يطرح الكاتب العراقي سؤاله الاستنكاري عنوانا لمقالة، ثم يمضي ليكشف عن فصول التواطؤ المخزي في احتلال العراق من النظم العربية التابعة أولا ثم من النظام الإيراني المعادي ثانيا والذي تكشف وثائق المقال عن دوره الرئيسي في احتلال أميركا لأفغانستان والعراق، وعن زيف دعاواه بالمقاومة والدفاع عن فلسطين.

احتلال العراق: هل تواطأت قوى إقليمية مع واشنطن؟

رمـيـز نظـمي

 

مرت سبع عشرة سنة على الغزو الآثم للعراق في 2003. سبع عشرة سنة مملوءة بالدماء والحطام والفساد والقهر. منّ َالله، عز وجل، على العراق بموارد وطاقات جمة، وبشعب أبي يعشق الرقي والدراية والشهامة والإقدام، شعب يتشرف بانتمائه الى أمته المجيدة، ويعتز بحضارتها العربية الإسلامية، ويفتخر بالذود عنها. بعد أن أقصت اتفاقية كامب ديفيد مصر عن دورها في مجابهة تحديات أمتها العربية، أصبح العراق بخصاله وقدراته يشكل الرادع الرئيسي لمشاريع القوى الاستعمارية والصهيونية والرجعية والطائفية ضد طموحات الأمة في التحرر والنمو والازدهار والتوحد. وبالتالي أضحت استباحة العراق تشكل القاسم المشترك لأطماع ومصالح هذه القوى في المنطقة، فتكون تحالف، غير مقدس، رباعي: استعماري، صهيوني، رجعي، طائفي، غرضه سحق قدرات العراق.

مما لا شك فيه أن المخطط الأكبر للحرب على العراق هو الكيان الصهيوني وحلفاؤه في واشنطن، إذ وكما شهد شاهد من أهلها، توماس فريدمان، الصحفي الأمريكي اليهودي الشهير الذي أكد: "أنها الحرب التي ارادها المحافظون الجدد .. لولا وجود 25 من هؤلاء (في واشنطن) لما حصلت الحرب" (03/04/2003، هارتس). المحافظون الجدد هم زمرة من الصهاينة المتطرفين، جلهم من اليهود، من أمثال ريتشارد بيرل، وبول ولفوتز، ودوجلاس فيث، وأرفنج سكوتر لبي، جميعهم شغلوا مناصب عليا في إدارة بوش. نتنياهو أكد للكونغرس الأمريكي في نيسان/ أبريل 2002 على "الضرورة القصوى للإطاحة بصدام". مطالبة الكيان الصهيوني بغزو العراق أيضا أكدها كلينتون، الرئيس الأمريكي الأسبق، عندما صرح في اجتماع لمؤسسة أسبن في تموز/ يوليو 2006 "بأن كل سياسي إسرائيلي أعرفه آمن بأن نظام صدام كان يشكل خطرا جسيما يجب إزالته حتى ان كان لا يملك أسلحة دمار شامل" (08/02/2010 , فورن بولسي).

خصص البروفيسور جون ميرشايمر (جامعة شيكاغو) والبروفيسور ستيفن والت (جامعة هارفارد) فصلا كاملا (فصل 8) لتوثيق دور لوبي الكيان الصهيوني في الحرب على العراق في كتابهما "اللوبي الاسرائيلي". والجدير بالذكر أن العراقيين الرئيسيين، أحدهما مصرفي محتال، والآخر أكاديمي دجال، اللذين نظرا لاحتلال العراق، وحثا واشنطن على غزوه، كانت لهما علاقات موثقة بجهات صهيونية.

رغم أن شرفاء الأمة من خليجها إلى محيطها كانوا يقفون مع أشقائهم في العراق، إلا أن هذا لم يمنع بعض الأنظمة العربية من التواطؤ والتحريض على غزو العراق، بل ووفرت له الدعم اللوجستي الضروري. قوات الاحتلال لم تنزل بمظلات على العراق من قواعد في أمريكا، بل انطلقت برا وجوا من أراض عربية (2003/3/7، ديلي تلغراف). كان تعاون هذه الأنظمة مع الإدارة الأمريكية على درجة عالية من التنسيق، بحيث أن سفير النظام السعودي في واشنطن، بندر بن سلطان آل سعود، أعلم بخطة الغزو قبل وزير الخارجية الأمريكي، كولن باول، بيومين!. جاء هذا في كتاب "خطة الهجوم" لمؤلفه بوب ودورد، المحقق الصحفي الأبرز الذي كشف فضيحة 'وترجيت' التي أسقطت الرئيس نيكسون في 1974.

