ينعي الكاتب السوداني رفيقه البرليني العتيد الذي حمل عبء الوطن العراقي الملكوم طوال سنوات الغربة، وناضل من أجل الحرية: حرية بلده العراق حينما توسل البعض بالمستعمر الأمريكي لتحريره من بطش الدكتاتور، فعارض هذا بشدة رغم معاناته، وحرية بقية بلدان الوطن العربي الواحد رغم البطش والنكبات.

في صحبة الرفيق البرليبني الكبير: كاظم حبيب

حامد فضل الله

 

مدخل: لقد اتفقتُ مع الصديق كاظم حبيب أن يشارك في ندوة "الملتقى العربي للفكر والحوار"، بتاريخ 7 سبتمبر 2021 ، وأن يقوم بنفسه بتقديم كتابه الأخير: (الانتفاضة التشرينية 2019 في العراق، العوامل والقوى المفجرة لها وأهدافها واتجاهات تطورها)، ووافته المنية في الثاني من سبتمبر 2021، بعد مرض مفاجئ. لذلك قمنا في اربعينيته (26 أكتوبر) بتقديم الكتاب تحية وتذكر لفقيدنا الكبير، وأعقب ذلك مداخلتي التالية:

لا أريد أن أتحدث عن أستاذ الاقتصاد الدكتور كاظم حبيب، ومن دون أي احساس بتواضع زائف لا استطيع ذلك، فهذا مجال له فرسانه، وانما أريد هنا أن اتحدث عن علاقة شخصية، امتدت إلى ثلاثين عاماً. تعرّفتُ عليه عام 1989 بعد سقوط جدار برلين العتيد، فقد كنتُ أعيشُ في برلين الغربية "جنّة الرأسمالية"، وهو يعيش في برلين الشرقية "نار الاشتراكية". جاءَ التّعارف بمناسبة اقتراح تكوين منظّمة عربيّة لحقوق الإنسان في ألمانيا، وهو اقتراح من بنات أفكار كاظم حبيب. وبحضورِ مجموعةٍ كبيرةٍ من العرب، منهم تمثيلا لا حصراً، محمد نور حسين (السودان) نبيل يعقوب (مصر) محمد حمدالي وعلي فتحة (الجزائر)، وعلي زيدان (ليبيا) ورئيس الوزراء سابقاً، بعد سقوط القذافي، وليد شحرور ومفيد أبو رمضان فلسطين، أما الأغلبية فكانت من العراق. أجيز النظام الأساسي للمنظمة في الرابع عشر من ديسمبر عام 1991، واختير كاظم رئيساً للهيئة الإدارية بالإجماع وتشرّفت أن أعمل معه أميناً للصندوق، بعد فوزي بعضوية الهيئة الإدارية بالضربة الأولى أيضاً، على الرغم من أنني برجوازي صغير، وليس رفيقاً مناضلاً كالكثير منهم.

كما شارك في اللجنة التنفيذية صديق عمره، العزيز مثنى محمود، وكانت المنظمة مدخلي للتعرف على أصدقائي العراقيين، وما أكثرهم وما أكرمهم. تغير اسم المنظمة باقتراحٍ نيّر من كاظم، ليصبح منظمة حقوق الإنسان في الدول العربية، وبذلك تكون مفتوحةً لجميع مواطني البلدان العربية مثل كرد العراق وأبناء وبنات جنوب السودان. قررنا مباشرةً أن نقيم ندوةً كبيرةً كباكورةٍ لنشاطنا والتعريف بمنظمتنا الوليدةِ، وكنتُ حذراً ومتوجساً من ذلك، فالمنظمةُ لا تزال تحبو، ولكن كاظم كان مطمئناً للنجاح، واستطاع أن يؤمن لنا في فترةٍ وجيزةٍ التمويل اللازم رغم ضخامتهِ، عن طريق منظمات المجتمع المدنيّ الألمانيّة.

