يتتبع الباحث المغربي نشأة المسرح الرقمي في الغرب، ثم ينتقل إلى ظهوره العربي وإلى ما يتسم به من خصائص تميزه عن المسرح التقليدي كتابة وعرضا، وينتهي إلى المقارنة بين النوعين للتعرف على الثابت بينهما وما تحوّل وتغير. ويبقى السؤال: هل استطاع المسرح الرقمي أن ينتج أعمالا درامية باقية؟

المسرح الرقمي بين الثابت والمتحول

محمد العنوز

 

مقدمة

إن المتمعن في سيرورة مختلف الفنون الأدبية، يجدها شهدت تطورا وتجددا على مر العصور، وقد وصل هذا التطور ذروته مع الثورة الرقمية الهائلة التي يعرفها العالم على مستوى تكنولوجيا المعلومات والتواصل، التي انعكس تأثيرها على جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأدبية والفنية، التي دخلت في علاقة تفاعلية مع الوسيط التكنولوجي )الحاسوب( وما يرافقه من عتاد وبرمجيات، مما أدى إلى ظهور أشكال تعبيرية جديدة على مستوى الإنتاج والتلقي كالرواية الرقمية والقصة الرقمية والشعر الرقمي والمسرح الرقمي، الذي يعبر عن حالة مغايرة لما هو مألوف ومتعارف عليه.

وكما هو معلوم أن لكل عمل مسرحي عنصرين أساسيين وهما الممثل أو الممثلون والجمهور، حيث ترتبط خشبة المسرح بالممثل أو الممثلين وترتبط الصالة بالجمهور المتفرج، ولما كان العنصر الأول يتسم بالدينامية والحركية، والعنصر الثاني يتسم بالجمود والسكونية، فإن العلاقة بينهما ظلت متباعدة وغير تفاعلية، نظرا لاختلاف طبيعة الدور المنوط بكل واحد منهما، وعليه، لم تعد هذه العلاقة بينهما مقبولة في ظل العصر الرقمي التفاعلي، "فإذا كان الشعر والرواية قد استطاعا تجاوز الصورة النمطية لطبيعة عناصر العملية الإبداعية، وهما أبعد من المسرح من حيث الاحتكاك بالمتلقي، فإن المسرح أولى منهما في تجديد طبيعة العلاقة القائمة بين عناصر العملية الإبداعية فيه، لأنه شديد القرب والاحتكاك بالعنصر الأهم فيها، وهو المتلقي، الذي بعثت فيه التكنولوجيا الحياة، في تطبيق حي وحقيقي لمقولات ما بعد البنيوية، سواء سعى التكنولوجيون لذلك أم لا"1.

انطلاقا من هذا التعريف، وتماشيا مع التطورات التي يشهدها العصر الرقمي التفاعلي، أصبح المسرح ملزما بالدخول في هذا العصر والتفاعل معه، من خلال إنتاج مسرحيات رقمية تفاعلية تفيد من التكنولوجيا وما يرافقها من عتاد وبرمجيات، مختلف الإمكانات التي تسمح لها بالتفاعل مع الجمهور ونقله من طبيعته التقليدية المتسمة بالجمود والسكونية إلى طبيعة جديدة تتسم بالتفاعلية والدينامية. فما هو المسرح الرقمي؟ وماهي مميزاته؟ وما هو الثابت والمتحول فيه؟ وما هي أوجه الالتقاء والاختلاف بينه وبين المسرح التقليدي؟

  1. تعريف المسرح الرقمي
    المسرح الرقمي هو نتيجة للتفاعل الذي حصل بين المسرح والتكنولوجيا، إذ يهتم بقضايا المجتمع ومشكلاته ويسعى إلى تقديم حلول لمختلف الظواهر السوسيولوجية والسيكولوجية والسياسية، موظفا في ذلك جميع أدواته التي تركز على طبيعة العلاقة مع الجمهور وهو الأمر الذي يميزه عن المسرح التقليدي.

وعليه، فالمسرح الرقمي هو عبارة عن "نمط جديد من الكتابة الأدبية، يتجاوز الفهم التقليدي لفعل الإبداع الأدبي الذي يتمحور حول المبدع الواحد، إذ يشترك في تقديمه عدة كتاب، كما قد يدعو المتلقي/ المستخدم أيضا للمشاركة فيه، وهو مثال للعمل الجماعي المنتج، الذي يتخطى حدود الفردية وينفتح على آفاق الجماعية الرحبة"2.

