يقدم الكاتب شهادة دالة على شخصية التونسي محمد العروسي المطوي، الذي خاض في غمار الشّعر والرّواية والنّقد، إلى جانب المقالة والخطابة في الندوات والجمعيات والمحافل المختلفة، ممّا جعل مدوّنته متعدّدة المواضيع والمشاغل؛ فهو يمثّل الأديب الشامل؛ إلى جانب إسهاماته في الحياة الأكاديمية والاِجتماعية والسياسية إثر اِستقلال تونس.

ذكريات مع الأديب محمد العروسي المطوي

سُـوف عبـيد

 

- 1 -

هذا الأديب التونسي الكبير 1920-2005 م الذي يُمثّل أحسن ما يكون مقولة "الأدب هو الأخذ من كل شيء بطرف"، فقد خاض قلمُه غمار الشّعر والقصة والرّواية والسّيرة والنّقد والتّحقيق إلى جانب المقالة والخطابة والمحاضرة في النوادي والندوات والجمعيات وفي الإذاعة وفي المحافل وغيرها من المناسبات ممّا جعل مدوّنة المطوي متعدّدة المواضيع متنوّعة الأجناس والمشاغل فهو يمثّل الأديب الشامل الجامع بل وله قَصَب السّبق في بعض نواحي الاِبتكار والتجديد سواء في الشّعر أو في السّرد .إلى جانب ذلك الرّصيد الثريّ من الأعمال الأدبية فإنّ لمحمد العروسي المطوي إسهامات واضحة في الحياة العامة الاِجتماعية منها والسياسية إضافة إلى قيامه بتدريس التاريخ والأدب سنوات عديدة لطلبة جامع الزيتونة خاض بعدها إثر اِستقلال تونس المجال الدبلوماسي فجميع هذه النواحي جعلتْ منه شخصية متميّزة كنتُ محظوظا بالاِقتراب منها في مناسبات وفترات مختلفة وعديدة منها الخاصة والعامة ضمن النشاط الثقافي وكم كنت سعيدا بمرافقة سِي العروسي في الحِلّ والتّرحال إلى بعض البلدان فأنِستُ بطيب مَحْتَدِهِ وعِشرته ونَهلت من معرفته وخبرته واِهتديت أحيانا ببعض مواقفه منذ عهد شبابي الأوّل إلى أن شاب رأسي وإلى سنوات "سِي العروسي" الأخيرة.

سِي العروسي، كذلك كنت أسمّيه سواء عند حضوره أو في غيابه و"سي" هذه أعتبرها عنوان التقدير والإجلال وأتحدّث بها، إلى وعن، أساتذتي الكبار مثل سيّدي البشير العريبي وصالح القرمادي وتوفيق بكّار ومنجي الشّملي ومحمد البعلاوي وسعد غراب وغيرهم أولئك الذين أدين لهم بالكثير من وطابي الأدبي.

-2-

أوّل ما لقيت سي العروسي كان في النادي الثقافي أبي القاسم الشابي بضاحية الوردية وهو النادي الذي تأسّس مع جملة من النوادي الثقافية التي أُنشِئت عند مطلع ستّينيات القرن العشرين ومن بينها النادي الثقافي الطاهر الحدّاد الذي كان مقرّه في مدخل حديقة البلفدير ثم تحوّل إلى المدينة العتيقة في أوائل السبعبنيات والنادي الثقافي علي البلهوان في شارع فلسطين وكان نادي أبي القاسم الشّابي مقصد الكثير من الأدباء والمثقفين التونسيين والعرب فذهبت إليه مع جملة من التلاميذ مرافقين أستاذنا سي البشير العريبي الذي كان يدرّسنا العربيّة في معهد الصّادقية في ما أذكر سنة 1968 ومن حينذاك صرت أتردّد على المكتبة الثريّة في النادي الثقافي أبي القاسم الشّابي وأحضُر كلّما تسنّى لي ذلك في مناسباته الأدبية وشيئا فشيئا صرتُ قريبا من سِي العروسي خاصة بعد أن أصبحت طالبا بكليّة الآداب بتونس ففي سنة 1973 اِنعقد بتونس أول مؤتمر للأدباء العرب مع مهرجان الشعر العربي وكانت بعض الأمسيات الشعرية تنتطم بدار الثقافة اِبن رشيق والأبواب محروسة بالشرطة فلا يسمح بالدخول إلا بالدعوات الخاصة فكنت من ثلّة من الأدباء الشّباب والطلبة الذين اِجتمعوا محتجّين أمام دار الثقافة فإذا بنا نرى سي العروسي وسي الميداني بن صالح يخرجان من داخل القاعة ويسمحان لنا بالدخول ومتابعة الأمسية من الطابق الأول.

