يعرض الكاتب العراقي المرموق العالم الداخلي للشخصية وهي تقع في ظروف الحرب والحصار في موقف بالغ التعقيد لكنه يمر في حالات ضعف إنساني يخشى فيه من تحول رفاقه إلى أعداء. عن هذا العالم الداخلي نقرأ قصة يعتمد بنائها على الحوار الداخلي اللاهث الذي يجسد مأزق الإنسان في الظروف العصيبة.

المتاهة

سلام إبراهيم

 

ما الذي أتى بي إلى هذه المدينة الجوفاء.. من؟.. أجري.. أجري.. شوارع خالية تبرك في ليلٍ مظلمٍ أخرس.. أجري.. أجري.. لهاث بشري يلاحقني.. تقطعت أنفاسي يا رب السماء.. ألا من ملجأٍ؟.. أجري مذعور القلب.. أجري.. أشياء تتلامع في الظلمة أمامي، خلفي، فوقي. إلى جانبي.. أبواب تضيء للحظة وتغيب.. أبواب تستطيل وتبرق.. أبواب مقفلة.. أبواب معدنية.. أينك يا أمي؟.. يهتز القلب.. يكاد يفلت من بين أضلعي.. يا للوحشة.. أين الجبل؟.. يا لضياعي.. كنت بين الأنصار.. هادئ البال.. لهاث.. لهاث خيول.. أينكِ يا قرى الجبل؟.. يا وجوهاً أليفة..!.. مَنْ...مَنْ حشرني في مدينة الفزع هذه؟.. آلاف الخيول تسعي ورائي.. هدّني التعب.. يا لبؤسي.. وانبثقت جانبي طفلة خضراء مضيئة.. ملت جارياً نحوها.. خذيني... خذيني معك.. ضيعيني بخضرتك.. خلصيني!.. قطعتْ الشارع كالبرق وغابت خلف باب أعتم.. يا أمي.. يا رفاق.. التفتُّ... صف الخيول المتراص يرمي قوائمه الهوجاء بأعقابي.. شررٌ يقدح من عيونها يكوي ظهري.. يا رب الخيول الجامحة المجنونة أجري... أجري... والشرر أنجذب حولي بقعة ضوء من نار. أهلكني الجري وانكشاف الستر ببقعة الضوء العاهرة.. الفاضحة.. الخيول.. الخيول.. آه ستلحقني.. آه للشرطة ضجة حوافر الخيل المنعّلة على الإسفلت.. آه لفح أنفاسهم أحرق قفاي.. يا أمي يا حبيبة.. انحلت مفاصلي... سأسقط.. سأسقط... الخيول.. الشرطة.. العسكر.. بقعة الضوء المضيئة اللاصقة. فانكببت على وجهي وأنخرس صراخي بجوف فمي.. تقلبتُ.. استقريت على ظهري. عيناي تحجرتا على مئات الحوافر المسننة، البارقة كأنصال مشرعة فوقي.. يا ربَّ الليل ستهوي.. ستمزق لحمي..ســ..ســ.. آه.. آه.. آه..ه..ه.
أنتفض داود من إغفائه مذعوراً فارتطم رأسه بأغصان مشتبكة لشجيرتي بلوط كان يختبأ بينهما. بحث عن زمزميته وبلَّ ريقه الناشف بقطرات ماء، وضجة حوافر الخيل ترن بأذنيه. تمدد على ظهره. حاول الاسترخاء متأملاً شمس أيلول من بين اشتباك الأغصان تتسلق مسلكها الأبدي الصاعد نحو منتصف السماء.