حسني مبارك، الرئيس الذي أطاحت به الجماهير المصرية في 2011، كان أيضا من المحرضين على غزو العراق، الأمر الذي كشفه بوب ودورد في نفس الكتاب، إذْ أنه ذكر أن الرئيس المخلوع بعث نجله إلى واشنطن ليستحثها على ضرب العراق. هذا التحريض أكده أيضا الرئيس بوش الابن في مذكراته "نقاط القرار"، الذي كتب فيه أن مبارك ساهم في إقناعه بامتلاك العراق لأسلحة جرثومية. المصدر الرفيع الثالث الذي وثق تأييد مبارك للحرب على العراق هو محمد البرادعي، المدير المصري للوكالة الدولية للطاقة الذرية، في كتابه "زمن الخداع".

"يقتل القتيل ويمشي في جنازته"، هذا القول يمثل باختصار الموقف الحالي للأنظمة العربية التي تواطأت مع واشنطن المتصهينة في غزوها للعراق. تتباكى هذه الأنظمة الآن على تداعيات الاحتلال الذي لولا دعمها له لما حصل. في 2005، صرح سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي، " لقد قاتلنا معا (مع الأمريكان) لإبقاء إيران بعيدة عن الشأن العراقي بعد إخراج العراق من الكويت. والآن نقوم بتسليم العراق بأكمله إلى إيران من دون سبب" (21/9/2005، بي بي سي). وفي 23 كانون الثاني/ يناير 2020، أكد وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية، في لقاء تلفزيوني في دافوس: "أن السعودية تشعر بالقلق بسبب التدخل الإيراني في شؤون العراق، وبالقلق نتيجة ما تقوم به إيران من سرقة الموارد العراقية، وحشد إيران الميليشيات التابعة لها داخله". ولكنه لم يعتذر للشعب العراقي عن تأييد النظام السعودي للغزو الأمريكي الذي أدى إلى هذه الهيمنة الإيرانية على مقدرات العراق.

قبيل الاحتلال، جرى حوار أمريكي/ إيراني كشف عنه زلماي خليلزاد، المسؤول الأمريكي، من أصول أفغانية، والمنتمي لزمرة المحافظين الجدد الصهيونية. خليلزاد احد أهم الذين خططوا ونفذوا السياسة الأمريكية تجاه العراق، خصوصا تحت أدارة الحزب الجمهوري، وكان مبعوث واشنطن لدى 'المعارضة العراقية والمشرف على مؤتمرها الذي عقد في لندن في 15-14 كانون الاول/ ديسمبر 2002، وبعد الاحتلال عين سفيرا في بغداد خلال الفترة 2005-2007. ذكر في كتابه "المبعوث" بأنه عقدت مباحثات سرية في سويسرا بين مسؤولين في الإدارة الأمريكية، وهو من ضمنهم، مع وفد من النظام الإيراني ترأسه محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الحالي. الغرض من هذه المباحثات التوصل إلى تفاهم ما بين الطرفين تمهيدا للاحتلال، وفعلا تم الحصول على تعهد إيراني بالإحجام عن التعرض للطائرات الحربية الأمريكية، وعلى أن تشجع إيران عراقيين شيعة للمشاركة البناءة في حكومة ما بعد الاحتلال.

وذكر خليلزاد أنه أعلم الوفد الإيراني بأنه ليس لدى الإدارة الأمريكية أيّة نية لتوسيع عملياتها العسكرية ضد العراق إلى داخل الأراضي الإيرانية، وأن محمد جواد ظريف أعرب عن تفضيله أن تسلم واشنطن الحكم، سرعان ما يتم الاحتلال، إلى مغتربين عراقيين، وحسب خليلزاد دعى ظريف كذلك إلى إلغاء الأجهزة الأمنية العراقية، وإلى استئصال المنتسبين لحزب البعث العربي الاشتراكي (6/3/2016 , نيويورك تايمس). ومن المعلوم أن تأسيس مجلس حكم محاصصي (50٪ شيعة، 20٪ اكراد، 20٪ عرب سنة، 10٪ طوائف أخرى) غالبيته من المغتربين، وحل الجيش العراقي واجتثاث البعثيين كان من أول الإجراءات التي قام بها الاحتلال. ربما من قبيل الصدفة أن هذه الإجراءات كانت هي ما دعت اليها طهران أثناء مباحثاتها مع واشنطن!

