يكتب الناقد المصري أن الكاتب لجأ إلى العديد من الحيل السردية، التي تكسر رتابة التتابع، وتجعل القارئ في حالة يقظة مستمرة، وتمنح السرد جمالياته الآسرة. وأن استخدامه ضمير الغائب ساعد على الانشقاق النفسي، وتغييب الذات، في الوقت الذي جاءت القصص المروية بضمير المتكلم، هي المتعلقة بفعل الفرد الحر.

جناية السياسة علي الوجود الفردي

في مجموعة «أغار»

شوقي عبدالحميد يحيى

 

الإبداع في الأساس، هو رؤية الإنسان، لذاته، ولعلاقته بالواقع المحيط به. لذا فإنه يمكن التعرف علي الشخص، ورؤيته من خلال أعماله. وهذا ما ينطبق بصورة جلية علي القاص شوقي عقل من خلال مجموعته "أغار" التي تكشف عن رؤية الكاتب من خلال التجارب الحياتية، وهو ما اضفي عليها الكثير من الصدق، الفني والواقعي، من خلال سرد متتابع يعود بنا إلي القصة الإدريسية، القائمة علي الموقف، والمسترسلة في كشف أبعاده، الجغرافية والتاريخية والنفسية. وهو ما يتضح من قراءة أولي قصص المجموعة "الراقصة والتوتة. التي تعتبر هي المؤسس لروي المجموعة بصفة عامة. والتي تعتبر القصة الوحيدة في المجموعة، التي تحمل قدرا من الأمل في الغد، ذلك الذي غاب عن باقي قصص المجموعة. حيث يتحلق السرد حول لحظة الكشف التي يطمئن فيها الجد علي الغد، فيغادر الدنيا راضيا.

فتبدأ القصة والطفل "كمال" ابن الحادية عشر ربيعا، برفقة صديقيه ابني العاشرة من العمر، وقد كشفوا رشوة صول الشرطة للتغاضي عن سرقة النور في الشادر المقام لفرح "رشاد" الإبن الأكبر لصاحب بقالة "المحلاوي" الكبير في شارع الجامع. لنصبح ههنا أمام أول كشف عن حالة فساد، وكشف الفساد. ليأتي العقاب علي قدر العمر، وليتوافق مع طبيعة الشخصية، فكان جزاء الثلاثة، خيزرانة علي مؤخرة كل من الثلاثة، من "سيد المحلاوي" ابن صاحب بقالة المحلاوي – شقيق العريس- والذي يأتي وصفه كاشفا عن الرؤية التي يبتغيها الكاتب { لا يحبون سيد المحلاوي ابن البقال.. ولا يرضون أن يلعب معهم، يعايرونه بسمنته وبمؤخرته الكبيرة}. وهو ما يضع القارئ أمام عالمين، عالم الغني والفساد، وعالم النقاء (الطفولة) ورفض الفساد. خاصة حين نعلم أن الحاج محيي نفسه قد حاول منع إقامة الشوادر في هذا المكان، لدي قسم شرطة مصر القديمة، لكن طلبه قوبل بالرفض، وعلم أن هؤلاء لهم علاقة (بصولات) القسم، فأدرك أن الزمن تغير، فهو المهاب من الجميع، لم يعد أحدا في القسم يستجيب لطلبه، أو يهابه.

وقد تزداد الصورة وضوحا، إذا قرأنا أن المكان المخصص للراقصة صغير، ونكتشف ان الراقصة حامل، وهو ما يحول الراقصة إلي أيقونة للفرح، وأن حملها يعني أن الفرح سيمتد ، ولن يقف عند الراقصة، الفرد، غير أن أحدا من المعازيم، لم يفكر في (نقوط) الراقصة. فينسي الطفل "كمال" تلك الخطة التي كان ورفيقاه يفكرون فيها لإفساد الفرح، ويصعد خلسة ويمسك بالميكروفون، زاعقا، {إدوها نقطة وخلوها تروح يا كروش.. صاح ثانية بقوة : يا كروش}. وهناك في البعيد، كان الجد الذي هجر القراءة، منذ استشهاد ابنه "بكري" في حرب 67، فهجر كل شئ، باحثا عن الوقت الذي سيأتون برفات ابنه حتي يقوم بدفنه في مدافنهم، ولم يعد له إلا شرب القهوة والمعسل تحت التوتة العجوزة التي شهدت صعود كمال في بداية طفولته، وكان الحاج نفسه قد تسلقها صغيرا. وهناك، سمع صرخة حفيده في الميكروفون، فاسلم الروح بعد أن رأي ابنه الشهيد بكري، بين أفرع وغصون التوتة المورقة الريانة بالعطاء، وكأنه قد أيقن أن (اللي خلف مماتش). وكأنه اطمأن علي امتداد الماضي للمستقبل. فذهب راضيا. وليتكشف لنا الرؤية السياسية التي نجح الكاتب في إخفائها خلف السرد الواقعي، وهي الرؤية التي تهيمن علي كل القصص فيما بعدها، بصور مختلفة. كما تكشف عن البذرة التي أنبتت رؤية معظم القصص فيما بعد لشخصية "كمال" الذي تتعدد أسماؤه، ويظل الجوهر واحدا. الأمر الذي معه يمكن أن نعتبر قصة "الراقصة والتوتة" بمثابة الرأس للمجموعة، بينما يمكن إعتبار قصة "أغار" هي القلب بالنسبة لها.

