تعتبر الرواية من الروايات التي تحاكي العصر وتجسد ضياع جيل تحت ضغط الهجرة والحروب والعلاقات الإنسانية المتفسخة. رواية عابرة للقارات بإشكالياتها المتشابكة وغرائبيتها السلسة التي تكثفها هلوسات ناجي وحواراته الداخلية. وتبلغ الهلوسات ذروتها الغرائبية مع أغاني الراب التي أضفت على الرواية فرادة وتميزاً يختلفان عما نألفه في الفن الروائي.

حنان الشيخ تواجه إشكالات الهجرة والعنصرية وتحرر الأمومة

سامية عيسى

 

ثيمات ثلاث تنشغل بها حنان الشيخ في روايتها الجديدة "عين الطاووس"  ( دار الآداب) وأولها ثيمة العنصرية التي تتغلغل في المجتمعات العربية والتي يكاد الحديث عنها في الثقافة العربية يكون شحيحاً مقابل ما تستفيض به هذه الثقافة في الحديث عن عنصرية الغرب. وهناك أيضاً إشكاليات الهجرة للغرب الأوروبي، وما يعيشه المهاجرون من تهميش وعزلة داخل المجتمعات الغربية التي تفتح أبوابها لهم، لكنها تغلقها عليهم بعيداً عن الاندماج فيها. إلى جانب هاتين الثيمتين تظهر ثيمة القيود التي تكبل الأمومة بالتزامات تعيق عيش حياتها الخاصة كامرأة وإنسانة، لها احتياجات تجاور أمومتها. بل قد تقفز فوقها للتحرر من قيودها التي تشكل جزءاً أصيلاً في الثقافة الذكورية لمفهوم الأمومة ووظيفتها الاجتماعية.

 قد يبدو للوهلة الأولى أن حنان الشيخ تدخل في تعقيدات الثيمات هذه التي يصعب لأي سرد أن يجمعها في رواية واحدة، أو يجد الترابط في ما بينها داخل السرد الروائي الواحد. لكنها على رغم ذلك تفعل، بل وتنجح في جمع الثيمات وتفكيكها داخل المتن السردي الواحد، وبلغة مزجت بين المحكي اللبناني والفصيح العربي ومفردات فرنسية ولغات أخرى. ولم تكتف بهذه التوليفة "الثيماتوية" بل تنقلت ما بين أزمنة مختلفة وأمكنة عبرتها كي تعالج في نصها الروائي "عين الطاووس" هذه الإشكاليات وتزيدها تعقيداً. كل ذلك في مناخ من الخفة والبهجة يجعل القارئ يتمتع من غير جهد.

بدأت حنان الشيخ الكتابة الروائية وهي في التاسعة عشرة من عمرها. هي صاحبة رواية "انتحار رجل ميت" و"زهرة" و"مسك الغزال" أو ما يقارب اثنتي عشرة رواية. وكعادتها في كل أعمالها تكتب نصوصاً ذات لغة مبسطة وغنية بحواراتها. لكن "عين الطاووس" نص روائي كان ليبدو ثقيلاً وفظاً بسبب هذا التشابك في الثيمات والأمكنة والأزمنة والشخوص الثرية في مكوناتها، لو لم يجئ السرد أقرب إلى الواقعيّ منه إلى التخييل، وقد حافظت فيه على البساطة ورشاقة الأسلوب وسلاسته.

زواج وهجرة:
 ياسمين الأم هجرها زوجها وهرب مع عشيقته الفيليبينية إلى كندا، تاركاً لها ابنهما ناجي في العاشرة من عمره. تقرر الهجرة إلى فرنسا لتلتحق برامي عشيقها اللبناني المتزوج ورب الأسرة، ولتعيش حياة حرة بعيداً من الحرب الأهلية، وضغط المجتمع عليها لكونها امرأة مطلقة، فتجد نفسها في مرآة نفسها تشبه الفيليبينية، وتتجرأ على إقامة علاقة برجل متزوج ولديه أولاد. ثم لا تلبث أن تتورط أكثر بأمومتها في فرنسا التي فرضت عليها الاعتناء بابنها وحدها، والعمل في مطعم لبناني في مدينة "كان" جنوب فرنسا، كي تعيل نفسها وابنها

