ليس الوطن إلا مجموع أفراده، ومن فيض الحب الفردى، الحب الإنسانى، ينبع حب الوطن، حب المعنى. فيكشف الكاتب عن تلك المشاعر المتدفقة، والسارية بين الفرد والوطن، بلغة شاعرة، نابضة بكل ما تزخر به "قصيدة النثر" من صور وكنايات، وإيحاءات.

أثر المحبة

محمد صالح البحر

 

خرجتُ من جسدي قبل أن يدخل الحوش القديم، فقد بدا بلا أمل في النجاة على الإطلاق، لدرجة أنني شعرت باختناق غريب ومفاجئ، انعدمتْ بداخله كل رغبة في الحياة، وإن بدتْ صغيرة أو بلا فائدة، حتى أن كل الصلات التي كانت تربطني به منذ برهة وجيزة قد يبستْ وتكلستْ، أصابها ذبول غريب، بدا واضحًا أنه تكون على مهلٍ، وتوغل بتؤدة، حتى صار جبلًا عاليًا من الخيبات التي تراكمتْ فوق بعضها مع السنين، ثم انتشر كسرطان غاشم ليتربع على ساحة الجسد كلها، حتى أحسست أنني غريبة عنه، أنني لم أعد أنتمي إلى هذا المكان، وأن موعد مفارقتي له بات وشيكًا، ورهينًا للوقوع المحقق في أية لحظة، هكذا جريتُ مسرعة لأجمع أطرافي المتناثرة في ثنايا الجسد، لم يكن يهمني التعرف عليها في هذه اللحظة، وقد صارتْ كيانًا واحدًا ومتسقًا، ولا انتبهت إلى ذلك الشعور الخفي الذي بدأ يتملكني للإحساس بالذات، بل تكورت على نفسي كأنما أحميها من مجهول أكبر، ولا قِبَلَ لي به، ومع الاهتزازات العنيفة التي راحتْ تمرجح جسد يوسف في كل الاتجاهات إثر سقوطه في براثن الموت، وجدتني أتدحرج بلا إرادة لأستقر في نهاية الأمر قريبًا من أنفه، وبلا إرادة أيضًا وجدتني أجلس باستعداد كامل في انتظار تلك اليد الملائكية التي تجسّدتْ فجأة من المجهول البعيد، وراحتْ تمتد نحوي، فانتابني إحساسٌ عارمٌ أنها مَنْ ستنتشلني من هنا عما قريب.

مع هروبي المفاجئ بدا يوسف مترنحًا في خطواته باتجاه الحوش القديم، كان يهرب بغيبوبة شبه كاملة من مجهول يترصّده في الوراء الموغل في الظلمة والخوف، وبلا ذنب كان يشعر بخطره القريب، وثقله الجاثم، وقدرته على اللحاق به في الموعد الذي استشعره من قبل بيقين كامل، وفي ذات المكان الذي أحسَّ أنه سيكون آخر ما تراه عيناه قبل أن تنغلقا إلى الأبد، لذلك لم يكن يريد الدخول إلى الحوش القديم تحديدًا، وتحاشى ذلك بكل ما بقي له من وعي في دروب الخوف، والظلام المقبض، والجري اللاهث بلا غاية سوى الهروب، لكنه أحسّ بشيء ما يسيره إليه بقوة، وربما بعمد، كأنما يسير إلى مصير معلوم، ومُعد له سلفًا، فأسلم نفسه له طواعية، غير عابئ بالظلام الذي بدا مثل وحلٍ كثيفٍ يعيق تقدمه المرتجف، أو بخطر الوقوع في الساقية التي تتوسط أرض الحوش، أو حتى بالأصوات المفزعة التي تنقذف من الزروع المحيطة، ومن الجبل البعيد العالي من خلفها، ويختلط فيها عواء الذئاب بنباح الكلاب ونقيق الضفادع، في إيقاع مدوي وصاخب وقادر على زرع الخوف والفزع.