فإذا كانت "الراقصة" ستختفي من باقي قصص المجموعة، وكأنه اختفاء لرمزيتها (الحياة أو الفرح)، فإن "التوتة" ستظل معنا في الكثير من قصص المجموعة، برمزيتها، وباسمها، حتي أنه في "الزيارة" سيري عند الحبيبة القديمة، شجرة مورقة وتفرش ظلالها، فيخبرها أن شجرة التوت لم تزل كما هي، إلا ان الحبيبة القديمة تخبره بأنها شجرة مانجة، وليست شجرة توت، لتعبر عن تغير الزمن الذي ترمز التوتة إليه، للطفولة، وللبكارة، فضلا عن أنها تبرز كيف أن صاحبنا يعيش في الماضي، ولا يحب أن يغادره.

وفي قصة "أغار" يشير السارد أن صاحبنا قد قابل جارته منذ أربعين سنة، وحينها كانت { الأشجار علي جانبي (الممر) مازالت خضراء، كما كانت منذ أربعين سنة}.وهو ما يمنح الإحساس بالحنين، الذي يزيد من الإحساس، بأن هذا الزمن قد ولي، ولم يعد.. فقد تصحرت حياته.

  • تبدأ "الراقصة والتوتة" في الكشف الذي سيمتد في الكثير من القصص عن الشخصية غير السوية التي سيظل عليها الشخصة الأولي. فبعد أن نال "ل" الخيزرانه علي مؤخرته من السمين، صاحب المؤخرة الكبيرة، ابن صاحب البقالة، وأحد الكروش، رأي "مهجة" في البلكونة تضحك ساخرة، فيرفع صوته، وكأنه يدفع عن نفسه خزي الخيزرانة { هاوريه}. مهجة صديقة أخته "مني" التي أتته يوما بحجة زيارة أخته، ويتضح أنها كانت تعلم بأن مني غير موجودة، وكان الحاج والحاجة قد ناما، والخادمة العجوز، لم تعد تري جيدا، فتسأله "مهجة" عما بالدور العلوي، وأنها تريد أن تعرف ما به، وتدخل معه الحجرة التي لا تفتح إلا يوم في الإسبوع، وتغلق خلفها الباب {دخلا غرفة كبيرة خالية، ضوء خافت يتسرب من شيش النوافذ العالية. نظرت إليه وأغلقت برفق باب الغرفة خلفهما. سألته بصوت مخنوق وأنفاسها تتلاحق {خايف}، لم يرد وقلبه يدق بغرابة ولهفة. شدته إليها واحتضنته وتقلبت معه علي الأرض وهي تلهث وتعرق وهو صامت مأخوذ. ارتعشت ودفعته بعدها في صدره قائلة بغضب لم يفهم سببه.. قالت بعد أن كفت عن الارتعاش وهي تبتسم بخبث : عيل}. لتكشف عن تلك الشخصية الخائفة المرتعشة، المفعول بها، لا الفاعلة.

