في خلاصة مكثفة تتناول الباحثة سؤال الكيفيّة الدال في العمل الأدبي. بناء عليه ترى أن البحث في العلاقة بين الأدب والأنماط الفكريّة الأخرى، يحيل إلى عقد المقارنة بين نظريّات الديداكتيك، ونظريّات التّلقّي والتأويل التي منحت الدور المركزي للمتلقّي في كلا الحقلين الديداكتيكي والأدبي.

الرّواية و«منطقة النمو القريبة المركزيّة»

صراع التصوّرات والتلقّي

سميّـة عــزام

 

بعد قراءة أيّ رواية أو عمل سرديّ، يحضرني تشبيه الغرفة التي أمّها الضيوف، وتحتاج منّا إلى إعادة ترتيب عندما يغادرون. إعادة التنظيم لا تصيب الأثاث وأشياء المكان وحسب، بل الدردشات الودّيّة على تنوّع ثيماتها، والحوارات على تباين الأفكار، والنقاشات على اختلاف حدّة النبر التي تتخلّلها. بعض الرّوايات يهزّنا، ويخضّ منظومتنا الفكريّة؛ فنجد أنفسنا نتخلّى عن شيء من مسلّماتنا، أو يجعلنا نشكّ فيها على أقلّ تقدير. نحن لسنا نحن ما بعد خروج زوّارنا. غادرونا، لكنّهم تركوا ظلال وجودهم وآثار خطوهم في المكان.

تسهم الرواية، من حيث تدري أو لا تدري، في تشكيل وعينا. فهي الوسيط بين الرّوائي والقارئ، كما أنّها الوسط الاجتماعي-النّفسي، حيث تتحوّل المواقف والأدوات النفسيّة في ثقافة مجتمع النّص إلى معانٍ لدى قارئ يستحضر عناصر التي تشكّل هويّته جميعها، في أثناء تلقّيه إشارات المؤلّف. بعد انسحاب هذا الأخير، تبقى الرّواية منطقة صراع تأويلات وتصوّرات وقلق لدى المتلقّي تلزمه بالانسحاب نحو ذاته، ليتفكّر المعاني في أفق النصّ. مفهوم الصّراع يُبنى إذن، على الديالكتيك بين تصوّراته السابقة والمعطيات الجديدة لإحداث التغيير في بنيته الفكريّة، ويستدعي طرح سؤال الكيفيّة في محاولة استنطاق النص وتأويله. كيف يُقرأ النص؟

بموازاة ذلك، برز سؤال الكيفيّة بشكل مكثّف لدى التربويّين في علم الديداكتيك: كيف نعلّم؟ وليس فقط ماذا نعلّم؟ وإلى من نتوجّه؟ وغدا المتعلّم عنصرًا فاعلًا في بناء معارفه ومواقفه، بعد أن تغيّر شكل العلاقة بين المعلّم والمتعلّم. البحث في العلاقة بين الأدب والأنماط الفكريّة الأخرى، يحيلنا إلى عقد المقارنة بين نظريّات الديداكتيك، ونظريّات التّلقّي والتأويل التي منحت الدور المركزي للمتلقّي في كلا الحقلين الديداكتيكي والأدبي. ولعلّ الشبه اللافت بينهما وجود منطقة صراع التصوّرات، بوصفها حيّزًا توسّطيًا، في فكر الإنسان، متعلّمًا كان أو قارئًا؛ ذلك من خلال الارتباط بين مفهوم «منطقة النمو القريبة المركزيّة» ZDP الذي اجترحه العالم الرّوسي ليف فيجوتسكي (1896-1934)، وفنّ التأويل في تحديد معنى الفهم وكيفيّة حدوثه في منطقة «المابين».

تُعدّ «منطقة النموّ القريبة المركزيّة» ZDP أشهر مفاهيم النظرية السوسيوبنائيّة الثقافيّة، وهي منطقة للمهامّ التي لا يستطيع المتعلّم إنجازها بمفرده، إنما يحتاج إلى قدر من المساعدة. والتقريب يحدث بين تصوّراته السابقة حول الموضوع والمعارف الجديدة؛ صعبة، لكّنها قابلة للتعلّم وليست منفصلة عن عالمه. فهي إذن، تتوسّط منطقة السلوك الأولى ومنطقة العمليّات العقليّة العليا، باعتماد أدوات نفسيّة. واللغة من أكثر الأدوات النفسيّة أهميّة. هكذا، يتكوّن التعلّم من عمليّة استدخال للتفاعل الاجتماعيّ، ويبدأ من خلال العلاقات الشخصيّة بين الأفراد، مع الأقران والراشدين المحيطين به، ثمّ يتحوّل إلى عملية نفسيّة داخليّة. ولا يتأتّى له ذلك بغير "تسقيل" لردم الفجوة بين معرفة المتعلّم ومعرفة المعلّم، بوصف المعلم "سقالة" ووسيطًا يدعم ويساعد المتعلّم مؤقّتًا على الربط بين المعرفتّين الأوّليّة والعلميّة. يسحب المعلّم سقالاته تدريجيًّا، وينقل المسؤوليّة للمتعلّم كي ينفّذ السلوك وصولًا إلى الأداء المستقلّ.

