يعود الكاتب المصري هنا ليتأمل نشأته في نفس المنطقة التي بزغ منها ثلاثة من نجوم الفكر المصري الكبار: طه حسين ومصطفى وعلي عبدالرازق، وكيف أثر تمرد هؤلاء الثلاثة الكبار على تقاليد السلف العتيقة، وإعمالهم لعقولهم بغية إخراج مصر من الظلمات إلى النور، على شاب طالع من نفس البيئة.

عوالم المتمردين الكبار

عيد اسطفانوس

 

يربطني بالعميد أننا أبناء منطقة واحدة في الصعيد الأدنى كان قصب السكر وتصنيعه هو محصولها ونشاطها الرئيس. وكما كان الشيخ حسين موظفا في شركة السكر (فابريكة مغاغة) كان جدى ذكرى افندي كبير كتاب في شركة السكر (فابريكة الشيخ فضل)، والمسافة بينهما ربما تزيد قليلا عن الكيلومترات العشرة، ولكن أهم ما يربطنا وأعظمه هو أنه استأدى الأول أستاذي الذى لم أره، فبينما كنت في حصة المكتبة في مدرستي الإعدادية وكنا في أوائل الستينات، وقع بصرى على غلافه (الأيام). ولازلت اذكر أنني التهمته التهاما، وفتح الرجل الكفيف عيناي المغمضتان على عوالم لم أكن أحلم بارتيادها، عوالم انطلاق الروح الى آفاق رحبه رغم القيود والأصفاد، عوالم التمرد على الواقع والاستكانة والتسليم بأقدار وهمية، عوالم اكتشاف مالا تراه الأعين، والقدرة على وصف ما يعتمل في الصدور، عوالم تجليات العقل البشرى عندما تنفتح البصائر.

وفى الخامسة عشرة حول الرجل مساري الفكري مائة وثمانون درجة، من أرسين لوبين وهولمز اليه والى بقية حبات عقد اللؤلؤ نجوم عصره الحكيم ومحفوظ وحقي وادريس وعوض و.و.و. شئ آخر يربطنى بالرجل فعندما قرأت مقدمته لكتاب على عبد الرازق عن أخيه مصطفى عبد الرازق، صديقه الوفي، تذكرت أنني ولدت على بعد أمتار من قصر آل عبد الرازق في مسقط رأس أمي التي لا تبعد عن قرية طه حسين سوى بضع كيلومترات الى الشمال، ولما كبرت والتصق بي طبع متمرد منذ حداثتي تذكرت أنني ابن بيئة هؤلاء، رواد عوالم المتمردين، وأي تمرد فلقد ألقوا أحجارا ثقيلة فى بركة مياه آسنه فاهتزت بعنف وانزعج قاطنيها من أي حراك قد يسمح لحزمة ضوء تنفذ الى قيعانها، ويوقف نمو طحالبها السامة. لذا هاجت عليهم كل كائنات البركة والبرك المجاورة من أعداء الضوء والحركة، وتكالبوا عليهم علهم يسكتون أو بالأحرى يسكنون. لكنهم قاتلوا بشراسة حتى الرمق الأخير.

وان كان وصف المتمردين وصفا حادا فلا بأس من وصف المجددين وان كان المجددون يجب أن يكونوا متمردون بالضرورة فلا تجديد دون تمرد على واقع، فالأول مصطفى عبد الرازق كان شيخ للأزهر، ولكن ليس كأي شيخ. كان الرجل محبا للفن والموسيقى والتشكيل والفلسفة. والأخيرة كان باعه فيها طويلا لم يضاهيه فيها أحد ممن سبقوه أو ممن خلفوه، ولا زال تعبير الفلسفة الإسلامية مرتبطا باسمه حتى اليوم. ونال بالطبع ما يكفى من اللوم والتقريع؛ لا لسبب سوى أنه انسان أعمل عقله، واستفتى قلبه وضميره الحى، فيما هو الحرام والحلال.

أما الثانى فهو أستاذى الذى سبق ودفع ثمنا باهظا للجهل والتخلف وهو عيناه، فقد أعمل عقله في محاولة لفتح بصائر أمه بأكملها توقف نموها الفكري والثقافي والعلمي منذ قرون. فقد خاض في المحظور الموروث الذى لم يجرؤ أحد ممن سبقوه على الخوض فيه أو حتى الاشارة اليه، وتكالب عليه كل المنتفعين من مياه البرك الآسنة. حاكموه وشتموه وسبوه وكفروه، لكن المقاتل العنيد ظل شامخا في مواجهة هذه العواصف الهوجاء. ولم ينحنِ، ولا أعتقد أنه غيّر أيا من آرائه حتى مات.

أما الثالث شقيق الأول القاضي الأزهري الجليل، خريج أكسفورد، على عبد الرازق. فقد روّع الجميع وصدمهم بما لم يتوقعوه ولا يتمنوه؛ فقد أعلنها واضحة صريحة جليه أن الاسلام رسالة روحيه في مقامها الأول، أما استغلاله للوصول الى كرسي حكم، أو مغنم سلطة، أو غيره من الأهداف الأرضية فهو هدف خبيث، ووسيلة دنيا للالتفاف على المقصد الإلهي السامي للعقيدة، الذى هو خدمة الانسان، وليس حكمه والتسلط عليه. هكذا أعلنها العالم الفقيه دون مواربة فبهت الجميع. وانهالوا عليه كما انهالوا على طه حسين سبا ولعنا وتكفيرا.

هؤلاء الثلاثة هم رواد عظام من رواد التمرد والتجديد في القرن المنصرم، وقد تجاسرت واعتبرت نفسى من زمرتهم وان كان مانالنى لا يقارن بما ناله هؤلاء من ظلم واجحاف. وهو الثمن الحتمي لمن يحاول التجوال في عوالمهم عوالم المتمردين.