وهنا ننطلق مباشرة إلي قصة بدونك" حيث يردد الجملة التي تكررت في البداية عن مهجة { تبتسم وتحك كتفه بصدرها عندما تمر} وفي قصة "أغار" {في المطبخ الواسع لمس صدرها ذراعه} و {و أيقن أنها هي من ترسل جسدها إلي فراشه كل ليلة} وها هو في قصة "بدونك" نقرأ نفس التعبير { في الطريق إلي سيارته (لمست ذراعه بصدرها)} حيث استمالها الحزن الدفين في عينيه، فتسير معه إلي شقتها وترتدي له قميص النوم القصير {وهي الآن مشتعلة بالرغبة، أغلق فمه فنظرت إليه مستغربة، ابتسم وأطفأ المصباح الجانبي، سحبها إلي الفراش. إمرأة شابة جميلة ترقد أمامه في ثورة شبق ورغبة عنيفة مشتعلة، لون عينيها الخضراوين وبشرتها الزيتونية وشعرها الأسود الجميل، وجسدها الممشوق الناعم اللدن، يتمني أي رجل أن يحصل عليها، لو لم يقص عليها ويبكي! حاول أن يركز تفكيره، كان قد فقد رغبته تماما. ابتعد عنها وهو ينظر إلي عينيها. قالت بغضب وسخرية "هو انت منهم؟!}.

وفي قصة "الكبينة" حيث يتعرف السارد علي "هانيا" فيتعلق بها، عندما تشعر بالشفقة عليه، تعرض عليه أن تأتي معه في الكبينة أسفل الباخرة الذاهبة بهم صوب لبنان، وحينما يتردد، تخبره بأنها لن تأخذ منه (فلوس) وسوف تمنحه ما لم يره في حياته، أي أن ما عليه إلا أن يترك نفسه لها، وستتولي هي كل شئ، فقط تشترط عليه شرطا {لكن لا تحبني، فانا لك الآن فقط، عليك أن تنساني بعدها}، غير أنه لم يستطع الوفاء بالشرط، وتعلق بها. فيدور الحوار الكاشف عن شخصيته:

- تريد أن تترك دراستك وعالمك من أجلي؟

- نعم!

- ولكنك حصلت عليَّ! ألم تكفيك مرة؟!

- نعم ولكني أحبك!

- هششش.. أنت طفل شرقي محروم ملئ بالأحلام، كما يصفك مايكل}.

فإذا لم يكن استشهاد الأب "بكري" ولم يكن قد مر علي زواجه أكثر من ثلاثة شهور، واحتضان جده له، وفرحه به، وإذا لم تكن واقعة الخيزرانة، وسخرية "مهجة" لها علاقة كذلك في تكوين تلك الشخصية، فإن إشارات عابرة في قصص "زيارة" و"الكبينة" و"أغار" جاءت شبه عابرة في سياق السرد، وما قد يكشف عن تلك الحالة من الانهزامية، واستغراق صاحبنا في السفر الدائم، السفر النفسي ، حيث لم يحدد السرد أيا من جهات السفر، وكأنه سفر وغياب نفسي بالدرجة الأولي.

