رسالة فرنسا

مهرجان كان 62 (1 من 2)

صلاح هاشم

 

(1) العنف.. يتفجر على الشاشة والمخرجون الكبار خذلونا
عرض مهرجان كان الذي انطلق في 13 مايو ويمتد حتى الرابع والعشرين منه، عرض مجموعة كبيرة من أفلام المسابقة الرسمية التي تضم عشرين فيلما، تتنافس على سعفة كان الذهبية ومجموعة الجوائز الأخرى، التي توزعها لجنة التحكيم الرسمية فى الدورة 62، وتترأسها النجمة السينمائية الفرنسية الكبيرة إيزابيل اوبير.. وقد برز من ضمن الأفلام التي عرضت ولحد الآن لعتاولة وكبار المخرجين في العالم، من أمثال ترانتينو من أمريكا، وجين كامبيون من نيوزيلندا، وبيدرو المودوفار من اسبانيا، وكين لوش من بريطانيا وارس فون تراير من الدانمرك وغيرهم. برز فيلم (النبي) للمخرج الفرنسي جاك اوديار، المرشح حتى الآن من قبلنا ومجموعة كبيرة من النقاد للحصول علي السعفة، بسبب من جودته السينمائية العالية علي مستوي الصورة وتلاحمها أو توافقها مع مضمون الفيلم، الذي يعرض للسجون الفرنسية، وتعتبر من حيث أوضاعها المادية والمعيشية من أسوا السجون في أوروبا. كما يعرض لشاب عربي في السجن، ويصوره في يأسه وعذابه ووحدته، في مواجهة صمت السجون ووحشتها، ويبين كيف استطاع بعد أن انضم إلى عصابة من عتاة المجرمين من كورسيكا داخل جدران السجن، أن يتغلب علي الظروف التي تجعل منه عبدا مقيدا وتابعا لتلك العصابة، ولكي يصبح في النهاية بسبب من فطنته ودهائه وذكائه، يصبح الزعيم والسيد المطاع. وكان مالك الجبانة 19 سنة الذي دخل السجن ليقضى فترة حبس تمتد الى 6 سنوات أميا لا يعرف أن يقرا أو يكتب، ويبدو ضعيفا وهشا يسهل كسره، غير انه سرعان ما اشتد عوده، ونشاهده يمر من خلال تجربة السجن بتحولات نفسانية، وبخاصة بعد أن استحوذ علي ثقة زعيم العصابة، ونجح في أكثر من مهمة كلف بها.

وتعتمد قصة الفيلم الذي نعتبره الأكثر حظا للفوز بجائزة السعفة الذهبية ولحد الآن علي فكرة للكاتب عبد الرءوف دفرى.. كما يعتبر مخرج الفيلم جاك اوديار من ابرز المخرجين الفرنسيين فى الموجة الفرنسية الجديدة في سينما التسعينيات.. التي تضم مجموعة من المخرجين المتميزين، من أمثال مايو كازوفيتس، واوليفيه السايس، وكلير دوني، وباسكال فيران، وغيرهم. وتتميز أفلامهم بارتباطها الوثيق بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والتحولات التي طرأت علي واقع المهاجرين العرب في فرنسا وأوضاعهم، وتعتبر فنيا وسينمائيا بمثابة نصل خنجر حاد يخترق ضلوع المجتمع الفرنسي الاستهلاكي المادي الأناني العنصري كاشفا عن تناقضاته.