وقف يوسف على بُعد خطوة واحدة من سور الساقية الواطئ المتهدم، ولسبب ما أحسّ بدبيب الحياة يعود إليه مرة أخرى، أن الغيبوبة تتلاشى رويدًا من رأسه وتذوب في الظلام الممتد من فوقه، وأنه يتذكر الآن بوضوح كامل، خوف أبيه الدائم من المجهول، فيعرف أن ليس عليه أن يسير في ذات الطريق التي رسمها له من قبل، أن عليه أن يواجه لحظته بيقين وشفافية لطالما تمسك بأذيالهما المهترئة، وجعلهما مكان عينيه، وأن المجهول ليس سوى تلك البذور الصغيرة التي نخبئها بدواخلنا مع كل قلق يعتري خطواتنا في الحياة، ثم نراكم عليها جبالا من التيه والنسيان، متناسين قدرة الزمن على رَيِّها، والنفخ فيها من روحه، مع كل خوف جديد يأتي من بعد، تحسس يوسف كفه كأنما يتذكر شيئًا ما فجأة، فلما وجدها تقبض على بذرته لا تزال، وأنها لم تقع من بين أصابعه رغم جريه المحموم، مرَّر عينيه في ظلام المكان كأنما ليلقي عليه نظرته الأخيرة، وعندما أصابته الرصاصة سقط دفعة واحدة، فقد كانت الرصاصة قريبة جدًا، وسريعة جدًا، مما أتاح لها قدرًا هائلًا من القوة، والقدرة على النفاذ، ورغم العتمة بدتْ وكأنها تعرف طريقها جيدا إلى قلبه، فثقبته تماما، وخرجتْ من الجهة الأخرى في سهولة ويُسر، حتى أن يوسف لم يشعر بشيء مرعب، أو قادر على زرع الخوف بداخله، بل حُرقة طفيفة على سطح الصدر في موضع الاختراق، ثم برودة شديدة وثقيلة ولاذعة بدأتْ في الخروج من الجهة الأخرى، آخذة معها القلب، وبعضًا من الدماء التي تناثرتْ من ورائها كأنما لتودعها، أو تشكرها على زيارتها الخاطفة، غير المحسوسة.

سقط يوسف بصمت، فقد بدا الصمت له مثل حائط صد أخير يحمي به نفسه من وجع الرصاصة، ويَصُمُّ به أذنيه من صخبها المفرط في حقده وقوته، ثم بدا له الصمت أخيرا مثل درع واقٍ يرميه في وجوه الذين قذفوا رصاصتهم من المجهول المعتم من خلفه، كآخر دفاعاته التي يواجه بها اختباءهم من حوله، بعدما عجز دبيب أقدامهم الحذرة، وظلمة الحوش القديم المهجور، وتسللهم في الليل، وحقدهم الموغل في صدورهم، وأصواتهم المكتومة على الوعيد والسُباب ــ عن أن تزرع الخوف بداخله، وتدفعه إلى مزيد من الهرب.

ولماذا يخاف؟!

لقد كان فرحًا بعزلته حتى هذه اللحظة التي باغتته فيها قسوتهم، وكانت يداه خاليتين من أي سلاح يمكن أن يواجههم به، وربما ارتسمت على شفتيه ما يشبه الابتسامة الساخرة وهو يتذكر لوهلة خاطفة أنه لا يجيد استخدام المسدس من الأساس، ولا يعرف كيف تخرج الرصاصة منه، وعلى أية حال فقد كان المسدس سيحتل جزءا من تفكيره، وربما كان كفيلا بأن يزرع الخوف بداخله لا أكثر، أما الأهم من ذلك كله، فإنه ابتسم لنفسه كثيرا وهو يراها لا تريد شيئا منهم كي تقاتلهم عليه، وأنه لو قُدِّر له النظر إلى أعماق قلبه الآن ـ ولو من خلال الثقب العميق الذي أحدثته رصاصتهم به ـ لربما رأى محبته لهم، لا تزال تجلس هناك في ركنها الأثير الثابت، وبعيدا جدا عن شلال الدم الذي صنعوه.

