ترى الكاتبة أن حداد عمد في روايته إلى التساؤل عن إمكانية الفعل الإنساني في اللحظة الراهنة التي تجعل الإنسان عابثاً، فكيف له أن يعبر عن وجوده الأصيل، إذا كان لا يمكنه أن يفكر أو يفعل، مقابل سلطة متحكمة بالحدث، اخترعت الدين لتحتكر الله. وفي الرواية دعوة إلى فعل إنساني حر، عابر للزمن يحمي من الموت العبثي.

عن الله .. والسلطة الحاكمة

في رواية «الشاعر وجامع الهوامش» لفواز حداد

وداد طه

 

في رواية «الشاعر وجامع الهوامش» الصادرة عن دار رياض الريس، يقيم فواز حداد مقارنة غير معلنة بين السلطة السياسية والشعب، تُذكر بتصميمه على ما كان قد توجه إليه في روايات سابقة، من تسليط الضوء على الواقع السياسي في سوريا زمن الحرب، وتشريحه الماضي، ثائرًا على بعض الراسخ في الموروث الفكري وحتى العقدي عند المسلمين والعرب.

يشير فواز بتلك المقارنة، إلى مفهوم الحرية كمشروع وجود أصيل، يمنح المعاني للأفعال، على خلفية أنها تدبير قصدي. تقف السلطة الحاكمة، كمشروع أصيل حرّ له قصد، تحاول على امتداد الزمن أن تفرزه مع كل ما يتطلب من أفعال، من دون أن تُزمن أصالة وجودها، فتفقد معاني قدرتها، فمشروعها هو موقف مقتدر، متمكن من التمظهر من دون انقطاع، وعبر أفعال أصيلة، تنم عن نسق متناغم، وبذلك فالسلطة السياسية حقيقة وحيدة متصلة، دائمة، حرة، والشعب على النقيض من ذلك، هو وجود ناقص ملاحق بفكرة الزوال الأكيدة، فإلى أين تتجه تلك المقارنة؟ اللحظة المهمة في الحكاية، هي لحظة انتداب السلطة السياسية ممثلة باللواء خالد للشاعر مأمون راجح، وهو في الأصل مجرد اسم صنعته السلطة نفسها، ودعمت مسيرته الشعرية، ثم عرفت كيف تستثمره حين احتاجت إليه. المَهمة هي مراقبة حركة فكرية مرتبطة بالدين ناشئة في قرية (مغربال)، ووضع الخطط لوقف أي خطر قد تشكله. والزمان هو زمن الحرب السورية الحالية، التي يوثق فواز ممارساتها الدنيئة كلها، فلا يغفل صورة من صور القتل فيها، يخترع شخصيات في الرواية ليحكي عبرها تلك الصور، فتضج الرواية بأسماء تتداخل، وقد تشعر القارئ بعبء فهم مسار أفعالها، وارتباط ذلك بالحبكة ومشروعها السردي داخل العمل، تمامًا كما هو الواقع الإنساني عامة، وواقع الحرب خاصة، مشحون بالوجوه العبثية الهمجية، القاتلة، العابثة، المشتهية للموت والمنقادة بدافع نقصانها إلى تكريس واقع أكبر منها، طالما أنه لا مشروع أصيل فيها تبرزه، فإما شخصيات منقادة بشهوة الموت إلى التشبيح والقتل بدل الموت جوعًا، وإما شخصيات منقادة بشهوة الموت إلى محو غيرها، كي تضمن جنة قصية على الجميع.

يقصد مأمون (مغربال)، يراقب الجدل الحاصل بين جماعة المشايخ، الذين هم في الأصل قادة عسكريون متقاعدون، يفتشون في الدين عما يوجد لهم مكانة فقدوها، يمثلهم اللواء نادر زعيمهم، وجماعة الشباب الذين هم في الأصل مثقفون، يستغلون ثقافتهم لكسب امتيازات اجتماعية، تمكنهم من فرض بعض مظاهر التحرر من ربقة الدين وتشدده، يمثلهم كريم، وهو شاعر معجب بمأمون.

