يتناول الباحث الفلسطيني هنا أحد الأعمال الأدبية القليلة التي تستهدف القارئ في مقتبل العمر، وهي رواية الكاتبة الفلسطينية أحلام بشارات ومدى قدرتها على تقديم حبكة سردية شيقة مكنتها من وضع كم كبير من الأسئلة والتساؤلات التي تدور في أذهان الفتية من الجنسين، حول الواقع الفلسطيني المعقد.

فراشة أحلام بشارات

زياد جيّوسي

 

في البدء لا بد من الإشارة إلى أن المكتبة العربية تفتقر إلى حد ما أدب الأطفال والفتيان، فدور الكتاب مهم جدا في حياة صغار السن ويلبي حاجات يحتاجونها، وهذا ما تربينا عليه منذ الطفولة في عصر لم نكن نعرف الكهرباء ولا التلفاز ونقرأ على ضوء "لمبة الجاز"، وكما قال المؤلف د. نجم عبد الله كاظم في مؤلفه الضخم "رواية الفتيان" عن أدب الفتيان: "تمتلك رواية الفتيان خصوصية لا يخطئها قارئ ولا ناقد. أهم ما يكمن وراءها علاقاتها برواية الكبار وكتاباته بشكل عام من جهة وبقصص الأطفال والكتابات الموجهة لهم بشكل عام من جهة أخرى. وهذا يعني بالضرورة أنها تقوم على مقومات وخصائص فنية وموضوعية هي بدورها نتاج عناصر هذا الفن واشتغالها الداخلي الخاص وطرق معالجة كاتبها لموضوعاتها"، وفي نفس الوقت نفتقد إلا إلى القلة القليلة من النقاد المختصين بأدب الطفل.

وهنا نجد خروجاً عن المألوف بوجود رواية كاملة مقدمة للفتية من الجنسين بقلم الكاتبة الفلسطينية أحلام بشارات، وهذا يعني أنها مقدمة لجيل ما قبل مرحلة الشباب إذا أخذنا بعين الاعتبار أن بعض التصنيفات تضع عمر الفتية بين الثامنة والثامنة عشرة من العمر، وفي نفس الوقت لا بد من الإشارة إلى أن استخدام عبارة "رواية للفتيان" مجردة تعطيها الجانب الذكوري وتنقص من حق الفتيات، فكان الأجدر أن تعنون بعبارة: "رواية للفتيان والفتيات"، وإضافة لذلك لا بد أن أشير إلى التوفيق الكبير باختيار اسم الرواية، فاسمها: "إسمي الحركة فراشة" وهو أحد فصول الرواية، وهو اسم يشير إلى مرحلة الطفولة الجميلة وأحلامها وأسرارها البريئة، فكل الأطفال يولدون كالفراشات ولكن عوامل البيئة والمجتمع هي التي تغيرهم، لذا كان العنوان موفقاً فصور الطفل الذي سيكبر ويصبح فتى أو فتاة محلقا كالفراشة التي تبدع في تحليقها بين الزهور والجمال.

قسمت الرواية إلى عدة فصول وكل منها يحمل عنواناً مختلفاً والتي شكلت بمجملها رواية تحمل سمات العمل الروائي، وليس مجرد لقب الرواية، وقد تمكنت الكاتبة ببراعة من استخدام لغة عربية سليمة، لكنها سهلة بعيدة عن التعقيد بما يتناسب مع المرحلة العمرية للقراء، وابتعدت عن اللهجة المحكية مما يدفع القراء لتشرب عبارات عربية مكتوبة بأسلوب جيد، ومع هذا فقد وقعت الكاتبة بخطأ استخدام كلمتي "ستي وسيدي" في بعض المقاطع وليس في كلها بديلا عن كلمتي "جدي وجدتي"، وهما الأصح لغوياً رغم أن الكلمتين في البداية مستخدمة بكثرة في اللهجة المحكية، وكتبت الرواية بأسلوب مازج الجد بالهزل والفكاهة بالبكاء والحلم بالواقع.

أيضا في حلم بطلة الرواية كانت تخفي حلمها بالسفر خارج فلسطين وبشكل خاص عن أختها تالا التي ستثرثر بذلك للجميع، وعن زميلتها بالمدرسة "ميس" حتى لا تسمع منها أن السفر خارج فلسطين حرام لأنها أرض الرباط، وفي هذه إشارة واضحة إلى تيار سياسي يترك تأثيره، وحبذا لو تمت الإشارة أن مغادرة الوطن لا تجوز من زاوية التشبث به خوفا من أطماع المحتل، ففلسطين وطن بكامله وليست فقط عبارة أرض الرباط المرتبطة بمفهوم ديني.