كنت أحاول جاهدة التعرف على نفسي، شعوري العميق بأنني على وشك الانفصال عن يوسف، وشعوري الأعمق بكل ما يحدث له، وكأنني أتصل به، أو أكمن فيه، وكيف يمكنني رؤية كل شيء من مكاني الداخلي هذا، غير أن ترنّح جسده العنيف والمباغت كرد فعل لقوة اصطدام الرصاصة به، شغلني، ولم يدع لي مجالا سوى أن أتابع ما يجري وكأن الخطر يلحق بي أيضًا، تطوّح يوسف للوراء دون أن تتحرك قدماه من مكانهما، ومع خروج الرصاصة من الجهة الأخرى بدا وكأن توازنه يعود إليه، فاستقام واقفا كما كان، وفيما راحت عيناه تجوسان كل أركان الحوش القديم المهجور، وتحاولان اختراق الظلام بحثا عن مصدر انطلاق الرصاصة، راح جسده يتلذذ بالبرودة المفاجئة التي احتلتْ الثقب بكامل تجويفه، وبدأتْ رحلة سريانها إلى داخله بتؤدة ويسر، غير أن ثقلًا شديدًا بدأ في التكون فجأة، وراحتْ وطأته تزيد من ثقلها كلما مرتْ البرودة بجزء من جسده، ولم يستطع يوسف أن يحدد إذا ما كان هذا الشيء الذي نبت بداخله بغتة، هو الذي يطارد البرودة، أم أن البرودة هي التي تخلفه من ورائها في رحلة انتقالها من مكان إلى آخر، لكن يوسف ظل يقاومه، وجاهد كثيرا لكي يظل جسده منتصبًا في وقوفه، حتى احتل الثقل نصفه العلوي تمامًا، فأحسّ بضغطه الجاثم، ولم تعد قدماه بقادرتين على حمله لأكثر من ذلك.

   سقط يوسف على ركبتيه دفعة واحدة، ولعل ذلك ما جعله يشعر بذلك الألم المفرط الذي زلزل كيانه كله، وبغض النظر عن إحساسه بتهشم عظام الركبتين كنتيجة طبيعية لضغط نصفه العلوي على مفصليّ الحوض وعظام الفخذين، إلا أن إحساسه بتحطم الكيان الثلجي بداخله، وانفجاره الوشيك في نصفه العلوي كله، هو ما سبَّبَ الألم الأكبر، والأكثر من قدرته على الاحتمال، وبقدر ما ساعد على سرعة تدفق الدم مرة أخرى من خلال تقب الرصاصة العميق، والنافذ، والذي اضطره إلى وضع كفيه على مقدمته في محاولة بائسة وعقيمة للحد من تدفقه، بقدر ما دفع الدم إلى رأسه بقوة، حتى شعر يوسف أن رأسه يفور ذلك الفوران المكتوم على الغيظ، والذي يسبق الانفجار بوهلة وجيزة، فراحت عيناه تزوغان من فرط ألمه الحاد، وبدأ جسده كله يترنح في ركوعه الاضطراري على ركيتيه، حتى أنه فقد القدرة على الإحساس بأي ألم آخر من شأنه أن يأتي من بعد، وبدا له وقوع جسده وتمدده الكامل على الأرض بلا إرادة، أمرًا محايدًا يشاهده عن بُعد، من مكان بعيد وغائم وبلا هوية محددة، تماما مثلما أفعل أنا الآن.

وقع يوسف على وجهه، والدم الذي كان يسيل على ظهره وصدره بالتساوي، بدأ الآن في التجمع من تحته، وبدا يوسف عاجزًا عن كبح جماح تدفقه، أو ايقاف قدرته الجديدة على صنع تلك البركة اللزجة، التي تزحف ببطء وسخونة مثل بركان كاسح لتصبغ جسده كله من فوقها، وتفيض على جانبيه كأنما توفر مساحة مناسبة لبقية الدم الذي لا يكل عن التدفق، وكأنها تمتلك قوة جاذبة وقادرة على سحبه من داخل الجسد حتى آخر قطرة، وهو ما حدث بالفعل، فقد كان يوسف يشعر بخروج الدم على هيئة ثقل مرعب يملأ الأماكن التي يتركها الدم أولًا بأول، ومع خروج القطرة الأخيرة بدا جسده على قدر عظيم من الثقل، لم يعهده بنفسه من قبل، فقد عجز تمامًا عن تحريك جفنيه، وكان يرغب بقوة في إغماضهما بعدما عجز عن سد أنفه بأصابعه، لمقاومة رائحة الدم الثقيلة، ولزوجته التي تزكمه إلى حد الضيق والاختناق.