.. ما أثقل النهار.. ما أمره.. يتوجب أن أسكن بمكاني الضيق هذا حتى حلول الظلام، فالجنود اجتاحوا الجبال بأعداد هائلة بعد أن مهدوا لزحفهم بقصف القرى المحررة بغازات الكيمياء.. ودفعةً واحدةً انهار كل شيء.. عشرات من النسوة والأطفال والعجائز مروا بقوافلهم الراجلة نازحين صوب الحدود التركية.. قوافل من البكاء والصراخ والعيون المنكسرة.. قوافل مذعورة تركت خلفها أبناءها وأقرباءها المختنقين بالخردل والسيانيد وغازات الأعصاب على عتبات البيوت وفي الحقول وأزقة القرى وأسرة النوم.. دون دفن.. كان يشرد بعينيه المتجمرتين من تلك العيون المترعة بالحزن والرعب تعصر قلبه ألماً وهو يرى بالناظور من قمة "كارا" حيث التجأوا القرى التي أحبها.. ميزه.. كاني ماسي.. كهربه.. كفركي.. سواري.. سبنداري.. و.. و.. تطأها أحذية الجند الذين تقذف بهم عشرات الطائرات المروحية... ينهبون أسلاب الناس المتروكة، ويضرمون النار في بيوت الطين الأليفة.. قبل أن تأتي البلدوزرات لتسويها بالأرض. كانت أسنان البلدوزر تجتث من قلبه أعز الأشياء.. ففي تلك القرى ذاق الخبز الحار.. وفي غرفها شم رائحة البيت.. وبعيون نسائها أبصر حنو أمه.. تجرع المر.. وأكمده شعور بالعجز ولدته البنادق الميتة المثقلة أكتافهم، يتجولون بين قمم كارا الباردة في عز ليل أيلول حيث حوصروا، ومع برودة البندقية وهجرة سكان القرى ومحوها.. غزا قلبه الصقيع، وصارت البندقية في الأيام التالية آخر ملجأٍ يضطر إليه تائهاً.. لكن حتى ملجأه الأخير والذي يبعث الطمأنينة في نفسه أضاعه في عتمة الليلة الفائتة. عض أصابعه ندماً وردد:
ـ كيف.. يا لضعفي.. كيف أضعتها.. كيف؟!.
... تسرب مع تسعة رفاق قاصدين الجبل الأبيض. ارتدوا الليل ستاراً، وتسللوا بين مواضع الجنود السفرية المنتشرة في كل مكان.. ضاقت أنفاسهم برائحة الليل المكتظة بروائح الحقول المحروثة والبارود وبقايا غازات الكيمياء. وزاد وحشتهم وحشةً المرور بأكوام الحجارة التي كانت بيوتاً.. يختبئون في النهار، ويتلمسون أشياء الأرض في حلكة الليل بأطراف أقدامهم المتوجسة، الباحثة عن مستقر لقدم. كان داود يسير وجل القلب.. دوخته روائح أجساد بشرية متعفنة تحملها ريح خفيفة.. روائح شرسة تضرب أنفه بين آونة وأخرى فيردد بذات نفسه.
ـ.. يا للرائحة.. يا للعفن.. يا للمصير.. أ أكون جثة منسية في وحشة ليل الجبل؟.. لا.. لا..
سها شارداً.. ضيع موضع قدمه فانزلقت حينما داس حصاة مدورة . همس من خلفه:
ـ دون صوت.. يا داود.
نفث زفيراً طويلاً طارداً تلك الروائح العفنة.. حث خطاه بحذر.. أصطدم بكتلة داكنة لينة.
ـ أنتبه.. النقطة قريبة.. جسر الداودية تحتها.. اجهد نفسك.. وتأكد من موضع قدمك.
تقاطروا بصمت.. ارتجفت ساقاه.. خطا.. خشخشة أوراق تتكسر في هداة الليل.. جمد لحظة.. عاود السير.. عند عنق الجسر هوت قدمه في حفرة صغيرة فأختل توازنه.. طب.. سكون... لهاث... حفيف أقدام.. لهاث.. صوت سحب أقسام..
ـ من هنا؟!.
..
ـمن؟!.
