يتناول الناقد الجزائري هنا تلك الرواية الجزائرية الجديدة، كاشفا عن طبيعة بينتها، وتمكنها من أدواتها السردية، ونجاحها في تقديم نص لا يعتمد على معارف جاهزة ليستعملها، وإنما ليعدلها، ويكملها وينقدها حين يضيف إليها من مخيلته تشكيل نفسيات شخصياته وحبك صراعها، وتعقيد مصائرها وأحداثها.

آليات التسريد وخصوصيات التجديد

رواية «سلفي» وجماليات الهدم الروائي للعالم

محمد الأمين بحري

 

الموضوع والإشكالية:
رواية سيلفي للكاتبة الجزائرية نسرين بن لكحل، الفائزة بالمرتبة الأولى في جائزة رئيس الجمهورية: على معاشي صنف الرواية، لسنة 2019، نص من النوع النفسي، يقوم على تسريد ثقافته ومعارفه وفق قراءة مخيالية وتمثيلية لتقنيات التكنلوجيا الحديثة، بصورة تعيد صياغة تلك المعارف نفسها، قبل أن تعيد صياغة الفن الروائي بمنظور الروائية الخاص.

يتميز السيلفي بكونه صورة التقطتها الذات بطريقة انعكاسية مواجهة لذاتها، فهل السيلفي المناسب هو الأكثر مكياجاً وتغطية للعيوب؟ أم هو ذلك الذي يبرز للذات عيوبها وتشوهاتها قبل محاسنها؟ هل السيلفي هو الزائف الذي نريد أن نرى به أنفسنا؟ أم هو الحقيقي الذي لا يقبل الكثير منا بنشره عن نفسه؟

أولاً- بناء الشخصيات ولعبة المكاشفة والخداع
وسط إكراهات المواجهة من تشوهات وجوههم، ووجودهم، وحقيقة العالم التي يرفضون التعايش معها، تقودك رواية سيلفي بثالوث من النماذج البشرية: يعقوب، مروان، وحسن. وثلاثتهم أشخاص يلبسون أقنعة تخفي حقيقتهم وترفض مواجهة الوقائع من حولهم، لكن من جهة ثانية، لم يكن الثلاثة بكل أمراضهم وعقدهم وتشوهاتهم النفسية، وأوهامهم سوى انعكاس إبداعي، وشخصيات متخيلة في قصص يكتبها طالب علم النفس "كمال"، الذي زرع الشخصيات الثلاثة السابقة وسجنها في أقبية متجاورة بحيث يسمع كل منهم الآخر، دون أن يراه، وهكذا تعرف كل واحد منهم على الآخر، من قبوه الخاص، وراح يحكي قصته للطرفين الآخرين على امتداد الرواية، تتجاور أقبية سجنهم ليدخلوا في مكاشفة بلا رحمة لبعضهم البعض،(كما في لعبة Action/Vérité)، فيشتد النقاش بينهم حد الجنون والعنف والصراخ، وثم ينبسط حد الوداعة والسماحة والبكاء، ليكتشف القارئ الذي كان يظنها شخصيات حقيقية للرواية. بأنها مجرد أقنعة تلبس أقنعة، وهذه هي حقيقتهم، أقنعة ثلاثة لروح الطالب المبدع كمال المهتزة والثائرة التي تشدها قوى جذب ثلاثة: العاطفة، الحنين، والوحدة: [كان يشعر أن الاستمرار في كتابتها يفضحه ... ثلاث قصص مختلفة الزمان والمكان ... حسن مروان يعقوب]. ص262

[لم يدر الثلاثة أنهم أبطال من ورق...] 266
[كنت كمن يلتقط صورا كثيرة لنفسه...] 270
[نحن لسنا أكثر من صور نصنعها في ذهن الأخر..] 271

بل إن ثلاثتهم صورة ثلاثية الأبعاد لمبدع قصصهم كمال. الذي انتهى به الأمر إلى وضع القصص الثلاثة في ملف داخل حاسوبه وأطلق عليه تسمية "أقدار ميتة".

