تستقصى الرواية ظروف وأحوال أبطالها الثلاثة بالأساس خلال سنواتٍ ثلاث سبقت هزيمة 67، وترسم صورة غير مشرقة للفرد وللمجتمع وللنظام معا، وتربط بذكاء بين انكسار الشخصيات، وانكسار الوطن. إنها بامتياز صورة تحت الراية المهزومة، ووجهة نظر ترى في الكارثة العسكرية نهاية منطقية لفشلٍ سابق واضح للعيان.

«قبل النكسة بيوم».. صورة تحت الراية المهزومة!

محمود عبد الشكور

 

إذا كانت أغنية عبدالحليم الشهيرة «صورة» حاضرة على صفحات هذه الرواية المهمة، فإنه يصح أن نقول إن النصَ يفعل عكس ما روجت له الأغنية، والتى افترضت التقاط صورة جماعية لشعبٍ سعيد، أسفل راية منصورة، فى مجتمعٍ اشتراكى عفى، يؤدى كل من فيه واجبهم، وفى القلب الزعيم والقائد، يسعى إليه النصر، ويسير معه المجد حيث يسير.

روايتنا «قبل النكسة بيوم»، الصادرة عن دار الشروق، لمؤلفها د. إيمان يحيى، هى نقيض هذه الصورة المثالية، لأنها تستقصى ظروف وأحوال أبطالها الثلاثة بالأساس خلال سنواتٍ ثلاث سبقت هزيمة 67، وترسم صورة غير مشرقة للفرد وللمجتمع وللنظام معا، وتربط بذكاء بين انكسار الشخصيات، وانكسار الوطن.

إنها بامتياز صورة تحت الراية المهزومة، ووجهة نظر ترى فى الكارثة العسكرية نهاية منطقية لفشلٍ سابق واضح للعيان، بل ترى أن التجربة الناصرية، قد وصلت إلى طريقٍ مسدود بعد 15 عاما من ثورة 1952، وأن الثورة قد التهمت أيضا أبناءَها، ومن قامت من أجلهم، وهو معنى نجده حاضرا فى أعمالٍ أدبية كثيرة، ذروتها رواية «الكرنك» لنجيب محفوظ.

إيمان يحيى أراد إذن أن يقدم شهادة روائية قوية ومؤثرة عن أسباب الانهيار قبل وقوعه، ونجح فى ذلك إلى حدٍ كبير، لأن السياسى يمتزج فى النص مع الاجتماعى، والفردى يمتزج مع العام، على نحوٍ يجعل من الصعب أن يتحقق انتصار على أى مستوى، وبطريقةٍ تجعل هزيمة وانكسار أبطال الرواية (كريمة عثمان، وحمزة النادى، وعبدالمعطى سلام)، إرهاصا بهزيمة 67، بل إن هزيمة هؤلاء، وصدمتهم فى الثورة والنظام والشعارات، تسبق الكارثة، بحيث يبدو من المستحيل، مثلما ذكرتُ فى تحليل رواية «67» لصنع الله إبراهيم، أن تصنع وطنا منتصرا، من أفراد منهزمين ومهانين.

ولكن «قبل النكسة بيوم» تتعاطف مع الجيل وأفراده، فتستدعيهم من جديد فى لحظة أخرى فارقة، وهى لحظة ثورة جيل الأحفاد على عصر مبارك البائس، الأبطال الثلاثة غادرهم الشباب، ولكن لم تغادرهم الذاكرة، واللحظة الجديدة الملتبسة تستدعى الماضى بأكمله، والنهاية تفتح بابا لبعض الأمل، ولقليلٍ من العزاء، بالذات بالنسبة لكريمة، أكثر شخصيات الرواية قوة وصمودا، وكأنها تعوِضها عن بعض المعاناة.

بناء الرواية على قاعدة تبادل أصوات الأبطال الثلاثة لسردِ ما حدث، مع وجود فواصل تجمع بين التوثيق والتعليق، تستكمل خلق الجو، وتظلِل خلفية الصورة، وظهور شخصيات حقيقية فى النص؛ مثل سيد حجاب، والأبنودى، وسيد خميس، وعطيات الأبنودى، والسيدة إيفلين، وحيوية التفاصيل، والتقاطع بين تناقضات ظروف الشخصيات، وتناقضات النظام نفسه، وتناقضات خطابات عبدالناصر، كل ذلك منح الرواية سلاح الرؤية بالعمق، وجعل الفشل متعدد المستويات، وليس مجرد هزيمة عسكرية فقط.

