قصص الحيوان هي إحدى الثيمات الأثيرة لتراث الحواديت، الحافل بخليط من الحيوانات الحقيقية والأسطورية، يقدم النص هنا لمحة من حروب نهاية العالم يقودها قائدان عنيدان، هما: قائدة المعيز صاحبة النصر المسكر اعتمادًا على سلاح المغارز الحديدية، وقائد الحمير صاحب الجيش المهزوم، والباحث عن استراتيجية جديدة لتحقيق النصر.

حروب نهاية العالم

هـشام البـواردي

 

1

توقف القتال لما دخل الليل، النيران كانت موقدة في المعسكرين، والحركة خافتة فيهما، ومنهما كانت تنبعث رائحة الدماء والخراب والموت، وكانت قائدة المعيز منتشية بالتقدم الذي تم احرازه، كانت قائدة الخراف تسمع النكات التي تلقى عليها، وترتج بالسعادة والفرحة، والسعادة والفرحة، والسعادة والفرحة، وكان قائد

الحمير يتأمل وهو يفكر في حل للمغارز الحديدية المثبتة في أرجل جيش المعيز والخراف والتي تجعل قواته من الحمير والكلاب مرتعدة وخائفة وعلى بعد خطوة واحدة من الاستسلام والهزيمة، وفكر أولا في الدفاع، فكر في كيفية حماية قواته من مغارز المعيز والخراف الحديدية، وأفضى التفكير الى فكرة تنفيذها  بحاجة الى تكلفة هائلة ويستغرق مزيدا من الوقت، ولم يكن يحاربه شىء كالوقت، ولم يكن يصارعه شىء كالوقت، كان في حاجه ماسة الى اعلان ما، الآن، الى قرار ما ،الآن، يشدد به أزر قواته، ولم يكن قد توصل الى ذلك، لكنه كان على يقين تام بأنه سيتوصل الى ذلك وهو يتأمل.

وفي الطريق بين المعسكرين كان يسمع صوت خطوات، وهمهمات، ولهاث، كان قائد الكلاب يذكر النعجة بالماضي الذي جمعهما، ولم تكن النعجة قادرة على تذكر الماضي، لم تكن مهتمة بالماضي، كانت تقول له: لقد دفنت الماضي.

وبعدما أعياه تذكيرها بالماضي وحرصها على عدم فتح قبره، كلمها عن الحياة، وعن والسعادة، وعن الحروب والعداوات والأحقاد والضغائن  التي لا تنتهي، وكلمته عن الليل  ووحدته، والليل وجماله، والليل وبهاؤه، ولم يكن يحب الليل قبل ذلك، لكنه اعتقد أنه صار أكثر الكائنات حبا لليل، وحين نظر اليه، الليل، رأى ما رأته، وعاين ما عاينته، وكُشف له ما كُشف لها، وكان يقترب من الهالة والوضوح في حذر وهو يمشي بجوارها، ولمسها في حذر، ومسكها في حذر، وتجلى له الليل أكمل وأتم، وأتم وأكمل، وباح بسره ومكنونه، ولم يكن في السيناريو الخاص به شىء من ذلك، وتعجب من قدرة الكائنات على صناعة السيناريوهات ، وتعجب من

قدرة الطبيعة على صناعة السيناريوهات، وأقر بذكاء الطبيعة، وبقدرة الخالق، وحين دخلا على قائدتي المعيز والخراف، وعرض عليهما الصلح في حضور النعجة الروحانية، كان ذلك الجزء العارى من رقبة قائدة المعيز يرى بدقة، وكان في متناوله، وتذكر صورته التي تخيلها قبل الليلة وهو ينهش ذلك الجزء ويفسح طريق الموت داخلها، وأحس بالهالة والوضوح بجواره، وخاف على الهالة والوضوح التي بحواره، وعجز عن تنفيذ السيناريو الخاص به، وكان وهو راجع من معسكر الأعداء، وعائد الى معسكره مقر تماما بأن لا سلاح ماض وفتاك ومميت كالحب، وأن لا خديعة كخديعته، وأن لا تضحية الا فيه، وأن لا ماض الا به، وأن لا حاضر الا معه، وأن لا مستقبل الا فيه وأن لا عالم خلفه، وأن لا شىء وراؤه، وأن لا شىء فوقه ، وأن لا شىء تحته، وحين قبل النعجة وضمها، شعر بقدرة الحب على سفك دماء الأعداء، وقطع رقاب الأعداء، وجذع أذان الأعداء، وخلع عيون الأعداء، وسحق ونسف الأعداء، وصرخ في الليل، وهو بين المعسكرين، ومطل على الدماء والاشلاء والجثث: يحيا الحب .