فيلم (النبي) لجاك اوديار يستكشف من خلال قصة هذا المسجون الفرنسي الشاب من أصل عربي سجون البؤس فى فرنسا.. وهو حين يحكي قصة هذا الشاب العصامي الذي صنع نفسه بنفسه في السجن.. فهو يحكي عن تلك المجموعات العرقية المهشمة التي تعيش فى الظل.. وتسكن عشش الصفيح.. فى تلك الضواحي الموحشة البعيدة عن العمران في جيتوهات البؤس.. على هامش المدن ألكبري. وهو إذ يحكي عن السجن، فلكي يقدم صورة أخرى عن تلك الحضارة الفرنسية التي تشمخ بثقافاتها ومعارضها وأزيائها في الخارج، لكنها تخفي علي الطرف الأخر خلف القناع، تخفي همجية وعنصرية وتخلف العصور الوسطي، ويظهر ذلك مثلا في صور القمع والقهر التي تمارس علي المسجونين في الحبس ومجتمع السجن.

غير أن القيمة الأساسية لهذا الفيلم تكمن فى واقعيته ومصداقيته وإنسانيته.. فليس المهم أن يكون النهر طويلا أو عميقا.. لكن المهم أن تكون الأسماك فيه سعيدة. ومما يجعل من فيلم اوديار الأكثر حظا للفوز بالسعفة وقد وجب التنويه، ذلك الأداء الرائع المتميز لبطل الفيلم طاهر رحيم. الذي يمثل هنا لأول مرة دور مواطن فرنسي من أصل عربي. ويدخل فيلم (النبي) مسابقة المهرجان مع ثلاثة أفلام أخري تشارك في المسابقة من ضمنها فيلم (الأعشاب المجنونة) للمخرج الفرنسي الكبير الان رينيه. وسوف نتوقف عند ابرز ملامح أفلام الدورة التي عرضت ولحد الآن. مثل فيلم (ضد المسيح) للارس فون ترايز، الذي اعجني توهجه الفني علي الرغم من غموض رسالته الفكرية، او تبعثرها وتشتتها العضوي، وكذلك فيلم (البحث عن ايريك) للبريطاني كين لوش الذي يظهر فيه لاعب الكرة الفرنسي ايريك كانتونا لاعب فريق مانشستر يونايتد/ ويصالح الفيلم ولأول مرة في السينما بين عشاق كرة القدم، وعشاق الفن السابع السينمائي، ويقربنا بموضوعه من مشكلات ومتناقضات المجتمع البريطاني، كما يقربنا أكثر من إنسانيتنا. 

(2) عدو المسيح ولارس فون تراير
أثناء عرض فيلم (عدو المسيح) للمخرج الدانمركي لارس فون تراير، الذي يصرح علانية فى ملف الفيلم وفى المؤتمر الصحفي، بأنه أعظم مخرج في العالم، أصيب أكثر من ستة متفرجين بحالات قرف وغثيان، كما أغمي علي البعض الأخر، بسبب العنف الذي يتفجر في الفيلم فى كل لحظة، وقد قصد مخرجه بان يقذفنا به، وعلي أمل أن يكون العنف ومشاهد الدم كما في التراجيديات اليونانية نوع من (التطهير) الذي يمسح ويزيل عنا كل أدراننا، ويجعلنا نتصالح مع أنفسنا والعالم. غير أن العنف الذي شاهدناه هنا في أفلام كان يتجاوز كل الحدود، إذ لا يتعلق الأمر مثلا بخنجر تغرزه ليدي ماكبث في صدر عدو، ونعرف انه من نصل صفيح، والدم علي الشاشة هو مجرد دهان احمر، بل يتعدي كل ذلك، ويتجاوز الحدود، حين تتناول شارلوت جانسبورغ بطلة فيلم عدو المسيح مقصا صدئا، وتقطع به جزءا من أعضائها التناسلية، كما تقوم بعملية استمناء لزوجها، فإذا بقضيبه المنتصب يقذف دما.