ليستفيق كمال ويجد نفسه في كابوس، دبره نوم ثقيل، ثم يتفطن بأنه هو نفسه لعبة في يد المنام، وأن المنام فسحة خيال من فسحات الحياة، تصنعها رغباتنا التي لم تتحقق، وأننا نحن ورغباتنا جميعاً مجرد لعبة في يد صانع اللعب الكونية جميعاً ومخرجها. – أقنعة داخل أقنعة في عالم ماتريوشكي (ماتريوشكا دمية روسية داخلها مجموعة دمى تشبهها الواحدة داخل الأخرى)، لا ينتهي باطنه ولا ينتهي ظاهره، ولا تنتهي أقنعته التي تصنع بعضها في دوامة الوجود الذي نتوقف نحن في محطة صغيرة جدا من محطاته الصغيرة، صغر الذرة في مجرة سيكون مصيرها ثقب أسود يبدو كنقطة خانة في وجه الكون الذي يهوى التقاط السيلفي. والظلام خلفه: يقول الراوي: [هههه قهقه مروان.. ثم أضاف: سيلفي والظلام حولي وخلفي].ص271.

بعد هذا الحلم يغادر كمال غرفته، خارجاً، ليعود على وقع حريق التهم حيه السكني .. والتهم غرفته وحاسوبه وأبطاله الثلاثة وهم يتناقشون في كيفية الخروج من أزماتهم النفسية داخل ذلك الملف الالكتروني الذي سماه "أقدرا ميتة". لتبرز لهم نقطة مضيئة في آخر نفقهم المظلم، نقطة لم تكن سوى كتلة النار التي التهمتهم واحداً واحداً، وهم ينظرون إلى سخرية القدر. ليتساءل مبدعهم كمال وهو يقف على رماد غرفته وحاسوبه: [كيف كان احتراقهم؟ هل تألموا كثيراً...].ص284.

وما إن ينام حتى تتجلى شخصياته الثلاثة تعاتبه وهي تحترق. ينهض كمال فتصبح تلك الشخصيات هواجس تطاره في النهار، كوساوس تصدع رأسه بصراخ أرواحها المُعَذّبة التي لا تهدأ: [تجنب الإنصات لأصواته الداخلية، وهرب منها طويلا في كل مرة تفاجئه أطياف تشبه ـ أبطاله، حتى خشي على نفسه من تأثير هذه الهلاوس على عقله].290.

ليصعقه الوسواس الأعظم الذي سيطر عليه وجعله يتأكد أن المصير المشؤوم الذي فشل الروائي في إنقاذهم منه، جعلهم يتمردون عليه، وينتقمون منه، بتقرير لمصيره وقدره هو، بعد أن كان يتوهم بأنه هو من يقرر أقدار ومصائر شخصياته الورقية: [لم يوفق الروائي في إنقاذهم من البؤس، الذي أوجدهم فيه، فقرروا الانفلات من قبضته، وتغيير واقعهم بالانتقام منه أولاً..] ص295.

ليتيقن أنه هو نفسه لم يكن في النهاية سوى سطر من كلام. اختطه قلم من يخط قدره. وأوكل مصيره المقرَّر سلفاً إلى ثلاثة شخصيات، يكون هو مبدعها، وضحيتها، وتكون هي الجلاد التي تكرر في مبدعها، ما فعل مبدعه. في صورة مقلوبة يقرر فيها المخلوق مصير الذي خلقه. وهو الصورة المقلوبة للكون/ أي إنه السيلفي الكوني الذي يقوم به العالم الكبير، وتكرره كائناته الصغيرة التي تبدع كائنات أصغر. وكلٌ في سيلفي يسبحون.

ثانياً- استراتيجية التعقيد والإلغاء المخيالي للحل:
بعد أن تبالغ الكاتبة في تعقيد الخيوط السردية الثلاثة المرتبط كل منها بشخصية من الشخصيات الثلاثة [يعقوب، مروان، وحسن]. التي توهمنا الرواية بأنها شخصيات حقيقية. تكشف لنا في الفصلين الأخيرين، بأنها شخصيات ورقية في ملف إلكتروني تم إتلافه حرقاً. ولكنها تواصل الحياة في ذهن مبدعها، لأنها ليست سوى صور متناقضة لنفسيته.