في قصة "زيارة" التي توضح أن صاحبنا يعيش في سفر دائم. يأتي لزيارتها بعد تلاتين سنة من الغياب، لتصحح له {اتنين وتلاتين}. ويخبرها {طبعا مش ممكن أنسي بيتك. حتي شجرة التوت لسه زي ما هي مغطية البلكونة} لتراجعه أيضا {دي مانجة مش توتة} وكأنها تخبره بتغير الزمن. ولنتعرف علي أن قصة حب كان تجمعهما في سن مبكرة ، وأنه تقدم للزواج منها غير أنه تم رفضه، تكشف عن تلك الشخصية { مكنتش أقدر أقف قصادهم. كان عندي ستاشر سنة، وماما أصرت، قالت لي إنك مش بتاع جواز، خافت من السياسة والسجن} لتكشف عن علاقة مطموسة له بالسياسة، رغم طمس الكاتب للحقيقة، وهو ما وضعه علي لسان الشخصية حين سأله "مايكل" رفيق السفينة، وصديق "هانيا" في قصة "الكبينة" حين سأله إن كان له رأي سياسي؟ فيجيبه بالنفي، غير أن مايكل يؤكد بابتسامة{ لايوجد أحد ليس له رأي سياسي، ولكنك لا تعلم}. وفي قصة "أغار" تتكشف الرؤية بصورة أوضح، حين تأتي "نادية" بتنورتها القصيرة، وتسأله إن كان قد رأي عصام؟ {أخبرها أنه لم يره منذ أن قطعت علاقتها به. أخبرته أنها سمعت أن هناك حملة أمنية قادمة، إنهم سيجمعون الطلاب المعارضين قبل انتهاء أجازة نصف العام} وتطلب منه (خد بالك). وبعدها يلتقي جارته بعد فترة من الغياب لمدة سنة تاركا شعره {الذي لم يحلقه منذ سبعة أو ثمانية شهور} وتطلب منه أنه عندما يشبع منها أن يتركها، لكنه غاب دون أن يشبع منها ف{ حين جاءوا وأخذوه في الفجر، كان قد مر علي علاقتهما خمسة أشهر، وفي كل يوم، لحظة الغروب، وبعد التمام علي المسجونين، كان مكبر الصوت الضخم يحمل صوت أم كلثوم: أغار من نسمة الجنوب! تردد جنبات السجن اللحن الكئيب} و {بعد الإفراج عنه بأيام} وما أن التقي بالحيبية "سلوي" حتي أخبرها أنه لم يغب برغبته فقد كان بالسجن، لتجيبه (عارفة)، وليتكشف لنا أن صاحبنا قد تم إعتقاله لمدة سبعة أو ثمانية شهور، ولنا أن نتصور كيف يكون شاب في مقتبل العمر يتم اعتقاله طوال هذه الفترة، وكيف سيكون إنعكاسها النفسي عليه، وحينها سنري كل حالة السفر، والانتصار للمرأة علي حساب الرجل، والرغبة في الموت، والإحساس الدائم بالغروب، من الأشياء المنطقية التي تصنع شخصا بتلك المواصفات. حيث سنجد أنه علي الجانب الآخر من صورة الرجل تلك، تأتي صورة المرأة، التي يمكن أن تكون صورة الرجل قد انعكست عليها، فها هي تعاني العنوسة في قصة "فراشة" التي أعتقد أن الكاتب قد تعمد هذا العنوان، كوصف للمرأة التي قد تشبه الفراشة في خفتها وجمالها، كما تشبهها في عملية التشرنق، حيث تنطوي المرأة (العربية) علي نفسها، لتظل طول الوقت مفعولا بها لصالح الرجل. فها هي تستسلم ليد الطبيب في عيادته، ليعبث بجسدها، (دون أن يحتضنها)، حيث لا تمثل له إلا جسدا. وفي البيت تقول الأم: { معلهش، معملتش لك طلبك اللي قلتِ عليه، أخوكي كان نفسه في البامية... قبضتي؟}. هذا الأخ الذي يرتفع صوته علي أمه لأنه يريد الزواج. بينما هي التي تكبره (خمسة وثلاثين سنة)، تكدس الملابس الجاذبة، لتنفرد بحجرتها، ترتديها واحدة وراء الأخري عارضة إياها علي صورة علي الحائط، بينما ثورتها الداخلية تُعلن أمام المرآة: {إزاي يتجوز ! وأنا أخته والمفروض هو اللي يشيل البيت ويجوزني الأول! أومال رجل إزاي؟ لا يمكن أسكت، لازم أقولهم رأيي}.

وكان من الطبيعي أن يكون (العقم) هو النتيجة المتوقعة لهذا الفشل الإنساني، في حياة كمال. وهو ما تكشف عنه آخر قصص المجموعة، "الخضة" وإن تناولت شخصا غير كمال، وكأن كل الرجال قد أصبحوا "كمال". حيث يقول السارد عن صديقه {كبر صديقي وكبُرتُ، فأصبح وجهه الذي اخشن، يحمر إن نظرت إليه بنت من البنات أو ابتسمت، يبتعد عنهن ويحلم بهن}. فرغم أن الحب هو الذي جمع بين "كوثر" أخت صديق السارد، وابن خالتها "فتحي".. ولم تنجب "كوثر" فكانت الأقاويل {أكيد العيب منها} رغم تأكيد الطبيب بأنها "كوثر" {لو لمسك عيل ابن أربعتاشر حا تحبلي}. وتقول العادات أن عليهم أن يأتوا بجمجمة (لخض) كوثر حتي تحبل، وتتم عملية الخضة للجسد النحيل، وفي اللية ذاتها، وكان الزوج يعلم بقصة الشنطة، الموضوع بها (الخضة)، {أعطاها ظهره ونام، وعلي غير عادته ، لم يقص عليها مقالب الموظفين ومؤامراتهم ضده} لتكشف عن عمليات الهروب الزوجي، دون الاعتراف بعيوبه. وليسال السارد صديقه بعد فترة {هو مش كان المفروض هو اللي يتخض؟!}.

رحلة من المعاناة في الحياة، عاشها صاحبنا، وترجمها في مجموعة من القصص المنحوتة من صخر الواقع، كلها معاناة، خاصة بعد أن ظل (سنتين) يبحث عن عمل، في قصة "مدينة الدائرة الحمراء" فلا يجد الراحة بتحقيق كل الأماني إلا .. في الجنة، في الآخرة. وسنجد أن هذه هي القصة الوحيدة التي يذكر فيها الأم. وفقا للشائع والموروث، بان الناس سيُنادون في الآخرة .. باسم الأم.