إذ يحكي الفيلم الذي جعل مع مجموعة أخري من الأفلام في المسابقة الرسمية جعل الدورة 62 تتحول إلى نهر من الدماء، وبكل صور العنف المباحة والغير مستباحة وتتجاوز هنا كل الحدود، يحكي عن زوجين يفقدان ابنهما حين يستيقظ من نومه علي صوتهما وهما يمارسان الحب، ويصعد علي كرسي ويقفز من نافذة الغرفة، ويسقط من حالق ويموت, فتحزن الأم علي ابنها حزنا مروعا، وأثناء دفنه يغمي عليها من فرط الوداع والألم. ثم أن الأب الذي يعمل طبيبا نفسانيا ويعالج القلوب المجروحة يقترح علي الأم أن يلجا الاثنان إلي كوخ لهما في غابة، معتبرا أنهما يقدران في وحدتهما إيجاد حلول لمشاكلهما وأزمتهما العاطفية، وقد بدأت العلاقة تنهار بينهما، وبدأت الأم تتحول إلي وحش جائع نهم لممارسة الجنس مثل ثور في كل لحظة، وبسرعة تصبح الزوجة الأم ضحية لعوالم وأسرار الطبيعة الخفية.. تصبح دغلا موحشا ووحشا دمويا مفترسا، وتهجم علي زوجها وتطعنه بسكين عدة طعنات، فلما يسقط علي الأرض، تروح تفتح جرحا في ساقه، وتربط بالجرح طاحونة من الحجر بواسطة صامولة، ثم تربط الصامولة بمفك بحيث يصعب علي زوجها والأمر كذلك أن يتحرك، إلا إذا جر الطاحونة المربوطة بالساق!

ثم أن الزوجة تحاول أن تدفن زوجها حيا وتضربه في خصيتيه، وتتحول هكذا في حضن الطبيعة إلي غول، أو مصاص دماء أو ساحرة من ساحرات العصور الوسطي ويجب التخلص منها، وينتهي الأمر بان يقوم الزوج بخنقها لكي تموت بين يديه، وينتهي الفيلم الذي يهديه فون تراير الي المخرج الروسي الكبير الراحل (تاركوفسكي) بظهور جماعات من الناس تصعد في الغابة إلي اعلي التل، لتحية الزوج المخلص بعد أن قضي علي الوحش وخلصهم منه. ويظهر في الفيلم ثعلب وغزالة وغراب، ويتكلم الثعلب الذي نهش لحمه في الفيلم يتكلم كما الشيطان في فيلم طارد الأرواح علي لسان بطلة الفيلم الصغيرة، غير انه بدلا من ان ينطق بكلام غير مفهوم يصرخ في وجه الزوج قائلا إنها (الفوضى التي تسود وتتحكم في العالم). 

فيلم عدو المسيح لم يستطع البعض أثناء عرضه تحمل مشاهده حتي النهاية، فغادروا القاعة، كما أن النقاد هنا أو الأغلبية منهم ذبحوه بسبب غرور مخرجه، المصاب بجنون العظمة، وكان سبق له الحصول علي سعفة كان الذهبية بفيلم الرقص في الظلام، وقد اخرج حتي الآن 11 فيلما روائيا حصدت العديد من الجوائز في مهرجانات السينما العالمية.

ولم تكن سمة العنف الدموي المروع هي سمة هذا الفيلم فقط، بل كانت سمة وملمحا طاغيا وصادما في اغلب الأفلام التي عرضها المهرجان في مسابقته، مثل فيلم (عطش) لبارك شان ووك من كوريا، الذي يحكي عن مصاصة دماء، وفيلم (كيناتاي) للمخرج بريلانت مندوزا من الفلبين الذي يحكي قصة فتاة تختطف ويكرس مخرجه الجزء الثاني من فيلمه ليرينا كيف عذبت، وتم تقطيع أطرافها،و ذبحت أمامنا، بالتفاصيل المملة!!..

وكما في فيلم (انتقام) للمخرج الصيني جوني تو الذي يلعب فيه المغني الفرنسي الشهير جوني هاليداي دور أب يعود إلي هونج كونج، لكي ينتقم من أفراد عصابة اغتالت ابنته، وهنا في الفيلم تتطاير الرصاصات من كل ناحية، وعليك أن تتحمل خبطها ورقعها وضجيجها، أو أن تلوذ بالفرار من الفيلم.

