لن تحصل"جمار الرغبة" المتقدة هنا على ارتوائها، سوف تحقق-عوضًا عن ذلك- محاكاة زائفة للارتواء بتواطؤ محكم ما بين طرفى العلاقة، سياسي اغتنى من انتمائه لنظام فاسد، تباغتة الشيخوخة على الرغم من تزايد الأرصدة في البنوك دون عناء، وامرأة شابة لا تهب نشوتها الصريحة سوى لرفيقها المجرم.

جِمار الرغبة

أحمد غانم عبد الجليل

 

كنت أعرف أنها تخدعني، ورحبت كثيرًا بذلك الخداع، أنها تبيعني الوهم وكنت خير المشترين، أحببتها؟ بالتأكيد لا، أنا كبرت على مثل هذه الحماقة، بل أنني لم أعترف بها من قبل لئلا أثقل حياتي بالمزيد من الحرمان وذل الخيبات، مع ذلك استمتعت كثيرًا بآداء دورها على أكمل وجه، فاستحقتْ سخاء غبائي المصطنع حتى آخر ورقة نقدية اغتنمتها، بكل امتنان، من محفظتي المنتفخة بفيض كرم نفحات الجنون، مراوغته تتخفى بين أحضان صاحبتي منفتحة الأنوثة كلما ضمتها نوبة شره متمردة على سنوات أمضيتها في حسرات تتلصص على لعبة المحترفين من بعيد.

 فلأكن أحد اللاعبين ولو مرة، مرة أحصل فيها على بعض حقي المستلب من سلسلة حروب لا تنتهي، كما هو العمر المتراكض ما بين حرائق استعرت وانطفأت في غفلةٍ لم أشأ أن تنتابني مثلها لحظة واحدة وهي معي، فأفوِت شيئًا من الوقت (مدفوع الثمن) الذي أستملكها فيه بهيجان ثوراتي المخذولة، ثورات ممتهنة من قبل أن ترفع شعارًا من كومة الشعارات التي نحفظها ونرددها في كل استعراض سياسي ومض أمامي جليًا مع توهج المصابيح الملونة في ملاه التعري التي اعتدت اردتيادها كما لو أني أقوم بمهمة من مهام مناصبي الوظيفية رفيعة المستوى.

 لعلي أكون صورة (كاريكاترية) تتجسد أمامها من ثنايا الحكايات المرتحلة إلى أرض النعيم المرمرية، تختزلها في جنبات جسدها الريّان والمستسلم لصولجان حكم النقود المهاب، أنثرها مع زخات قبلاتي فتتلقفها في انتشاء، مصطنع هو الآخر، أكذوبة من الأكاذيب المتواطئة عليها مع كل رجلٍ يعرف كيف يقدِّر جمالها الأخاذ حق قدره، أما نشوتها الحقيقية فتبقى بعيدة عن متناول (المغفلين) من أمثالي، تهبها بكل عفوية ملتهبة الأنوثة لحبيب ينهل من اكتناز أنوثتها وما يغدق عليها السادة من هبات، ساقني الفضول لأستعلم عن ذلك الحبيب المحظوظ، بعد أن قادني التوجس المزمن داخلي إلى معرفة ولو بعض الشيء عن خفاياها، فدهشت من جنوح اختيارها، هو لا يستحقها بالتأكيد، ولكن ماذا نفعل لخبلٍ ننساق إليه في طيشٍ لا بد من خبث مخاتلته في حياة كلٍ منا، يستمتع حتى بالندم الذي قد يراودنا بعد حين.