بل يستحضر الآخرة في قصة "أيام باقية"، باقية علي الرحيل" الذي يتمناه، وصولا إلي الحبيبة التي رحلت، ولا يشعر بغيرها.

التقنيات السردية

علي الرغم من أن السرد في المجموعة، سار تتابعيا، تصاعديا، وبلغة سلسة، مشحونة بالإيحاءات، إلا ان الكاتب لجأ إلي العديد من الحيل السردية، التي تكسر رتابة التتابع، وتجعل القارئ في حالة يقظة مستمرة، وتمنح السرد جمالياته الآثرة.

ففي اولي قصص المجموعة "الراقصة والتوتة"، والتي تكشف عن القصة الإدريسية، القائمة علي تفجير اللحظة، وتشعب روافدها، وصولا لجذورها. حيث سار السرد في خطين، تلامسا في الكثير من الأحيان، والتقيا في النهاية. ساعد كل منهما لتقديم عالم واقعي شديد التميز.

في الخط الأول، والذي تعرض فيه الكاتب لحياة الطفولة أو البدايات التي لعبت دورا مهما في حياة "كمال"، نتعرف علي عالم الطفولة، بفكره ورؤاه، فكيف كان تفكير الأطفال في الانتقام من الطفل الذي إعتدي علي (رجولتهم) بضربهم علي مؤخراتهم بالخيزرانة. ونتعرف علي الأنوثة المتفجرة في الطفلة، وجرأتها في السعي إلي تحقيق رغبتها، في مواجهة خوف (الرجل) الطفل، وما أبان عن شخصيته التي لازمتها طوال رحلة القصص، وما تمثله تلك الفترة من أثر في تكوين الشخصية، وما تسير عليه باقي مراحل عمرها.

وفي الخط الثاني، والذي تعرض فيه لحياة الجد وأسرته، نتعرف علي الكثير من العادات المتأصلة في حياة البسطاء من الناس، كخوف الجدة من ذكر اسم الثعبان في الليل، والخوف من أذيته هو أو زوجته أو أبنائه الساكنين معهم في البيت. ونتعرف علي رؤية المرأة للمرأة، حتي وإن اختلفت معها في المستوي الاجتماعي، فبعد أن كبرت الخادمة العجوز، وأصبح صوتها يرتفع، تقول الجدة لزوجها {أصلك دلعتها، استحمل بقي}. كما تكشف عن الأمل الذي يعيش الجد من أجله، بعد استشهاد ابنه الذي لم يعش حياته، التي، كما يقول العامة (لسه داخل الدنيا)، حيث لم يكن مر علي زواجه أكثر من ثلاثة شهور.

ثم يلتقي الخطان، عالم الطفولة، المتمثل في تصرف الطفل "كمال" وانتزاعه للميكروفون، زاعقا بأن يعطوا للراقصة النقوط، تلك الرؤية القادمة من المستقبل، لمناصرة الفرح، والحياة، كتعويض عن فقد الأب "بكري". وعالم الكبار، المتمثل في رحلة الجد الحياتية، وإحساسه ببلوغ الراحة، وتحقيق الأمل في استكمال المسيرة، في صوت حفيده القادم من بعيد، وكأنه إحياء لوالده الشهيد في 67.

وكما أشرنا من قبل إلي استخدام ضمير الغائب في القصص، قد ساعد علي الانشقاق النفسي، وتغييب الذات عن وجودها، في الوقت الذي جاءت القصص المروية بضمير المتكام، هي المتعلقة بفعل الفرد الحر، أي المتحقق.

