حين انفتح طريق النجاح والشهرة للنجم "يامن القنطار" للعب أدوار البطولة، لم يعد يريد لعب دور الرجل العادي. تنكر لعهود الماضي إزاء حبيبته "ولاء" التي حاول ممرض شاب إنقاذها في مشهد بطولي، ثم انقضاض المجاميع في المشهد الختامي على أوراق السيناريو بغية إعادة توزيع الأدوار.

أفضل دور ثانوي

فـراس ميهـوب

 

- لا يمكن يا حبيبتي أن أقبل دور الرجل العادي، ذاك الراضي بحياة لا طعم لها ولا رائحة، يعمل ستة أيام في الأسبوع، من الثامنة صباحا وحتى الخامسة عصرا، يعود ليعانق ببرود نفس المرأة التي تزوجها منذ عشرين عاما بعد أن ذبل الحب، وينتظر راتب آخر الشهر الضئيل، ثمَّ التقاعد فالشيخوخة والمرض، والموت على الفراش عاجزا.

- أفهمُ من كلامك، أنك تخليت عن وعدك لي بالزواج!

 ماذا تريد إذن، حجج واهية، وتمهيد للرحيل، خدعتني، وستهجرني للأبد؟!

- ومن قال ذلك، أنا الآن أحبك، ولكن من يضمن لنا بعد الزواج ألا يكون الملل ثالثنا، وليس الشيطان؟

قهقه يامن، ونظر إلى شريكته التي لم تشاركه انبساطه المفاجئ، وانزوت حزينة في زاوية المسرح، فحلمها بالزواج من الفنان الذي صعد إلى الأضواء بسرعة البرق، وأصبح نجما تلفزيونيا، ومسرحيا مميزا، يكاد يتبخر.

مقدمته عن الرجل العادي، والمرأة العادية، والزواج، وموت الحب، ليس إلا تجسيدا لرغبته بالانسحاب من فكرة الزواج.

كان قد ترجاها بشغف، ولاحقها بلهفة أياما وأسابيع عديدة، استقبلها بفرح كلما أتت، وودعها بشوق.

جاءته الفرصة، اعتلى موجتها، عرف الأضواء، كبر اسمه، ارتفع أجره، تصدَّرت صورته أغلفة المجلات، فتغيَّر.

لبسَ الرومانسية قميصا للتقرب من فتاته، وما أن حصل على مراده حتى أراد التراجع، والانهزام بنذالة.

قامت ولاء، والدموع في عينيها، اتجهت إلى غرفة تغيير الملابس، خرجت لا تلوي على شيء، كان المطر غزيرا في أول حزيران.

نسيتْ تحذيرات الإذاعة في الصباح من العاصفة، لم تسلك نفق المشاة، نظرت فقط إلى الجهة الأخرى، حيث موقف الباص.

شاهدتِ الحافلةَ التي ستقلها إلى بيتها، ركضت، تطاير شعرها خلفها، ضربت قطرات المطر الكبيرة وجهها بعنف، وتوحدت مع العبرات النازلة من عينيها.

لم تحتمل الصدمة، أعادت شريط حياتها سنوات إلى الوراء، نجحت بالشهادة الثانوية، قبلت في معهد التمثيل، تحقق حلم حياتها.

في يومها الأول بالمعهد، التقت زميلها يامن، الشاب الأسمر الوسيم، مفتول العضلات، ذي الوجه الجميل، والنظرات الصقرية اللامعة.

لم يوفر جهدا لجذبها إليه، تظارف، بذل لها الهدايا في علب ملونة.

تمنعت، لم يترك وسيلة للتقرب منها، توسط مع صديقاتها، أرسل لها رسائل من مجهول، وباقات ورد عطرة، لم ترد عليه.

رآها تقترب منه بالصدفة وهو فوق الجسر، هددها برمي نفسه في نهر بردى إن استمرت برفضه، وضع قدما على الساتر الحديدي، وهمَّ برفع الأخرى، تجمَّع الناس حولهما، توسل إليها المارُّون، أن تقول نعم، ولو كذبا، احتارت، ولكن مبادرته المجنونة أجبرتها على القبول.