وفي هذا الخصوص كتب البروفيسور ستيفن زونز، أستاذ العلوم السياسية في جامعة سان فرنسيسكو "لم يكن 'العداء التاريخي' المزعوم من ولد الصراع الطائفي الذي اجتاح العراق وأدى إلى نفوذ إيراني وطيد، بل من خلقه كانت السياسة الأمريكية الحمقاء. أدى القرار الأمريكي بحل الجيش العراقي، وفصل غالبية العاملين في الحكومة العراقية، عمليا إلى تدمير المعقلين الرئيسيين للهوية الوطنية العراقية. القوات المسلحة الجديدة تم تكوينها من ميليشيات شيعية طائفية (بعضها، وليس كلها، متحالفة مع إيران)، والتي اعتقدت واشنطن أنها ستكون اكثر فعالية في محاربة البعثيين والعشائر السنية والجماعات السلفية وغيرهم ممن عارضوا الاحتلال الأمريكي" (تروث أوت، 19/1/2020). وفي نفس السياق، صرح السفير الأمريكي السابق في كابول، جيمس دوبنز، "عندما غزت الولايات المتحدة العراق، عرض الإيرانيون، كما فعلوا في أفغانستان، استعدادهم للتنسيق والتباحث (مع واشنطن)، حيث ان الغزو ازال احد اهم القوى المهددة لهم إقليميا، ولأنهم كانوا يأملون في احتواء اي تهديدات مستقبلية". ( واشنطن انستتيوت، 13/9/2016).

في مقال مفصل لخليلزاد (بوليتكيو، 28/3/2016) ذكر فيه "بصفتي المبعوث الأمريكي الخاص للمعارضة العراقية، كان علي اجراء مباحاثات بخصوص عراق ما بعد صدام مع جماعات المعارضة المتمركزة في ايران. ضغطت طهران في نهاية المطاف على عبد العزيز الحكيم، زعيم اكبر جماعة إسلامية شيعية لضمان موافقته للتعامل مع احزاب المعارضة الأخرى المدعومة من الولايات المتحدة". وكتب أيضا انه اثناء فترة عمله كسفير في بغداد" كانت لدى الإدارة الأمريكية سياسات متناقضة: تتحدث بنبرة عالية ضد ايران، ولكن لم تكن على استعداد للتصدي للأنشطة الإيرانية في العراق". وفي هذا السياق، ريان كروكر، الذي تقلد منصب سفير الولايات المتحدة، خلفا لخليلزاد، خلال الفترة 2007- 2009، صرح "لقد اعطينا للشيعة ما لم يكونوا يحلموا به قبل 2003".

من نافل القول، عندما يشير المسؤولون الأمريكيون إلى الشيعة فأنهم يقصدون زمر شيعة السياسة ذوي النزعة الطائفية الفتنوية، وليس إلى الغالبية الشيعية ذات النزعة الوحدوية العروبية. في تصريح اخر لكروكر (فرنتلاين، 20/2/2018) ذكر فيه بالنسبة للإيرانيين الحرب الايرانية/ العراقية توقفت في 1988 ولكنها لم تنته. وينوون اخيرا اعلان النصر "بخلقهم مجموعة من الظروف التي ساعدنا في تهيئتها لهم". التنسيق ما بين واشنطن وطهران أكده أيضا محمد علي أبطحي، نائب الرئيس الإيراني السابق، محمد خاتمي. ففي محاضرة ألقاها في 13 كانون الثاني/ يناير 2004 في مؤتمر "الخليج وتحديات المستقبل" نظمه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، صرح أبطحي بأنه "لولا إيران لما سقطت كابول وبغداد". يبدو واضحا، إذاً، لكل من واشنطن وطهران كان هدف استباحة العراق من الأهمية القصوى، بحيث من اجل تحقيقه لم يغض الطرفان النظر عن اي خلاف بينهما فحسب، بل أيضا لم يجدا غضاضة في تكاتفهما ومد يد العون الخفية لبعضهما البعض.

السؤال الذي يوجهه أهل العراق، اهل الغيرة والكرم، للأنظمة العربية والإسلامية التي شاركت في محاولة سحقهم، هل هناك اي ذريعة اخلاقية او دينية تبرر غدرهم بشعب معطاء شقيق؟ هل هناك تفسير اخر لهذا الغدر غير شعور مرتكبيه بالدونية، او للتعويض عن إحباطات سابقة، او تذللاً لاسيادهم؟ هل الغدر من شيم دعاة رسالة الإيمان؟ وهل تبقى لدعوتهم اي مصداقية؟ ما هي الحجة الإسلامية التي اعتمدت عليها دولة "ولي الفقيه" لتحلل تواطؤها مع 'الشيطان الاكبر' ضد جارها المسلم؟ هل من الغريب، اذاً، ان تتدهور وتنحط الأمة بسبب هذا الاقتتال الداخلي والتذلل للأجنبي؟ قال سبحانه "ولو ان أهل القرى امنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون".