كذلك الزمن، وتداخلاته، حيث نشعر وأن السرد يقاوم الغرق، فحينا يغوص تحت السطح، وحينا يطفو علي السطح، الأمر الذي يثير الانتباه، ويتطلب اليقظة من القارئ. ففي قصة "أغار" التي كان موفقا في منح عنوانها للمجموعة، والتي تمثل كما ذكر القلب للمجموعة، نري السرد يسير في الحاضر {الممر الفاصل بين منزليهما، الذي استوقفها فيه حين رآها تسير مصادفة في تلك الأيام البعيدة، لا يزال علي حاله} ثم يعيش بنا في ذلك الزمان البعيد {قال إنه جارها في العمارة المقابلة. لم ترد للحظات، ثم التفتت إليه قائلة بحزم:"عاملتك كراجل فتصرف كراجل"} وهنا يكشف عن ذلك الطبع الخجول المتأصل في تلك الشخصية عبر قصص المجموعة{ذهبت وتركته واقفا غارقا في خجله وعجزه} وهو الموقف الذي تكرر حيت تواعدا في الميرلاند، وشعر بتحفزها وتنمرها، فاعتذر وغادر، دون أن يبدي شيئا، لنسحضر موقف "مهجة" في "الراقصة والتوتة" حيث ما أن يغادر { سمع ضحكة هازئة خافتة وهو يغادرها حزينا}. ثم يعود للحاضر من جديد {حائط شرفتها البيضاء في الطابق الثاني، مغطي بالأتربة، وبابها مغلق} لتفجر هذه الجملة إحساس سنوات، وتغير أحوال. ثم يتداخل السرد، وكأن الأيام تداخلت ولم يعد لها من بداية محددة، أو نهاية. فيحدثه أخوه عن الإقامة في بيت العائلة، بعد أن رحلت والدتهما، وهناك {سيأتون له بخامة عجوز تقوم بخدمته وتلبية طلباته، تقص عليه همومها وذكرياتها وقصص أحفادها. يعود ثانية ليسمع قصص حزينة الختام، يحكيها ويكتبها، ويشعر بالأسي لها ولنفسه} ثم يدخل السرد مباشرة إلي الجارة { لكنها لم تمانع أن يأخذها إلي أحلامه، ليلة بعد أخري! يراها تعبر شرفتها أو وهي تتحدث في الهاتف..}. ثم ينتقل السرد من الجارة "سلوي" لندخل معه في مغامرته مع "نادية"، ليعود من جديد إلي الجارة{يسير خلفها بهدوء من بعيد}. وفي الحاضر بينما هو منغمس في أفكاره حولها، مترددا بين الاستجابة لطلب أخيه بترك هذه الشقة، وبين البقاء، عل الزمن يأتي بها من جديد {حمل الهواء الأغنية، أغار من نسمة الجنوب! لم يفهم كلماتها عندما سمعها لأول مرة، كانت تصيبه بحزن لا يعرف له سببا. لعل القرار كان سيكون أسهل لو لم تأته تلك الأغنية.. ياليتني} إذن فالأغنية تشده إلي زمن الحب الجميل، زمن الاشتياق والحياة، تنزعه من حاضره إلي ماضيه، الذي اصبح سجينه. لذا في ساعة غروب كان مكبر الصوت في السجن يردد الأغنية الحزينة، وكأنها تخرجه من حبس السجن، إلي حرية الماضي، فكانت الأغنية مفجرة لعذابه الحاضر.

وإذا كانت قصة "أغار" قد تداخل فيها الزمان، فإننا نستطيع أيضا أن نري التداخل في المكان في قصة "أيام باقية". حيث تبدأ القصة ب{أتاه صوتها من بعيد..}{بهجتها الزائلة وفرحة المأمول اختلطا بالعدم}. ولا زال الإحساس في الدنيا {فكر مندهشا أنه يعلم ما حدث لها} فقد غرقت في طين النهر، ولكن صوتها يأتيه من هناك، وقد تخلصت من هموم الدنيا {صوتها اقترب وتناديه. رآها متوهجة بالفرح، تشير له من خلال الظلال} فيندفع نحوها {لا يستطيع أن يقف، اقتربت منه وسارت بجواره في طريقهما المحتوم}. ثم، يمنحنا الكاتب الإحساس بالآخرة، حيث لا وزن، ولا عمر، وقد تخفف من ثقل الدنيا {قدماه لا تغوصان في الطين الرطب المغمور أحيانا بماء النهر. تعجب حين سار وهو طفل في ضوء الصباح علي هذا الجسر غمر الطين اللزج الثقيل قدميه وغطي ركبتيه}. ثم نشعر به في الدنيا لا يزال ف{حين سألها البشارة} وكأنه يسألها اللقاء {أشارت "طريقان لا يلتقيان"} وكأنه الموت والحياة. ويعود السارد للحياة من جديد، يعاني الوحدة والفراغ، والحنين {علي الممر الطيني الضيق بين الماء الداكن والحياة الصاخبة التي تموج فوق النهر سار وحيدا. تساءل بملل متي ينتهي هذا الممر الخانق ويسقط كحجر ثقيل في الأعماق المظلمة} وكأنه يتعجل الرحيل. ولا يحب الإنسان مغادرة الحاضر إلا بغضا له، وكراهية فيه.