كما يظهر العنف بقوة أيضا علي (شاشة كان) وبخاصة في أفلام المسابقة من خلال فيلم (الأوغاد المجهولون) للأمريكي كوينتين ترانتينو الذي يذكرنا بفيلم (دستة اشرار) لروبرت الدرش وينتمي إلي نوع (أفلام الحرب). 

غلبة أفلام النوع
ويلاحظ هنا بالإضافة إلي ملمح العنف، ظاهرة او سيادة أو غلبة أفلام (النوع) في كان، ويحكي فيلم ترانتينو عن فرنسا تحت الاحتلال الألماني النازي، وكيف استطاعت فرقة من الجنود باسم الهنود الحمر الاباشي ان تنشر الرعب في صفوف العسكر وقوات هتلر النازية، فقد كان يطلب من الجندي اليهودي المختار للانخراط في تلك الفرقة الأمريكية الانتحارية ان يتحصل علي فروة راس مائة جندي نازي، وان يقوم بسلخها عن رأس الضحية بنفسه، وكل هذا للانتقام لليهود مما وقع لهم في الحرب العالمية الثانية من قتل وإبادة وتشريد، وينتهي فيلم ترانتينو الذي لم يعجبني بل وجدته تافها وثرثارا وسخيفا، ولا يليق بشهرة مخرج مبدع كنا ننتظر منه المزيد.

ويسود الإحساس بخيبة الأمل هنا في كان، فالمخرجين العتاولة الكبار خذلونا، كما فعل ترانتينو، وذات الشيء ينطبق علي الأفلام التي عرضت في المسابقة للاسباني مثل فيلم (الأحضان المتكسرة) للاسباني بيدرو المودوفار وفيلم (الأعشاب المجنونة) للفرنسي الان رينيه وغيرها، وهي أفلام من نوع (أفلام الرعب ومصاصي الدماء) كما في فيلم (عطش) او من نوع الفيلم البوليسي كما في فيلم (انتقام) الا انها ظلت للأسف تدور في حلقة المواصفات والأنماط الخاصة بكل نوع علي حدة، ولم تقدم جديدا.. إلا في فيلم (عدو المسيح) فقط الذي أعجبني فيه علي الرغم من مشاهد العنف المقرفة المرعبة قوة التعبير البصري المذهلة التي حولت الفيلم في بعض مشاهده من خلال تلاحم الصوت والصورة إلي شيء أشبه ما يكون بالقصيد السيمفوني. 

(3) فيلم (الزمن الباقي) يشمخ بالسينما العربية في مهرجان (كان) 62
شمخ (الزمن الباقي) بفنيته العالية، وقوة تصويره لضياع وغربة الفلسطينيين في وطنهم، حين عرض اليوم، واعتبر ـ بعيدا عن أغلبية (أفلام المسابقة) التي كرست للعنف، وتفجرت بالدم أشلاء، وجعلت الدورة 62 تبدو لنا أكثر وأرعب دورات كان دموية وعنفا وتوحشا ـ أن عرض فيلم المخرج الفلسطيني إيليا سليمان،جاء في وقته تماما، ليخرجنا من واقع (الكوابيس) المرعبة التي خبرناها في أفلام (انتقام) و (عطش) و (عدو المسيح) وغيرها وعلي الرغم من توهجها الفني أحيانا.. إذ ينقلنا (الزمن الباقي) إلي عالم أكثر إنسانية وجمالا وصفاء، بكل ذلك الحنين المموسق في الفيلم بأغنيات الحب والذكريات البديعة لليلي مراد ومحمد عبد الوهاب وفيروز، وهو يحكي لنا عن ذكرياته في فيلمه الفني البديع الأثير، ويهديه في آخر الفيلم إلي ذكري والديه. 