لعلع الرصاص قريباً. غريزياً أندفع بجسده إلى منحدرٍ صخري حاد مظلم، تدحرج.. اللعنة.. بندقيتي.. فردة حذائي.. تقلب.. احتكاك حديد بصخور المنحدر.. أستقر عند حافة المجرى السريع الضحل.. خبط بذراعيه خبطات مجنونة.. سأعثر عليها.. سأعثر. زحف باضطراب نحو كل الجهات وأصابعه المتشنجة تنقر الصخر.. يا للمصيبة سيمسكونني مثل دجاجة.. البندقية.. البندقية.. البندقية يا رب الليل.. أقدام تركض.. ضجة جسد يتدحرج.. أزيز رصاص.. شتائم بذيئة.. طقطقة بندقية تحتك بالصخر. هدير المجرى السريع.. همس مضطرب.. صراخ الجنود الهستيري.. بندقيتي.. أكتظ الليل بروائح الموت.. لا أريد. ضرب بكفيه المجنونتين الصخر بيأس.. الوقت.. الوقت.. سأهرب.. سأهرب.. حاول النهوض.. خذلته ساقاه.. يا رب الضجيج ساعدني.. ساعدني.. وجذبته ذراعان قويتان من كتفيه. شبكت أصابعه أصابع متماسكة آسرةً الرجفة.. وسحبته ركضاً.. ركضاً باتجاه معاكس لمجرى الماء.. مبتعدين عن صوت الرصاص والضجة.
ـ أسترح
تحررت أصابعه فاستلقى على الصخور الباردة. أنتبه إلى منقذه المتمدد إلى جانبه لاهث النفاس. دقق النظر لمعرفة من يكون..
ـ صلاح.. يا حبيبي.. يا صلاح!.
وظلا ينتظران.. يتأملان باب الظلمة الكثيفة.. فانفتحت عن أربعة رفاق. أما البقية فقد أخذهم جوف الليل وضجة الرصاص.. وهدير المجرى.. استردوا أنفاسهم. وبعدما يئسوا من الآخرين، تحركوا.. تطاردهم أشباح الظلام دون دلالة يبحثون عن مكان آمن. تحاشوا مواقد نيران الجنود المنتشرين في السهول والتلال والأودية. أدمت قدميه الأشواك المدببة والصخور المسننة الحواف وجعلته يداه العاريتان من السلاح وقدمه الحافية يشعر بصغره ضآلته.
ـ.. ما أنا.. ما أنا الآن سوى نملة.. نملة.. نملة..
تقلص بمكانه بين الشجرتين، وطائرتا هليكوبتر ظهرتا خلف القمة المقابلة البعيدة. اتجهتا صوب موضع اختبائهم.. أذابه الضجيج المقترب وتمنى لو ارتشفته الصخرة. الطائرتان انخفضتا حتى لاصقتا كتف التل المقابل وألقتا ما ببطنيهما من جنود انتشروا ببدلاتهم المرقطة.. شاهرين أسلحتهم.. وطفقوا يمشطون التل متجهين نحو قرية مهجورة قريبة. خمش وجه بأصابع مرتعشة:
ـ... سيعبرون إلى جهتنا.. يا رب الجند.. ماذا أعمل؟.. ماذا سيأسرونني مثل نعامة.. يا للكارثة.. ماذا سيفعلون بيّ؟.. ماذا؟.
أنفرد أحد الجنود وعبر المنخفض الضيق الفاصل بين الكتفين. أطبق أجفانه وأخذ جسده بالاهتزاز.. الجندي يقترب.. صار وقع بسطاله الثقيل واضحاً. باعد ما بين أجفانه ببطء.. تحجرت حدقتاه على لون البسطال الأسود القريب.
ـ لا أطيق.. لا أطيق.. سأنفجر.. سأنفجر.. سأنفجر.. سأفج الأغصان وأظهر رافعاً ذراعي.. سأفعلها.. وليجر.. ما يجري... سأفــ..!!!.
ـ لا.. لا.. أصبر.. أصبر لدقائق.. يا داود.
استدار الجندي مقتفياً أثر فصيلته.. تباطأت أنفاسه المتقطعة.. وسكن ارتعاش أطرافه.. أرتكز بكوعه سانداً رأسه إلى ساق الشجيرة.. نظر إلى جلدة مخزن عتاده المشدودة بخيوط نايلون إلى قدمه اليسرى المتورمة.. تخافتت أصوات الجنود شيئاً فشيئاً حتى انقطعت، فساد صمت منتصف النهار لا يعكره سوى أصوات قصف مدفعي بعيد... واطلاقات متقطعة. أستشعر الوحشة، أظهر رأسه متفحصاً حواليه.. سكون قاتل ينيخ على الأشياء. أستثقل وحدته، فغادر موقعه زحفاً يقصد مكان اختفاء رفيقين قريبين. أنخلع قلبه حينما وجد الموضع خالياً.. أدار طرفه.. نادى بخفوت..