العنوان

إذا كانت العادة قد جرت في اختيار عنوان المجموعة القصصية، ان يتخير الكاتب عنوان إحدي القصص ويمنحها للمجموعة. وغالبا ملا تمثل المجموعة بصفة عامة، كما في الحالة الثانية التي يتخير فيها الكاتب عنوانا، ليس بالضرورة عنوان إحدي القصص. غير أن "أغار" تجمع بين الحالتين، فهي من جانب عنوان إحدي القصص، إلا أنها كما ذكرنا أنها القلب من المجموعة المتجانسة، فاصبحت هي العصب فيها. فأولا نتعرف علي تلك السمات التي امتدت بطول القصص، وهي ارتباط الأشجار بفترة الصبا أو الشباب، فههنا سنجد الشجركان علي الممر بين البيتين، في بيت العائلة - الخالي الآن – وهو البيت الذي تعرف من خلاله علي "سلوي". كما حملت طبيعة الشخص، كإنسان، له نقاط ضعفه، ونقاط قوته. التي تمثلت في مراحل علاقاته بالحبيبة " "سلوي"، وما يمكن أن نطلق عليها العشيقة "نادية" وما يكشف حقيقة الرؤية للمرأة، وبما يؤكد أن تلك الصورة التي أتت بالمرأة علي هذا النحو، أنها تساهم في تضخيم صورة الرجل السلبي، والمُهزم. أن المرأة جاءت علي غير ذلك في مواضع أخري. ففي قصة "أغار" يدخل السرد –دون مقدمات – إلي "نادية" التي تسأله عن "عصام" ثم تشتبك معه في علاقة جسدية محمومة، ثم {عادت إلي عصام بعدها باسبوعين وتزوجا}. بل إن الجارة (المحبوبة) كشفت عن طباع المرأة، وفقا للقول المعروف (يتمنعن وهن الراغبات). فرغم صدودها له في البداية، إلا أنها استسلمت لمقابلاته، واشتباكهما الجسدي {فرشت الأغطية فوق السجادة وهي تهمس بخجل: أصل السرير بيطلع صوت}،ثم .. ثم عادت لزوجها، الذي يبدو أنه كان في سفر.

  • عن أن "أغار" كشفت عن البؤرة الخفية وراء كل تلك الأحاسيس والمشاعر، والتي تتضح في الاعتقال، وهو ذات البيت الذي عاد إليه بعد الخروج منه، ليستمع فيه إلي أغنية أغار، بينما أخوه يطلب منه البقاء في هذا البيت .. بيت الذكريات والحب، فيستعيد سماع نفس الأغنية عند مغارب كل يوم .. في السجن.

السمات العامة

لعب الشكل السردي للقصص دورا كبيرا في تحديد معالم الشخصية المتناولة، وخلق الروح الواحدة، والتجانس بين قصص المجموعة، التي تكاد تشكل وحدة واحدة.

فسنجد أن السرد في القصص جميعها قد سار بضمير الغائب، الأمر الذي يصنع مسافة بين الراوي والمروي عنه، وكأن النفس البشرية المُتناولة، قد انقسمت على نفسها، لتساهم في خلق الشرخ النفسي، أو الانفصال. يستثني من تلك الخاصية ثلاث قصص سارت بضمير المتكلم. منها القصة الخفيفة "حكاية ست في حالها". التي تقترب من البروفايل لامرأة من عامة الناس.

ثم تأتي بعد ذلك قصتي "الصخرة" و"فتحية التناية". وقد دارتا حول العمل، ودور الفرد في انجاز المهام الصعبة، بعيدا عن الروتين المؤسسي، وهو ما يمكن أن نضعه كصورة الفرد السوي، الخالي من الأمراض النفسية، أو الضغوط السياسية، في مقابل الفرد الذي رأيناه في باقي قصص المجموعة الأربعة عشر. وكأن الكاتب يصنع المواجهة بين ما هو كائن، في مواجهة ما يجب أن يكون.

كذلك سنجد أن قصص المجموعة قد خلت من الإشارة إلي العلاقات الأسرية – باستثناء قصة "الكابينة" التي أشارت للوالد والأخوة، دون أن يكون لذلك تأثير ما- الأمر الذي يساهم في صنع العزلة المفروضة علي الشخصية، وانعزاليتها.