وهكذا تشرع الكاتبة في حل تدريجي للعقد المركبة التي نسجها ذلك الحبل الثلاثي الشخصيات طوال الوقائع المخيالية للرواية.

وفق استراتيجية غريبة.. حيث كان التعقيد ثلاثياً، أي إن السرد كان متواتراً. كل شخصية وجزؤها الخاص، تصمت لتواصل الأخرى حكايتها، ولو جمعنا شتات أقسام كل شخصية لاستخرجنا أسطورتها الشخصية كاملة، وعقدتها العاطفية والنفسة التي تقيد وجودها. لكن حل هذه الظفيرة الثلاثية من العقد، يتم بضربة واحدة. حين يخرج ثلاثتهم من أقبيتهم، ويقررون الخروج إلى العالم، ويبدأ كمال في كشف أمر تأليفه المخيالي لتلك الشخصيات.. فبعد أن يصطدم القارئ بالتعقيد الثلاثي للحبال السردية الثلاثة، يصدم مرة ثانية بالحل المخيالي، حين يكشف له الطالب المبدع كمال الحقيقة الورقية للشخصيات، ليصطدم القارئ مرة ثالثة، بكون تلك العقد وكشف حلولها، لم تكن سوى مدخلاً لعقدة كمال الحقيقية في مواجهة الكون.

إي إنها عقدة سلفي بالأساس. تكمن خطورتها في بساطتها كفعل كبس أحدنا على زر الهاتف المصور، ليأخذ صورة مقلوبة، تكمن خطورتها في أن هذه الكبسة البسيطة هي مغامرة تنطوي في تداعياتها على حياة أو موت لجيل تنبع خطورته في هشاشته، جيل سيبرني يمثله كمال، حين يتكشف معه القارئ كيف أن قيامة هذا الكون قد تكمن في أبسط حركة، تحمل أخطر معنى يمنعنا من تجاوزها. ويجعل هذه الحركة بتلك الخطورة التي يمكنها أن حياتنا، كما انقلبت حياة كمال، حين تجرأ على القيام بالسلفي، لكن عن طريق الكتابة، وهو لا يدري أنه بذلك الفعل إنما أطلق شرارة سلسلة انقلابات كونية بدأت بانقلاب مصير شخصياته ثم انقلاب حياته هو نفسه، ولا تنتهي ارتدادات هذه الحركة البسيطة إلا بنهاية الكون، الذي منحنا تلك الوسائل الإلكترونية الصغير التي صارت تصنع أقدرانا. فهل يعلم صاحب كبسة السلفي أنه حرك كرة ثلج ليس مؤهلاً لإيقافها بعد ذلك؟؟ هذه هي العقدة التي تنتهي بها حلول جميع عقدات النص، وتبقى عالقة كغصة في حلق القارئ، ولا تغادره حتى بعد طي آخر صفحة في المغامرة السردية. لنص مفتوح يعتمد على مشاركة قارئه في أحداثه. أكثر من اعتماده على مركزية كاتبه. كما نرى في كثير من نصوص كتابنا.

ثالثاً- معرفية النص:
لن يطيل القارئ كثيراً في البحث عن المدد المعرفي للرواية، التي تشي منذ البداية بتأسيسها المعرفي النفسي، نعم غننا أمام "جاك لاكان"، لكن ليس في نظرية "الابتهاج"، بل في نظرة "المرآة"، أو مرحلة المرآة [Mirror stage]، لكن الروائية نسرين بلحكل، تتمرد بشكل واضح عن أسس هذه النظرية لكي لا تنحبس فيها، بل أقول أنها تضيف إلى نظرية "جاك لاكان" مخيالياً ما لم يفكر فيه هو تحليلياً، ونفسياً .. إننا أمام نص لا يتأثث بمعارف جاهزة ليستعملها، وإنما ليعدلها، ويكملها وينقدها حين يضيف إليها من مخيلته تشكيل نفسيات شخصياته وحبك صراعها، وتعقيد مصائرها وأحداثها.