جاء فيلم إيليا الذي يحكي عن تاريخه الشخصي في فلسطين، وبالتحديد في مدينة (الناصرة) منذ عام 1948 ولحد الآن، بمثابة سيرة ذاتية وشهادة أيضا علي ما وقع لأسرة فلسطينية لم ترد أن تغادر في حين طفش وهرب الغالبية العظمي من سكان المدينة, جاء في وقته لكي يسعدنا ويثقفنا ويمتعنا ويبكينا أيضا..

بعد ان تعذبنا في معظم أفلام المسابقة ولم نجد فيلما إنسانيا معقولا ويقدم صورة تشبهنا إلا في فيلمين هما فيلم(النجم المشرق) للنيوزيلندية جين كامبيون، وفيلم (البحث عن ايريك) للبريطاني كين لوش، بينما دارت الغالبية العظمي في مناخات وأنماط وأكليشيهات معروفة ومحفوظة ومكررة من خلال أفلام (النوع) بل أن بعضها قد تبحث عن مبرر ما لوجوده أو سببا مقنعا لعمل الفيلم فلا ولن تجد. ويا له من ترف حقا أن تصنع بعض الأفلام فقط، لكي ترضي مزاج أصحابها اللعنة، ونتكبد نحن مشقة الذهاب إلي المهرجان، لكي نشاهد تلك أعمال تجاهد لكي تحصل علي رضاء المهووسين بالسينما من النقاد والصحفيين وتنسي الجمهور، بل ويحتقر بعضها الجمهور.

يأتي فيلم (الزمن الباقي) مثل (كاس من الفراولة المثلجة) في عز حر (جهنم) في (كان) ويكون مثل اللوز المقشر، ومحسوبا ومنسجما وموزونا، ولن تجد فيه لقطة أو مشهدا زائدا يجعلك تشعر بالملل والقنوط وتتململ في مقعدك، وتريدان تغادر الصالة..

بل علي العكس، سوف تفرح بعد المشهد الافتتاحي في الفيلم، الذي يصور عودة إيليا إلي مدينته الناصرة وسط البرق والرعد والمطر، وضياع واختفاء الطريق فجأة عن السائق في الليل ويغزو دخان كثيف الشاشة، لكي يبدأ إيليا سليمان يتذكر ويعود القهقرى إلي عام 1948، ويحكي لنا عن أبيه (فؤاد سليمان) صانع الأسلحة في ورشة، المناضل الذي يقرر البقاء في فلسطين بعد أن هربت القوات العربية المحاربة، ولبست القوات الإسرائيلية ملابسها والكوفية والعقال، ودخلوا الناصرة، وجعلوا عمدتها يوقع علي عريضة استسلام مخزية. 

مرثية الزمن الحاضر الغائب
ويكشف هنا في الجزء الأول من الفيلم عن حكاية الناصرة التي سقطت في يوليو 1948 واعتقال وتعذيب الأب، ثم ينتقل في ما بعد إلي صورة المدينة في ظل الاحتلال، من خلال فصل مدرسي يغني فيه الأطفال أغنية بالعبرية عن حلم إسرائيل الذي سوف يصبح (حقيقة) مثل الشمس في وضح النهار، ثم ومن بعدها ينشدون بالعربية أغنية لفلسطين الوطن الغالي، الذي لن ينسي أبدا!!

وكأن فيلم (الزمن الباقي) هو مرثية للزمن الحاضر الغائب، وأغنية حزينة عن الغربة والضياع تحت الاحتلال، لكنها رغم عبثيتها وأسلوب إيليا سليمان الباهر في السرد والحكي بأقل الإمكانيات الممكنة، كما في مسرح العبث واللامعقول عند الايرلندي عند صامويل بيكيت أو الفرنسي من أصل روماني يوجين يونسكو واللبناني جورج شحاذة، ويجعل من فيلم (الزمن الباقي) قريبا جدا من أعمال السينما الصامتة، ويا لها من متعة حقا نستشعرها ونحن نشاهد فيلمه، وسط فرقعات وصخب العنف والرصاصات الطائشة في أفلام المهرجان.

