تقدم لنا الكاتبة السورية قراءتها الحصيفة لرواية فواز حداد الأخيرة، وتكشف عبر تلك القراءة التي تسعى لإماطة الثام عن طبقات المعنى المتراكبة في الرواية أن اهتمام الرواية بتجسيد التجربة الواقعية المعاشة في سوريا الحرب والدمار تستهدف طرح الواقع بقدرة الفن إزاء ما ستكتبه التواريخ المزورة في قادم الأيام.

الرواية السورية المستبقة للتاريخ المزور القادم

قراءة في رواية «يوم الحساب» لفواز حدّاد

سهيلة بو سعيد

 

حين يطوي القارئ الصفحة الأخيرة من الرواية ، ويشعر بوحشة لفقد شخصياتها، ولمتعة القراءة الخام في بهجتها الأولى، ولتلك الخضات التي حركت مشاعر وأحاسيس كانت ثاوية، وأن شيئا ما هناك عميقا في نفسه اختلف، فيضعها في مكان قريب من متناول يده، فهذا يعني أن شرارة فيها قدحت زناد روحه، ووقته معها كان ممتلئا بالمتعة واللذة وأنها امتلكت من قوة الإقناع والمقدرة على الغواية، ماجعل تحولا ما حدث في جوهر ذاك القارئ، تحضرني في هذا السياق المقولة الذهبية للناقد الألمعي يوسف سامي اليوسف «ربما صحّ الزعم بأن غاية الثقافة برمتها، وليس الرواية وحدها، هي تطوير الماهية الإنسانية في داخل الموجود البشري» يحدث ذلك مع الروايات العظيمة، فهل تكون رواية فواز حداد الأخيرة (يوم الحساب) مع تلك الفئة؟ الحكم في هذا يعود للقارئ بالتأكيد.

في استراتيجية الكتابة:
تقع الرواية في ثلاثمائة وثلاثة وستين صفحة، مقسمة إلى ستة عشر فصلا، كل فصل يحمل عنوانا طويلا، تليه فقرات وظيفتها كشف تفاصيل ما جاء فيه كونه عتبة للدخول في المحكيات، وتتناوب في الطول والقصر بحسب العلاقة الجدلية بين فاعلية الشخصيات في مجرى الأحداث، وتأثير الأحداث في الشخصيات، وتسير بحسب تراتبية العنوان، ها كم مثال تطبيقي: عنوان الفصل الأول يسير هكذا:

ميت وشهيد ومطارد – سيدة سورية فرنسية الجنسية – مقهى النوفرة - جلسة فولوكلورية – اختفاء طالب سوري – قصة حب رومانسية في قلب الجحيم.

بعد هذا الازدحام الشكلي لعنوان الفصل، والذي يحمل كل واحد منه جزء من حكاية، تتناسل منها حكايات ، تقوم فقرات خمس بوظيفة سرد محكياتها التي يتشكل منها جسم الرواية: الشخصيات الرئيسة وعلاقاتها فيما بينها، تأثيرها في الأحداث، وتأثير الأحداث في تحولاتها، ومسرح الأحداث زمانه ومكانه - كونهما يلعبان دورا مفصليا في تقرير مصائر الشخصيات وسيوقعان كلمة النهاية في الفصل الأخير. لكن قبل المضي في التعرف على بقية العناصر البنائية التي شكلت أسلوبية الكاتب في تأليف روايته، لابد أن نبدأ بهذه الافتتاحية القوية الآسرة:

«أنا شخص ميت، في حماية شهيد لن أذكر اسمي الحقيقي، الإعلان عنه سيرهن مصيري لمحاكمة لن تطول أكثر من دقيقة، أو دقيقتين في سجن صيدنايا، قبلها أبصم على ورقة، ربما كانت اعترافاتي، ستكون شهادة وفاتي، وأنتظر معصوب العينين تعليق مشنقتي في المبنى الأبيض.»

لاشك بأنه تعريف فريد للراوي عن نفسه، يستدرج الفضول والدهشة والترقب، ويضعنا – دون تأخير – في صلب العقدة أو "الحبكة" التي تتجسد أولا في إشكالية الإسم "الهوية" – رعب الإنسان السوري - وبالكاد نلتقط أنفاسنا ونحن نلاحق متوالية السرد في الفقرات التي تحتشد بظهور الشخصيات القريبة من الراوي، والتي يتعلق مصيره معها على نحو لايقبل الانفكاك

