«تحليلية»، بلورتها ودعمتها وساهمت في ترسيخ أصولها المدرسة الفلسفية الأنجلوساكسونية، وعي فلسفة مغايرة تماما لفلسفة الدين «القارية» التي اعتدنا عليها في الثقافتين العربية، وإلى حد كبير في الثقافة الفرنسية، التي سدت تلك المختارات فجوة معرفية فيها.

فلسفة الدين على الطريقة الأنكلوسكسونية

مراجعة كتاب «فلسفة الدين: مقاربات معاصرة»

خلـيد كـدري

 

ما عادت فلسفة الدين «القارية» المعروفة لنا، بأصولها وأعلامها ونظرياتها، قادرة، في وقتنا هذا، على احتكار القول والحكم في ما تصدت له من مسائل منذ قرون. لقد احتضن التقليد الفلسفي الأنكلوسكسوني، منذ أواسط القرن العشرين، فلسفة دين «تحليلية» ما فتئت تحقق اليوم نتائج مذهلة على أكثر من صعيد. وإذا كان الاهتمام بفلسفة الدين، على العموم، يتجدد، اليوم، ويتنامى في معظم أرجاء العالم المتحضر، فإن الفضل في ذلك يعود، في جانب منه، إلى فلاسفة الدين «التحليليين» الأنكلوسكسونيين. غير أن أعمال هؤلاء الفلاسفة في هذا الحقل لم تحظ بعد بالعناية الكافية من قبل جمهور المؤلفين العرب.

وليست المكتبة الفرنسية أفضل حالا بكثير من المكتبة العربية في هذا الشأن. لكن من سعادات القراء الفرنسيين أن كتاب المختارات (أو الأنثولوجيا Anthologie) الذي أشرف على تحريره الأستاذان سيريل ميشون (C. Michon) وروجيه بويفي (R. Pouivet)، تحت عنوان فلسفة الدين: مقاربات معاصرة[1]، يسهم بلا شك في سد الفراغ المهول القائم عندهم في هذا المضمار. وتجدر الإشارة ههنا إلى أن عنوان الكتاب الفرعي لا يخبرنا عن محتواه بوضوح؛ لأنه يطالعنا بالاجتهادات المعاصرة المنتسبة إلى «فلسفة الدين التحليلية» حصرا، حيث إنه يضم اثنتي عشرة مقالة لنفر من الفلاسفة الإنكليز والأمريكان الخبراء في هذا الشأن. وقد ترجمها إلى اللسان الفرنسي وقدم لها الأساتذة جان-باتيست كيون (J.-B Guillon)، سيريل ميشون، روجيه بويفي ثم يان شميت (Y. Schmitt) .

يراهن الكتاب، الذي بين أيدينا، على أن المقاربات التقليدية للدين (الفلسفية والعلمية بشتى تلاوينها)، على أهميتها، لا تجزي عن المقاربة «التحليلية» التي تنهل من التقليد الفلسفي الأنكلوسكسوني المفاهيم الإجرائية والأدوات المنهجية الكفيلة بتجديد النظر في مسائل الاعتقاد والعمل الدينيين. ويلتئم الكتاب من تصدير، بقلم المحررين س. ميشون ور. بويفي، تحت عنوان «فلسفة الدين بوصفها لاهوتا فلسفيا»[2]، وأربعة أقسام، مقدم لكل واحد منها بمدخل يضع مقالاته الثلاث في سياق المطلب الذي تندرج فيه؛ علاوة على بيبليوغرافيا مختارة بعناية، وفهرس للأعلام.

وتحمل أقسام الكتاب العناوين الآتية على الترتيب: «الصفات الإلهية، مفهوم الإله»، «حجج المذهب التأليهي»، «مشكلة الشر» ثم «إبستمولوجيا الاعتقادات الدينية» (الإبستمولوجيا بمفهومها الأنكلوسكسوني، أي نظرية المعرفة). ولسنا ندري ما إذا كانت الأعداد أربعة وثلاثة واثنا عشر بريئة، في هذا الأفق، من أية رمزية دينية واعية أو غير واعية (لأنها تطابق، على الترتيب، عدد الأناجيل القانونية، عدد الأقانيم ثم عدد الحواريين!).