أمضيا معا سنوات جميلة، نما حبهما، بلغ الذروة، خبا مع الوقت، فقد جنونه، حلَّ محله الرضا والأمان المتبادل.

قالت ولاء في نفسها، يامن معه حق، صحيح، لم يعد حبنا كما كان، صرنا نحفظ بعضنا عن ظهر قلب، نعرف ما يريده الآخر من العينين، وحتى دون أن ننطق، ولكن أليس هذا هو الحب؟

بالنهاية هذه هي الدنيا، حب، وعذاب، قبول، ووصال، استقرار، ثم ربما خفوت الحب.

فليكن، ولكن لا أريد أن يتركني، أنا أحبُّه، ولا أريد لامرأة أخرى أن تأخذه مني، أعتقد أنه يريد أن يطلق النار على حبنا، ليعيش حبا آخر، وربما بدأ بخيانتي، من يعلم، كلامه يدل على ذلك، شهرته ستفسح له المجال.

لن استسلم، لن أقبل بالتخلي عن حبي الأول، والوحيد، ولو اضطررت لقتله ومعه تلك المرأة التي خطفته مني.

انزاح سيل الماء الجاري تحت دعسات أقدام ولاء، قطعتْ مترا واحدا، ثمَّ اثنين على ممر المشاة، نسيت أن تنظر إلى صورة الرجل الأحمر الواقف بلا حراك على العمود الأسود في الجهة المقابلة، لم ترَ السيارة المسرعة المتقدمة نحوها، والتي صارت الآن على بعد خطوات قليلة منها.

حاول السائق تفاديها، فشل فالمسافة قريبة جدا، دفع المكابح بكل قوة، توقفت المركبة بعد فوات الأوان، تسمَّر السائق المصدوم خلف مقوده من الخوف، واصل المطر تساقطه، اختلط بحبات برد تلسع الوجوه دون رحمة.

كانت الفتاة المسكينة ملقاة على الطريق، حقيبتها الجلدية تمزقت، ثيابها تمرغت بالوحل، اختفت ملامحها تحت الدم المتدفق من كل مكان، جسدها دون حراك، فاقدة للوعي بكل تأكيد.

- ربما ماتت؟!

تلعثمت كلمات رجل، كان الأكثر جسارة، اقترب منها، حدَّق بالجسد الساكن، مرَّ آخر على الرصيف القريب، أحنى رأسه للجهة اليسرى، ألقى عليها نظرة عابرة إلى الخلف، وتابع طريقه كأنَّ الأمر لا يعنيه.

اقتحم شابٌّ عشرينيٌّ ساحة الحدث، صاح:

 - ابتعدوا، لا تلمسوها، أنا ممرض في مشفى المجتهد، سأفحصها، وأرى إن كانت على قيد الحياة، لا تضيعوا الوقت.

مدَّ الشاب المتحمس ثلاثة أصابع من يده اليمنى، ووضعها على عنق الضحية، وصاح بلهجة انتصار:

- إنها حيَّة، حيَّة.

أبعد بيديه شعرها المنسدل دون هدف، ونظف وجهها بشاشة أخرجها من حقيبته الصغيرة، كانت تتنفس ببطء شديد، وشاحبة كتيجان وردة جورية سقطت عن غصنها.

نزل السائق أخيرا من سيارته، استجمع بعض شجاعته، وقال بصوت مبحوح:

 -أصعدوها في سيارتي، ولننقلها إلى المشفى.

2

في غرفة العناية الجراحية المشددة في مشفى المجتهد، طاقم الأطباء في زيارتهم الصباحية، نظر طبيبٌ شابٌّ بخجل وتردد إلى وجه أستاذه، ثم إلى ملف المريضة التي توقف أمامها الجمع:

- ولاء الراعي، ثلاثة وعشرون عاما، أصيبت برض متعدد، مع نزف دماغي، وكسور في الأضلاع، وكسر في الطرف السفلي الأيمن، علاماتها الحيوية طبيعية، ولكنها لم تسترد الوعي.

قال الأستاذ بنبرة تمثيلية:

 -وضعها مستقر حاليا، لا يوجد استطباب جراحي، تابعوا المراقبة، ونعيد التقييم بعد ثمان وأربعين ساعة، أبقوها الآن على التنفس الصناعي، ولكن يجب أن نتحدث مع عائلتها.