يتورط ناجي لاحقاً بالإدمان على المخدرات ويمضي حياته عاطلاً من العمل ومنغمساً بموسيقى "الراب"، ويؤلف كلماته على خلفية الأزمات التي يعيشها بوصفه مدمناً وعالة على أمه التي تحاول جاهدة أن تتخلص من عبئه حيناً، وحيناً تشفق عليه، وأحياناً تتردد بين الشفقة والتحرر منه ومن أمومتها لتنشغل بنفسها كامرأة تحتاج إلى الحب. وهي بين هذا وذاك تفشل في أن تجد طمأنينتها في التحرر من عبء أمومتها أو مما يتوقعه ابنها منها، فتغرق أكثر في هذا العبء. يظهر ذلك منذ بداية الرواية حين تهرب إلى الأمام وتسافر إلى ألمانيا لجلب ابن أخيها ريكا، الابن غير الشرعي من امرأة سنغالية، والذي عاش طفولته في كنف جديه في بيروت كلبناني أسود يسخر منه أقرانه بسبب لونه وشعره المجعد، في بلد تطلق العمة على ليفة مصنوعة من الألمونيوم لتلميع الطناجر ب"سيفة العبد"، وعلى أحد أشهر منتجات الشوكولاته المصنعة فيه والمحشوة بما يشبه الكريما البيضاء "رأس العبد"، وتسمي الفول السوداني "فستق عبيد" لأن مصدره أفريقيا ... التي يتحدر منها الأميركيون "السود" الذين تم جلبهم من أفريقيا كعبيد وما زالوا يعانون حتى اليوم من تراث عبوديتهم المقيت.

وإذ حذا المغتربون اللبنانيون إلى أفريقيا حذوهم وتعاملوا معهم كعبيد في بلادهم، فإن ذلك بسبب العنصرية التي تتغلغل في المجتمع ربما وتتخذ أشكالاً متنوعة. ريكا الذي كان يسافر من حين لآخر إلى أفريقيا لرؤية أمه، وليرتاح قليلاً من وضعه الملتبس في بيروت، تقهره معاناة أمه السنغالية التي تخلى عنها والده، وهو يراها تتحمل مشاق العمل في المزرعة. ينفد صبره من تجاهل والده له ومعاملته السيئة، فيقرر الهجرة إلى ألمانيا هرباً من ذلك كله. حين يصل إلى عمته ياسمين في فرنسا تجد عنوانه في ألمانيا بعد عشر سنوات، فتقرر السفر إلى ألمانيا كي تحضره إلى فرنسا ليكون رفيقاً أو شقيقاً لابنها، عله ينشغل عن إدمانه بابن خاله، بل وعنها، كي تتنفس الصعداء.

حين تصل إلى مخيم اللاجئين في ألمانيا تجده في حال مزرية. إذ لم تمنحه الحكومة الألمانية الجنسية أو حق الإقامة الدائمة، على رغم مرور عشر سنوات على تقديمه ملف هجرته إليها. وظل هناك نزيل مخيم اللاجئين لا حقوق له سوى حفنة قليلة من نقود لا تسمن أو تغني عن جوع. ثم يتم رفضه بعد كل ذلك الوقت، ويعاد قسراً إلى السنغال برفقة ضابط ألماني، فيقرر إذ ذاك الهجرة إلى فرنسا عند عمته بعد رفضه في البداية – عل رغم إلحاحها- على اصطحابه معها.