بهذا تمنح الرواية بعثاً آخر للمعارف التي توظفها، وتقدم نسخة جزائرية مخيالية لطريقة مستجدة لنظرية المرآة، انطلاقاً من أن السيلفي يتضمن مرآة أيضاً، ولكنه يفوقها محاورةً واستغواراً نفسيين، وتقنية في البث والترويج، والالتقاط، والتصوير، حتى صارت نظرية "جاك لاكان" نفسها، تبدو سخيفة ومبسطة، بساطة بعدها الطفولي، أمام المعمار الروائي البالغ التعقيد في بعده النفسي، والروائي، والبالغ البساطة في حل عقده بعقد أخرى. ولعل الإنجاز النفسي والروائي الأكبر الذي بلغته الروائية بعملها، هو أنها ألغت مفهوم الحل الروائي للعقدة، نفسه، فلم يعد للحل من معنى لدى القارئ الذي يغدو باحثاُ عن مزيد من التعقيد انطلاقاً من كون العقد الجديدة تحمل حلول العقد السابقة التي مر بها.

رابعاً- روائية الرواية، أو القدرة على تسريد ما ليس سردياً. (عملية الإثراء المتبادل)
ختاماً إن رواية سلفي من تلك النصوص التي تضيف إلى معارفها، وهي لا تضيف إلى معلوماتها الموظفة فحسب، بل تضيف إلى فن الرواية ديكورات جديدة، حين جعلت من الرواية وتقنياتها مجرد أثاث معرفي قابل للتجديد، وإعادة الهيكلة والهندسة والتشكيل. ودائماً أقول بأن النص الذي لا يضيف لجنسه هو نص ميت. لكن نسرين تمنح الحياة لكل ما وظفته في نصها، بداية من علم النفس ونظرياته التي قامت بتحديها، بعد تسريدها، كما منحت تحديثا مختلفاً لحياة الرواية التي أضافت إليها العديد من الاستراتيجيات الوافدة من علم النفس والمسردة بهندسة يمتزج فيها العلم بالفن، كما أضافت إليها من روح التقنيات الحاسوبية الذكية الماثلة في قراءة نفسية للسيلفي، ركن بطريقة مخيالية استعملت فيها مختلف التوابل الغريبة المنبت التي قد يتعب القارئ حتى في إيجاد مصادرها.

ليعترف أخيراً بأنها سر من أسرار صنعة السرد لكاتب متمكن معرفياً مما يتحدث عنه من مواضيع فلسفية ووجودية وعلمية قام بتسريدها في نصه، حتى وإن لم تكن من جنس السرد، اعتماداً على تمكنه وامتلاكه لتقنيات فن الرواية التي شهدنا الروائي تتلاعب بها، كما تلاعبت بمشاعر القاري بمؤثراتها الخاصة، تماماً كما حدد أرسطو شخصية الفنان حين قال: هو المتمكن من آلة فنه بحيث يمكنه تمكنه من التلاعب بعواطف الجمهور. إنها متحكمة في كل أدواتها وأثثها الفني والمعرفي، بداية من اللغة المحكمة، وانتهاءً بثقافة قراءات روائية موسوعية مكنت الكاتبة في التحكم بنائياً وفنياً في كل مفاصل العالم السردي، مانحة لروايتها صورة النص الذي يحق له أن يكون نموذجياً في الاستيعاب والتمكن من المادة، وموضوعها قبل التمكن من كيفية صياغتها فنياً، والتمكن من آليات الهدم والبناء للعوالم الروائية. من أجل تقديم رؤيتها الإشكالية للعالم.

ناقد وأكاديمي جزائري

---------------------

  • نسرين بن لكحل: سلفي، موفم، للنشر، منشورات وزارة الثقافة، ط1، 2019.