من خلال هذا التعريف، يمكن القول إن المسرحية الرقمية التفاعلية هي "منجز إبداعي يحتمل التأليف الجماعي، ويعتمد تقنيات الحاسوب وشبكة الاتصالات ولا سيما تقنية النص المتفرع تحقيقا لنمط اللاخطية في الكتابة فضلا على إشراك المتلقي في مشاهد يكون بعضها ارتجاليا، بعد الاتفاق على ثيمة درامية ينطلق منها النص، ويبقى العمل الإبداعي على هذه الشاكلة محلقا في الفضاء الافتراضي لشبكة الإنترنت، أو يكون على قرص مدمج، أو كتاب إلكتروني، دون أن تلامس أجنحته فضاء الورق"3.

إضافة لما سبق، يمكن القول إن المسرح الرقمي يتأسس على منطق الارتجال واللعب اللذان يخلقان المتعة للجمهور (المتلقي)، الذي له الحرية التامة في اختيار المسلك الذي يفضل أن يكمل به المسرحية، تأسيسا على الحدث أو الشخصية التي أثارت انتباهه أكثر من غيرها، فيدخل معها في حوار حول موضوع معين، مما يؤدي إلى تعدد المشاهدات واختلاف النهايات بين الجمهور المتلقي.

كما يعتمد المسرح الرقمي التفاعلي في كتابة نصوصه على النص المترابط، حيث توجد عقد نصية وروابط خاصة بكل حدث أو شخصية، يتتبع مساراتها ويمكنه التفاعل معها عن طريق إضافة تعليقات أو توجيه رسائل بريدية للمبدع أو المبدعين، مكسرا بذلك بنية المسرح التقليدي.

  1. المسرحية الرقمية في الحقل الثقافي الغربي
    ترجع الإرهاصات الأولى لظهور المسرح الرقمي في التجربة الغربية إلى "تشارلز ديمر" الذي ألف أول مسرحية رقمية تفاعلية سنة 1985، وقد تزامنت مع ظهور أول رواية رقمية تفاعلية بعنوان "الظهيرة قصة" لمايكل جويس سنة 1986، التي اعتمد في إبداعها على برنامج المسرد (Storyspace)، الذي تم إعداده قبل سنتين من إنجازها، في حين لم يستفد ديمر في تأليف مسرحيته من البرامج الإلكترونية التي كانت متوفرة قبل ظهورها، حيث اعتمد على برنامج (Iris) الذي يلعب في نظره دور النص المترابط، في هذا السياق تقول البريكي "لقد كانت البداية مع برنامج (Iris) الذي يراه (ديمر) بمثابة (النص المتفرع) لنظام التشغيل السابق (DOS)، إذ أقام بينة نصه (Chateau de Mort) عليه، بما يشبه ما يحدث الآن في النصوص التفاعلية الحديثة باستخدام خصائص النص المتفرع) في نظام التشغيل (WINDOWS)4.

وبعد ظهور هذه المسرحية توالت أعمال ديمر في مجال المسرح الرقمي التفاعلي5 حيث كتب العديد من المسرحيات نذكر منها:

  • BATEAU DE MORT
  • TURKEYS
  • RANCHO
  • COCKTAIL SUITE

علاوة على تأسيسه لأول مدرسة تعنى بتعليم فن كتابة سيناريو المسرح الرقمي، حيث تجرى مجموعة من الدورات التكوينية لفائدة الطلاب المسجلين فيها. ويقوم ديمر بالتعريف بهذه الدورات عبر موقعه الخاص على شبكة الإنترنت: http://www.pcez.com/cdeemer/index.htm