غربة وبطالة:
يعيش الثلاثة في فرنسا أوضاعاً غريبة، يختلط فيها العشق بالبطالة ونقص النقود ومافيا المخدرات التي تتغلغل في أوساط المهاجرين في المجمع حيث يعيشون حياة الغيتو داخل بلدة أنتيب، ويحتكون بعضهم ببعض، من كل الجنسيات ويعانون قهر الغربة والعنصرية والتهميش. يضيق ناجي ذرعاً بحياة المجمّع، ويطلب من أمه الانتقال إلى فرنسا قائلاً: "أقصد العيش مع الفرنسيين، أساساً أنا جيت عيش مع الفرنسيين مش مع المهاجرين". إما الادمان كآفة اكتسبها من مجمّع المهاجرين، فتحاول ياسمين جاهدة أن تقنعه بتلقي العلاج للتخلص من الإدمان عند طبيب نفسي، لكنه يرفض، فهو سعيد بإدمانه لأنه ينسيه كل ما يزعجه. وحين يأتي ريكا يتضاعف هم ياسمين. فهو انضم إلى ابنها في الجلوس في البيت من دون عمل، على غير ما توقعت. ليس لأنه لا يريد العمل، بل لأنه لا يملك أوراقاً قانونية للإقامة في فرنسا كي يحصل على عمل ثابت. وحين يقع ناجي في غرام ماغي وكلبتها صوفي، تتعقد الأمور وتزيد الأعباء على ياسمين على رغم أنها ترحب بأن يعيش ابنها علاقة غرامية.

يعيش مع ماغي لحظات إباحية داخل بيته بجوار غرفة المعيشة، فيما ريكا يعيش غراماً أفلاطونياً خجولاً مع موظفة البريد. وحين تتعقد العلاقة مع ماغي أكثر من مرة بسبب إدمانه وغيرته عليها، يصيبه هوس التعلق بها ويؤلمه فراقها. وعلى خلفية علاقته مع ماغي المتأرجحة ومرارة فراقها، وامتنانه لأمه حيناً وعتبه عليها حيناً آخر، لأنها ترغب في التخلص من مسؤوليتها تجاهه، فضلاً عن صداقته مع ريكا وهموم الحياة في المجمّع وحياة المهاجرين. يؤلف ناجي العديد من أغاني الراب التي يصدح فيها من شرفة منزله بالميكروفون الذي أهدته إياه صديقته باسكال التي ساعدته في معرفة مصير ريكا بعد أن ظن أنه تسبب بموته وسقوطه عن دولاب الملاهي، بعدما دس في فمه قسرياً حبتي مخدر.

وحين تم تناقل أغانيه عبر مواقع التواصل الاجتماعي بات مشهوراً، وسجلت معه إحدى قنوات التلفزة الفرنسية المرموقة فيلماً وثائقياً عنه وعن حياته في المجمّع. وهو ما جلب له الحظ والنقود. حين شاهدته أمه ياسمين وهي في البرتغال التي ذهبت إليها لملاقاة حبيبها رامي، ومددت إجازتها أسبوعاً آخر بعدما تركت ناجي وريكا، بلا نقود لتدفعهما للعمل وإعالة نفسيهما كي تتحرر من اعتمادهما عليها. تعود إذ ذاك حين مشاهدة أغاني ناجي ومشاعره تجاهها بكل شوق ولهفة وتتصل فوراً لتعلن أنها قادمة. وحين تصل تكون محملة بالأطعمة والهدايا.

 تعتبر "عين الطاووس" من الروايات التي تحاكي العصر وتعبر عن ضياع جيل تحت ضغط الهجرة والحروب والعلاقات الإنسانية المتفسخة. هي رواية عابرة للقارات بإشكالياتها المتشابكة وغرائبيتها السلسة التي تتكثف مع هلوسات ناجي وحواراته الداخلية، سواء بسبب الحبوب المخدرة أو حين ينسحق تحت ضغط العوز المادي والعاطفي. وتبلغ الهلوسات ذروتها الغرائبية مع أغاني الراب التي أضفت على الرواية فرادة وتميزاً يختلفان عما نألفه في الفن الروائي.

لا تترك حنان الشيخ قراءها أسرى الضجر أو الثقل الذي قد تتسبب به مواضيع شائكة كهذه. لكننا لا نعرف كيف تمكنت حنان من سبر عالم الشباب حتى بجنوحه وتمرده من خلال كتابة الراب، وكأن الرواية مشحونة بتمرد شخوصها وقلقها، بحثاً عن مصائرها وتغيير أقدارها، بسرد يقع بين المضحك والمبكي في كثير من المواضع، بحسب مقولة "شر البلية ما يضحك".

 

عن (اندبندنت عربية)