يكتب الباحث السوري هنا عن منطلق الإسلام السياسي، وأصوله، وعن الموقف من تسييس الإسلام لأغراض دنيوية لا علاقة لها بالدين الحنيف، وإنما تساهم بفعالية في تشوية صورته في الغرب خاصة، دون أن يخلي مسؤولية الغرب عن انتشار هذا التطرف وما يصاحبه من إسلاموفوبيا تصب في صالح اليمين الغربي.

«الإسلام السياسي» أم «تسييس الإسلام»

أفكار حول «التطرّف الإسلامي» ومواجهته

طارق عزيزة

 

يعدّ "التطرف الإسلامي" قضيّة مركّبة تتداخل فيها مجالات مختلفة، منها السياسي والاقتصادي والتاريخي، فضلاً عن الديني. وإذ لا يمكن نقاش ذلك كلّه في مقال واحد، لا بأس من إثارة بعض الأفكار التي قد تساعد في فهم المسألة وبحث الحلول.  من الضروري، بدايةً، التأكيد على التمييز بين المسلمين والإسلاميين. بديهي أنّ الإسلاميين جميعاً مسلمون، لكن المسلمين، في غالبيتهم، ليسوا إسلاميين. المسلمون هم من يدينون بدين الإسلام، أمّا الإسلاميّون فهم فئات محدودة من المسلمين، تعمل على تحويل الإسلام إلى أيديولوجيا سياسية، ومشروع للهيمنة والتسلّط باسم الدين. وظاهرة تسييس الدين لا تخصّ الإسلام وحده، فقد تظهر في شتى الأديان ما إن يجري استثمار إيمان الأفراد الديني سياسياً، والتاريخ الأوروبي نفسه يقدّم أمثلة عديدة عن صراعات امتزجت فيها الأيديولوجيات الدينية مع المصالح السياسية في حروب مذهبية، قبل انتصار الأفكار العلمانية والديمقراطية. هذا يدعم القول بالربط بين التطرّف وتسييس الدين.

يستثمر الإسلاميون في الدين بشتّى الوسائل لخدمة مشاريعهم السياسية، وليس بالضرورة أن يكون للدين صلة بها حقاً، بل يمكن القول، الإسلام نفسه (كدين) هو الأكثر تضرّراً بسبب خطاب الإسلاميين وسلوكهم. لذا يجد المسلمون أنفسهم اليوم في موقف حرِجٍ لا يُحسدون عليه؛ لأن تطرّف الإسلاميين، والإرهاب الذي تمارسه بعض منظّماتهم، وحضورهم بقوّة في وسائل الإعلام المختلفة، جعل من السهل أن يقترن الإسلام في أذهان الكثيرين حول العالم بالإسلاميين المتطرفين، وإلباسه صورتهم، بالرغم من حقيقة مؤكّدة إحصائياً، تقول بأن الإسلاميين المتطرفين لا يشكّلون سوى نسبة محدودة العدد، وسط أكثر من مليار مسلم، متنوعي الأفكار والتوجّهات، يعيشون في أنحاء العالم. ومما يؤكّد ذلك، الأرقام التي يتداولها الإعلام الألماني مثلاً، عن أعداد الإسلاميين المصنّفين خطرين ويخضعون للمراقبة من قبل "هيئة حماية الدستور"، فهم قلّة بين ملايين المسلمين الذين يعيشون في ألمانيا.

الشيعة و«الإسلام السياسي»:
من اللافت أنّ معظم ما كُتِب ويُكتَب حول "الإسلام السياسي" و"التطرف" و"الإرهاب"، يتناول الظاهرة وتعبيراتها في الإطار السنّي فحسب، مثل "جماعة "الإخوان المسلمين" بفروعها ومسمياتها المختلفة، ومنظمات "الجهاد العالمي" من "القاعدة" إلى تنظيم "الدولة الإسلامية"، انطلاقاً من دوافع سياسية وأيديولوجية وطائفية، تتجاهل الوقائع والمعطيات. لكنّ الشيعة ليسوا خارج لوثة التطرف المذهبي، ولهم في تسييس الدين دور تاريخي بارز تجدر الإضاءة عليه.