استجمع الطبيبُ المساعدُ شتاتَ نفسه، وبلهجة محقق جنائي:

- أخبرْنا أهلها، هم من حماه، يقيمون الآن في دبي، ولن يصلوا قبل مساء الغد، ولكن خطيبها هو الفنان المشهور يامن قنطار، وسيصل بعد قليل.

 -أرسله إلى مكتبي، الوضع دقيق، ويجب أن يكون بالصورة.

أمر البروفيسور مساعده الذي تراجعت حماسته فجأة، وهزَّ رأسه موافقا.

دقائق قليلة بعد نهاية زيارة الأطباء انشغلت الممرضات بالعناية بمرضاهن، صرخت سميرة بدهشة:

-إنه يامن قنطار، رغم مصابه، إلا أن أناقته طاغية.

سلَّم يامن على فريق العناية بأدب شديد، لم تفارقه عيون كل من حوله، وبصوت خفيض طلب الأذن برؤية ولاء.

اقترب منها، بهدوء مبالغ به، وكأنه يعدُّ خطواته في مشهد درامي، لم يكن بحاجة لاصطناع التأثر، فقد كان حزنه على خطيبته حقيقيا، وممزوجا بشيء من الشعور بالذنب، لم يكن حادثها محض قضاء وقدر، لا بد أنها كانت غير مدركة لمحيطها، ولذلك قطعت الشارع دون حذر.

أمسك يامن بيدها، نظر إلى وجهها، سالت دموعه، تذكر أيامه الجميلة معها، أبلغه الطبيب المساعد برغبة البروفيسور بمقابلته، سار أمامه ليدله على مكتبه.

قرب الباب، وبانبساط غير مناسب للحدث، مد البروفيسور يده الكبيرة للسلام على يامن، دعاه للجلوس، وبانفصال كامل عن الحدث:

- أنا شديد الإعجاب بتمثيلك، أداؤك مقنع للغاية، أنت فنان موهوب، بل نجم حقيقي.

لا داعي للتوصية، سأقوم بكل شيء، أنا وفريقي لإنقاذ الآنسة ولاء.

استمر البروفيسور في مطالعته، ويامن يستمع إليه، يبتسم، ويهز رأسه، لولا أنَّ هاتفا مفاجئا أعاد الطبيب الخبير إلى الواقع، قال للمتصل به قبل أن يودعه:

-لا تقلق، سأتصرف، مع السلامة، مع السلامة.

صمت، اختفى انشراحه، قلب شفتيه، كأنه يبحث عن كلمات مناسبة لفكرة مستجدة:

-لا أعرف ماذا أقول، للأسف، توفيت الآنسة ولاء.

غالب يامن دموعه، عاد إلى قرب جثمان حبيبته برفقة الأستاذ، وأستأذنه بإلقاء نظرة أخيرة عليه.

اختفى الجميع من حوله، أصابَه هلعُ الوحدة المرّة، أحسَّ ببرد في أطرافه، تعلّقَ قلبه بعناق ما ظنَّه بقايا خيال روحها المغادرة.

3

- اترك أوراق النص، ماذا تفعل هنا؟

- لماذا لا تمنحني فرصة لأظهر قدراتي التمثيلية، مللتُ حياة الكومبارس، لماذا لم تعطني دور الممرض الشجاع، أو على الأقل الطبيب المساعد في هذا الفيلم، وليس دور رجل الشارع الصامت؟!

على فكرة، أنا موهوب وسأثبتُ يوما لك أنِّي أستحق دور البطولة.

- من أنت يا نكرة، أغرب عن وجهي، تريدون كلكم أن تصبحوا أبطالا!

أحمرَّت وجنتاه من الغضب، وبحركة عصبيَّة نزع نظارته المعتمة، نادى مدير الإنتاج:

- كم مرة قلت لكم، لا تسمحوا للمجاميع بالاقتراب من مكان التصوير.

تنفَّس المخرج بعمق، استعاد هدوءه، نادى الأبطال بلطف مبالغ به، دعاهم للبدء بتصوير المشهد اللاحق.

 

2020/12/28