من مصادر بل عايشته ولمسته أحداث وأشخاص ومواقف. ففى هذا التوقيت شاءت الاقدار أن ألتحق بالخدمة فى التشكيل الذى كانت طائراته قد وردت للتو من الاتحاد السوفيتي، وهى الطراز الاحدث (أيامها) من القاذفات الثقيلة التوبولوف 16 عوضا عن التشكيل الذى كان قد دمر عن آخره على الارض فى بنى سويف، وغرب القاهرة، وبلبيس. وآخر طائرتان ضربتا على الارض فى الساعة العاشرة صباح يوم 5 يونية بعد هبوطهما اضطراريا فى مطار الاقصر. وكان حسنى مبارك يقود إحداهما، وهذا التشكيل الجوي كان القوة الضاربة الاولى بعيدة المدى فى الشرق الاوسط كله (ست ساعات طيران مستمر يمكن مضاعفتها فى حالة تموين الوقود فى الجو وستة أطنان من القنابل عدا الصواريخ والمدافع) وهذا التشكيل الجوى هو الذى رفع نجم مبارك عند القيادة السياسية. فقد قامت قاذفات التوبولوف 16 بالدور الرئيس فى حرب اليمن، ومواجهات أخرى كانت القاذفات الثقيلة قوة ردع مهيبة. ولذلك كان هذا التشكيل هو أول ضحايا معاهدة السلام مع اسرائيل، فقد تم شطبه من الخدمة فى أول سريان لبنود المعاهدة المشؤومة .

نعود إلى مبارك في العام 1970 فمع أنه حينئذ لم يكن قد تولى منصب قائد القوات، إلا أننا لم نكن نعرف غيره. وكان السلاح كله تحت عينه كرئيس للأركان. والجميع كخلية نحل تجميع الطائرات المقاتلة الواردة من الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وغيرها ودخولها الخدمة، تدريبات ليلية ونهارية لأطقم الطيران، دورات فنية لأطقم الصيانة على يد خبراء، استعداد قتالى لكل العناصر، تدريبات على الانتشار السريع في كل قواعد ومطارات القطر؛ بل وخارج القطر في ليبيا والسودان والجزائر والعراق، مناقشة وتحديث الخطط القتالية مع الطيارين والمهندسين والفنيين والاداريين، تفتيشات فنية وادارية عن مدى الاستعداد القتالي للأسراب والوحدات المعاونة، وفى هذا السياق لن أنسى في أحد تفتيشات الحرب يوم أن مر بأصبعه السبابه، على سطح جهاز فنى صغير فى معمل اختبار أجهزة، ونظر الى بعض الغبار الذى علق به، ثم رفعه فى وجه قائد اللواء وكان معنى الاشارة هو إعادة التفتيش كله، وكان معنى ذلك أيضا شهرا كاملا من العمل المضني، لا نرى فيه الشارع، باختصار كان الرجل يعرف كل التفاصيل، ويهتم بكل التفاصيل، والأمانة تقتضى القول أنه عندما دخلت الخدمة، وجدت قادة أسراب مسيحيين، وقادة قواعد جوية مسيحيين، ورؤساء شعب وادارات مسيحيين، ولازلت أذكر يوم أن حسم حسنى مبارك ــ وكان وقتها قائدا للقوات ــ حسم الخلاف على منصب كبير مهندسي التشكيل الذى كنت أعمل به، وهو لواء القاذفات بين مهندسين خريجي الفنية العسكرية، وبين ضابط فنى من نفس الرتبة لكنه معين من الدرجات الادنى، واختار حسنى مبارك المقدم فنى رزق كامل (المسيحى) ليكون كبيرا لمهندسي اللواء الجوي 403، ليأتمر بأمره عشرات المهندسين خريجي الفنية العسكرية، وغيرهم من الجامعيين. كانت مصلحة العمل فوق أي اعتبار. فقد كان رزق كامل الحاصل على الابتدائية القديمة، خريج مدرسة ميكانيكا الطيران في السلاح الجوي الملكي هو استاذ صيانة القذفات الاول الذى رافق حسنى مبارك في أكثر من بعثة فنية بالخارج، تلك كانت لمحة سريعة عن المناخ السائد حينئذ. عمل جاد بروح الفريق، لم يكن هناك مكان لعنصرية أو تعصب أو تمييز، وقد قصدنا أن نذكر أسماء وأماكن وأرقام حقيقية، حتى يشعر القارئ أننا نلمس الحقيقة لمسا حيا، وليس استقاء لمعلومة من هنا أوهناك مشكوك في مصداقيتها. هذا عن مبارك القائد العسكري .