تخلو بدايات الإسلام من الانشطار المذهبي إلى "شيعة" و"سنّة". كان هناك مسلمون فقط، وانقسامهم اللاحق إلى "سنّة" و"شيعة" شأنٌ بشريٌّ خالص، من صنع الصراعات السياسية داخل الجماعة الإسلامية الوليدة، فهو تقسيم طارئ على دين المسلمين، ومفارقٌ لما كان عليه نبيّهم محمد، فهو لم يكن شيعياً ولا سنياً. ويرتبط ظهور الشيعة بالخلاف على السلطة في "الدولة الإسلامية" الناشئة. البعض يُرجع أصل الشيعة إلى الأيام التي تلت وفاة النبي محمد مباشرة، حين امتنعَ "شيعةُ عليّ"، أي جماعته، عن مبايعةِ أبي بكر للخلافة. ويؤرّخ آخرون لبداية التشيّع في فترة خلافة عثمان، على أرضية نزاع دموي شكّل أولى بذور الانشقاقات في الإسلام. وبحسب رأي ثالث، بدأ التشيّع بعد معركةِ كربلاء، حيث كان مقتل الحسين بن علي نقطةَ تحوّل عند أنصاره، ليعيدوا تنظيمَ صفوفهم ويصبحوا قوّة المعارضة الرئيسية ضدّ الحكم الأموي، بالأساليب السياسية وبالسلاح.

الانقسام الإسلامي دنيوي وليس ديني:

هذه الآراء في أصل التشيع تؤكد أنّ جذر الانقسام المذهبي الكبير في الإسلام بلا أساس دينيّ حقيقي، وإنما يقوم على موقف سياسيّ من مسألة الخلافة. ولتأكيد صحّة اصطفافه السياسي، عمد كلّ فريق إلى تغليف موقفه بطابع ديني، من خلال تأويل النصوص ووضع الأحاديث واختلاق الروايات، ومع الوقت، واستفحال التوظيف السياسي للدين عند الفريقين، تعمّقت الخلافات وتحولّ كل منهما إلى مذهب متكامل له مدارسه وعلومه الفقهية. كان الشيعة سبّاقين في موقع المعارضة السياسيّة والعمل الديني المنظّم لأغراض سياسية، وقد اعتمد أئمّتهم على وكلاء يمثّلونهم ويقومون بمهامّ التعبئة السياسيّة.

أمّا "التّقية" التي يمارسها الشيعة، فهي من أولى وسائل العمل السياسيِّ المعارض السرّيّ في الإسلام، وكانت أسلوبًا فعّالاً في مواجهة بطشِ السلطات التي عارضوها، من أمويين وعباسيين وسواهم. بالتالي، يعدّ المذهب الشيعيّ، كحالة سياسية اعتراضية غلّفت دعوتها السياسية بطابع ديني، من التجارب الأولى لتسييسِ الدين وتديينِ السياسة في الإسلام، إن لم يكن أولها حقاً، وهو أمر ترسّخ ليصبح من صميم عقيدة الشيعة وممارساتهم. وعلى هذا تدور نظريّة "الإمامة" و"الولي الفقيه" أو "نائب الإمام الغائب"، بعدما جعلها بعض فقهائهم جزءاً من الإيمان، وقد تصلّبت وزاد انتشارها منذ أسّس الخميني نظامه المسمّى "الجمهورية الإسلامية" في إيران، على أنقاض الثورة الشعبية التي أطاحت بالشاه سنة 1979، ملهماً الإسلاميين حول العالم.

واليوم تنشط عشرات منظمات "الإسلام السياسي" الشيعية، ومنها ميليشيات عسكرية/ طائفية ترعاها إيران، لا تختلف في تطرّفها عن مثيلاتها السنيّة، تمارس التكفير والتفجير والإرهاب بفتاوى جاهزة. ولم يعد "الجهاد العالمي"، حكراً على المتطرّفين السنّة، فالميليشيات الشيعية متعددة الجنسيات "تجاهد" من دولة لأخرى وفق توجيهات "الولي الفقيه".

مواجهة الإسلاميين لا المسلمين:
بالعودة إلى ما تقدّم بشأن التمييز بين المسلمين والإسلاميين، فإنّ عملية مواجهة التطرّف الإسلامي ليست ضدّ المسلمين ودينهم، وإنما تستهدف خطاباً متطرّفاً ينتجه الإسلاميون، ويسعون إلى نشره وتكريسه بين المسلمين، مستندين إلى قراءات انتقائية من التراث الإسلامي، ومستغلين الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها المسلمون في بلدانهم الأصلية، وفي البلدان المضيفة بالنسبة للاجئين والمهاجرين. ومواجهة التطرف والإرهاب لا تكون من خلال المقاربات الأمنية والعسكرية فقط، فالاقتصار عليها يعمّق المشكلة، إذ يستغلّ المتطرّفون ذلك لتصوير أنفسهم كضحايا، وجذب "تعاطف" المسلمين، كما أن هذا النهج يتعامل مع النتائج دون الأسباب. ومن ثمّ، لا جدوى من القضاء على الشبكات المتطرفة دون التعامل مع الأسباب السياسية والاقتصادية التي ساهمت في ظهورها وانتشارها، ونجاحها في استقطاب شباب المسلمين.