حدّثني سي العروسي مرّات عن دراسته في جامع الزّيتونة وعمّا كان يعانيه الطلبة من شظف العيش إذْ لم يكن طعامهم أحيانا إلا حفنة من بسيسة القمح والشّعير يعجنونها بالماء فقد عاشوا سنوات ضنكة على وجبات نزر قليل من التّمر أو من التّين المجفّف أو الزّيت والزّيتون والهريسة فكانوا في الشّتاء يتقاسمون في اليوم صحفة لبلابي ساخنة ما فيها إلا حبّات حمص ومرق.

وذكَر مرّة أنه عندما كان داخلا من باب جامع الزيتونة إذ هبّت ريح قويّة خلفه رفعت طَرَفَيْ بُرنسه عاليا فرآه شيخه على تلك الحال فقال له مازحًا ـ الحمد للّه يا عروسي …لوْ لم تكن المَطويَّ لَطيّرتْك الرّيح !

-3-

من مواقف سي العروسي المطوي الوطنية الغير معروفة وذلك لتواضعه ولضُمور النزعة الأنانية لديه أذكر أنه كان من جملة المثقفين التونسيين الذين شجّعوا الشّباب ودفعوهم إلى التطوّع في حرب فلسطين سنة 1948 وعندما كان سِي العروسي سفير تونس بالعراق نالت الكويت اِستقلالها عن بريطانيا فاِعترفت تونس بذلك الاِستقلال لكنّ حكومة العراق وقتذاك اِعترضت عليه لأنها اِعتبرت أن الكويت تابعة للعراق ممّا أوقع خلافا سياسيا كبيرا بين الرئيس الحبيب بورقيبة والرئيس العراقي عبد الكريم قاسم وقد وجد حينذاك سي العروسي إغراءات كبيرة ليخالف موقف بلاده ويبقى في بغداد مُعزّزا مُكرّما لكنه لم يستجب وعاد إلى تونس منشغلا بالحياة الثقافية وصار نائبا عن ولاية قابس في البرلمان ضمن لجنة التربية والثقافة وساهم في الإذاعة الوطنية التونسية ببرنامج خصّصه لمختلف مراحل تاريخ تونس وعصورها وكان الرئيس بورقيبة حريصا على الاِستماع إليه وحتّى عندما لا يتمكن من ذلك مباشرة فإنّ مدير الإذاعة كان يرسل إليه ما فات من الحلقات مسجّلة ووصل البرنامج إلى الحديث عن الدولة الحفصية فاِتصل بورقيبة بسي العروسي ملاحظا له أنه قد أطنب وفصّل القول كثيرا في التاريخ وأنه أبطأ في الحديث عن تاريخ الحركة الوطنية وإبراز تفاصيل نضال الرّئيس فكان جواب سِي العروسي أن التاريخ يجب أن يكون متسلسلا لذلك لا يمكنه أن يتجاوز العصور ويقفز على الأحداث بسرعة وأنه سيصل إلى ذكر تاريخ تونس المعاصر لا محالة وسيذكر ـ الزعيم المجاهد الأكبر ـ بورقيبة ـ إلا أنه يبدو أن الرئيس كان يريد العجلة في الحديث عنه فلم يتواصل البرنامج بعد تلك المكالمة.