ولا نشبع من حكايات إيليا وذكرياته عن والديه وعشق والده للصيد في البحر والاستماع إلي أغانيه المفضلة، والجميل المبهر في الفيلم أن إيليا سليمان لا يظهر في فيلمه (الزمن الباقي) أي حقد أو غل وكراهية ضد اليهود أو الصهاينة أو دولة إسرائيل، فلا يشتم ويلعن، بل يصف ما وقع من أحداث بحياد وموضوعية، ويذكر فقط في الفيلم انه كان في صغره يمزق العلم الإسرائيلي ويقول عن أمريكا أنها دولة كولونيالية مرة، ثم دولة امبريالية مرة أخري..

وإزاء جدار العار في إسرائيل يقول لنا إيليا من خلال مشهد فكاهي في الفيلم انه سوف يتعلم رياضة القفز العالي ويقفز بعصا كبيرة من علي السور وينجح بعصاه في القفز بقوة الخيال، كما نجح في فيلمه الروائي السابق (يد إلهية) في أن ينسف دبابة بنواة مشمس ومن يدري قد تستطيع السينما الفلسطينية التي يعتمدها ايليا سليمان ان تفجر بقوة الخيال جدار العار وتعكس علي طريقتها إرادة لا تتزعزع علي الصمود والمقاومة. فيلم إيليا سليمان (الزمن الباقي) الذي يحتشد أيضا بالشخصيات الفكاهية مثل (الجار) أرشحه للفوز بسعفة كان الذهبية، فالفيلم يجمع بين التاريخ والسياسة والسيرة الذاتية والفلسفة،والأخيرة تظهر هنا من خلال نظرة إيليا سليمان، وتأمله لحاله،وظهوره بنفسه في كل أفلامه، ونظرة ايليا سليمان التي كشف عنها ومنذ فيلمه الروائي الأول (وقائع اختفاء)، هي النظرة التي يفلسف بها حياته، ووجوده العبثي في وطن محتل.

إلا أن هذه النظرة الفلسفية التهكمية الساخرة التراجيدية المأسوية الفكاهية في آن هي التي تخف من عذابات وألم ذلك المواطن الغريب، حتى مع لنفسه وتحت جلده، وأشبه ما يكون بمتفرج علي مأساة إيليا سليمان ذاته

كما أن الجميل والمثير أيضا أن إيليا سليمان ينهل في محاولته بلورة تلك النظرة، بسبب وعيه وهضمه للتقاليد السينمائية، ينهل من التراث السينمائي عند عمالقة السينما الفكاهية في العالم من أمثال بستر كيتون وجاك تاتي وماكس ليندر، ويبدو لنا مثل بستر كيتون الأمريكي بعد أن قرأ كارل ماركس، وهو يعيش في فلسطين تحت اسم إيليا سليمان.

فيلم (الزمن الباقي) الذي أعجبنا وأحببناه، هو امتداد لنوع مطلوب من (السينما الذاتية) التي تهرب من الفبركة والفذلكة والصنعة، لكي تحكي عن وقائع خبرناها وعشناها، وهو يضع نهاية لثلاثية فيلمية عن فلسطين.. والجميل في (سينماه) إنها تفتح باب الأمل مستقبلا ـ بعيدا عن متبلات وأعمال وخزعبلات التكنولوجيا المعاصرة ـ لـ (سينما مغايرة) تحكي عن هويتنا وذاكرتنا، وتطور من وعينا بتاريخ ومتناقضات مجتمعاتنا. سينما تقربنا من روح و (حساسية) عصرنا وهي تقربنا اكثر من انسانيتنا. تحية الي ايليا سليمان علي فيلمه (الزمن الباقي) البديع الذي شمخ بالسينما العربية في مهرجان كان 62..

ولنا وقفة مع حصاد المهرجان في عدد مقبل.