 لمّا رأيته من بعيد، بهيئة المدمن المقززة التي بدا عليها، بصخبه وهذره وتطوحه، اشتهيت ضربه حتى تُزهق روحه العابثة بين يديّ، وفكرت أيضًا أن أسوقه في الخفاء إلى بلادي، كإرهابي متطرف أحشره ضمن قطيع المعتقلين في الزنازين التي تضم كل فترة وجبة يصعب تمييز رأسٍ ذليل داخلها عن آخر، وما أكثر الخراف التي لا يجرؤ على السؤال عنها أحد، لكني لم أشأ أن أتسبب لها بتعاسة أكبر ما دامت تحبه كل هذا الحب الملعون، وطبعًا لم أشأ أن تعرف أني جعلتها محور اهتمامي، لكني أيضًا لم أستطع منع تساؤلاتي من اقتحام حياتها التي تداريها عني في مزاج الفتاة السعيدة على الدوام، عن التهاوي الذي أوصله إلى هذا الموصال وساقها إليه دون نفور من حالته المزرية، متخذةً قرارها بهجره ونفيه وقذاراته عن دربها، حتى أني تصورته ضحية إحدى حروبنا التي تخفي أكثر مما تعلن، ذات القصة المكررة التي يندبها الفقدان المستمر في أوطاننا منذ عقود، أو قد يكون معتقلًا سياسيًا فكر ذات يوم بإمكانية التغيير الحر، لا التغيير الذي توجبه مشيئة السلطة الحاكمة، لو أنها تطمئن لي وتخبرني من تلقاء نفسها لربما استطعت مساعدتها بالفعل، وبلا مقابل عشق يعيدني إلى زهو الشباب الذي فرّ مني سريعًا حتى انتبهت إلى الشيب وهو يكلل شعر رأسي، أداريه بالصبغة الفاحمة كما تداري عني حكاياتها التي لا تهمني بشيء، وبالتالي لن تدر عليها المزيد من العطايا المنهوبة من كنوزنا غير المنتهية، فما أنا سوى لص من اللصوص الكبار لديها، ومثلها الأولى بنصيبٍ من بتوطيد علاقاتنا بدول الغرب من بعد طول انغلاق كفانا على وجوهنا لتتساقط فوق رؤوسنا كل تماثيل من فرض علينا شراء الوهم عقودًا.

 ليتني أستطيع أن أثرثر بكل هذياني أمامها، بكل صراحة مستقطَعة من أوقاتنا المسترخية فوق الفراش الوثير، ثم ندعها تمضي سريعَا كما لو لم نتورط بوطأتها الثقيلة فوق جليد نتزحلق على سطحه الهش بانسيابية لا تخلِّف لدينا سوى ذكريات لا تلبث أن تتلاشى مع بدء عربدة مغامرة جديدة قد أترك لوثتها تجتاحني، كما أشاء أنا، حتى أقرر العودة إلى مظهر الوقار أمام السادة الممثلين الآخرين، إلى ذات الأدوار التي صرنا نوزعها فيما بيننا بصمت لا يعلن عن الخبايا، حتى التغيير الذي قد يطرأ عليها يكون موضع الحسبان كي لا ينهار البنيان المشيّد من أهواءٍ وسكرات ما لها انتهاء، أو هذا ما نمَّني به أنفسنا، قبل أن تلجئني موجة طاغية لمعاودة الإقامة في مدينةٍ من مدن الحوريات المدللات، وقد أتعثر بها، دون سواها، ذات جولة بحث عن حسنٍ جديد أجلسه على عرشي المتواري عن العيون لأيام أو أسابيع، أو ربما أشهر كحدٍ أقصى، كل حسب سطوة هواه في وقتي شاسع الفراغ، ما دامت الأموال تراكم أرباحها بصورة آلية بلا حاجة لتدخل مني، لكن لا، لا، هذا النوع من العروض يكمن سر جماله في عدم تكراره، فلأستمتع بسحر فقراته ما يحلو لي قبل أن يُسدل الستار إلى الأبد.

 لو أنها تفهم ذلك لما بددت موارد الجسد المشتهى على ذلك الصعلوك الذي لا يتردد في فعل ولا التضحية بأي شيء مقابل عبث يومه، لو أنها تبصر درب الصخب كم هو قصير بتلاقف شهواته، سرعان ما ينتهي بها إلى الهامش دون الحصول على مكافأة الاعتزال، دون أن تأمن إلى رصيدٍ من ستة أو سبعة أصفار ادخره رحيق شبابها لوهن الكهولة، تمضي سأم انزوائه في إطالة النظر من بعيد نحو جيل جديد من المتراقصات في خمارة الحياة، يدخلنَّ بهتاف ويخرجنَّ بهتاف طردٍ وترحيب بأخريات، فيتعالى ضجيج المغيَّبين في بهرجة الأنوار الوهّاجة وقرع الكؤوس الملآنة، بينما كأسها يبقى فارغًا لا تجد فيه سوى ذبالة لا تنجدها من حياة التسكع في منافٍ لا يهتم بالتلصص عليها أيٌ من المهووسين القدامى.