الثورة بعد 15 عاما لم تستطع أن تذيب الفوارق، والتنظيم السياسى الأوحد (الاتحاد الاشتراكى) بدا كخليطٍ غير متجانس، تنبثق منه تنظيماتٌ سرية، مثل طليعة الاشتراكيين، الدولة البوليسية فى عنفوانها، والقيادة العسكرية قوة موازية، والزعيم يتعرض لضغوط اقتصادية، وحرب اليمن تستنزف النظام، والشعارات والأغنيات جميلة، ولكنها لا تحل مشكلة، ولا تكسب حربا، ولا تنقذ بريئا يعذبونه فى سجن القلعة.

كريمة ابنة البواب، المكافحة للحصول على شهادة عليا، والمنضمة إلى منظمة الشباب، لن تستطيع أن تتزوج من حمزة، الاشتراكى ابن الطبقة الوسطى، لأن العقول لم تتغير. النظام سيعتقل حمزة، وسيعتقل الصحفى عبدالمعطى، الأول ثورى، والثانى لم يكن معارضا، ولكن الاستبداد أعمى. وانتقال حمزة بعد تركه مصر للعمل فى أمريكا الرأسمالية، ووصول عبدالمعطى إلى رئاسة مكتب صحيفة خليجية بالقاهرة، تحولات دالة على تغير الزمن، وعلى سطوة الظروف.

ربما لم تكن الفواصل كلها على نفس القدر من التوظيف الفنى الجيد، وربما احتاج الأمر إلى ذكر اسم كل شخصية قبل صوتها، حتى لا تلتبس الأمور، وربما كانت شخصية الصيرفى، فى حاجة إلى مزيد من التفاصيل، وإلى مزيدٍ من الحضور فى سرد الماضى، ولكن الرواية تحقق تأثيرا قويا بنقل أجواء تلك الفترة، وبتجسيد فكرة التناقض بين الحلم والواقع، وبتحليلها لمعنى تشوش الرؤية، وسيطرة التلفيق فى المجال الاقتصادى، وبتصوير القوة الباطشة للدولة البوليسية، وبتجسيم هشاشة الفرد، فى زمن التقارير والخوف.
كانت المشكلة إذن فى وصول التجربة إلى لحظةٍ تنبئ بكارثةٍ كاملة، مسألة وقت ليس إلا قبل أن تغرق السفينة، بينما كل ما يحدث فيها، وكل علاقات القوى بين من يقودونها، وكل أحوال الركاب، تؤشر إلى فوضى وتشوُش، وتظهر خللا فادحا لا ينفع فيه رتق أو تلصيم، وبينما يحلِق الحلم فى السماء، فإن الواقع يشد الجميع إلى السقوط.

هناك حالة من المفارقات العبثية الضمنية تسرى فى الرواية: فأسرة البواب هى التى ترفض ابن الطبقة الوسطى، وقائد الجيش وزعيمه مهتمان بمصير الأهلى والزمالك، والأجهزة تراقب بعضها، وجهاز سرى ينشأ من قلب الاتحاد الاشتراكى العلنى، الأسعار منخفضة، ولكن السلع محدودة فى الجمعية، النظام اشتراكى، ولكنه يطارد الشيوعيين، النظام قومى، ولكن علاقته بحركة القوميين العرب غريبة ومتقلبة، إنه أيضا زمن الأيديولوجية الصارخة، والمواقف الحدية، كل شىء أو لا شىء، زمن الأحلام العارمة، والكوابيس المروعة، والأكاذيب الخادعة.

لا يستثنى النص الزعيم من المسئولية، نراه حاضرا فى الاجتماعات، وفى الأغنيات، وحتى فى موقف تعذيب حمزة ابن الثورة، وهو، مثل شخصيات الرواية، بطل تراجيدى، يخطئ التقدير، فيدفع الثمن، هو وكل من حوله. قد يكون من الأوفق أن يكون عنوان الرواية «قبل الكارثة بيوم»، لأن مصطلح «النكسة» كاذب ومضلل أيضا، إلا لو كان المقصود السخرية، ومواصلة لعبة العبث إلى نهايتها، ولكن معنى الرحلة ودرسها المؤلم، وصلا بشكلٍ كامل. تتفكك كل علاقات الحب، ولكن يبقى الحلم والأمل، وتبقى شخصيات وتضحيات وبراءة هذا الجيل، جديرة بالتحية والتمجيد.

 

الشروق المصرية