تمكنت الكاتبة بمهارة من انتقاد عدد كبير من السلوكيات للأمهات والأهل بشكل عام، فانتقدت الثرثرة لدى النساء وتقزيم مستقبل الفتاة الصغيرة بالزواج فقط حين تكبر، كما انتقدت الكبار ممثلين بالأم التي تبخل بشراء منشفة صالحة، وزوجة العم التي تتباهى بالمشتريات إلى درجة التبذير، وفي نفس الوقت تمكنت الكاتبة بأسلوب سلس من الإشارة إلى الكثير من التساؤلات البريئة التي تدور بأذهان الفتية والأطفال دون أن يعرفوا لها سببا ولا يجدون إجابة شافية لو سألوا، مثل ألآم بطن زينب أختها الكبيرة ولم تعرف الجواب إلا حين بلغت مبلغ النساء، وفي الجانب الاجتماعي أشارت لعدة مسائل منها الفروق في الحياة والسلوك بين القرية والمدينة.

وفي الجانب الوطني تمكنت الكاتبة أن توصل الكثير من الأفكار بأسلوب سلس مثل عمل والد بطلة الرواية في مزرعة عند المحتلين، في الوقت الذي يرسل أطفاله إلى المدارس ليتعلموا تاريخ قضيتهم ومجازر الاحتلال، وكذلك الإشاعات التي تخرج وتصف البعض بالعمالة للمحتلين، أو تنعكس على أسرة العميل الحقيقي وهم لا ذنب لهم، وكذلك مشروعية أو عدم مشروعية السرقة من عند المحتل، وكذلك بإشارة راوية النص إلى مأساة الاقتتال الداخلي بين اقوى قوتين في الوطن في ظل الاحتلال، وكذلك الحديث عن سرقة البحرين والبحيرة في فلسطين، وعن الشوق الذي تملكها لبلدها في سفرتها الأولى مع والدها إلى عمَّان، وعن الفارق بين معيشة أطفال فلسطين في الخارج مقارنة مع معيشتهم في فلسطين المحتلة حيث الحواجز واستشهاد الأطفال وقتلهم بدم بارد من جنود الاحتلال.

كما أن الإشارات للعوامل النفسية لدى هذا السن، تمكنت الكاتبة من الإشارة إليها بمهارة، فأشارت إلى سلوك بطلة القصة بارتداء ملابس أمها سرا وخاصة قميص نومها، أو تلوين وجهها وهي تجرب أحمر الشفاه، أو نتف بعض الشعر من الحاجبين سراً، وتساؤل الطفل سالم الذي استشهد أبوه حول نوم عمه في سرير أبيه، وهو لا يدرك انه تزوج من أمه، وكما قالت والدة بطلة الرواية: "عليه أن يستر عِرض أخيه"، فتثير هذه الكلمة التساؤل في ذهن الطفلة: "يبدو العٍرض وكأنه كارثة مثل الإحتلال"، وكذلك السؤال حول استشهاد نزار.

يمكن القول أن الكاتبة تمكنت من خلال حبكة روايتها من وضع كم كبير من الأسئلة والتساؤلات التي تدور في أذهان الفتية من الجنسين، فكانت كالفراشة تدور في أذهان الفتية والبحث عن تساؤلاتهم، مما يجعل من هذا الكتاب مادة هامة على الأهل أن يطلعوا عليها أيضا وليس الفتية وحدهم، من أجل أن يعرفوا كم التساؤل في أذهان أبنائهم ويجيبوا على هذه التساؤلات بدون أن يستمعوا للأسئلة، وخصوصا أن هذا الجيل الآن مطلع على الكثير من خلال التلفاز والفضائيات والشبكة العنكبوتية.

وفي النهاية لا بد من الإشارة إلى مهارة الكاتبة في الخاتمة بعد ابداعها في فصول الرواية والتي أحتفظ بها منذ كانت مشروعا لرواية، فقد توحدت روح بطلة الرواية مع روح الشهيد، وحلقا معاً كفراشتين نحو القدس وقالت: "نبت لي جناحان فصرت فراشة"، ولا بد من الإشارة إلى أن إضافة المصطلحات المستخدمة وتفسيرها كان مسألة هامة حتى تسهل على الفتية فهم المعاني، وأعتقد أن وجودها في أسفل كل صفحة ورد فيها مصطلح سيكون أفضل من وضعها وكأنها فهرس في نهاية الرواية، فالكاتبة باتجاهها بعدة كتب لهذا التصنيف من الكتابة، اختطت طريقا صعبا وحافلا بالأشواك، لكنها تمكنت بجدارة أن تتجاوز حقول الألغام فيها، علما أن الكاتبة أصدرت العديد من قصص اليافعين منها جنجر ومصنع الذكريات، وترجمت لها ثلاثة روايات للانجليزية بما فيها هذه الرواية.