ضمن الاحتفاء باليوم العالمي للمسرح خط المسرحي المغربي رائد الاحتفالية عبد الكريم برشيد هذه السنة كلمة يؤشر من خلالها وبلغة ساخرة تستنبط أوجه البشاعة التي تصارع كي لا يكون المسرح كل الايام وليس يوما واحدا يتيما يستذكر بكلمات ومتمنيات والحال أن المسرحي اليومي فينا ويمكن من خلاله أن يتحول لطقس حياتي يربطنا بالتفاصيل ويعيش تشكيل حيواتنا وعلاقتنا بالزمن والحياة.

المسرح يوم من الأيام أم المسرح كل الأيام؟

عبد الكريم برشيد

 

شجرة واحدة تخفي غابة كاملة

ماذا يمكن أن نقول في هذا اليوم، سوى الكلام المعاد والمستعاد؟

بهذه العبارة نبدأ، وإليها ننتهي، ونخاف أن تتكرر في الأعوام القادمة، وأن تظل دار لقمان على حالها..

المسرح ليس يوما واحدا من الأيام، المسرح هو كل الأيام وكل الليالي وهو كل الاعوام، بل هو كل تاريخ البشرية، من البدء إلى ما لا نهاية

والمناسبة اليوم، هي العيد العالمي للمسرح والمسرحيين، ولكنه بالنسبة إلينا، في الأسرة الاحتفالية، تبقى هذه المحطة ـ العلامة عيدا ناقصا، وذلك لأنها بدون جديد ولا تجديد، وتظل احتفالا بروتوكوليا ولا شيء اكثر َذلك، فالأيام والليالي في مشهدنا المسرحي تتشابه، والوجوه في مسرح هذه الدنيا لا تغير أقنعتها القديمة، وتبقى نفس تلك الأسطوانة المشروخة البالية تدور وتدور حول نفسها، ولا تضيف كلمة واحدة، ولا تضيف جملة مفيدة جديدة..

كل شيء في مشهدنا المسرحي موسمي، يحضر المهرجان فيحضر المسرح، ويكون ساعة وحدة ثم يفرنقع الجمع، وتعود السيدة حليمة لعادتها القديمة، والتي ليس من بينها عادة عشق المسرح وعادة الاحتفال في المسرح وبالمسرح

إن العروض المسرحية فعلا موجودة، ولها عناوين وأسماء تعرف بها، ولها مسارح وقاعات تعرض فيها، ولكن.. أين هو روح المسرح في هذا نسميه المسرح.

أين هو الشغف المسرحي؟

وأين هو الجنون المسرحي، واين هم عشاق ومجانين المسرح؟

المسرح احتفال عيدي حي، هكذا هو في حقيقته، واين هي الحياة في مسرح يموت اليوم سنة كاملة، ثم يبعث حيا، بشكل مؤقت، يبعث في مهرجان واحد عابر، أو في يوم موسمي زائر.

والمسرح أيضا هو الغنى، والفقر لا يليق بالعيد ولا بالاحتفال ولا بالاحتفاليين، وهل هذا الربيع فقير؟ وهل هذه الحياة، بكل اعمارها حالاتها، فقيرة؟

والغنى الذي نقصده هو غنى النفوس وغنى العقول وغنى الأرواح وغنى الوجدان وغنى الخيال، وذلك قبل الغنى المادي، ويخطئ كل من يظن أن الدعم المالي، سواء من هذه الجهة أو من تلك، يمكن أن يعوض الغنى الداخلي، وإذا كانت نفوس بعض المسرحيين اليوم بائسة وخالية وخاوية، فإنها لا يمكن أن تعطي هذا المسرح، مسرحنا، أي شيء له حقيقته، وله قيمته الفكرية والجمالية والأخلاقية، وطبيعي أن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطي أي شيء .. وعليه، فقد أمكن لنا انقول ما يلي:

إن بؤس المسرح المغربي والعربي اليوم، في أغلب تحاربه مظاهره وظواهره، هو بالتأكيد مظهر من مظاهر بؤس كثير من المسرحيين لدينا.. أو هو مظهر من مظاهر البؤس السياسي والثقافي المغربي والعربي بشكل عام..

