بعد مرور عشرين عاما على الاحتلال الأمريكي الغاشم والدامي للعراق، يتأمل الكاتب العراقي ما جرى تحت نظام «الفئة الباغية» الذي أقامه الاحتلال البغيض ورفق رؤية صهيونية خالصة فيه، وبمباركة ومشاركة إيرانية، ويحث شيعة العراق على الولاء لعروبتهم، والتخلص من نظام المحاصصات الطائفية البغيض.

ليس دفاعاً عن الشيعة، إنما عن عروبة العراق

بعد مرور 20 سنة على احتلاله

رمـيـز نظـمي

 

المذهب الشيعي الجعفري/ الإثنى عشري، إضافة الى الحنفي والشافعي والحنبلي والمالكي، من أهم المذاهب الاسلامية الرئيسية الخمسة. إنه مذهب أكبر من أن يُساء اليه، ولا يحتاج لأي ذود عنه. غير انه، كما في المذاهب الاخرى، يوجد أحياناً فرق ما بين جوهر المذهب الأصيل وبين ممارسته.  كما توجد زمر كداعش مثلاً، تدعي زيفاً انتماءها إلى اهل السنة والجماعة، هنالك ايضاً عناصر تدّعي التشيّع لآل البيت إلا أن سلوكها يُناقض اسس المذهب العَلويّة السامية.

لعل ما قاله الامام محمد الباقر (ع)، الامام الخامس عند الشيعة الاثني عشرية، وحفيد الامام الحسين (ع) من والده وحفيد الامام الحسن (ع) من والدته، هو افضل تعريف للتشيّع لأهل البيت "فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون إلا بالتواضع والتخشع والامانة. والتعهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القران وكف الألسن عن الناس إلا من الخير، وكانوا امناء عشائرهم في الأشياء".

«الفئة الباغية»:
اتقاء الله، والامانة، وتعهد المساكين، والصدق، وكف الالسن عن الناس الا من الخير، كلها صفات بينها وبين ممارسات عناصر تدعي التشيّع شاركت في التحكّم بمقدرات العراق منذ الغزو الآثم الذي قادته واشنطن المتصهينة في 2003 هوة سحيقة. في هذا السياق، يستدعي اطلاق وصف "الفئة الباغية" على كل الذين شايعوا الغزو وتواطؤا معه وارتضوا به، وبالمقابل وطّد لهم الاحتلال تسلطهم على العراق والعيث به فساداً، فساداً فاحشاً ليس لشناعته نظير في الكون. لكن، من الاهمية القصوى الجزم الحاسم بأن من يعمم ويخلط ما بين "الفئة الباغية" وشيعة اهل البيت يرتكب خطأً فادحاً. إن شيعة أهل البيت الاصلاء براء من "الفئة الباغية" براءة الذئب من دم يوسف.

سلوك "الفئة الباغية" يتمثل بجسامة فسادهم المالي والاخلاقي، سلوك يبين ازدراءهم للشرائع الايمانية وللولاء الوطني، سلوك لا يكتفي بعدم معاقبة الفاسدين والآثمين انما يكافئهم ايضاً، سلوك يتصادم كلياً مع قيم الاسلام الرفيعة، سلوك يقصيهم عن سمات أهل البيت، سلوك يستحقّر ثوابت الامانة .. جاء في كتابه تعالى عن فلاح المؤمنين "الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون"، وقال الرسول الاكرم (ص) "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له"، وذكر الامام علي (ع) "من ضيّع الأمانة ورضى بالخيانة فقد تبرأ من الديانة".

ليس سراً أن قوى الاستعمار وربيبها الكيان الصهيوني الغاصب، وفق مبدأ فرق تسد، يهدفون تشتيت الأمة العربية والإسلامية الى طوائف تصارع بعضها البعض. وقد عملت واشنطن المتصهينة على التغوّل في تحقيق هذا الهدف في حربها الضروس على العراق منذ 1990 فسعت، ومن تواطأ معها، على شرذمة الشعب العراقي إلى 3 فئات "اكراد وشيعة وسنة عرب"- خبثاً لم تصف الشيعة بالعرب! تشرذم ماكر الغرض منه ابتداع الحزازات واستحداث الكره والبغضاء بين أبناء الشعب الواحد. تشرذم لعين يضمن هلاك العراق ويلجم سؤدده وينفيه عن حلبة مقارعة الكيان الصهيوني، تشرذم سرطاني ينضح بسقمه الى كامل بدن الامة العربية والاسلامية،  تشرذم طائفي نتن يسهّل خلق ونمو دمامل الهرطقة والشعوذة المذهبية.