لا يختلف عاقلان الآن بأن الهدفين الأساسيين للاحتلال الأمريكي كانا إهلاك العراق وتغيير نظامه. ومن أجل ضمان دوام هوان العراق وان لا تقوم له قائمة ابداً، استحدثت واشنطن نظام حكم طائفي محاصصي يعشش فيه الفساد والبغي. ليس خافيًا على أحد أنه من المستحيل إقامة دولة مزدهرة مهيبة، نظام حكمها مبني على أسس محاصصية طائفية: مذهبية كانت أو عنصرية. لذلك أتاحت واشنطن لحكم العراق زمرا ولاؤها الأول لمصالح فئوية عابرة للحدود، وكفاءتها تنحصر في أمرين: النهب والدجل. هل يرضى قادة إيران ،مثلا، أن يبنى نظام حكمهم على قواعد محاصصية ما بين البيت الفارسي والبيت الآذاري والبيت العربي والبيت الكردي والبيت البلوشي، التي هي 'مكونات' الشعب الإيراني الاثنية، ناهيك عن مكوناته الدينية والمذهبية؟

الاحتلال وما أنتجه من تداعيات، وما سبقه من حصار وحروب، نكس العراق من دولة يشار اليها بالبنان إلى بلد ممسوخ مدقع مشرذم، محروم السيادة، يحكم من قبل منظومة سياسية تتدفق في عروقها سموم الفساد والبهتان والتبعية والظلم. لتثبيت سيطرتها، كونت هذه المنظومة الحاكمة ميليشيات تدعي، زورا وبهتانا، أنها جزء من "محور المقاومة" المناهض للمخططات الأمريكية والصهيونية والداعم للمقاومة الفلسطينية. إن كان هذا الادعاء صادقا وليس تدليسا، لماذا لم تقاوم هذه الميليشيات الزمر الرجسة التي عاثت في العراق فسادا؟ ألم يكن من الأجدر على هذه الميليشيات وأسيادها أن تتصدى للجور والظلم الداخلي قبل أن تبدأ بالادعاء أنها تقاوم الظلم الأجنبي؟

كيف يستطيع العراق أن يناهض الأعداء الخارجيين وهو مغمور بمستنقع آسن فاسد؟ لم يكتفوا بالتواطؤ مع الفاسدين، بل حاولوا أيضا إجهاض انتفاضة تشرين/ أكتوبر الوحدوية المجيدة لجماهير العراق الأصلاء ضد الفساد والمحاصصة والظلم، والتي سقط فيها آلاف الضحايا من شهيد وجريح. إن كانوا حقا مناصرين للقضية الفلسطينية فلماذا طردوا آلاف الفلسطينيين من العراق، ورموهم في الصحراء؟ لماذا سمحوا بإصدار المرسوم المرقم 76 في كانون الأول/ ديسمبر 2017 الذي ألغى قانون 202 الصادر قبل الاحتلال المانح للفلسطينيين المقيمين في العراق جميع حقوق المواطنة مع احتفاظهم بجنسيتهم الفلسطينية؟

العراق، مهد الحضارات، اُحتل على مر العصور: غزو مغولي، عثماني، صفوي، بريطاني وما شابه. كلهم هلكوا وولوا. لا محالة أن المحتلين والمهيمنين الجدد سيلاقون نفس المصير البائس الذي أصاب أسلافهم. تحقيق ذلك هو قدر أبرار العراق من شباب ومثقفين وكادحين وأكفاء. نعم، سيعود العراق شامخا مزدهرا عروبيا وحدويا. كما قال الشاعر: "بغداد يا قلعة الأسود، يا منارة المجد والخلود ، سمعت في فجرك الوليد، قد آذن الله في علاه، ان ينهض (العراق) من كراه، ويرحل الليل عن سماه، وتسطع الشمس من جديد، بغداد يا قلعة الأسود".

ذكر الله تعالى: ""قالت الاعراب آمنّا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم" .. الإسلام قول ولكن الإيمان قول يرافقه العمل الصالح الذي يشمل محاربة الضيم ومقاومة الفساد ومحق الفتنة. "كان حقا علينا نصر المؤمنين" صدق الله العظيم.