2

تمكن قائد الحمير من تسميم الطعام الخاص بمشاة المعيز والخراف التي كانت المغارز الحديدية مثبتة في قوائمها ، لم يتمكن من مواجهة المغارز، ولم يستطع الوصول الى حل يمكنه من دفع خطرها على حالة جيوشه المعنوية، وكان يريد أن يمنح نفسه مزيدا من الوقت، لذا رجع خطوة للخلف ،وواجه الأجساد التي تحمل المغارز، لطالما اعتقد ، طيلة حياته، أن المواجهة تحسم بالتقدم للامام، لكنه بعد جلسات التأمل التي قام بها  طلبا للهدوء وإسكاتاً لدوران دماغه، حتى يتثنى له الوصول الى حل لمعضلة المغارز  الحديدية، اعتقد أخيراً أن التقدم مرهون بالرجوع للخلف، وأن الامام رغم لمعانه وبريقه، وسطوته وقوته، مكمنه وراؤه، ومقتله وراؤه، ومماته وراؤه.

وفي الصباح و قائدة المعيز تستنفر القوات، وتلهبهم حماسة، هالها ما رأت من تهاوي المعيز المشاة والخراف المشاة، وكانت ترى الذبل السائل يتساقط من مؤخراتهم وتنكر، وكانت ترى هُزال أجسادهم وتنكر، وكانت ترى ما قد يلم بجيشها لو أقدمت على الاشتباك مع الأعداء في ذلك اليوم وتنكر، كانت أحلام انتصارات الأمس قد سقتها، وكانت انتشاءات نتائج معارك الأمس قد روتها، وكانت تراقب الليل ونجومه، وتنتظر للصبح لمواصلة الهجوم، وسحق الأعداء، كان يومها مناسبا للكمون والانتظار، لكنها كانت قد توقعت  يوماً مناسبا للظهور والانتصار، ورفع رايات المعيز عالية وخفاقة، وعالية وخفاقة، وعالية وخفاقة،  ومنعتها أحلام الأمس من الإذعان للأمر الواقع،  وأعطت الأوامر بتقدم الجيوش، وهاجمت بالمشاة وهي في حالة اعياء ، وتقدمت من جيش الأعداء، والتحمت بجيش الأعداء، وحين رأت جيوش الحمير والكلاب المغارز الحديدية في قوائم مشاة المعيز والخراف، تذكرت لوهلة آلام الأمس القريب، وهزائم  الأمس القريب، وبث قائد الحمير الحماس في جيوشه، وطالبهم برفع عيونهم من على المغارز الحديدية، وطالبهم بالتركيز على الأجساد الهزيلة و المتهاوية، وانقضت جيوش الحمير والكلاب بعدما ركزت على الأجساد الهزيلة والمتهاوية، ونهشت وعضت ورفست منتقمة لهزائم الأمس، وماحية عار الأمس، ومسجلة لواقع جديد ومغاير، ومحققة لنتائج جديدة ومغايرة، وعند الغروب ، والشمس تودع الأرض، موحية بقدرتها على دفن الحياة عليها ووءدها، كان قائد الحمير واقفا على تبة عالية وبجواره قائد الكلاب والنعجة الروحانية، والثلاثة يطلون على المشهد، والثلاثة شاردون، وكان قتلى المعيز لا نهائي، وكان قتلى الخراف لا نهائي، وكانت القوائم المهتكة لا نهائية، والعيون المفقوعة لا نهائية، والجماجم المهشمة لا نهائية، وكانت الدماء والأشلاء ممتزجة في شكلها المعهود، الفوضاوي والمقزز والقبيح، وكان قائد الحمير يفكر في أن الموت نفسه ليس مخيفا، بل فوضاويته، وأن النصر مؤلم كالهزيمة، وفكر أن لو كان له طريق ليتفادى كل ذلك، ولم يكن له من طريق ليتفادى كل ذلك، وفكر أن

ليس بوسعه سوى أن يسحق جمجمة قائدة المعيز ويزيحها من الطريق.