وبما أنّ الإسلاميين المتطرّفين ينتقون من التراث والفقه الإسلامي نصوصاً وتفاسير مختارة، تحمل مضامين تحضّ على الكراهية واحتقار "الآخر" المختلف وتكفيره، ويعملون على إقناع المسلمين المؤمنين بأنّ هذا هو "الإسلام الصحيح"، فيجب عدم تركهم يحتكرون وحدهم الخطاب الديني ويقدّمونه بالصورة التي يريدونها. لذا ينبغي دعم جهود الباحثين المسلمين التنويريين لإجراء مراجعات جدّية لنصوص الإسلام وتفاسيرها، مما قد يساعد في التأسيس لإصلاح ديني شامل، بات المسلمون في أمسّ الحاجة له، ومن شأن ذلك التقليل من تأثير الآراء المتطرّفة التي يروّجها الإسلاميون، ويضفون عليها هالة من القداسة لتحصينها ضدّ النقد وجعلها هي "الدين"، في حين أنها اجتهادات بشرية ظهرت ضمن سياق تاريخي وسياسي محدد.

«تسييس الإسلام» .. تشويه للدين وعبث بمقاصده:
يبقى أنّ التطرّف يتغذّى على التطرف المضاد، لذلك تتطلّب مواجهة التطرف الإسلامي على الصعيد الأوروبي مواجهة التيارات اليمينية الشعبوية المتطرّفة، فهي تبرّر تطرّفها القومي وعنصريّتها تجاه اللاجئين والمهاجرين، وخصوصاً المسلمين، عبر ربط الإسلام بالتطرّف والإرهاب والنظر إلى كل مسلم بوصفه "إرهابي" محتمل. فاليمينيون المتطرفون يكرّسون ظاهرة الخوف الجماعي من الإسلام والمسلمين في الغرب (الإسلاموفوبيا)، مما يخدم الإسلاميين المتطرّفين الحقيقيين؛ لأن خطاباً كهذا يدفع بالمسلمين إلى التطرّف، نتيجة ما يولّده من إحباط وغضب ناجم عن شعورهم أنهم مرفوضون، منبوذون، ومتّهمون. هذا يجعلهم هدفاً سهلاً للشبكات الإسلامية المتطرفة، التي ستعمل على تجنيدهم مستغلّة غضبهم وإحباطهم. وللحد من الإسلاموفوبيا، ينبغي الكفّ عن تبنّي صور نمطية ومقولات مغلوطة، تجعل من بروباغندا الإسلاميين واليمين المتطرّف وكأنها هي "الإسلام. عوضاً عن ذلك، يجب التعرّف على الوجوه المختلفة للإسلام والتنوّع الكبير في أوساط المسلمين، وتمييزهم عن الإسلاميين. أليست مفارقة عجيبة أنّ يشترك الإسلاميون ومن يفترض أنّهم خصومهم من اليمين المتطرف في الدعاية ذاتها، ثمّ يتذرّع كل منهما بالآخر لتأكيد وجهة نظره واستقطاب المناصرين!

إنّ التطرّف الإسلامي ليس مسؤولية المسلمين وحدهم، فالشراكة الغربية مع الأنظمة المستبدة في "العالم الإسلامي"، وهي مستمرة حتى اللحظة، وكذلك سياسات الغرب تجاه قضايا المنطقة المزمنة، سواء في الأراضي الفلسطينية أو في سوريا، كلّها عوامل ساهمت في نمو التطرّف. والجميع يتذكر "شهر العسل" الغربي مع المقاتلين الإسلاميين خلال ثمانينيات القرن الماضي، حين قدّمت "الديمقراطيات الغربية" مختلف أشكال الدعم لأشدّ الإسلاميين تطرّفاً للقتال ضدّ "الاتحاد السوفييتي" و"الشيوعية الكافرة" في أفغانستان، مما ساهم في ظهور وانتشار التطرّف والإرهاب. وبمثل ما لم يكن المسلمون وحدهم مسؤولين عن التطرّف وصعود الإسلاميين، فإنّ مواجهة المشكلة ليست مهمّتهم وحدهم، والمصلحة المتأتية عنها لا تقتصر على المسلمين، بل تشمل الأوروبيين أيضاً، سواء لدورهم في نشوء المشكلة أو لأنّها تمسّهم وأصبحت شأناً داخلياً ضمن مجتمعاتهم، في عالم يزداد مصيره تشابكاً.

 

الكاتب: طارق عزيزة

حقوق النشر: قنطرة 2022

طارق عزيزة كاتب وباحث سوري صدر له حديثا كتاب "الثقب الأسود: أوراق من ملفات الإسلاميين في الثورة السورية"، الذي يسلط الضوء فيه على موقع الإسلاميين ودورهم في الثورة السورية.  

 

عن موقع قنطرة