لا أحداث مثيرة في الرواية، فهي مسار الجدل الذي يرصده فواز عبر الشخصية المركزية مأمون بين الجماعتين، وتداعياته. جدل يثير من خلاله الكاتب قضايا تمس الفكر والحياة، كعلاقة المثقف بالسلطة ودوره الاجتماعي، الذائقة العربية –مسايرة للموضة العالمية- نحو الرواية، نقد نزاهة الوسط الثقافي وانخراطه في قضايا معيشية حقيقية، استعمال صورة المثقفين في تجميل صورة السلطة الحاكمة، علاقة الفكر الحر بالتجربة والاشتباك الفعلي مع الواقع الإنساني، علاقة العرب بالدين والعالم اليوم « المؤسف أن الأديان انتهى زمانها في العالم، هذا زمان العلم والبشر. بينما الناس في بلادنا يعيدون الحياة للأديان بالقوة والحيلة». وعلاقة الدين بالحياة، العصبية التي نخرت جسد العالم حتى فتكت بالإنسان «إنها حرب الأديان ضد الأديان، والمذاهب ضد المذاهب»، المصالح الخفية للحروب والصراعات التي يفتعلها أرباب الحرب كي يضمنوا تحقيق تلك المصالح، اختراع الدين من أجل سيادة العالم.

في (مغربال) عالمان وزمن واحد: عالم معيش مؤلم وقاسِ وفتاك، هو عالم الناس العاديين، ضحايا الحرب الذين يموت أبناؤهم، قرابين يدفعونها ليبقى النظام، وعالم مفروض بالتخويف والقهر موتور منفصم ينادي بحياة الرئيس كي يضمن البقاء. هذان العالمان النقيضان، يقومان في زمن لا يتزحزح جاثم وبليد، لم يتغير فيه شيء منذ كان الشعر ديوان العرب، هو زمن السلطة السرمدية، التي عرفت على امتداد وجودها الأصيل أن تنسج عباءة حكمها من رؤية ديكتاتورية واضحة، ترجمتها أفعالًا ذات نسق مستمر، فقتلت وصلبت وسحلت من جهة، وشبكت علاقاتها بالفكر وأصحابه من جهة، ولبست خلعة الدين من جهة. يحاول المشايخ أن يكسبوا المعركة، فيهتدي اللواء نادر إلى تنصيب مستشار قضى حياته بين الكتب. يرسم فواز للمستشار صورة هزيلة جسديا، متضخمة فكريا، فيحقق بذلك فكرة أنه موجود بالفرض لا حقيقة مادية، أي أنه أحد اختراعات السلطة نفسها. يبدو المستشار عنيفًا في طروحاته، فيشكل عبئًا على القيادة، لكنه بخبث ودهاء وفيما الصراع على اختراع دين جديد دائر، يهتدي إلى فكرة تعيد الجدل الديني العربي والإسلامي إلى الجذور التي قسمت المسلمين فرقًا متناحرة، فيقترح إخفاء اللواء نادر، ليصبح صنوًا للمهدي، فهل يقصد فواز حداد أن الرموز الدينية، ليست إلا مخترعات إنسانية تهدف إلى امتلاك السلطة؟ يتمرد الإمام على المستشار، فيقصيه من المستشارية، فيبقى في مواجهة غير متكافئة القوى مع السلطة، ثم تسقط ورقته، فتنغلق أحداث الرواية على مشهد تدمير المقر الذي يتواجد فيه، حيث تهد الجرافات المكان، تمسح وجوده وكأنه لم يكن «الجرافة لا تتوقف عن العمل، تتابع التقدم، تهدم الجدران، وتسوي الكتب مع الأرض… الجرافة تسحق كل ما يصادفها، والغبار يبتلعه».

«الشاعر وجامع الهوامش» لفواز حداد، رواية حيكت من تساؤله عن إمكانية الفعل الإنساني في اللحظة الراهنة، في الحروب الحاصلة، التي تجعل الإنسان مفككًا عابثًا مجردًا من كل شيء، فكيف له أن يعبر عن وجوده الأصيل، إذا كان لا يمكنه أن يفكر وتاليًا يفعل، في مقابل سلطة سياسية متحكمة بسير الحدث، اخترعت الدين كي تحتكر الله أو تكونه، هي دعوة إلى فعل إنساني حر وفعال وقادر عابر للزمن يحمي من الموت العبثي.

 

(كاتبة من فلسطين)