البدايات التي تعلب دور البداية القوية لسيمفونية القدر، أو تلك التي تُدخل القارئ مباشرة في جو الغروب، بإيحاءاته النفسية. حيث نري ذلك في بداية قصة "الراقصة والتوتة" وبداية المجموعة ككل، حيث تبدأ ب {غروب ناعس طويل..}. وتبدأ قصة "قطيفة سوداء" ب{بعد أن ظهرت "زهرة" في البار، بثوبها القطيفة الأسود، سماه "الزنزانة"}. وإذا كان السلم يعني الصعود، إلا أن قصة "زيارة" تبدأب{ السلم الضيق ينحني بحدة} ليعبر عن صعوبة الصعود، لا للحبيبة، ولكن للحياة. وتبدأ قصة "الكابينة" ب{دق جرس الرحيل ثلاث دقات}. وتبدأ قصة "أيام باقية" التي تتناول الرحيل عن الدنيا، ويعيش صاحبنا علي ذكريات ما فات، فتبدأ ب {أتاه صوتها من بعيد. الممشي يمتد أمامه ويضيق ويختفي شيئا فشيئا في الظلمة}. وفي "بدونك" يبدأ السرد {قال صديقه: "الحزن الجليل يملأ منزلك"} بعد استعارة مطقع شعري يعبر عن غياب الحب، وضياع الهوية.

تجلي حالات الغروب والرحيل الدائم، وضياع الفرص السانحة، وهو ما يعكس الحالة النفسية للشخصية، والتي تعكس كلها ذلك التأثير الناتج عن الحالة السياسية الناتجة عن اليتم وتوابعه العديدة نتيجة موت الأب في مهزلة 67، وحالة الاعتقال التي أدت لانسداد الأفق أمام شاب في مقتبل العمر. وهو ما تجلي في قصة "زيارة" التي غادر فيها – إلي جهة غير محددة – تاركا الحبيبة المنتظرة والمستعدة للتضحية، وما جاء إلا لتوديعها لسفر جديد. لتعبر عن الزمن الجميل، زمن الطفولة (شجرة التوت) والشباب الغارب الضائع.

أتصور من العرض السابق، أنه يمكن القول بأن أحد عشر قصة من المجوعة البالغة أربعة عشر قصة، تشكل وحدة واحدة، تكاد تكون رواية وهي: "الراقصة والتوتة" والتي تشكل ضربة البداية، حيث الأمل في الغد، رغم وجود يونيو 67. ثم تأتي بعدها كل من "الزيارة" و "أغار" حيث التصريح المباشر عن الاعتقال، والسجن، وهو ما يعتبر تحول في مسيرة الشخص. وما كان من نتيجة هذا التحول، ضعف الشخصية أو الانقياد، وهو ما نجده في قصة "الكبينة". ثم يتشكل هروب الرجل، أو تخاذله، وتحمل المرأة للمسؤولية، وكأنها عملية تغييب للرجل، وهو ما نجده في قصص " الخضة" و "قطيفة سوداء" ، بل وأيضا في "حكاية ست في حالها". كما أدي هذا التحول إلي الهروب من الحاضر، بل والسعي إلي الآخرة، وهو ما عبرت عنه قصص "أيام باقية" و مدينة الدائرة الحمراء".

  • الرغم من إمكانية إدراج قصة "أم" في رفض الحاضر، حيث ترفض الأم تصديق أن ابنها استشهد في بدايات ثورة الخامس والعشرين من يناير، فتعيش في انتظار أوبته.

ونستطيع القول في النهاية، ان هذه ما هي إلا قراءة واحدة في سرد يحتمل العديد من القراءات، والعديد من الرؤي، التي تجعل من قراءة المجموعة، عمل مستمر، لا ينقطع بقراءة واحدة. فعلي الرغم من أن مجموعة "أغار" هي المجموعة الثالثة في مسيرة القاص المبدع شوقي عقل، إلا انها تضعه في مصاف كتاب القصة القصيرة المعدودين، استطاع أن يجسد فيها مأساة الإنسان الفرد، الذي وقع عليه التدمير، جراء غياب الحرية التي تمنحه التعبير عن ذاته، ورؤاه، فغابت هويته التي ضاعف من ضياعه، وتحولها إلي مفعول به، وليس فاعلا، أن عَظَمَ من دور المرأة، التي جعلها الفاعل، وكأنه التعبير عن تمام ضياع هويته، دون أن ينزلق إلي المباشرة، أو الخطابية، فجاءت المجموعة تعبيرا إبداعيا، يستحق الالتفات، والقراءة.

 

Em:shyehia48@gmail.com

 

  1. شوقي عقل – أغار – دار العين اانشر – ط 1 2018 .