 حتى لو صارحتها بكل ما يخفيه ألق أيامها عن ذهنها المضطرب، بأي لغةٍ كانت، ما أخذتْ بكلمة مما أقول، لوجدت في كلامي بعض ترنح رجل يكاد لا يفيق من سكراته، تنهكها شهواته النهمة للجمال، تستبق لحظات الخواء من كل شيء، يصعب عليها إدراك معنى الخواء الآن، حتى وإن شقت به وهي مع ذلك الجرذ الغافل عن دنياه، قد تأمل خلاصه من إدمانه، على حسابي وحساب آخرين، لكنه بالتأكيد سيرفض ويتعارك معها، وقد يضربها بقوة حاجة جسده إلى المزيد من السموم.

 يضربها! نعم ولمَ لا وهو يعلم جيدًا إنها ستظل رهينة حقارته مهما فعل، هجستُ ذلك في جمودها الشارد بين ذراعيَ أكثر من مرة، في لمعة الحزن المظللة مرجيّ عينيها الخضراوين الذين دعواني لعناقها بشغفٍ لا يرتوي ما أن رأيتها وميَّزتها عن أخريات تقنَّ لاصطياد الطاووس المتبختر بين النهود لينتقي الأجمل وما يستحق ثراء قبلاته حتى يأخذه الملل من عبق عطرٍ حرص على اقتنائه بلا تأجيل، ويسوطه الخوف من التورط في علاقةٍ ما وجدت لتستمر، وليس كما راحت فتنتي في تيه جنانها توسوس لي على نحو مخيف من انزلاقٍ مهين يودي بي إلى سخريةٍ ماكرة تستخف من مشهد تبرقع الغانية بثوب الطهارة في صحبة السياسي المحافظ، صديق الشيوخ الكرام، تقبع في أحد القصور الموروثة من العهد البائد، تتمتم ببعض مفردات اللغة الغريبة عنها، ومن يعرف، لعلها بعد سنوات تكون من واجهات المرحلة التي أتشبث بأمواجها ما أستطيع، أيًا كانت السبل، وفي بلادي كل شيء ممكن الحدوث، وربما تستطيع، بوجهها الملائكي، كسب شعبية أكثر بكثير من الوجوه الكالحة التي لا تفيد معها عمليات التجميل لدى كل خطيئة انتخاب فضفاضة الشرعية.  

 علت حدة ضحكاته والكأس يواصل الاهتزاز بلا توقف في باطن كفه فيمده بالمزيد من الإثارة، كما لو أنها لم تغادر جناحه الملكي واسع النوافذ المطلة على السحاب، ثم أخذت تلك الضحكات بالخفوت حتى تلاشت تمامًا لينسحب طيفها من أمامه، قهقةً تلو أخرى والنعاس يثقل جفنيه.

 قرر أن يهاتفها بعد نهوضه من النوم، في أي ساعة كانت، يخبرها باضطراره السفر سريعًا، وأنه سيترك لها مظروفًا لدى الاستعلامات يحتوي مبلغًا جيدًا من المال، عسى أن تقبله كهدية وداع لأجمل غادة تمنى أن يحظى بها دون أن يفارق دلال دنياها أبدًا، أو أي كلامٍ يخطر على باله قبل إغلاقه الخط، فلن تتعذر مجاملة منمقة على رجل الخطابة والحوارات التلفازية المثيرة للاهتمام، رغم ما يكتنفها من استفزاز الأكاذيب، كما أنها لن تشغل بالها سوى بتخمين قيمة خاتمة عطاياه.

 بعد يومين باغته شاب غائر العينين، تعلو وجهه بارز العظام صفرة المرض ويدل مظهره على بلاهةٍ غير واعية لشيء، بطعنة سكين لدى خروجه من الفندق، فارق على إثرها الحياة سريعًا، بينما فرَّ الجاني دون أمل باستعادة عشقٍ استمر لسنوات، بعد أن أصرت فتاته على هجرانه رغم تهديده بالانتحار، مطمئنة إلى الثروة الصغيرة التي استلتها من جِمار الرغبة لقاءَ ما خضعت له وقاسته في حياة أمعنت إذلالها واغتصاب أحلامها تباعًا.

 

*كاتب من العراق

13 ـ 10 ـ 2021 عمّان