يعالج القسم الأول[3] من الكتاب مسألة «التماسك» المنطقي لمفهوم الإله؛ ذلك أن النظر في أدلة وجود الإله، يستدعي، في نظر المحررين، أن يقدم له بالفحص عن مدى «تماسك» مفهوم الإله كما جرى تداوله في المذهب التأليهي (أو الثيئي Théisme ) التقليدي[4]. ومدار الكلام في هذا القسم على صفتين إلهيتين: صفة الأزلية، وصفة القدرة الكلية. وتتباين الطرق التي عولجت بها المفارقات أو النقائض ذات الصلة بمدى توافق سبق العلم الإلهي مع الحرية الإنسانية، وبالعلم الإلهي بالحوادث والأمور العرضية، تبعا لمقاربتها من منظور زمني، كما فعل نكولاس ولترستورف (W. Wolterstorff) في مقالته عن «الإله السرمدي»[5]، أو منظور «لا-زمني»، كما فعل نورمن كريتسمن (N. Kretzmann) وإليونور ستامب (Eleonore Stump) في مقالتهما عن «الأزلية»[6]. وفي فصل «القدرة الكلية»، يعالج بيتر كيتش (P. Geach) الإشكالات المنطقية واللاهوتية التي ينطوي عليها التصور المطلق للقدرة الكلية، حيث تتمثل المعضلة في تعيين حدود هذه الصفة من دون تبني فكرة إله لا حول له ولا قوة.

ويعالج القسم الثاني[7] من الكتاب حجج المذهب التأليهي على وجود الإله؛ ذلك أن المعتقد أو المؤمن مدعو، من الناحية المبدئية، إلى تسويغ ما عنده من تصديقات بحجج حتى لا يتنكب عن واجبه «الإبستمي». لكن ما عسى المرء أن يرجو من تعب البرهان على وجود الإله؟ في مقالة «الحجة الكوسمولوجية»[8]، يقترح ستيفن ديفيز (S. Davies) نوعا من «إعادة البناء العقلاني» لحجج أو «سبل» توما الأكويني الثلاث المذكورة في الخلاصة اللاهوتية (Summa Theologiae)، مستنتجا أنها قابلة للاستئناف في عصرنا هذا. والحال أنها خمس «سبل»؛ غير أن ديفيز يرى أن «السبل» الثلاث الأولى ترتد في نهاية التحليل إلى «سبيل» واحدة، ألا وهي الحجة الكوسمولوجية[9].

وفي مقالة «حجة التصميم»[10]، يعيد سوينبورن بناء الحجة الغائية، قبل أن يتصدى لاعتراضات هيوم المضمنة في كتابه محاورات في الدين الطبيعي. وقد ساقه ذلك سوقا إلى فكرة أن فعل الإله المقصود هو أفضل افتراض يمكن أن يفسر به انتظام الظواهر الطبيعية. ومع أن هاتين الحجتين غير ملزمتين من الناحية المنطقية (بما أنهما لا تجبران أحدا على الاعتقاد أو الإيمان)، إلا أن المقالتين السالفتي الذكر تؤكدان أنهما لا تنتهكان البتة أي معيار من معايير الحجاج المعروفة. وفي مقالة «الحجج الأنطولوجية»[11]، يجنح كراهام أوبي (G. Oppy) إلى الشك فيما يتعلق بإمكان البرهان على وجود الإله من مقدمات تحليلية على التحقيق. وبالنسبة إلى القارئ الفرنسي، المعتاد على «النقد» الكانطي، لا تكمن أهمية المقالة في إبطال الحجة الأنطولوجية أو الوجودية في صورتها التقليدية بقدر ما تكمن في مناقشة تعبيراتها الجديدة في المنطق المعاصر.