إلى جانب ما يقوم به ديمر، هناك مواقع أخرى تقوم بتنظيم دورات تدريبية من أجل تأهيل الكتاب المسرحيين الجدد للكتابة المسرحية الرقمية الجماعية، نذكر منها:

http://www.thetherapist.com/Explanation.html

  1. المسرحية الرقمية في الحقل الثقافي العربي
    عرف ظهور المسرح الرقمي في الثقافة العربية، تأخرا مقارنة مع نظيره الغربي؛ حيث يعود ظهور أول تجربة مسرحية رقمية لسنة 2006 للكاتب المسرحي العراقي محمد حسين حبيب بعنوان «مقهى بغداد» التي اعتمد في إبداعها على تقنية «النص المترابط» ولمتابعة هذه المسرحية الرقمية التفاعلية عبر الإنترنت يمكن الرجوع إلى الموقع الآتي:

http://www.stack.nl/theatreofwar

بعد ذلك توالت الأعمال في مجال العرض الرقمي من خلال عدد من التجارب المسرحية الرقمية في العالم العربي، في لبنان والمغرب ومسرح المهجر، من خلال أعمال المسرحيين ربيع مروة وحازم كمال الدين ويوسف الريحاني.

  1. مميزات المسرح الرقمي
    تتميز المسرحية الرقمية بخصائص يمكن إجمالها فيما يلي:

-تولي أهمية بالغة لعنصر الإضاءة من أجل تجسيد رؤية المخرج.

- تقوم بالمزج بين الوسيط التكنولوجي (جهاز الحاسوب) والعنصر البشري (الممثل /الممثلون).

- شخصيات المسرحية الرقمية شخصيات أساسية تتواجد باستمرار في فضاء العرض.

- تجري العروض المسرحية في بيئات واقعية حية غير ثابتة.

- يقوم المسرح الرقمي بإشراك المتلقي/ الجمهور في أحداث المسرحية في مختلف مراحلها، وذلك من خلال وضعه أمام مواقف مشهدية وسيناريوهات تفرض عليه اختيار طرق مواصلة المشاهدة.

- النص المسرحي الرقمي نهاياته متعددة غير موحدة.

- تتسم السينوغرافيا في المسرحية الرقمية بكونها واقعية تقوم بتوظيف كل ما هو طبيعي ( الديكورات، الإضاءة، الموسيقى).

- يهتم المسرح الرقمي بقضايا الإنسان السياسية والاجتماعية ويخلق حوارا وتواصلا بين الممثل/الممثلين والمتلقي/الجمهور ويعمل الجميع على إيجاد حلول لها.

5- الثابت والمتحول في المسرحين التقليدي والرقمي
يمكن عقد مقارنة بين المسرح التقليدي والمسرح الرقمي، انطلاقا من مجموعة من العناصر التي يمكن إجمالها فيما يلي:

- يكسر المسرح الرقمي الطابع التقليدي السكوني للمتلقي/ الجمهور الذي رسخه المسرح التقليدي، حيث لم يعد ينظر إلى المتلقي/ الجمهور بكونه حبيس صالة مظلمة يتابع عرضا مسرحيا على الخشبة بطريقة خطية (بداية-نهاية) وينتظر إسدال الستار ليصفق ويخرج منها، بل أصبح متحركا ومشاركا في العرض المسرحي الذي يمنحه مساحة يمكنه من خلالها أن يتبادل النقاش والأدوار مع الممثل/ الممثلين وأن يتحرك "يخرج من مكان، ويدخل في آخر، تابعا شخصية ما، ولا توجد مقاعد ثابتة في صالة مظلمة يفرض عليهم الجلوس فيها. ولكل متفرج على هذا العرض حرية اختيار المشهد الذي يريد مشاهدته. وكذلك حال الجمهور في حالة حضور عرض (مسرحية تفاعلية)، إذ يظل الجمهور في حالة حركة دائمة"6.

- يقدم العرض على خشبة المسرح التقليدي في صالات مخصصة لذلك، في حين تقدم عروض وأحداث المسرح الرقمي في بيئة حقيقة (حية)، "مما يجعلها تمثيلية حية ومباشرة. ومن أمثلة البيئات الحقيقية التي تصلح لاتخاذها فضاء للأداء المسرحي: بنك، مطعم أو بار، قصر، باخرة، منتجع سياحي. ويفضل بعض كتاب (المسرح التفاعلي) اختيار الفضاء الذي ستجري فيه الأحداث، ثم كتابة النص المناسب له"7.

- يحفز المسرح الرقمي المتلقي/ الجمهور على المشاركة والتفاعل مع القضايا السياسية والاجتماعية التي يتناولها وغالبا ما تكون مصاحبة للنقاش الذي يجري في نهاية العروض، حيث يقترح حلول لها. في حين يكتفي المتلقي/ الجمهور في المسرح التقليدي بدور المتفرج المستهلك الذي لا يستطيع المشاركة في أحداث العرض المسرحي.