وهذا لمسرح أيضا، مسرحنا، هو الحضور في الموعد، وهو التلاقي الإنساني، وهو الحوار المدني والحضاري، وهو التعدد الذي يفيد الغنى والقوة، وهو الاختلاف الذي لا يفسد للود قضية، وقد اعتمدت وزارة الثقافةـ في كثير من طبعاتها غير المأسوف على رحيلها، على، ( فلسفة) فرق تسد، فقربت وأبعدت، وأعطت وسلبت، وكرمت وعاقبت، وجندت جيشا من التابعين ومن تابعي التابعين ومن الهتافين المحترفين ومن شهود الزور، ومن الذين يقدمون خدمات في المسرح، ولكنهم لا يقدمون إبداعات فكرية َجمالية غيه، والتي أطلقت إشاعة أن العام زين، وأن كل شيء على ما يرام، وأن السماء العالية صافية ولا غيم فيها، واليوم يظهر، وبشكل واضح وفاضح، أن ذلك المسرح المكذوب عليه يعيش وضعا كارثيا خطيرا، وأن الأمر يحتاج إلى سياسة إنقاذ حقيقية، إنقاذ ما يمكن إنقاذه..

ثم إن المسرح، إضافة إلى أنه عروض تبدأ وتنتهي في مكان محدد وفي زمن محدود، فهو أساسا مؤسسة صناعة الإنسان، ومن مهام هذه المؤسسة أنها تعلم، وأنها تربي، وأنها تهذب، وأنها تطهر (الكثارسيس) وانها تعلم، وأنه لذلك ينبغي أن تساهم اليوم ـ كما ساهمت بالأمس ـ في صناعة الإنسان الجديد في هذا المغرب الجديد، وفي هذا العالم العربي والكوني الجديد ،وأن تحقق له شيئا من الأمن الثقافي، وأن تحمي هويته، وأن تصون وجوده، وأن تجدد لغته، وأن تظهر ثقافته وقيمه الحضارية التي هي عنوانه في هذا الوجود، وأن تربطه ـ في المقابل ـ بزمنه وبمناخه وبعصره وبمحيطه الذي هو جزء أساسي وحيوي منه، وحتى تلعب الثقافة المسرحية المغربية دورها الحقيقي، فإن على الدولة أن يكون لها سياسة ثقافية واضحة، وأن تدرك بأنه ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان، وأن التنمية الاقتصادية بدون تنمية العقل والنفس والروح والوجدان لا معنى لها، وهذا هو الدور الذي قام به المسرح في الحضارات الإنسانية عبر التاريخ، وبغير هدا، فسيظل هذا المسرح لدينا عنوانها برانيا خادعا، يغيب سنة كاملة، ويحضر فقط في يوم واحد من هذه السنة.

المسرحي الذي قايض روحه بالخواء

هو مشهد مأساوي وعبثي بكل تأكيد، مشهد تصل مأساويته وعبثيته لحد الضحك الأسود، وهو يذكر بذلك الاتفاق الغريب والعجيب بين فاوست (الإنسان) وبين مظلوم بن ظالم الخياط (الشيطان) في تلك الاحتفالية المسرحية التي تحمل عنوان ( فاوست والأميرة الصلعاء) ذلك الاتفاق كان تحت عنوان الصفقة، وكانت فعلا صفقة وجودية غامضة وخاسرة وملتبسة وخبيثة، وذلك لأنها قامت على استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، وقامت على أساس الدعم المادي التافه، في مقابل وجدان الفنان، وفي مقابل روحه، وفي مقابل حريته، وفي مقابل واستقلاليته الفكرية، وايضا، في مقابل عقل العالم ووجدان الفنان، وكل هذا التنازل المهين، في مقابل ماذا؟ في مقابل عطاء مادي كاذب ومزيف وعابر، وتتم هذه الصفقة الخاسرة على حساب روح الإنسان وعلى حساب كرامة الإنسان، وعلى حساب كل القيم الإنسانية الجميلة والنبيلة، وبالتأكيد فإن هذا الدعم ـ الغواية، هو الذي أنتج لنا اليوم مخلوقات بشرية معطوبة ومشوهة، مخلوقات غريبة تبيع وتشتري في كل شيء، ولا تؤمن بأي شيء، وكل هذا من أجل حفنة من الريالات.