ويعالج القسم الثالث[12] من الكتاب مشكلة الشر: هل يطعن وجود الشر، كما يذهب إلى ذلك جمهور، في احتمال وجود إله كلي القدرة وخير تمام الخيرية؟ هل هناك تنابذ منطقي بين الأمرين؟ إنها الدعوى التي يتقلدها جون ماكي (J. Mackie) في مقالة «الشر والقدرة الكلية»[13] المنشورة قبل عقود في غير ما موضع. فبعد الوقوف على ألوان المناقضة التي تكتنف ساحة المذهب التأليهي، وإيراد طائفة من المطاعن على المشاريع «الثيوديسية» (من «الثيوديسيا» أو نظرية العدل الإلهي المنسوبة إلى لايبنتس، مع أننا نلفي جذورها عند بعض فلاسفة الرواق والأفلاطونية المحدثة، علاوة على آباء الكنيسة) التي تراهن على أن الشر هو شرط إمكان حصول الخير الأعظم على التحقيق، تتطرق المقالة بإسهاب إلى مسلك الدفع بحرية الإرادة: يعود الشر، بحسب هذا الدفع، إلى حرية الاختيار البشرية، ومن ثم لا يمكن نسبته إلى الإله. والحال أن هذا الدفع، في نظر ماكي، لا يفلح في ما يروم من غايات، إما لأنه يفترض، على نحو مسبق، مفهوما غير متماسك عن الحرية، وإما لأنه يسوقنا إلى مفارقات أو نقائض القدرة الكلية.

ويظهرنا هذا النقد الماكي على حقيقة «الخلاف العالي» الذي يخترق التقليد التحليلي الأنكلوسكسوني فيما يتعلق بقابلية المنطوقات الدينية للفحص أو التحقيق. وعلى ذلك، لا نجد مبررا لما ذهب إليه المحرران في تصدير الكتاب من أن فلسفة الدين، من وجهة نظر «تحليلية»، لا تعدو أن تكون «لاهوتا فلسفيا»[14]. ولا عجب بعد هذا أن ينطوي تصدير الكتاب على مواقف مناوئة، بكيفية صريحة، لآراء لودفيك فتكنشتاين (L. Wittgenstein)[15] ووضعانيي فيينا، علاوة على طائفة من آباء «التحليل» التاريخيين (كوتلب فريكه G. Frege وبرتراند رسل B. Russell )، في شأن الاعتقاد الديني[16].

وفي مقالة «الإله، الحرية والشر»[17]، يعقب آلفن بلانتينكا (A. Plantingua) على المقالة الماكية، ويقترح ما يعده الكثيرون حلا لمشكلة الشر المنطقية: لا يوجد بالضرورة أي تنابذ بين وجود الشر ووجود كائن كلي القدرة، وخير تمام الخيرية، ذلك أنه في مكنة الباري أن يخلق كائنات حرة، لكنه لا يستطيع لجمها عن فعل الشر، وإلا كانت حرية المخلوقات غير ذات معنى[18]. والحال أن هذا التعقيب يترك حبل مشكلة الشر الإمبريقي أو «العيني» على الغارب: إذا كان وجود الشر لا يتنافى مع وجود الباري، فإنه ينطوي، فيما يقول ميشون، على «أسباب وجيهة» للاعتقاد بأنه غير موجود[19]. وفي المقالة التي تحمل عنوان «مشكلة الشر وبعض ضروب الإلحاد»[20]، يسعفنا وليم راو (W. Rowe) بأنموذج تمثيلي لهذا الاعتراض: تعتمد حجة راو الإلحادية ههنا على «كيف» أو محتوى الشر الموجود (فيض من المعاناة الشديدة والمجانية) لا على مجرد «الكم» الملحوظ منه أو مجرد حصوله في العالم[21].

ويعالج القسم الرابع والأخير[22] من الكتاب طائفة من المسائل «الإبستمولوجية» (بالمفهوم الأنكلوسكسوني دائما): تحت أية شروط يمكن أن تعد الاعتقادات الدينية عقلانية؟ هل ينبغي لهذه الاعتقادات أن تستند إلى حجج حتى تكون ذات أهلية «إبستمية»؟ هل يمكن للتجربة أن تسوغها؟ وفي المقالة التي تحمل العنوان المطول «من المستقبح في كل مكان، دائما ومن أي كان أن يعتقد أي شيء بناء على بينة غير كافية»[23]، ينبري بيتر فان إنويكن (P. Van Inwagen) للبرهنة على أن العديد من الفلاسفة المناوئين للاعتقاد الديني يتبنون «دعوى الاختلاف»: وآية ذلك أنهم يفرضون على الاعتقاد الديني «اختبارا إبستميا» ليس في مكنته أن يستجيب له، كأنهم يكيلون بمكيالين، «متجاهلين بإمعان أن القلة القليلة من اعتقاداتنا في أي موضوع كان هي التي تستجيب له»[24].