البرودة الآن تصيب جسد يوسف من أسفل، يشعر بها في قدميه، ويشعر بقدميه أكثر ثقلًا من الفراغ الذي كان يسببه انسحاب الدم، وأحس أن لها قدرة على الحركة مثل طيف ينسل بخفة من القدمين إلى الساقين إلى الفخذين، ثم يجتاح جذعه كله انتهاءً بالرأس، وكان مع كل اجتياح لعضو من جسده يترك فيه من خلفه سكونًا قاتلًا، وغبيًا، ولا يعرف طريقًا إلا إلى الموت، حتى استقر إلى جواري قريبًا من محيط الأنف، وبلا إرادة وجد نفسه يجلس باستعداد كامل، في انتظار يد ما تسحبه إلى الخارج، بدا طيف البرودة الخفيف يشبهني تمامًا، لكنه لا يرتاح إلى السكون الذي يلفني، لم تكن مراقبة الأمور ـ انتظارًا لما يمكن أن تُسفر عنه من أحداث ـ تعنيه في شيء، وكأن قدومه من المجهول إلى ههنا، ويقينه الثابت بمجيء اليد الملائكية القادرة على الخلاص، أمر لا مفر منه، بدا الطيف على عكس ما أنا فيه تمامًا، وكأنه يعرف نفسه ومهمته، وسبب خروجه من البراح العظيم للجسد إلى ههنا، حيث الضيق وانتظار المجهول، لم يأبه لوجودي أو مراقبتي له، لكنه أحاطني بنظرة محايدة كأنما ليطمئنني، وربما ارتسم على شفتيه ما يشبه الابتسامة قبل أن يبدأ في إعاقة دفقات الهواء الواهنة، التي كانت تدخل وتخرج من جسد يوسف بصعوبة بالغة، وكأنه يريد استكمال عمل الرصاصة، والوصول إلى الموت.

   لقد كان طيفًا خفيفًا وحقيقيًا يسكن جسد يوسف، شعرَ به كما لم يشعر بي، وأحسه يستدير في مساحة الأنف كأنما ليلقي نظرته الأخيرة على الجسد الذي احتواه واحتمله طويلًا، ورغم قسوته البادية استطعتُ أن أرى دمعتين رقيقتين تقاومان القفز من عينيه، وكأنه يتمنّى في لحظته الأخيرة هذه لو أنه كان ضيفًا خفيفًا، وعلى قدر براءة الجسد الذي سكنه لخمس وثلاثين سنة، ومع نزول الدمعتين وامتلاء ساحة الأنف بهما بدا الطيف وكأنه يحدق إلى شيء ما في الخارج المجهول، شيء جلل وعظيم ومهول وبالكاد يستبين معالمه من خلف سُحُب بيضاء داكنة تفرش ظلالها على المكان، وتضيق من نظرته إلى أقصى مدى، التف من خلفي مثل قوة لا طاقة لي بها، أو عملاق لا حد لطوله الفاره الذي سد ساحة الأنف كلها فتوقفتْ دفقات الهواء في جسد يوسف، ثم استدار مرة أخرى ليقف في مواجهة فراغ عظيم وهائل، هناك عند طرفيّ الأنف البعيدين مثل امتداد داخلي لناي لا يكف عن بث الحزن، واللذين يحدد استدارتهما الرقيقة قليل من الضوء الباهت الذي بدأ يشع بخوفٍ وسرعة في المكان، وعندما كانت زفرة هواء واهنة تستعد للخروج من جسد يوسف ترك الطيف نفسه لها، فاندفع خارجًا من الجسد بتؤدة ويسر، لكنهما ممتلئان بالعزيمة والإصرار على الخروج، وكأنه كان يعرف أنها زفرة يوسف الأخيرة التي ستشكل خروجه من جسده، وخروج يوسف الأبدي من الحياة، وبالفعل لم يستطع يوسف التنفس بعد ذلك، سقط رأسه في ثقل لا متناه، وتمدد خيط من الزبد الأبيض الداكن أمام إحدى فتحتيّ أنفه، فعرفتُ أنه الموت.