3

انفضت الجيوش من حول قائدة المعيز، على مد البصر كان بالامكان لمح الجيوش المهزومة والممزقة، والمهزومة والممزقة، والمهزومة والممزقة، وعلى مد البصر كان بالامكان لمح الهالة التعيسة البائسة للخزي والعار، كانت الجراح تثخن الأجساد، وكانت جراح الأرواح أشد وأنكى، وأشد وأنكى، وكانت قائدة المعيز جالسة تحت ظل شجرة، كانت متربة وكان التراب قد اختلط بالصديد والتصق بالغرغرينا في جسدها التحتي، وكانت تنظر بعينها نظرات مشدوهة وشاردة، كانت تفكر في أن كل ما عاشت خائفة من وقوعه قد وقع، وكل ما عاشت متحاشية حدوثه قد حدث، وكل ما حاولت تفاديه وتجنبه لم تنجح في تفاديه وتجنبه، وفكرت في ما عشته وفي مالم تعشه، وفكرت في الحياة التي لم تكن تود عيشها، وفي الحياة التي كانت تود أن تعيشها، وفكرت في الخلاص وفي الهلاك، وفكرت في النجاة وفي الانتحار، وفكرت في الشقاء والسعادة، والشقاء والسعادة، والسعادة والشقاء، وفكرت في أبيها وأمها، وفكرت في اخوانها، وفكرت في أصدقائها، وفكرت في أعدائها، وفكرت في قائد الكلاب، وفكرت في قائد الحمير، وفكرت في لماذا كرهت قائد الحمير كل هذا الكره، ولماذا بغضته كل هذا البغض، ولماذا كانت غير واثقة في أن ليس بمقدوره هزيمتها، وحده هو الذكر الوحيد في حياتها كلها الذي كانت تشك في امكانية هزيمته، رغم ما يبديه من تواضع، وما يبديه من بساطة، وما يبديه من وضوح، وفكرت في لماذا انشغلت بتواضعه وبساطته، وفكرت في لماذا "اتخوتت" بتواضعه وبساطته، وعلت في داخلها دوامات الحنق والغضب، وتمنت أن لو كان بمقدورها، سحقه قبل أن تغادر الحياة، وأن لو كان بمقدورها فرمه قبل أن تغادر الحياة،

وحين عادت من شرودها وجدته ماثلاً أمامها، كانت نظراتهما معبرة ، وهيئتيهما معبرة، وصمتهما معبر، كانت الريح ساكنة والشمس ساطعة، والأرض موحلة، كانت الجثث مبعثرة ، والدماء راكدة، والعار مقيم، والخزي قابع، والنصر يعانق الهزيمة، والهزيمة تعانق النصر، وعلى شفتي قائدة المعيز كانت تقبع كل عبارات السباب والشتائم القذرة، وفي عيني قائدة المعيز كانت تقبع تلال الأحقاد والضغائن، وجبال الأحقاد والضغائن، وأودية الأحقاد والضغائن، وتقدم الحمار منها، ووقف ، وركز كل طاقته في حافره، وركز كل حبه في حافره، وركز كل أحلامه في حافره، وسدد، بقوة، وبقسوة وبحب، سدد بين تلال وجبال وأودية الأحقاد والضغائن، وانفجرت جمجمجة قائدة المعيز، وتطاير دماغها وتبعثر كشظايا رقيقة ودامية، وجميلة، وانبجس تيار الدم من جسد قائدة المعيز ، أحمر، وجميل، وزاهي ولامع، وعلى بعد أمتار، كانت عيني قائدة المعيز تلمع، كجوهرتين وسط الطين والوحل والدماء.

 

كاتب من مصر، والنص فصول من رواية بنفس العنوان.