وشرعنا في التحضير وكتابةِ الرسائل، وأذكر أنّ كاظم تناولَ من المنضدةِ رزمةً كبيرةً من الرسائل وقال لي اذهب بها إلى مكتب البريد، قلت له يا أستاذ كاظم أنا لست ساعي البريد لحضرتك. ردّ علىًّ وقد ارتسمت الدهشة على جبينه قائلاً: يا أخ حامد – لاحظوا كلمة "يا أخ" لعله استشف بحاسته السياسية خلفيتي الفكرية قبل أن يحدث لي في ألمانيا الديمقراطية، غسيل مخّ أو نظافة مخّ، والله أعلم. ولعل النظافة لم تكن كاملة لأنني انضممت إلى زمرة المستقلين وبقيت في هذا الموقع ثابتاً ثبات دومة ود حامد (شجرة الدوم) في شمال السودان وثبات أبو الهول على أرض الجيزة في مصرـــــ وقال متابعاً، وهو لا يزال ممسكاً بالرسائل، وببسمةٍ صافيةٍ لا ساخرة ولا مفتعلة، لقد نسيت بأنّ مكتب البريد بالقرب من منزلي، وسأقوم بإرسال الخطابات من هناك. قلت لنفسي وفي طريقي إلى المنزل لماذا هذه الحنبليّة؟ والتي لا تتفق إطلاقا مع طبيعتي.

لم تؤثّر سحابة الصيف على علاقتي مع الصديق كاظم فحسب، بل صارت أكثر ترابطاً وازددنا تعارفاً واحتراما متبادلاً. كنتُ معجباً بطريقة إدارته لاجتماعات الهيئة الإدارية، تصريف الأعمال وضبط النقاش والكلام في المليان واحترامه للمواعيد، صفة نادرةٌ وسط العرب، والسودانيين. لا أريد أن أتحدّث هنا عن ندوتنا في صالة المسرح الكبير في دار ثقافات العالم، وهي من أوائل الندوات إن لم تكن أولها في ذلك الزمان، والتي اتسمت بالحضور المكثّف، عربي وألماني ـ والمداخلات الرصينة والمداولات الثرية والقبول المُبهر، والتي تمّت تحت عنوان: (حالة حقوق الإنسان في الدول العربية، وحالة حقوق الإنسان من مواطني الدول العربية في ألمانيا).

توثّقت علاقتي مع كاظم أسرياً أيضاً، فكنّا نلتقي نحن الأربعة، هو ورفيقة دربه وأنا وحبيبة عمري، واكتشفتُ بأنّ العراقيّ يمزح، ويحكي النّكات ويضحك من القلب، وليس الشخصيّة الصارمة المتجهّمة، كما تخيّلها بعضنا. وشاركتُ معه أكثر من مرّة تمثيلاً للمنظمة خارج ألمانيا. وأودّ هنا فقط، أن أذكر الدعوة التي وصلتنا من المنظمة العربية لحقوق الإنسان في القاهرة للمشاركة في الاحتفال بالعيد الخامس والعشرين بتاريخ 17 ابريل / نيسان 2008 ولتكريم مؤسسي المنظمة الأوائل ورواد حركة حقوق الإنسان في العالم العربي، قررّنا في الهيئة الإداريّة بالإجماع أن يقوم كاظم بتمثيل منظّمتنا في هذا اللقاء الهام، وقد كان في الواقع تكريماً له بطريقة غير مباشرةً (وقتها لم يكن كاظم عضواً في الهيئة الاداريّة) رافقته ممثلاً لمجلس الأمناء للمنظمة العربية لحقوق الاِنسان، وانضم إلينا في القاهرة الصديق د. غالب العاني قادما من هامبورج.