ـ حمزة.. أوميد!.
جاوبه صمت الحرائق التي شبت في التل المقابل.
ـ .. أين ذهبا؟!.
تفحص المكان.. على فراش من ورق البلوط تناثرت بقايا أشيائهم، مسجل صغير، بندقية، حقيبة ظهر جلدية، فتات خبز يابس، مخازن عتاد، ألبوم صور، بشتين، جمداني.
ـ أيكونا قد؟!.
طوح به الهاجس.. أستيقن شراً.. انحلت مفاصله وخيول الليلة الماضية سمع دوي حوافرها المنعّلة قوياً يجول صداه في بقايا روحه.. ارتمى متلقفاً البندقية المعفرة بالتراب، حضنها بلهفة وكر زاحفاً نحو البقية، وجدهم لابثين بأمكنتهم.
ـ ها.. داوود!.
ـ حمزة.. أوميد.. تركا أشياءهما واختفيا!.
باغتهم الخبر.. اختلجت شفاههم المشققة بصمت، سكنت شفتا صلاح ثم تحركتا بصعوبة.
ـ أ بحثت عنهما؟!.
ـ دون جدوى!.
قال هوشيار:
ـ يحتمل أنهما سلما!.
كلحت وجوههم المتيبسة لقوله، على داود غضباً وقال:
ـ الكلبان.. قد يدلان على مكاننا. آخ لو عرفت بعزمهما.. لخنقتهما!.
بارتباك أسرعوا منسلين واحداً.. واحداً، حول تل صغير أفضى بهم إلى بطن وادٍ ضيق جاف. لاذوا خلف صخرة كبيرة متحلقين، قال يعقوب:
ـ ما العمل يا رفاق؟!.
.. كان من المفترض أن يستلم أوميد الدلالة ليؤمن وصولهم.
التفت صلاح إلى داود قائلاً:
ـ أ تستطيع الوصول بنا إلى الجبل الأبيض؟.
ـ لا..!.
ركد الصمت موجعاً على الأربعة. بادر صلاح بهدوء:
ـ لم يبق لدينا خيار سوى محاولة العودة إلى "كارا" للالتحاق بالرفاق!.
لزم داود الصمت وراقب بطرف عينيه وجهي يعقوب وهوشيار اللذين انفرجا للفكرة. أستطرد صلاح:
ـ داود أنت الدليل.. الحركة بعد غروب الشمس.
ـ ...
ـ لننتشر..
انطوى داود وحيداً.. لاجئاً إلى فسحة ضيقة بين صخرتين متلاصقتين من الأعلى، قاتم الوجه، ترك مؤخرة رأسه تستند إلى جدار الصخرة المائل.
ـ نعود.. نعود.. نعود!.
وضرب فخذه بباطن كفه.
ـ.. وإلى مَ نعود؟.. مرة أخرى حيث الحصار.. والدوران في حلقة مفرغة.. لا ماء.. لا خبز.. لا مأوى.. لا بشر.
إلى مَ نبقى؟ هذا فيما إذا نجحنا باجتياز المعسكرات والربايا والنقاط المتحركة والشوارع المبلطة الجيدة التحصين.. والجنود المنتشرين كالنمل في بطون الوديان وظهورها.. وعلى القمم والتلال.. يا للمصيبة.. وماذا بعد كارا؟. ماذا؟.. ماذا؟.. لا أطيق.. لا أطيق.. هانحن بقينا أربعة من عشرة بعد ستة أيام.. قد نقع في كمين.. ها آنذا حينما أتخيل الموقف تموت يداي ولا أقوى على رفع البندقية.. سيلقون القبض علي.. سأرى جهنم.. سأ.. سأ.. بم أقاوم؟.. خواء.. خواء في خواءِ، ففي ليلة وضحاها فرغت القرى وصار ذلك الامتلاء والزهو خواءً قاحلاً مثل أرض جذبة.. ذليلة، وأعود إلى كارا وبرد ليل القمة، ثم ما جدوى ذلك. وإلى مَ نبقى بين ثنايا جبلٍ أجرد من البشر؟.