-4-

أذكر مرّة أنّي كنتُ جالسّا معه في إحدى المقاهي بالعاصمة تونس وعندما أقبل النّادل بالطّبق ووضع أمامه الفنجان قال له: تفضَل يا سي العروسي. وبعدما تحادثنا وهَمَمْنا بالاِنصراف بادر سِي العروسي بنقد النادل ورقةً من فئة الخمسة دنانير راجيا منه بلطف أن يترك الباقي لديه وعندما غادرنا المقهى قلت لسي العروسي إنّ النادل كان يرضى ويبتهج بما يتبقّى له من دينار واحد على أساس أن القهوتين معًا لا ﻻيتجاوز ثمنهما نصف الدينار! فما كان منه إلا أن قال لي: يجب أن أكرمه لأنه عرفني وقال لي سي العروسي.

وهو لئن بدا على غاية من الكرم في هذا الموقف فإنّه على عكس ذلك في موقف آخر عندما يطلب أحدُنا منه ورقةً ونحن في جلسة باِتحاد الكتّاب التونسيين أو في النّادي الثقافي أبي القاسم الشّابي فإنه يأخد ورقة ويقسمها نصفين أو على أريع ويقول إن تلك تكفي لكتابة ملاحظات أو أسئلة فسأله أحدهم –مُمازحا– لماذا هذا التقتير وأراد اِستفزازه بحضورنا فكان ردّ سِي العروسي أنّ حسن التصرّف في المال العام واجب وأنّ نصف ورقة أو ربعها كاف لكتابة بعض السطور الضرورية أما من يريد كتابة قصة أو رواية أو ديوان أثناء الاِجتماع فما عليه إلا أن يحضر معه كرّاسًا! ذاك زمن...

-5-

عندما حضرت لأول مرة مؤتمر اتحاد الكتاب التونسيين في آخر سنة 1981 بدار الثقافة اِبن خلدون كان عدد المؤتمرين من الأدباء لا يتجاوز الثمانين ودام المؤتمر يوما واحدا وكان الغداء، شاطرا ومشطورا، وبينهما هريسة وبعضُ الفَتْفَتَات من التُنّ أو السّردين وقطراتِ رذاذٍ من الزيت لا غير وكنا سعداء ولم نبال لأننا عقدنا مؤتمر الاتحاد وأصدرنا بيانا يتضمن المطالبة بحرية الكلمة وبدعم نشر الكتاب وتوزيعه وتضمين التعليم في جميع مراحله قدرًا أكبر من الأدب التونسي وفتح فروع للاتحاد في مختلف ولايات البلاد والتفكير في إنشاء مجلة خاصة تصدر عن الاِتحاد والعمل على ترجمة مختارات للأدباء التونسيين المعاصرين فكان المؤتمر نقلة نوعية في تاريخه ثم بعد أن تولّى الأستاذ محمد مزالي الوزارة الأولى اِستقال من رئاسة الاتحاد وخَلَفه نائبُه سي العروسي واِنتقل مقر الاتحاد من مكتب صغير في دار الثقافة باب العسل إلى مقره الحالي بجانب المعهد العالي للموسيقى ودار الثقافة ابن رشيق في قلب تونس العاصمة وهو مقرّ محترم وكان حلما للأدباء المؤسسين ويعود الفضل الأكبر لاِكتساب هذا المقرّ وهو من أملاك الدولة إلى مَسعى الأستاذ بشير بن سلامة وزير الثقافة في حكومة مزالي وبِحِرصٍ كبير من الأدباء محمد العروسي المطوي ومحمد المرزوقي والجيلاني بالحاج يحي وغيرهم...

وباِنتقال اِتحاد الكتّاب إلى مقرّه الحالي 20 شارع باريس وبرئاسة سِي العروسي اِنطلق في طور جديد وذلك بإنشاء عديد النّوادي والفروع وإصدار مجلّة "المسار"ـ

-6-

في آخر سنة 1989 بدأ الاِستعدادات لعقد المؤتمر فطلب منّى سي العروسي ذات يوم بعد اِنتهاء جلسة أحد النوادي أن آتي إلى الاِتحاد من غدٍ باكرا لمراجعة بعض مواد مجلة المسار قبل طبعها فذهبت من غدٍ ولكن لم يُسلّمني ملفّ المجلة بل مدّ لي رسالة من اِتحاد أدباء العراق والثانية وكانت بالفرنسية من المعهد العربي بباريس وقال لي هل بإمكانك الإجابة عنهما مضمّنا موافقة اِتحادنا على ما فيهما فقلت له: حسنا ولكن هذه مهمّة الكاتب العام سي مصطفى الفارسي. فقال لي إنه منشغل بمسؤوليته في اِتحاد كتّاب إفريقيا وآسيا والأخ مصطفى لا ينوي أن يكون في الهيئة المديرة القادمة ثم أردف قائلا بشىء من الحزم: إنّ اتِحادنا في حاجة إلى كلّ أعضائه.