لقد كان احتفالاً مهيباً بحضور نُخبة من رجال الفكر والثقافة ومنظمات المجتمع المدني، يتقدمهم أستاذنا الكبير محمد فائق الأمين العام للمنظمة ومن مجلس الأمناء الأستاذ فاروق أبو عيسى والدكتور أمين مكي مدني. تغيّب ممثل العراق بسبب الخلافات المعهودة. تشاورنا ثلاثتنا وقلنا لا يمكن تغييب صوت العراق. وأعلن كاظم على التوّ استعداده أن يتحدث عن العراق، في مداخلة مُحددة زمنياً، يستحيل معها الإحاطة الكاملة بتفاصيل المشهد السياسي العراقي المتشعب والبالغ التعقيد، على الرغم من ذلك استطاع كاظم، أن يقدّم تشخيصاً رائعاً للوضع المأسوي في العراق، وكان عرضه التنويري متماسكاً ومتوازناً ويكشف عن متابعة دقيقة للأحداث الجارية ووعياً بالتناقضات التي يعيش فيها العراق، اجتماعياً وسياسياً وإنسانياً، بحيث أنّ غالبيّة الحضور كانوا يعتقدون بأنّ كاظم يعيش في العراق وليس قادماً من برلين.

وحتى الإمام السيد الصادق المهدي، والذي كان واحداً من المكرمين في الاحتفال المهيب، وهو أوّل رئيس وزراء سمح للمنظمة العربيّة لحقوق الإنسان أن تعقد جمعيّتها العمومية الأولى في الخرطوم، في فبراير عام 1987 بعد أن رفضت جميع الدول العربية، بما فيها مصر. والصادق من السياسيين النادرين في بلادنا الذين يتعاطون الفكر، لقد أشار الصادق في خطابه عدّة مرّات لمداخلة كاظم، فالصادق المهدي معروفٌ بأنّه مُعتد بنفسه ونادراً ما يستشهد أو يقتبس من أحد.

كنتُ ضمن دعوة العشاء الذي أقامها المناضلُ القياديّ في الحزب الشيوعيّ سابقاً نوري عبد الرزاق الذي يعيش ويعمل سكرتيراً عاماً لمنظمة تضامن الشعوب الأفريقية الآسيوية في القاهرة، تكريماً لكاظم وغالب. كنتُ صامتاً طيلة الوقت، أتابع باهتمامٍ بالغٍ وهم يتبادلون الحديث عن العراق، ماضيهِ وحاضره ويستعيدون ذكريات العُمر الجميلة وعطر الأحباب والأصدقاء والرفاق الذين استشهدوا والذين ينتظرون. كتب كاظم عن سوداننا، عن مأساة دارفور وحقوق المرأة وحريّة الصّحافة ونشرت مقالاته في الصّحافة السودانية. ويعرف من رموزنا السياسيين، محمد إبراهيم نقد والأكاديمي الشريف الدشوني، والتقى مع جون قرنق في كوبا وأجرى معه لقاءً صحفياً، وقتها كان قرنق يتسربل بغطاء الماركسية.

لا تنحصر كتابات كاظم في مجال تخصصه (الاقتصاد) فحسب، بل تمتد إلى الفكر السياسي والدفاع عن حقوق الأقليات والديمقراطية والحريّة وحقوق الاِنسان، قولاً وفعلاً، مما قادة إلى سجون العراق، فقد كان معارضاَ شرساً لنظام صدام حسين الدموي. وكان قيادياً في الحزب الشيوعي العراقي، واستقال من اللجنة المركزية طوعا عام 1990، بسبب اختلاف في الرؤية والمسار وقضية الديمقراطية والموقف من عوامل انهيار الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية. ولم يتنكّر لتاريخه الحزبي، كما تنكّر كثيرٌ منهم، ممن عاشوا على حساب الحزب، ولم يلوذوا بالصمت فحسب، بل بعضهم أنضّم إلى أقصى اليمين. ومنهم من ألتفّ حول الليبراليين الجُدد المتطرفين، الذين كانوا قد أحكموا قبضتهم على الرئيس الأمريكي بوش الابن. ومنهم القائل (كنعان مكيّة، واسمه المستعار سمير الخليل)، عندما كنت اسمع ضربات الصواريخ الأمريكية على بغداد، كانت أصواتها تصادف أذني، وكأنّها موسيقى بتهوفن.