ـ إيه.. إيه يا داود.. لو أنك سمعت كلام أمك!.
ـ أبقْ يا بني.. لا ترمِ نفسك إلى التهلكة.
ـ يا تهلكة.. أتردين موتي في الحرب.
ـ ليس كل الجنود توت.
ـ وإذا متُ.
ودعها باكياً.. والتحق بالأنصار حالماً بيوم الخلاص، لكن هاهي أحلامه تتبدد كهشيم في الريح.. فالحرب انطوت مخلفة أحزانها، فألقى الجيش ثقله الهائل على كردستان. أنتشر يخرب القرى، يسرق، يقتل بالخردل والسيانيد الأطفال والنساء، الأبقار والأشجار، وعيون الأنصار منكسرة ترى الفظائع وتطبق أجفانها لوعةً.. غير قادرين على صد تلك الجموع.
كيف المخرج من كل هذا؟ وإلى مَ تبقى يا داود؟.. حال المتسول أفضل من حالك!.. ستموت جوعاً وبرداً فالشتاء على الأبواب.. وما أنت؟.. ما أنت.. هيه.. ما أنت؟.. سوى قملة تقصعها أصابع السلطة الفولاذية.. أنجْ بنفسك.. أنجْ.. تسلل بهدوء.. أترك سلاحك.. وسلم نفسك قبل أن ينتهي موعد العفو.. عدْ إلى بيت أهلك.. ودفئه، تخلص من كوابيس نومك.. من خيول مجنونة تسعى لسحقك.. أترك كل شيء.. كل شيء.. أخلد إلى غرفتك ولا تبارحها.. أشبع نوماً وخبزاً ودفئاً.
... أ أكون سافلاً؟... نذلاً إلى هذا الحد؟ أتسلل خفية وأغدر برفاقي الذين شاركوني الهموم والخبز والخوف والمحبة. تمعن في الأمر جيداً.. أوجدت أكثر منهم دفئاً وطيباً؟ أشعرت بالطمأنينة قرب سواهم؟.. لا.. لا تكن نذلاً يا داود.. لا..
... ما النذالة في الأمر؟.. أنت لست نذلاً.. بل خجولاً.. انزعْ خجلك وكنْ جريئاً مرة واحدة من أجل سلامتك.. ثم ماذا؟.. فهذه حدود طاقتك.. وذلك أسلم لك من الأسر، فلو وقعت بين أيديهم سيعذبونك عذاباً أليماً قبل قتلك..ثم أنت لست الوحيد الذي سلم نفسه، فقبل سويعات سلم اثنان.. وكفا نفسيهما الخوف وعذاب الجوع والتشرد. أحزم أمركَ يا داود.. لا تضيع عمرك هباء.. فالعمر يعاش مرة واحدة، ومرّتكَ.. كيف عشتها؟.. أ سألت نفسك هذا السؤال؟. لم تزل شاباً ابن الخامسة والعشرين.. ماذا رأيت بعمرك القصير؟ ما أن أكملت الإعدادية حتى ساقوك جندياً إلى الجبهات.. أحرقتك سهوب البصرة بحرّها.. وأطرشتك انفجارات القذائف الماطرة.. وبرد شتاءات الجبهة ينام بأضلاعك حتى الآن.. لو.. لو.. لو صبرت سنة واحدة.. سنة واحدة فقط.. لو انصعت لمشورة أمك.. لما وجدت نفسك بهذا المأزق.. أحزم أمرك.. احزم.. فخلف فتحة الوادي معسكر مؤقت.. قل لهم ـ كنت هارباً.. وعدت نادماً ملبياً نداء عفوكم.. هيا.. تزحزح عن مكانك.. هيا.. آواه.. ما أثقل قدميك.. هيا.. هيا..
ـ لا.. لا.. لا.. لا.. لا..
حاصرته وجوه رفاقه الثلاثة المتيبسة.. وعيونهم الغائرة. صلاح بأنفه الطويل وقسماته الهادئة.. وصلعته التي أخذت مقدمة رأسه حتى وسطه، هوشيار بعينيه الناعستين وزغب لحيته الناعم وصوته الخافت، يعقوب الذي يشبه أباه بفوديه المشتعلين شيباً ونظارته الطبية التي انفطرت إحدى عدستيها في ضجة الليلة الفائتة.