وفي مقالة «المعرفة الدينية: الحوار بين الكاثوليك وأتباع كالفن»[25]، يقارن جون كريكو (J. Greco) بين مزايا الإبستولوجيا الدينية، المؤسسة على «الفضائل»، ومزايا الإبستمولوجيا «الاعتمادية» (fiabiliste) والغائية. ويسعفنا كريكو في هذه المقالة بنظرة إجمالية عن إبستمولوجيا آلفن بلانتينكا الدينية التي تنطوي على بعض الدعاوى الأكثر عرضة للنقاش. ويرى هذا الفيلسوف الأمريكي، الذي يقتفي أثر كالفن، أن الاعتقادات الدينية، شأنها في ذلك شأن مدركاتنا الحسية وذكرياتنا ورغباتنا، لا تحتاج إلى تسويغ؛ وذلك لأنها اعتقادات «قاعدية» لا يمكن اشتقاقها من غيرها[26].

وفي آخر الكتاب، ينافح وليم أولستن (W. Alston) في مقالة تحت عنوان «إدراك الإله»[27]، عن إمكان تسويغ بعض الاعتقادات التأليهية من طريق «التجربة». ويبين أن الاعتراضات على هذه الدعوى تنزع إلى الكيل بمكيالين، إذ تمتع الإدراك الحسي بالحصانة على حساب التجربة الدينية؛ وتتسم بنوع من «التزمت الإبستمي» حيال «الممارسة الاعتقادية»، الدينية على التحقيق، حين تفرض عليها معايير برانية وغير مناسبة[28].

يبقى أن نشير، في الختام، إلى زعم المحررين، في تصدير الكتاب، أن إله المذهب التأليهي «مشترك بين الأديان التوحيدية الثلاثة الكبرى»[29] من دون أن تراعى في ذلك الخصوصيات اللاهوتية والهيرمنوطيقية التي ينفرد بها كل واحد من الأديان الثلاثة على حده. لكن، مهما يكن من شيء، يستطيع القارئ، بفضل هذه المختارات، أن يتحقق من وجود فلسفة دين «تحليلية» مغايرة تماما لفلسفة الدين «القارية» التي اعتدنا عليها زمنا. ومن هذه الناحية، لا يساورنا الشك في أن الترجمة العربية للكتاب ستقدم خدمة جليلة للقارئ العربي. وننتوي التصدي لهذه المهمة في المستقبل القريب. لكن، هل تعفينا هذه الترجمة من التفكير في ترجمة أمهات نصوص الفلسفة «التحليلية»، ولا سيما نصوص فلسفة الدين؟

(*) باحث ومترجم من المغرب.

 

هوامش:

[1]. وهذه معطيات الكتاب:

Cyrille Michon et Roger Pouivet (éd.), Philosophie de la religion : approches contemporaines, Paris : Vrin, col. « Textes clés », 2010, 384 pages.

[2]. نفسه، ص. 7-38.

[3]. نفسه، ص. 41-117.

[4]. نفسه، ص. 41-42 وما بعدها.

[5]. نفسه، ص. 49-64.

[6]. نفسه، ص. 65-91.

[7]. نفسه، ص. 121-203.

[8]. نفسه، ص. 131-159.

[9]. نفسه، ص. 132.

[10]. نفسه، ص. 161-182.

[11]. نفسه، ص. 183-203.

[12]. نفسه، ص. 207-297.

[13]. نفسه، ص. 215-234.

[14]. نفسه، ص. 7 وما بعدها.

[15]. نفسه، ص. 26.

[16]. نفسه، ص. 15.

[17]. نفسه، ص. 235-280.

[18]. نفسه، ص. 255.

[19]. نفسه، ص. 211.

[20]. نفسه، ص. 281-297.

[21]. نفسه، ص. 213-214.

[22].نفسه، ص. 301-376.

[23]. نفسه، ص. 311-326.

[24]. نفسه، ص. 322.

[25]. نفسه، ص. 327-360.

[26]. نفسه، ص. 327-328.

[27]. نفسه، ص. 361-376.

[28]. نفسه، ص. 376.

[29]. نفسه، ص. 35.