أما أنا فقد انقذفتُ خارجة مع الطيف، كانت انسيابية ما قد ربطتني به عندما التفَ من خلفي، فتسرّبتُ معه بهدوء غريب، لكن الأمر الذي بدا لي أكثر غرابة ووعورة ـ وبالكاد استطعت أن أتوافق معه ـ أنني شعرت وكأني أخرج من جسدي أيضًا، كأن الصلات المجهولة التي كانت تربطني بيوسف في الداخل قد عادت مرة أخرى، كأنني قد عشت معه عمره كله، أو أنني بشكلٍ ما صورة له أو منه، حتى وإن بدتْ منفصلة، أو محايدة، أو تنظر من بعيد، وتغلفها الحياة التي تركتْ يوسف طريح الأرض، وغارقا في الدم والظلام، وها أنا ذا بعد أن ذاب الطيف من حولي، وتلاشى سريعًا في الأعلى بمجرد خروجه من الجسد، وبعدما امتزج زفير يوسف الأخير في هواء الدنيا، وأصبح عاجزًا عن الرجوع إليه مرة أخرى، أجلس بأريحية مطلقة في ركنٍ فارغٍ ومظلم من أركان الحوش المهجور، تحديدًا على أعلى بقايا جدرانه الأربعة التي تهدمت بفعل الزمن والإهمال، أرقب يوسف ممددًا على الأرض، وغارقًا في بركة هائلة من دم له رائحة نافذة، أخذ هواء المكان يتشبّع بها حتى الثمالة، وحتى أنني شعرت بأن كل الأشياء التي كُتِبَ لها الوجود الآن في الحوش القديم المهجور، تتطوّح من السُكر.

مرتْ فترة صمت طويلة ومملة، حملتْ ثقل المكان والليل والظلمة والدم الذي بدأ في التخثر، وامتلأتْ بالذهول ووحشة الهجر التي يعبق بها الحوش القديم، والترقب الذي بدأ ينسج خيوطه من حولي في انتظار أن يخرج إنسان ما، كائن ما؛ كي يتأكد أن رصاصته قد أصابت هدفها، وأن يوسف الآن منكفئ على وجهه في حضن الموت، ولا سبيل له مرة أخرى لعمل شيء ما يقدر على إخافته منه، أو يحول دون خروجه المنتظر هذا، لإشباع حقده الذي يتجسّد الآن موتًا حقيقيًا يرقد في الأرض، والفرح بالنصر، لكن أحدًا لم يخرج إلى الآن، حتى أنني غرقت في الشعور بالملل، فقررت النزول لاستطلاع الأمر، وما إن اتكأت بكفيّ على ثقل الحائط من تحتي، حتى فوجئت بنفسي أقفز في سرعة ولين، وأستوي على الأرض بهدوء شديد، أحاطتني الدهشة، وشملني ذهول غريب وحاد، فمنذ لحظة وجيزة كنت أستغرب قدرتي على الرؤية في الظلام، وقدرتي على الرؤية من داخل جسد يوسف من قبلها، وها أنا الآن أقفز مثل ريشة تمتلك إرادتها الكاملة، وراحت عيناي تنقبضان وتضيقان ما بين حاجبيهما، تنظران المجهول وتتساءلان بدهشة مفرطة، هل من الممكن أن تُكسبني هيئتي الجديدة تلك، مثل هذه المهارات؟!