... أ أغدر بأبي؟ أ أتركه ضائعاً بين جبالٍ محشوة بنمل الخليفة السام.. بئس الولد العاق أنا.. وسحقاً لي إن فهلتها.. لو فعلتها ماذا يبقى في داخلي من إنسان؟.. ماذا؟.. لكن.. لكنني عييت يا أحبائي.. تعبت.. تعبت.. والله تعبت.. لم يعد باستطاعتي التحمل.. سأخبركم.. أخبركم.. وأرجو أن تفهموني.. تقدروا وضعي وأكون حينذاك قد أرضيت بقايا ضميري المجهد.
ـ لا.. لا.. يا داود.. أي أحمق ستكونه لو فعلتها.. وأخبرتهم.. سيغدرون بك.. يقتلونك.
ـ.. أو يفعلونها؟!.. لا.. لا .. إنهم أنبل من ذلك وأشرف..
ـ أي نبل في الضرورات أيها الأحمق!. أنت أول من تمنى قتل حمزة وأوميد.. ها خزنت لسانك؟!.. أ فلم يجئك خبر القطة التي حوصرت في غرفة مقفلة؟.. كيف وثبت نحو محاصرها حينما يئست من خلاص وجزت عنقه ثم قتلها أهل القتيل، كذلك هم الآن.. مثل القطة المحصورة.. وحدك تعرف طريق العودة.. ها.. أتجد في هذا المنطق هنة؟.. هيا أرسْ على بر أمانك.. تسلل بهدوء.. بهدوء.. هيا.. أستعجل!..
ـ.. وأصير غادراً.. نذلاً.. قاتلاً.. أستحق القتل بيد أحبائي.. من حملوني على أكتافهم الناحلة حينما اخترقت رصاصتان فخذي أثناء اقتحام قرية شيخكة، عشرات الأميال حتى أوصلوني إلى مكان أمين..
يا رب الجبل.. أيها القاسي.. ماذا أفعل؟ ماذا؟.. ماذا؟.. ماذا؟..
نطح برأسه جدار الصخرة فشجت جبهته. أمرَّ أطراف أصابعه على الجرح فابتلت بدمه الدافئ.. تأمله طويلاً:
ـ نذل.. نذل.. نذل.. نذل..
وانقبضت نفسه.. تكور.. تكور.. وودّ لو يتحجر.. يصير صخرة ثالثة لا تأبه لما يدور حولها.
ـ ما أسعد قلبك يا صخرة؟.. ما أبرد رأسك؟.. ما ..
ـ أحسم أمرك يا داود. أمامك متسع من الوقت.. والوادي سالك حيث الأهل وراحة البال.. دون حرب.. دون خوف.. دون تشرد.. انفضْ يدك من كل شيء.. تحلحل يا داود.. وأطوِ وراءك كل ما رأيته خلال سنة الجبل الصعبة.. وعش حياتك.
ـ لا.. لا... إنه الغدر.. لا أستطيعه... لا أستطيعه.. لا.. أستطيعه.
جلس متربعاً. استقام بجذعه.
ـ ... سأخبرهم.
ـ ... يقتلونك.
ـ ... سأخبرهم.
ـ ... يقتلونك.
ـ ... سأخبرهم.. قلت.. سأخبرهم.. سأخبرهم.
ـ ... سيلينون لك الكلام حتى يستقر قلبك المضطرب ثم يأخذونك غرة خنقاً دون صوت.
ـ ... لا.. سأقول.. هم أنبل من أن يفعلونها... لا.. لن أغدر بتلك الوجوه المغضنة.. الصابرة.. الأليفة.. الحبيبة التي قاسمتني كل ما تملك.. حتى دم القلب.. سأعتذر لهم من قلبي المنهك.. سيقبلون اعتذاري.. خبرتهم جيداً.. سيقبلون.. آخ.. يا لضعفي كم أحبهم؟.. كم؟.. أذوب بهم وجداً.. أذوب.. أذوب.. لو.. باستطاعتي لبقيت.. أفهموني يا أحبتي.. أرجوكم.. لا أريد الموت جوعاً في جبالٍ مقفرة.. الشتاء على الأبواب.. لولا قلبي المخذول.. لبقيت.. وصرت أسعد الناس.. سأخبرهم.. سأخبرهم.