وسلّمني ورقتين فأخذتهما مع الرسالتين واِنصرفت إلى المكتبة لأردّ عليهما وما كادت نصف ساعة تمضي حتى رأيت سي العروسي يدخل المكتبة قائلا هل أتممتَ؟ فقلت نعم، وسلّمته الإجابة عن الرسالتين الأولى بالعربية طبعا والثانية بالفرنسية، ورافقته إلى مكتبه فجلس وقرأهما، ثم أبدى اِنشراحه وقال لي مبتسما: ما قصّرتش يعطيك الصحّة. فشعرت كأنني نجحت في الاِمتحان فسِي العروسي حريص على الدقة وحسن ضبط الكلمات وتنسيق الفقرات مع مراعاة بروتوكولات المقام والمناسبة وقد عَلِمتُ كل ذلك من خلال إملاءاته وملاحظاته عندما كنت أراجع معه بعض المراسلات... وأمر لي بقهوة، ثمّ مال بالحديث إلى شؤون المجلة فإذا به يأخذ ورقةً صغيرة ويكتب فيها بقلم الحبر ويمدّها إليّ كالسِرّ دون أن ينبس بأيّ كلمة فأخذتها كالوديعة وقرأت ما فيها... جملة واحدة فقط هي: "الترشّح إلى الهيئة المديرة".

وبدون تردّد وبسرور كبير قلت له: نعمْ... ولكن بشرط أن أكون معك يا سِي العروسي!

وكان المؤتمر في آخر ديسمبر 1989 بدار الثقافة اِبن خلدون وبعد الاِنتخاب كان نصيبي أكبر الأصوات وتولّى سي العروسي الرّئاسة، وسي الميداني بن صالح نائبه، والأخ محمد العاشمي بلوزة تولّى أمانة المال، والأخ جلول عزونة تولّى مسؤولية العلاقات الخارحية، أما الكتابة العامة للاِتحاد فكانت مسؤوليتي، وضمّت الهيئة أيضا الأدباء أبا زيان السّعدي، وسمير العيادي، وعبد الحميد خريّف، والطيب الفقيه، ونور الدين بن بلقاسم، والتابعي الأخضر. وحاولنا قدر المستطاع الإضافة والعمل على تحسين منزلة اِتحاد الكتّاب التونسيين وإشعاعه سواء داخل البلاد أو خارجها، فقد ضمّ الاِتحاد في تلك السنوات العدد الأكبر من الأدباء والشعراء والجامعيين على توالي أجيالهم واِختلاف قناعاتهم الفكرية واِنتماءاتهم السياسية وعلى تنوّع ألوانهم الأدبية والفنيّة وتعددّها. وقد تولّى أيضا اِتحادنا رئاسة الاتِحاد العام للأدباء والكتّاب العرب فأصيح سِي العروسي رئيسه في ظروف خلافات عربية حادّة إبّان حرب الخليج كادت تعصف بالاِتحاد أيضا.

من كان يظنّ أنّ ذلك الشّاعر الشّاب الواقف مع جَمْعٍ من الأدباء الشبّان وقد مُنعوا من دخول الأمسيات الشعرية عندما اِنتظمت بمناسبة مهرجان الشّعر العربي بتونس سنة 1973 سيكون من بين الفاعلين في تنظيم ذلك المهرجان سنة 1991.

ما كنتُ أحسب يوما أنّني سأكتب البعض من هذه الذكريات بما فيها من معاناة وتحدّيات ولكن ما أمتعها!

رحم الله سي العروسي!