فالمعروف لدى كثيرين أنّ كاظم لم يكن ضدّ الحرب الأمريكية على العراق فحسب، بل حذر من عواقبها المُدمرة، وكان هذا واضحاً ليس في أحاديثه ولقاءاته فحسب، بل مثبتاً ورقيّاً وفي ندوات تلفزيونية ألمانية. القليل منّا يعرف فعل الخير الذي يقدّمه كاظم للذين تلم بهم النكبات والمصائب والمظالم. يفعل ذلك بصمت، يعطي بلا مقابل ويجود بلا حدود ولا يتباهى. كنت أرسل له بعض مقالاتي وأبحاثي قبل النشر، ويرسل لي تكرما منه، مقالاته العديدة والمتواصلة عن طريق بريدي الإلكتروني في نفس اللحظة التي يرسلها للنشر وكنت انظر إلى ساعة الإرسال أحيانا تكون الساعة الثانية أو الخامسة أو السادسة صباحا، وأستغرب وأنا أعرف كطبيب وصديق مشاكله ومعاناته الصحية. إنّها هموم الوطن التي رافقته منذ نضاله السياسي المُبكر. إنّها ضريبة الغربة تاركة آثارها على الروح والجسد.

"إن تبعد عن وطنك

لا يبعد عنك

حتى في خدر النوم".

كما يقول الشاعر المصري كمال نشأت. فكاظم يتأبط العراق ويستنشقه دوما. أنني لا اكتب الشعر، فحاولته فأستعصى علىَّ فهجرته قبل أن يهجرني. بمناسبة الاحتفال في عيده الثمانين (16 ابريل\ نيسان 2015)، وضم مجموعة من أصدقائه المقربين، تفجرت هذه الكلمات دفقة واحدة، ولعل جلال المناسبة اوحى بها:

ثمانون عاماً يا حبيبْ

مَشَيْتَها على الشوكِ والنضالِ والمجدِ

يا رفيقْ

في حبِّ الوطنِ كم كانت روحُك تسمو، وتهفو، وتستجيبْ

ولك في الخيرِ سَبْقٌ، وفي المَكْرُماتِ نَسَبٌ وأهلٌ وربيبْ

ولك في العزمِ مضاءٌ، وفي الفكرِ ومضةٌ،

وفي القلبِ حبٌّ ووجيبْ

القلبُ يَخْفِقُ،

الفكر يلتهبْ،

الوطنُ يضطرِبْ،

الأهواءُ تحتربْ،

ووِزْرُ الحربِ يَنْشَعِبْ

إنها دنيا العجبْ،

لا علمَ، لا أدبْ،

لا وترَ، لا طربْ

وكاد البدرُ حُزْناً يحتجبْ

والثَّكالى تنتحِبْ

لا أفقَ يقتربْ

ولا أملَ يُرتقبْ

(روحُك مُثقلةٌ بالغضبْ)

بعزيمةِ المشبوبْ

وصبرِ أيوبْ

وقفتَ ضد الفكر الخرِبْ

والدين المغُتربْ

وضد الرِّياءِ والكذبْ

أنتَ الساهرُ الحدِبْ،

لم تبغِ جاهاً ولم تكتسبْ،

لا جواهر لا ذهبْ،

لا القابَ لا رُتبْ،

فدنياك الكتبْ،

تبثها خطابَك طيلة الحِقبْ،

وما أسعدنا

لصحبتك ننتسبْ

ألفَ قبلة على جبينِك،

يا أعزَّ حبيبْ

وفي التسعين لنا عودةٌ،

يا وَدْ حبيبْ

ألا ولكلً أمرئ أجلُ ثابتُ وكتابْ. لقد وفيت بالوعد وأكملت الرسالة، وسلمت الأمانة. والوطن حافظاً للجميل. وأزفت ساعة الرحيل، فنمْ هانئاً. والسلام عليك إلى أبد الآبدين، صديقاً عزيزا وإنساناً وفيا، يا كاظم حبيب.