ـ .. أحمق.. تسعى إلى حتفك..
ـ .. مستحيل.. مستحيل.. هم لا يفعلونها.. فقد لمست قلوبهم لمس اليد.. وذابت أصابعي فرط رقتها..
ـ .. أحمق مثل شاعر يا داود. تتغزل بمن سيجهز عليك.. يا ابن الملوح المسكين.. لو أعملت التفكير قليلاً.. فكر بما سيحدث لك.. قلّب الفكرة.. أسرع.. لا تتوان.. فأمامك الوادي سالكاً.. وخلاصك لا يبعد سوى عشر دقائق أو أقل.. هيا.. أرم خطوتك الأولى.. تشجع.
ـ لا.. لا.. لستُ نذلاً.. لست.. لست.
ـ .. أحمق.. أحمق.. الوادي يدعوك.. يدعوك..
ـ .. لستُ نذلاً.. لستُ.
توكأ كفيه، نهض.. رمق امتداد الوادي.
ـ.. الوادي يدعوك.. هيا.. هيا..
رمى خطوة واحدة.. تسمرت قدماه.
ـ.. أ تفعلها يا نذل؟!.
غيّر اتجاهه.
ـ .. هيا يا روحي أرضِ ما تبقى ممن ضميرك المهترئ.. هيا.. ها هم يستظلون بفيء صخرة هرمة.
ـ... أحتطْ يا أحمق.. لا تلاصقهم.
ثبتَ على بعد مترين.. مرتجف الساقين.
ـ ها.. رفيق!..
حاصرته العيون المتعبة المتسائلة، جعلته يشحب تارة، ويحمر أخرى.. نذل.. نذل تجول في صمته المائر بالخجل والخشية:
ـ.. لستُ نذلاً.. لستُ.. لكنني عييت.. أُنهكتُ.
ـ أحمق.. أحمق.. أخزن لسانك.. أخزنْ.. جدْ لهم عذراً مختلفاً.
ـ أ تحتاج إلى خبز؟!
خذلته ساقاه.. كاد أن يتكوم على الأرض.
ـ ... ليتني يا أحبائي جئتكم بسبب ذلك..
ـ .. لا تكن غبياً.. هاهم وجدوا لك عذراً.. قلْ نعم!.
ـ .. لا.. لا.. لستُ كاذباً.. سأفصح عن عزمي.. سأخبـــــــ..
وبعسر بالغ نطق بالكلمة بصوت خافت مرتجف:
ـ سأسلم!..
ـ ..
نقر الصمت وجه الثلاثة. جحظت أعينهم، وترامقوا بجزع.
ـ.. بليد... بليد... فعلتها. خذ حذرك إذن.. أترى؟ لقد انخسفت قسماتهم.. أحتطْ.
رجع إلى الخلف خطوة أخرى، وأدخل إبهامه في تجويف الزناد.
ـ .. ها ندمت.. لو أخذت بنصيحتي وسلكت الوادي خفية.. لو..
حط عصفور على صخرة قريبة، وزقزق غير آبه بما يفور في نفوس الرجال الأربعة، تمالك يعقوب قواه وقال:
ـ ذلك حقك.. لكن..
ورفع يديه إلى رأسه عاصراً صدغيه بإبهامه وسبابته كمن يعاني صداعاً شديداً، ثم رشقه بنظرة عتب عبر نظارته الطبية البائسة، أردف وبصوته رجفة ذكرته بصوت أبيه:
ـ نحن الثلاثة لا نعرفُ طريق العودة.. أيقبل ضميرك؟!.
تصدعت نفسه.. خنقته عبرة.
ـ.. لست بلا ضمير.. لست.. لكن يا أبي.. لكن.
ابتلتْ أجفانه.
ـ .. أحذر.. أحذر.. أنهم يدركون نقاط ضعفك.. هاهم يلينون لك الكلام.. يداهنونك.. ثم سيمكرون بك!..
قال هوشيار:
ـ التسليم من هذا الموقع خيانة يا داود.