في معمار الرواية "بنيتها":
أين نبحث عن بنية الرواية؟ الجواب الفوري في سرد المحكيات، وكيفية السرد وإلى أي نوع ينتمي. لنعد مرة أخرى إلى الفصل الأول. يقول مارتينيه: (الجملة هي أصغر وحدة ممثلة للخطاب بصورة كاملة 2- رولان بارت جيرار جينيت من البنيوية إلى الشعرية ص 16) فإذا كان الأمركذلك، وهو كذلك فإن الجملة الافتتاحية الخبرية تختبئ طيّها مستويات من المعاني، وسلسلة من التساؤلات سيسارع الراوي إلى الإجابة عما يتعلق بما يتعلق بالشخصيات والأحداث تباعا دونما تأخير، ليفتح تساؤلات وجودية عن الله والإيمان وصراع الأديان والحق وموقع الحقيقة في الواقع ، ويتركها عالقة دون إجابات، حيث الراوي عالق في زمنه الصعب ولايملك ترف تبديد الوقت للإجابة عنها ، فأمامه مهمة تعهد بتنفيذها لصديقه في الشتات، وهنا ندخل أرض الرواية.

"حسان" وهذا اسم الراوي في الرواية، لا يستطيع ذكر اسمه الحقيقي - وكذلك أسماء كل شخصيات الرواية فهذا سيعرضهم إلى خطر محيق - هو مطلوب لثلاثة أفرع في المخابرات باتهامات تبدأ "بإضعاف الشعور القومي مع أن تهمة الإرهاب تكفي وتزيد"، من شباب التنسيقيات خرج بالمظاهرات وقام ببعض الأعمال الإغاثية وتهريب بعضهم مع عائلاتهم خارج البلاد، نجا بالمصادفة من الموت والاعتقال الذي حلّ بمعظم أصدقائه، وهو يعيش باسم استعاره من أحد الشهداء الذي قتل قنصا، لكنه لم يسجل ميتا في سجلات"هم" الرسمية، يتنقل متخفيا بهويته بأقل قدر ممكن وبقاؤه حيا يتطلب منه الحرص على بقاء الهوية نظيفة من الاتهامات الخطيرة حين مروره على أحد الحواجز، هو ظل لشهيد/ حي يعيش حتى اللحظة - زمن السرد – باسمه، وهو ظل لذاته أيضا التي لا يستطيع ذكر اسمها، والاسم هو الهوية، والهوية حاملة للإسم أي لذات الإنسان، وحياة الشاب حسان تنوس بين هذين الخطرين في حال انكشافه: انتحال شخصية، والإعدام الفوري في حال انكشاف اسمه الحقيقي. هذا الوضع الإشكالي يدفع حسان لاتخاد قرار الهجرة مع أخته وعائلتها وحبيبته ريما، لكنه يصطدم بقرار أخته تعليق هجرتها بالإفراج عن زوجها السجين لأسباب اقتصادية، وبرفض حبيبته ريما الهجرة بالمطلق لأنها مؤمنة بانتصار الثورة في برهة لاتشك بأنها قادمة ، ولأن حياته تبدو متعالقة بالمصادفات، بدء بنجاته من الموت والاعتقال فهجرته أيضا سوف تكون متعلقة بإقناع ريما بالتخلي عن أوهامها والتحلّي "بالواقعية"، وكذلك أخته لاسيما أنها موعودة بإطلاق سراح زوجها قريبا لأن تهمته لا علاقة لها بالسياسة. في خضم هذه الفوضى الوجودية يتلقى حسان اتصالا من صديقه الذي هاجر إلى فرنسا، يطلب منه أن يلتقي بسيدة فرنسية من أصول سورية تعمل أستاذة في تاريخ الشرق الأوسط في جامعة باريس ستأتي إلى سوريا "تحمل قضية عادلة"، وعليه مساعدتها في مهمتها وزوده ببعض صفاتها وعلامة فارقة للتعرّف عليها. سيعد حسان صديقه المهاجر بمساعدة السيدة إن استطاع، دون أن يعرف طبيعة "القضية العادلة" التي تحملها، سيلتقيها في مقهى النوفرة، تنتابه الكثير من الهواجس والشكوك حولها، ويؤلف عددا من السيناريوهات التي اختلقتها مخيلته، لكنه يستبعدها بمجرد ماحكت له "القضية العادلة" التي جاءت لأجلها: حكت "رحاب" - وهذا هو اسمها – أنها جاءت لتقصي مصير أحد طلابها السوريين الذي عاد إلى سورية فجأة دون إخبار أحد، ثم اختفى دون تسرب أي معلومة عنه، حدث هذا منذ ست سنوات. الشاب الذي جاءت تبحث عنه اسمه "جورج أيقوني"، طالب سوري في جامعة باريس جاء إلى دمشق دون إعلام أهله بنواياه، وكان قبلها قد حذرهم من الاتصال به حرصا على سلامتهم، وهكذا فقد الاتصال بينهما لسنوات، وقبل بضعة أشهر كلفت أمه قريبا لها ذهب إلى باريس بالسؤال عنه، فعلم من أصدقاء له أنه انقطع عن الجامعة منذ ذلك الوقت، والأغلب أنه غادر إلى دمشق، السؤال عنه قاده إلى أستاذته في الجامعة، عندما أخبرها بحكاية جورج، طلبت منه عنوان أمه فاتصلت بها وأخبرتها أنها بعد نحو سنة من عودته إلى سوريا لم تسمع منه ولا عنه شيئا. من هنا بدأت رحلة آلام الأم. صدمتها الأولى القاسية أن ابنها عاد إلى سوريا منذ أن حذرها من الاتصال به، في حين كانت تظنه في باريس، أماأستاذته التي تلقت صدمة الأم المفجوعة بولدها المختفي طيلة سنوات ست ويزيد، قررت القدوم إلى دمشق للمساعدة في معرفة مصير تلميذها بعد اتصالها بأصدقاء له وعدوها بتيسير أمورها في دمشق وسهلوا اتصالها ب "حسان".