- يعتمد المسرح التقليدي على الشخصية الرئيسة أو المحورية التي تدور حولها مختلف أحداث العرض المسرحي، كما نجد إلى جانبها شخصيات ثانوية مساعدة للشخصية الرئيسة في تطوير الحدث. في حين نجد في المسرح الرقمي كل الشخصيات أساسية تتواجد في جميع الأماكن التي تدور حولها أحداث العرض حيث تعتمد هذه الشخصيات على مبدأ اللعب والارتجال، الأمر الذي يجعل من وجودها ضروريا.

- تركيب
انطلاقا مما سبق، يتضح أن تكنولوجيا المعلومات والتواصل أثرت على مختلف الأشكال التعبيرية، ومن ضمنها المسرح الذي دخل في علاقة تفاعلية مع الوسيط التكنولوجي، مما أدى ولادة المسرح الرقمي الذي عرف انتشارا واسعا في التجربة الغربية، بفعل التطور الذي شهدته هذه المجتمعات في جميع المجالات، إضافة توفر الشروط التقنية الضرورية والكافية والبيئة الرقمية الملائمة، عكس التجربة العربية التي تعرف تأخرا كبيرا في مجال استثمار تكنولوجيا المعلومات والتواصل في إنتاج نصوص مسرحية رقمية، وما يؤكد هذا الأمر هو نذرة النصوص المسرحية الرقمية العربية، اللهم إذا استثنينا بعض التجارب نذكر من منها تجربة العراقي محمد حسين حبيب "مقهى بغداد".

لكن تبقى البيئة العربية وما تعيشه اليوم من ثورات وحروب وما خلفته هذه الأخيرة من آثار سياسية واقتصادية واجتماعية، بيئة مناسبة جدا لاحتضان المسرح الرقمي وتبنيه، والذي يأخذ على عاتقه أهدافا ومميزات تربوية وتوعوية تسهم في إحداث التغيير في الظواهر النمطية المغروسة في مجتمعاتنا العربية والعمل على إصلاحها وعلاجها ثقافيا وفنيا، من خلال فسح المجال للمتلقي/المتفرج للحوار والتفاعل مع الأفكار التي يثيرها الممثلون أثناء العرض المسرحي، جاعلا نفسه مكانهم ومتقمصا لبعض أدوارهم.

إن المسرح الرقمي قد كسر النمط الجامد والسكوني للمتلقي/ المتفرج على عرض مسرحي تقليدي داخل صالة مظلمة، حيث لا يمكنه أن يتحرك من مكانه أو يسهم في أداء عروضه، وذلك من خلال جعل المتلقي/ المتفرج مشاركا في العملية الإنتاجية للنص المسرحي ومسهما أيضا في أداء أحداثه، الأمر الذي يجعلنا نقول إن المسرح الرقمي له راهنيته وله الحق في التجريب، وعلى المبدعين والمخرجين المسرحيين والمهتمين بالشأن التربوي أن يولوه العناية اللازمة التي يستحقها، وعليه العمل على اللحاق بركب التجربة الغربية في هذا المجال واستثمارها بشكل جيد فيما يعود بالنفع على تطوير التجربة المسرحية الرقمية العربية.

الهوامش:

* محمد العنوز، جامعة مولاي إسماعيل، الكلية المتعددة التخصصات بالرشيدية- المغرب.

1- البريكي فاطمة، مدخل إلى الأدب التفاعلي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 2006، ص.98.

2- المرجع نفسه، ص.99.

3- نذير عادل، عصر الوسيط أبجدية الأيقونة، دراسة في الأدب التفاعلي-الرقمي، كتاب-ناشرون، الطبعة الأولى، لبنان، 2010، ص.76.

4- البريكي فاطمة، مدخل إلى الأدب التفاعلي، مرجع سابق، ص.102.

5- المرجع نفسه، ص. 103-104.

6- المرجع نفسه، ص.110.

7- المرجع نفسه، ص. 110.

- المواقع الإلكترونية:

http://www.pcez.com/cdeemer/index.htm-

-http://www.stack.nl/theatreofwar

- http://www.thetherapist.com/Explanation.html