ـ .. ها .. ألم أقل لك؟.. فكر بهذه اللهجة.. ظاهرها تأنيب.. وباطنها تهديد!.
رمقهم بريبة.
قال صلاح:
ـ لو تعبّرنا يا داود شارع "سوراة توكه"
ـ .. أحذر.. فبعد التهديد المبطن.. هاهم يحاولون مسج شباكهم حولك حتى تطمئن.. تيقظ سينقضون عليك.
قال يعقوب برقة:
ـ سوف لا ننسى ذلك ما حيينا.
ـ.. لا.. لا.. لا تتوسلوا ليَّ، لا.. فأنا لستُ سوى حشرة.. أستأهل احتقاركم يا أحبتي.
قال صلاح:
ـ بعد العبور اذهب حيث تشاء.
ـ .. لست بلا ضمير.. نعم سأخاطر للمرة الأخيرة.. وأكون إنساناً.
ـ .. لا.. لا.. لا تفعل ذلك، قل لهم نعم وتسلل خفيةً!.
ـ .. لا.. لا.. سأكون نذلاً مرتين.
قال:
ـ سأعبِّركم.
رنا إلى وجوههم متفحصاً، فلاحظ سروراً مراً تراقص بثنايا تقاطيعهم المتخشبة، أردف:
ـ الحركة بعد غياب الشمس.
وأنسحب لائذاً بين صخرتيه، نظر إلى الشمس التي غطس نصفها خلف قمة بعيدة، نهرها قائلاً:
ـ أغربي يا سافلة.. أغربي.. حتى أنفض يدي من الأمر.
ـ.. أي انفضاض يا أحمق.. سيغدرون بك في الوقت المناسب.. وبالضبط بعد عبور الشارع.. فأنت سوف تنتقل إلى صف الأعداء منذ تلك اللحظة.. خذ حذرك..
ـ..لا.. لا.. الغدر ليس من شيمهم.
في عتمة الليل جدوا بالمسير. كان حذراً يجعل المسافة الفاصلة بينه وبينهم غير كافيه لمن تسول له نفسه أخذه على حين غرة. أطعمه يعقوب خبزاً حين جاع. سقاه صلاح ما تبقى من وشل زمزميته.
ـ .. يا لي من سافل.. يا لي.. يا أنبل الناس.. يا أجمل الناس.. يا أعزهم.. قلبي ضيق ليس كقلوبكم.. وروحي هشة ليست كأرواحكم الصلبة.. وأنت يا أيها المسن كم يشعرني خبزك بالعار..
ـ .. أصحَ.. لا تضف إلى حمقك غباءَ.. وتخلد إلى الطمأنينة.. أحذر.. ماداموا بحاجة إليك.. يصيرون بين يديك أيسر من الماء في مجرى وادٍ منحدر.
من بين ثلاث ربايا ومدرعتين عبروا الشارع المبلط.
ـ.. أحذر.. أحذر.. اللحظة الحاسمة حضرتك.. أنت الآن في صف الأعداء..
كان جبل كارا يشهق أمامهم كتلة هائلة من الدكنة، شعر بأنفاسهم الحارة تلفح ظهره وعنقه.
ـ.. أحذر.. ستخترقك الحراب!.
كاد يصرخ في قعر الليل الحالك الظلام.. و.. الحربة.. ستخترق لحمي.. ستـ.... خـ.. تـ..ر..قـ.. ني!.
وتلقفت ذراعان قويتان كتفه المتخشبة. لانَ على صدر يعقوب الدافئ، المعروق.. واحداً.. واحداً عانقوه بقوة هامسين:
ـ وداعاً.. سوف لا ننساك.
ابتعدوا خطوتين.. ثلاث..
ـ .. يا أحبائي... يا عزَّ نفسي.. يا رفاقي.. سـ.. يـ.. غيييييييييـ.. بو.........نَ.. سـ.. سـ..فـ...فـ دوامة دوارة... مدوخة هبطت به إلى عالم خاوٍ.. أخرسَ.. أجوف.. يا رب الليل..يا رب الجبل. وأنتزع نفسه بعناء منزلقاً من حافة الدوامة راكضاً في الظلام..