الطالب جورج أيقوني المسيحي الذي قطع دراسته في فرنسا وعاد إلى سوريا للمشاركة في المظاهرات السلمية التي كانت تأتيه أخبارها من أصدقائه المشاركين فيها، ثم اختفائه، قدوم "رحاب" أستاذة جورج في مغامرة إنسانية وتعرّفها على سوريا "المخابراتية" عبر الضابط الذي نصحها أحدهم بمقابلته إذ ربما يساعدها في فك لغز اختفاء طالبها "جورج" ثم اتصالها بحسان واشتباكها معه وكل شخصية مرتبطة به في عملية البحث عنه، دخول الكنيسة متمثلة ب"أبونا القس" بطلب من الأم المفجوعة باختفاء وحيدها، كونها راعية وحامية لحقوق المسيحيين في الدولة، وتجربته الأولى في غوصه بمتاهات النظام وتعرّفه على مدى تغلغل الفساد في هياكله المخابراتية، ريما حبيبة حسان التي ستلعب دورا أساسيا في الكشف عن مصير جورج أيقوني عبر شبكة معارفها من الشباب ، تفاصيل علاقة حسان بحبيبته ريما سيكون الخيط الذي يشبك السرد حتى النهاية. تنتهي الرواية بمعرفة مصير "جورج أيقوني".

في بنائية السرد وتقصيه لأقاصي المعنى:
أثناء رحلة البحث عن "جورج أيقوني" تتسارع وتيرة السرد، وتتناسل حكاية من حكاية، في خطوط متشابكة تزداد أعدادها وتشابكاتها كلما دخلت شخصية جديدة تساهم في الأحداث بطريقة جذرية أوثانوية، تتفرع من بؤرة الحدث "عقدة الرواية"، وتعود لتصب فيها، مثل نافورة مياه لاتكف عن الانصباب والعودة. سأغامر بالقول أن الكاتب اعتمد الوصف بنية أساسية في السرد، واتخذ أشكالا متنوعة حسب ما يقتضي السياق وطبيعة الحدث والشخصية، ليتقصى أقاصي المعنى في أفكار ومواقف الشخصيات وسلوكهم وتحولاتهم، وما أصاب الناس من كوارث. والمدينة وما تعرضت له من خراب في شكلها وإيقاع الحياة فيها. أحيانا يكون وصفا واقعيا كما لو أننا نتابع مشاهد سينمائية بإيقاع سريع كما في الفصل الرابع، أحيانا أخرى يتخفى تحت قناع "السيناريوهات" التي يبتدعها حسان كما في تلك التي ابتدعها ليصف شخصيته الشكاكة نتيجة الظروف غير الطبيعية التي مرّ بها في سنوات الثورة، وتلك التي تخص "رحاب".