مسرحيون حقيقيون في مسرح حقيقي

وعن سؤال سابق لجريدة (المساء) المغربية، والذي كان (ما هي الإستراتيجية التي يمكن تبنيها لإعادة بريق المسرح المغربي؟) فقد قلت في ذلك الحوار ما يلي: (الأمر سهل وبسيط جدا، وهو لا يحتاج سوى أن يكون المسرحيون مسرحيين حقيقيين، وأن تكون لهم غيرة حقيقية على فنهم الحقيقي، وأن يكون لهذا المسرح جمهور مسرحي حقيقي، وأن تكون له ثقافة مسرحية حقيقة، وأن تكون له مطالبه التي لا يتنازل عنها، والتي تتجلى أساسا في حقه المشروع في أن يحصل على إبداع مسرحي جاد وجديد ومتجدد، إبداع يحترم عقله، ويحترم جوهر الفن المسرحي، ولا يسقط في الإسفاف، ولا في التهريج، ولا في التجريب الذي يخاطب العين وحدها، ولا يخاطب النفس والوجدان، ولا يحاور العقل).

وللأسف الشديد، فإنه لا شيء من كل هذا موجود اليوم، فلا السيد المسرحي هو فعلا شخص مسرحي بشكل حقيقي، ولا الأستاذ الناقد هو ناقد مسرحي بشكل حقيقي، ولا هذا المناخ العام الذي نتنفس داخله هو اليوم مناخ مسرحي حقيقي ، ولا هذا الجمهور ـ على قلته ـ هو جمهور مسرحي بشكل حقيقي، وذلك لأنه لا يضيف أية قيمة مضافة لأية تجربة مسرحية، وهو لا يقوم بدوره الحقيقي، وهو بهذا جزء من المشكل، وليس جزء من الحل، وهو متواطئ ومساهم ـ من حيث يدري أو لا يدري ـ في لعبة هذا التمثيل الكاذب على الفن وعلى الحقيقة وعلى التاريخ، وذلك لأن وجوده في المسرحيات لم يعد مطلوبا لذاته، وهو في هذه الملهاة (المسرحية) العبثية، والتي لا علاقة لها بالمسرح المسرحي الحقيقي، له دوره (التمثيلي) الخفي، وهو يؤدي دوره مثل كل الممثلين الآخرين، والذي هو دور (المحلل) (الشرعي) أو هو دور (الكومبارس) ووجوده في المسرحيات المدعمة أنه يبرر الدعم، وأنه يعطي الشرعية لشيء غير شرعي، ولعل هذا هو ما يفسر أن يكون الجمهور الحقيقي، في المسرح الحقيقي، هو اليوم أكبر الغائبين والمغيبين في هذه اللعبة المسرحية الكاذبة والخادعة والمزيفة.