أما عن مبارك السياسي فتلك هي المرحلة التالية والتى بدأت من العام 1975 بتعيينه نائبا للرئيس. ولا شك أن حسنى مبارك الرجل العسكري قد صدم مما يحدث في دهاليز قصور الرئاسة. ولعل التغيرات التي أحدثها السادات بإطلاق التيارات الدينية لمواجهة اليساريين والناصريين الذين عارضوا كامب ديفيد ، كل ذلك جعل نائب الرئيس الجديد يبدأ فى التكيف مع الواقع. أي نائب الرئيس (المؤمن)، ثم بدأت النار تنتشر في الهشيم مع بدء الانتشار العنقودي للإخوان المسلمين والجماعات الاسلامية، والذين عادوا من المنافى محملين بأفكار ابن تيمية وأبو الاعلى المودودى. وهو نفس التوقيت الذى بدأ فيه مبارك فترة نيابة السادات حيث سادت نغمة تعصب جديدة. أفرزت أحداث طائفية دامية، وهنا كانت نقطة التحول فى شخصية مبارك. فكان عليه مجاراة فكر رئيسه مع أنه كان من المفترض أن الرجل تحقق بنفسه من نتائج روح العدل والمساواة التي سادت في الحرب التي خاضها وخرج منها ونجمه فى عنان السماء. وكان الاقباط في سلاح الجو المصري ــ وأنا شاهد عيان كنت في قلب المعمعة ــ نقول كانوا مع أشقاؤهم يعزفون سيمفونية آداء رائعة. مهدت للحدث العظيم فى تاريخ المصريين وهو الانتصار الاول والوحيد في تاريخهم الحديث. لكن الرجل نسي كل ذلك، ودار فى فلك (الرئيس المؤمن). وتلك كانت لمحة أخرى عن فترة نيابة الرئيس. ثم جرى ماجرى وسبق السيف العزل، وقتلوا رئيسه ونجا هو بمعجزة بكل المقاييس. ثم أصبح رئيسا لوطن يغلي. ويُحسب له أنه اجتاز بالدولة المصرية مرحلة خطرة كانت التيارات الدينية في أوج عنفوانها.

نختتم هذا الطرح بالبحث عن الرجل فى العقد الأخير. وهي المرحلة الثالثة من حياته، والتي عانى فيها أشد المعاناة. دفع فيها فاتورة أخطاء وفساد العقدين الأخيرين من حكمه، حُوكم مبارك وان كان قد تم تبرئته لعدم كفاية الأدلة، الا أنه دفع وعائلته ثمنا مضعفا. لا على جرائم ارتكبها ولكن على تكرار أخطاء سلفه. داهن وهادن ورعى وغض النظر عن ورم سرطاني نهش فى جسد الوطن؛ ظنا منه أن صفقة يمكن عقدها مع هؤلاء لتبادل المنفعة. صفقة الكرسي مقابل الشارع، صفقة تعيد انتاج نظام آل مبارك مقابل أن يستولى المتطرفون على المجتمع كله. دفع ثمن القراءة المعكوسة للتاريخ، ودفع ثمن ظلم مكون رئيس من مكونات هذا الوطن، بل ظلم شعب بأسره. دفع ثمن فاتورة عفن نظام الحكم الذى عجز عن فتح طاقة تشع ولو بصيص أمل في تغيير قادم يمنع الاسن الذى غطى كل مناحي الحياة. فمبارك هو الذى مكن هؤلاء المتطرفين من اعتلاء عرش مصر في غفلة من الزمن. مكنهم من اقتصاد الوطن وجامعات الوطن، ونقابات الوطن. مكنهم من استعمار بقعة طاهرة من أرض الوطن، رويت بدماء أبنائنا ولازالت. مكنهم من قتل جنودنا وضباطنا في الجيش والشرطة، في الشوارع وعلى الحدود.

نعم هو المسئول الاول والأخير عما حدث في عهده لكل المصريين. رحل النسر العجوز بعد أن تساقط ريشه، واضطجع على سرير المرض طوال العقد المنصرم، وأخيرا استراح الى الأبد. ومن ثم ينتقل الى أعلى درجات التقاضي الى محكمة التاريخ. قبل أن نختتم ننوه أنني، ولراحة ضميري، أقول أن مبارك كان رجلا عسكريا من الطراز الرفيع. وفى آخر عقدين من حكمه كان حاكما سيئا سمح لعصابة من المزورين الفاسدين بالإمساك برقاب المصريين، وسمح للمتطرفين العنصريين أن يعيثوا فسادا في طول البلاد وعرضها، وكما أقول ربما يقول غيرى عكس ما أقول، وهكذا مثل هذه شخصيات سيظل الاختلاف عليها سمة من سمات البشر .