"منطقة النمو القريبة المركزيّة" هي بحالة تغيّر دائم، وتختلف من فرد إلى آخر باختلاف ثقافة المجتمع، تمامًا كفعل التلقّي الذي يتقاطع مع عمليّة التعلّم في سياقات ذات معنى. إذ ليس بإمكان القارئ فهم النّص السّرديّ، ما لم يندرج بكلّيته في عالمه، حالما ينسحب منشئ هذا العالم بسقالاته جميعها، تاركًا أدواته للقارئ لكي يبني المعنى بنفسه؛ وذلك بإسقاط تجاربه الذّاتية على مجتمع النص الذي يشكّل عالمًا قائمًا بذاته وليس منفصلًا عن الواقع المرجعي، وهو عالم دائم التشكّل تبقى طاقته عصيّة على الاستنفاد في رحلة تجوال تأويليّة.

التداخل بين العلوم عميق في التاريخ، ومتّسع في الجغرافيا؛ إذ يعود التكامل المعرفيّ إلى الفلاسفة الأوائل الّذين تطرّقوا إلى العلوم الرّياضيّة والطبيعيّة والفلكيّة، وغيرها. فبين المنطقين الفلسفي والرّياضيّ صلة تتمثّل في نموذج العلاقات التجريديّة والعقليّة، وفي التقعيد للنّحو العربيّ والرّياضيّات تشابك معرفيّ لا يخفى على المشتغلين بأيّ من الحقلين. ونلحظ انتقال مفهوم حركة الزمان وعلاقته بالمكان، في مصطلح «الزمكانيّة» أو «الكرونوتوب»، من الفيزياء النسبية لألبرت أينشتاين إلى حيّز الرواية مع الناقد الرّوسي ميخائيل باختين. كما أفاد العالم التربوي السويسري جان بياجيه من العلوم الطبيعيّة – البيولوجيا – في علم نفس النمو لتأسيس نظريته البنائية المعرفيّة التي ترتكز على مبدأ التكيّف القائم على مجموع الاستيعاب والتلاؤم، والتوازن بينهما، تارة من خلال التغيير في المحيط ليتوافق مع البنية العقليّة (السكيما) للفرد، وتارة أخرى من خلال التغيير في البنية العقليّة للتوافق مع الموقف البيئي المستجدّ.

وإذا تمّ الفصل بين الكثير من العلوم وتقنينها في مرحلة ما من مراحل التطوّر الحضاري للبشريّة، لا سيّما في عصر الأنوار وما بعده، فنجد استعادة العلوم مساراتها المنفتح بعضها على بعضها الآخر. ثمة مسارب تتشكّل بشكل مطّرد بين العلوم التطبيقيّة والبحتة من جهة، والعلوم الإنسانيّة والفنون من جهة أخرى؛ وبين العلوم الإنسانية المختلفة والمناهج الفكريّة. في هذا التداخل توحيد للأسئلة النظريّة والتطبيقيّة، والعلميّة والإنسانيّة، وتقارب للحدود في خطوط مائلة؛ وهو لا يعبّر عن الفوضويّة، السمة الأبرز لما يسمّى بمرحلة ما بعد الحداثة، بل يندرج ضمن منظومة فكرية تذهب في الاتجاهات كافة، في محاولتها استشفاف الإجابات واجتراح الحلول الممكنة لمشكلات الإنسان.

القاعدة المعرفية الأسمى لعمليّات التعليم تتجلّى في أن نتعلّم كي نعرف، فنعرف كيف نعمل، لنعرف ونعمل لكي نكون ونحيا. فهو تعلّم لأجل الحياة. وإذا كانت التربية تجري مساراتها داخل مؤسّسات نظاميّة تحكمها نظريّات سوسيوبنائيّة وسيكومعرفيّة، فإنّ التنشئة عمليّة تفاعليّة استبنائيّة مستديمة، يؤدّي فيها الأدب، ولا سيّما الرّواية، دورًا لا يستهان به في تشكيل الوعي بالذات؛ لأنّ الرواية درب في الحياة ولأجلها معًا. هكذا، إنّ النتاج الفكريّ كلّ متكامل يعكس روح العصر بتعاضد علومه؛ فلا يسعنا الفصل بين الآداب ونظريّاتها، والعلوم التربوية والديداكتيكيّة بشكل تعسّفيّ، بل حريّ بنا أن نتقن فنّ الفهم عبر مسالك مختلفة لنظريّات تتقابس وتتناضح.

(المصدر مجلة فكر الثقافية)

(أكاديمية لبنانية)