ومرات يتخذ الحوار وسيطا للوصف حين يريد الغوص في عمق النفوس، وسبر مايصطرع فيها وتخمين مايمكن أن تكون عليه، ففي الفصل الثالث/ الفقرة الأولى وصف لطبيعة العلاقة بين المؤسسة الدينية والدولة، وبين المسيحيين والمسلمين، وطرح تساؤلات خطيرة مثل جدوى انخراط "مسيحي في ثورة المسلمين وزج الكنيسة في صراع مع الدولة" يتجسد ذلك في الحوار الطويل الذي دار بين أم جورج و "أبونا" حين طلبت منه التوسط لدى الحكومة من أجل معرفة مصير ابنها. الحوار الغني العميق الحيوي الحار الذي قرأناه بشغف ولهفة على الرغم من حمولته الفكرية الثقيلة، وغالبا كنّا تجاوزناه كما نفعل مع المقاطع الوصفية الطويلة المملة التي تفشل في جذبنا، ولما كنا عثرنا في الفصل الرابع على تلك الجملة الجوهرية في أحد نقاشاته مع رحاب التي تخبئ طيها قصد الكاتب من كتابة روايته: (التاريخ قادم فيما بعد، لكنه اليوم لايثبت شيئا، الواقع هو كل شيء) هنا نعثر على قصد الكاتب: فواز حداد يكتب الواقع، كي لايضيع في روايات التاريخ المزورة القادمة، من أجل إحقاق عدالة، ولو مجازية للضحايا، الذين لم يحصلوا حتى على عدالة إحصاء أعدادهم الحقيقية.

وأيضا لكي لا تضيع تفاصيل النكبة في أسبابها ووقائعها الفريدة ربما في تاريخ البشرية، ولاستعادة كرامة الشهداء بتذكر حيواتهم وأسمائهم وإن كانت مستعارة، بالنسبة للغة السرد كيف يتناسب مع طبيعة الشخصية، أكثر مانلحظ ذلك في لغة القس "أبونا" مرة تكون حارة عاطفية لاهوتية أو إنسانية مع أم جورج وآلامها. وفي لحظة تالية تكون واقعية براغماتية وأحيانا انتهازية مع المسؤولين الذين قابلهم. نلحظه أيضا بلغة سومر المتدافعة المباشرة الواضحة الصريحة الجارحة. ستنتهي الرواية بتحولات عميقة في نفوس الشخصيات ومصائرها، حسان سيصرف النظر عن الهجرة، يقول في سره "لن أرحل"! بعدما توصل إلى النتيجة التالية: "لماذا لا أستطيع التخلي عن ريما، لأنني لا أريد أن أفقدها، كانت حياتي وموتي، حياتي التي لا أمل لها من دونها. وفراقها موتي الذي لن يغادرني.

رحاب قررت البقاء في دمشق والمضي في مشروعها بتوثيق أهوال الثورة، أم جورج كفت عن طرح أسئلتها حول "الحقيقة" بعد أن أيقنت بعدم وجودها، وتغيرت فكرتها عن الله وعلاقته بالأديان، وحين قبضت على تلك البرهة، قررت "ألا تقلق" راحة ابنها، سومر سيساعد رحاب في مشروعها. "أبونا" الورع التقي الذي تحرر من الخوف بعد أن تعرّف بنفسه على حقيقة طبيعة النظام، يبوح بما يعتقد عن الله، والأديان، والنظام في برهة تراجيدية وستكون جملته التي نصح بها أم جورج "لا! لا تقلقي راحته" فاتحة لأفق جديد في ذهنية ومصير الشخصيات، وخاتمة لرواية أزعم أنها ستترك بصمة في الأدب لزمن طويل.

كتب فواز حداد روايته (يوم الحساب) لتكون الثانية بعد تفسير اللاشيء باستراتيجيته الجديدة: قصر الرواية، السرد بتقنيات جديدة، ولغة تمور بالحياة التي تتناسب وطبيعة الشخصية، فهي قلقة مرتابة مع حسان، ورصينة هادئة مع رحاب، وكيدية مناكفة مع ريما، وتنقط بالألم والقهر مع أم جورج وسومر، ومتقلبة مع "أبونا" من اختزان حرارة العاطفة والتعاطف، إلى لغة العقل البراغماتي المرن، إلى لغة السخط والقهر، لغة تصور، وترسم، وتحكي، الصراعات مع الذات قبل الآخر، ومع الآخر ابتغاء الاقتراب منه، ودائما بامتزاج الضحكة الساخرة، مع دمعة القهر والحزن الحارقتين، وأجزم أنه لم يكتب روايته "ليمنح أملا للسوريين" كما كتب البعض.

وفي الأصل ليس من شأن الكاتب أن يمنح للناس آمالا، ولا أن يغرقهم في بحور اليأس، أخمّن أن الأمل الوحيد للروائي السوري فواز حداد ولأي كاتب، أن تمتلك روايته الشروط الموضوعية لتعيش لأزمان قادمة، تستطيع الإنسانية أن تتعرّف فيها على نفسها بأغوارها العميقة، وبكل مالها وما عليها، وعلى تاريخها الحقيقي، مستبقة كتابة المؤرخين لرواياتهم المزيفة.