بدوت وكأنني أتعرَّف على نفسي، ودخلني فضول جعل يُلح عليّ للتأكد من الأمر، وعندما تركت نفسي له وجدتني أعاود القفز مرة أخرى إلى أعلى حائط السور بذات السهولة والسرعة، فرُحْتُ أكررها كثيرًا، ولم يخلُ يقيني من فرح صبياني باكتسابي لكل هذه المهارات الجديدة، حتى أن رغبة جامحة في الضحك العالي والصاخب والمجنون قد اجتاحتني، لولا أنني لاحظت جسد يوسف المسجّى على الأرض، وتذكرت أنني نزلت من فوق الجدار من أجله، وبسرعة اكتشفت أيضا أنني كائن مستقل، وأن باستطاعتي امتلاك زمام نفسي حسبما أريد وأقرر، فهدأتُ ودنوتُ منه، كان منكفئًا على وجهه لا يزال، يحوطه الليل بظلمته الكالحة وأصواته التي تزرع الرعب والخوف من أماكنها الموغلة في البُعد والمجهول، لكنني استطعت تمييز كل شيء من حوله بوضوحه الشديد، وتفاصيله الكاملة، هكذا تسنى لي أن ألاحظ نظافة ملابسي كلها في مقابل تلطخ ملابسه بالتراب وبالدم، رغم أننا نرتدي ذات القميص الأبيض والبنطلون الجينز غامق الزرقة والكوتشي الأسود، لكنني عندما لمست جسده بدا باردًا وصلدًا في جموده على الأرض، فيما كان جسدي ينبض بالدفء والشفافية ويفور بالحياة والحركة، غير أن فرحتي بالملكات الجديدة التي أكتشفها في نفسي، لم تستطع أن تطغى على الحزن العميق الذي انتابني لرؤية الموت على هذه الحال التي تتجاوز الرثاء بكثير، يوسف ابن أكبر عائلات البلدة، ربيب شيخها الفضل، عشق كل امرأة اقتربتْ منه، ومحبة كل إنسان استطاعت روحه أن ترى الجمال وهو يمر إلى جواره، يموت هكذا كلصٍ هاربٍ، مقتولًا في سكون الليل وتحت ثقل وطأته، ومرميًا فوق التراب والدم في حوش قديم وفقير ومهجور، وفي ظهره ثقب باتساع القلب، اغرورقتْ عيناي بالدموع، لكنني خشيت أن تقع على جسد يوسف، فيُضاف إلى موته عار جديد إذا رآها الناس من بعد، وحسبوا أنها دموعه التي استجدتْ العطف والرحمة قبل أن تفتك الرصاصة بالخوف الذي ملأ قلبه منها، تلفتُ حولي فكان السكون والوحشة، لا يزالان يسيطران على المكان، لم يكن ثمة حركة، ولا حتى أثر لدبيب خائف ومترقب ومن المنتظر حدوثه، رغم ازدياد حاسة السمع عندي، والتي استطعت من خلالها أن ألتقط صوت الطائر الذي تثاءب على غصنه فوق فرع الشجرة الواقفة على البُعد، ثم عاد إلى نومه مرة أخرى، بدا الأمر وكأنما القاتل الذي بعث بيوسف إلى الموت قد ذهب معه أيضًا، فاعتليتُ جدار الحوش بوثبة واحدة، وفي الوثبة الثانية كنت أقف على حافة الترعة التي تبعد عن الحوش بمسافة طويلة، وهناك سكبتُ عينيّ على سطح مائها حتى امتلأتْ بدموعي.

لما ذهب عني الحزن أخذت ألملم نفسي مرة أخرى حتى تماسكت، وجعلت أنظر إلى سطح الماء في الترعة حتى تلاشتْ فيه آخر دائرة صنعتها دموعي وهي تتساقط من فوقه، وحتى بدا سطح الماء ساكنًا جدًا، وهادئًا جدًا، ينشع في برد الليل وبراح المكان برودة محببة، رحتُ أتنفسها بتلذذ وأنا أرى صورتي في سطح الماء تخرج من الاهتزاز حتى تثبتْ، فتتضح معالمها جليَّة، وأرى الانتعاش يدخلني، ويُعيد إليّ حيويتي مرة أخرى، شعرت بارتياح غريب، ولسبب موغل في البُعد بداخلي أحسست بألفة شديدة لوجودي في المكان، وعندما امتدتْ عيناي في البُعد الموازي لحافة الترعة رأيت بيت يوسف الكبير، يقف هناك بعزة وكبرياء موغلين في الزمن، تحوطه الحدائق الخضراء والشجر العالي الممتد إلى مسافة غير قصيرة حتى أطراف المعبد الفرعوني القديم، كأنما يدان ممتدتان بالسلام والمحبة، فتذكرت أنني ما زلت أقف في أملاك عائلة يوسف، أن كل هذه المسافة المزروعة بموازاة الترعة، والتي تتعدّى حدودها الحوش القديم المهجور، وتبعد عن حد الترعة بمسافة مائتي متر تقريبا، هي أرض "الفضل" التي ورثها عن آبائه وأجداده، وورثها من بعده يوسف وأخوه الأكبر، شدني جمال البيت على البُعد، ورأيت بعينيّ الثاقبتين الآن طائرًا يأتي باتجاهي من الفضاء الواسع المجهول من خلفه، ينساب بهدوء وثقة وهو يطير فوق ماء الترعة، ويفرد جناحيه باتساعهما كأنما يتحدّى مجهولًا ما، لم أستطع الوصول إليه، وبلا شعور امتلأ داخلي بأمنية يوسف القديمة والدائمة، والتي ظلتْ معه حتى دخوله أرض الحوش المهجور، واحتضان قلبه للرصاصة المجهولة قبل قليل، وما إن تمنيت أن أطير مثله حتى اجتاح داخلي شعور عارم بالخِفَّة، أحسست أنني حرة بما يكفي، وأن الحياة ليست سوى مجموعة من القيود، بقدر وهنها وضعفها بقدر قدرتها على صناعة العجز وخلق السكون.