تحرير المسرح وتحرير المسرحيين هو الحل

إن المطلوب اليوم هو تحرير المسرح المغربي من أشباه المسرحيين، وهو تحرير وزارة الثقافة من الإداريين المستبدين، وهو تحرير النقد المسرحي من أشباه النقاد المسرحيين، ولقد طالبت دائما بأن (يكون هناك إعلام مسرحي حقيقي، سواء في الجريدة أو في الراديو أو في التلفزة، وأن يساهم هذا الإعلام في إشاعة الثقافة المسرحية، وفي حماية الذوق العام من الابتذال، وأن تعرف الحركة المسرحية المغربية حركة نقدية حقيقية، وأن يكون هذا النقد بعيدا عن الذاتية وعن المدح الرخيص وعن الهجاء العدواني، وإذا أضفنا إلى هذا شيئا من الدعم المادي والمعنوي لوزارة الثقافة، وللمجالس المنتخبة، يمكن لهذا المسرح أن يكون بألف خير)

والدعم الحقيقي الذي نؤكد عليه، ليس دعم أصحاب المقاولات، ولا دعم أصحاب الملفات، ولكنه دعم المشاريع المسرحية الحقيقية، والتي لها أهداف فكرية وجمالية حقيقية وواضحة، والتي تستعين بالأسماء المسرحية الحقيقية، سواء في التأليف أو في الأخراج أو في التأثيث المسرحي وفي كل المهن المسرحية المختلفة، والتي يمكن أن تكون لها إضافات معرفية وجمالية وعلمية حقيقية، والتي يمكن أن تصنع في المغرب حراكا مسرحيا حقيقيا، وتساهم في إيجاد الذوق المسرحي، وفي تأسيس ثقافة مسرحية تؤثثها المعرفة بتاريخ هذا الذي نسميه المسرح المغربي والعربي.

وللذين يتحدثون عن وجود أزمة في المسرح المغربي فإنني أقول ما يلي: إن ما يعيشه المسرح اليوم، هو شيء أكبر من الصناعة المسرحية (وإذا كان الأمر يتعلق بأزمة، فهي أزمة وجود بكل تأكيد، الشيء الذي ينبئ بوجود اختلالات في حياتنا العامة، وبوجود أعطاب في اختياراتنا السياسية، وبوجود نقص فظيع في ثقافتنا العامة، وهذا الذي نسميه المشهد المسرحي، ما هو إلا انعكاس أمين لمشهد أكبر منه وأخطر منه، والذي هو اليوم مشهد يطبعه شيء من الالتباس وشيء من الضبابية، والذي قد يقترب أحيانا ليصل إلى درجة الفوضى أو إلى درجة العبث أو إلى درجة اللامعقول، وخلف كل هذا، هناك مناخ عام غير صحي، وهناك هواء فاسد، وهناك علاقات غير واضحة، وهناك سياسة ثقافية غائبة أو مغيبة، ولهذا فإنه لا يمكن أن نصلح حال الفن المسرحي، إلا بإصلاح حال المسرح الوجودي الأكبر، والذي يحتاج أساسا إلى إرادة سياسية جريئة وطموحة، وكل شيء بعد ذلك مجرد تفاصيل)

نعم، كل شيء بعد هذا تفاصيل، ومن يجرؤ اليوم على أن يعيد للبيت المسرحي المغربي حقيقته الضائعة، ومن يعيد له صدقه ومصداقيته، ومن يعيد له صحته وعافيته، ومن يعيد له فنه وعلمه وفكره وفقهه، ومن يحرره من الغرباء ومن المتطفلين ومن المتسللين ومن المتاجرين بقضيته، ومن المضاربين بفنه وبفكره وبعلمه؟

تلك هي الأسئلة التي طرحها الحسن الثاني على نفسه ذات رمضان من الألفية الماضية، والتي استوجبت منه التفكير في إيجاد ثورة ثقافية جذرية حقيقية، تلك الثورة التي أقبرت في المهد، ونرى أن هذه الأسئلة تحتاج اليوم لأن يعاد طرحها من جديد، وأن يكون ذلك جزء من البحث عن المغرب الثقافي الممكن الوجود، أي عن ذلك المغرب الحقيقي المتعدد، المغرب الجميل والنبيل والسليم والمتجدد والمعافى، نفسيا ووجدانيا وعقليا وأخلاقيا وروحيا ..

واقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم ولكل المسرحيين الحقيقيين والصادقين.