هكذا رأيتني أطير، وها أنا الآن على مسافة غير قصيرة فوق سطح الترعة، اتجه بموازاتها حتى ألتقي بالطائر الذي بدا مبتهجًا برؤيتي، كأنما استجبتُ لدعوة كامنه بأعماقه، أو كأنني رأيتُ للتو ذلك المجهول الذي كان يتحدّاه قبل قليل، فراح يصدر أصواتًا تشبه الموسيقى في عذوبتها، وانتظام أنغامها على إيقاع واحد، حتى صرنا نطير إلى جوار بعضنا البعض بحسب ما يقذفه الإيقاع بدواخلنا، متوازيين مرة، ومتواجهين مرة، وملتفين حول بعضنا في الهواء في رقصة مجنونة، لكنها في سلاستها وانسيابها ملائكية إلى حد بعيد، إلى حد أنني شعرتُ وكأني روح خالصة، لا يحدها المكان ولا الزمان، ومنفلتة تمامًا من قوانين الحياة، وفي انغماس روحينا في عذوبة الوقت رواحا ومجيئا من فوق البيت الكبير إلى الحوش القديم المهجور، بدأتْ أذناي تتسمّعان دبيب حركة خافتة، وحذرة إلى أقصى مدى، وعندما أصغيت السمع عرفت أنها تأتي من الأحراش التي تلتف حول الحوش المهجور كثعبان أسطوري جاثم، شعرت بانقباضه مباغتة وتعلقتْ عيناي باتجاه جسد يوسف المُلقى في أرض الحوش، درتُ حول نفسي دورات مرتعشة وخاطفة، وممتلئة بشعور غامض وسريع الخطى نحو خطب ما قادم، تركت الطائر الذي فهم الإشارة وولَّى جناحيه باتجاه المعبد الفرعوني القديم، ورحت أحلّق فوق أرض الحوش المهجور، حتى رسوت فوق جداره المتهدم، وجلست بهدوء مترقب في انتظار أن يسفر الخطب الذي يملأ داخلي عن نفسه، ومع ازدياد دبيب الحركة، وظهور أرجلها القاسية في تقدمها باتجاه جسد يوسف في أرض الحوش، رأتْ عيناي ما تمنيتُ بعد ذلك كثيرًا لو أنني لم أكن رأيته قط.

لم يكن دبيب الحركة لقدمين اثنتين فقط، بل ست أقدام كاملة وحيَّة ومنتصبة في وقوفها إلى جوار بعضها بين الأحراش، كأنها تعرف خطوها تمامًا، وتستمد من معرفتها الثقة والمؤازرة والقسوة المفرطة، ست أقدام تنتصب من فوقها ست أرجل سوداء في ظلام الليل، بدتْ مثل أخشاب جامدة لخيالات حقل مخيفة وواقفة بعمد، تعلوها هالة مستطيلة من نور فاقع، ومن فوقها انتصبتْ ثلاثة رؤوس بشرية مدورة، بدتْ في انعكاس الضوء المتقدم للأمام سوداء وشبحية وغير واضحة المعالم، بدا جليًا أن الأصدقاء الثلاثة يمسكون كشافاتهم المحمولة، ويطلقون ضوءها باتجاه جسد يوسف المسجّى على وجهه في أرض الحوش القديم، بعدما دخلوه من فتحة الجدار التي هدمها الزمن تمامًا، والتي كانت تحتوي الباب الرئيسي له بين جنبيها، وعندما تأكدوا من وجود جسد يوسف على الأرض بدأوا في توجيه أنوارهم في أرجاء الحوش كلها، مخافة أن يكون أحد ما قد كمن في اختباء مضاد لاختبائهم، لوهلة خفتُ أن يكشفني الضوء في أعينهم، لكنه عندما تناثر مع نظراتهم من حولي دونما أن يدركوني، عرفت أنني بعيدة جدًا عن مرمى رؤيتهم، ولما تأكدوا من وجودهم الوحيد في المكان راحوا يتحركون نحو جسد يوسف حتى تحلقوا من حوله، هكذا بدأ الضوء يصطدم برؤوسهم، فبدأتْ ملامحهم في الظهور، وهكذا وجدتُ الصلات التي كانت تربطني بيوسف يزداد وهجها بداخلي إلى أقصى مدى له من الوضوح والشفافية، حتى أنني عرفتهم جميعًا، ولمستُ قربهم الشديد لي، وكأنني يوسف على هيئة ما، هيئة تبدو مغايرة بشكل حقيقي، لكنها حقيقية أيضا، وتمتلك يقين وجودها وقدرتها على الحياة، وكانوا هكذا:

الأول أخي الأكبر، وغريمي في محبة أبي الفضل لي.

والثاني صديق طفولتي، وغريمي في محبة البنت التي لازمتنا في رحلة الكُتّاب والمدرسة، والذي رغم زواجه منها لم يؤمن أبدا أننا قد كبرنا.

والثالث رب عملي، وغريمي في محبة البنت التي تسعى بأكواب الشاي بين مكاتب المؤسسة، ووقعتْ محبتي في قلبها بلا ذنب مني. 

وكان كل منهم يحمل نوره بإحدى يديه، فيما تقبض يده الأخرى على مسدس لا يزال مشرعًا على القتل، وفوهته ساخنة، عرفتُ ذلك من حركتهم الموحدة التي راح كل واحد منهم خلالها يُقَرِّب فوهة مسدسه من فمه، كأنما ليتأكد من سخونتها، ثم ينفخ فيها ليثبت للآخرين خروج رصاصته منها، غير أن هالة من الدهشة سرعان ما خَيَّمتْ فوق رؤوسهم، وفرشتْ ظلالها عليهم، لقد هالهم ـ عندما سلطوا أضواءهم على جسد يوسف المسجّى في الأرض ـ وجود ثقب واحد فقط في ظهره، وللخروج من وحل الحيرة التي أصابتهم تطوَّع أخي الأكبر ودفن قدمه تحت جسد يوسف، ثم قذفها للجهة المقابلة، فانقلب الجسد ليتمدّد على ظهره، فبدا لهم جليًا أن صدره لا يحمل غير ذات الثقب أيضًا، لم يدركوا حجم الثقب، ولا عمقه الغائر وقدرته على النفاذ من الجهتين، ولا التفتوا إلى اتساعه الذي يقدر على احتواء رصاصاتهم جميعًا، فقط استسلموا لظل الدهشة فوق رؤوسهم، واستطابتْ عقولهم الوقوع في وحل الحيرة، وفيما كانت عينا يوسف مفتوحتين بجمود الموت في وجوههم، كانوا يتبادلون فيما بينهم نظرة صامتة وثقيلة ومحشوة بالدهشة والحذر والشك، وكأنهم يسألون بعضهم، أي منا أصابتْ رصاصته قلب يوسف؟!

أما أنا فقد هالني وجه يوسف عندما رأيته، شَدَّني الشبه الكبير الذي يربط بيني وبينه، حتى خُيِّل إليّ أنني أعاود النظر إلى سطح الماء على حافة الترعة مرة أخرى، لكنني عندما ثبَّتُّ عينيّ في عينيه جيدًا، عرفتُ أنني روحه التي أفلتتْ ـ بحركتها المباغتة ـ من يد الكائن الخفيف الذي انقذف من أنفه، والتي أفلتها الملاك لسبب لم أستطع إدراكه، لكنه كان كفيلًا لكي أتحرر، ولكي ترتسم على وجه الملاك تلك الابتسامة رائقة الصفو، وهو يحلّق للأعلى.

أنا روح يوسف التي لم تقدر رصاصاتهم على أن ترسلني معه إلى الموت، وها أنا ذا الآن أجلسُ فوق رؤوسهم أعلى جدار الحوش المهجور كشاهد يقين، وتمتد عيناي الثاقبتان لتريا أبعد مما نمكث فيه جميعًا، لتشاهدا كل شيء بتفاصيله الكاملة والدقيقة، ما ظهر منها، وما خفي عني في حياتي التي انتهتْ قبل قليل.