وهي شعوذة تتمحّور حول خزعبلات فتنوية عمرها 1400 سنة، شعوذة تتمثل في لعن وسب اصحاب رسول الله، محمد (ص)، في مقدمتهم المنتجبين أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب (رضي الله عنهما). شعوذة تتهم، والمعاذ بالله، عائشة (رض) حرم الرسول بالفسق، شعوذة تطالب بقتل احفاد "كاسِري ضلع الزهراء"، شعوذة امتدت حماقتها الى الطعن في مراجع دينية جليلة "خطيئتها" دعواتها الايمانية الوحدوية، من امثال السيدين محمد حسين فضل الله ومحمد باقر الصدر.

يدعو الدين الاسلامي الحنيف ومذاهبه السمحة الى العمل الصالح والمحبة والرحمة، فأين عقيدة  هؤلاء المشعوذين الغلاة من هذه القيم الايمانية الاساسية؟ قال سبحانه تعالى "كتب ربكم على نفسه الرحمة"، و"وما ارسلناك الا رحمة للعالمين"؛ ومن اقوال الرسول (ص) "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، اولا ادلكم على شيء اذا فعلتموه تحاببتم: افشوا السلام بينكم"،  وقال الامام علي (ع) "اكره ان تكونوا سبابين لعانين" … بئست ملة، تدعي التديّن، ترتكز عقيدتها على الكره والسب واللعن والحقد والانتقام! وخسئ كل من يتغاضى عنها.

عروبة شيعة العراق:
هناك الكثير من الافتراءات عن العراق توهمها كسالى التفكير، وابتكرها الخبثاء من منطلقات وغدة: استعمارية وشعوبية وطائفية؛ من أسوئها ان شيعة العراق يفتقدون الولاء الوطني والعروبي وان بوصلتهم تتجه شرقاً نحو ايران. بينما الانتماء الوطني والعروبي للعراقيين شيعة اهل البيت الاصلاء هو امر محسوم وجليّ. المشككون في هذه الحقيقة هم اما غشماء، او قد احتسوا من كأس اباطيل الذين في قلوبهم مرض من استعماريين وصهاينة وطائفيين، او لديهم رد فعل مرير على غي ودجل افراد "الفئة الباغية" ممن يدّعون، زوراً وبهتاناً، انتماءهم لشيعة آل البيت. فمنذ الحرب العالمية الاولى ودخول قوات الاحتلال البريطانية بغداد في 1917 بيّن العراقيون الاجلاء، شيعةً وسنةً، وحدتهم وعروبتهم ومناهضتهم للاحتلال البريطاني. موقف عبر عنه بوضوح عبد الواحد الحاج سكر آل فرعون، احد اهم قادة ثورة العشرين، عندما خاطب المندوب البريطاني، نيابة عن علماء وشيوخ عشائر الفرات الاوسط،  بقوله "لقد جبلنا (ترعرعنا) نحن العرب على العزّ، وانتم مخطئون اذا كانت نيتكم اذلالنا. ان الاستبداد البريطاني سحق مقدسات العرب. ان العرب لا يوافقون على الاحتلال؛ وسيرى الانكليز ان شاء الله عزة العرب وانفتهم". واكد "لسنا عجماً او اتراكاً او انكليزاً، انما نحن عرب، فيجب ان نختار اميراً عربياً ويجب ان تكون لنا حكومة عربية مستقلة".

اجرى الاحتلال البريطاني في 1918/1919 استفتاء في عدة مناطق عراقية كان يتصور ان نتائجه ستاتي لمصلحته.  سأل الاستفتاء العراقيين ان كانوا يفضلون حكماً بريطانياً او عربياً؟ وجهاء كربلاء الابرار وقعوا على مضبطة تنص "وقد اجتمعنا نحن - اهالي كربلاء - امتثالاً لأمركم وبعد مداولة الآراء وملاحظة الاصول الاسلامية وطبقاً لما تقرر رأينا على ان نستظل بظل راية عربية اسلامية، فانتخبنا احد انجال سيدنا الشريف حسين ليكون ملكاً علينا مقيداً بمجلس منتخب من اهالي العراق لتسنين القواعد الموافقة لروحيات هذه الامة وما تقتضيه شؤونها". كما افضى استفتاء ابرار النجف والكاظمين الى مضابط مشابهه الى مضبطة كربلاء، مما يؤكد التوجه العروبي التحرري للمعاقل الشيعية الثلاثه: النجف وكربلاء والكاظمين، مراقد الائمة الطاهرين علي بن ابي طالب، والحسين، وموسى الكاظم ومحمد جواد، عليهم السلام اجمعين.

ارسل المرجع الديني الاعلى محمد تقي الشيرازي الحائري من مقره في كربلاء، بواسطة محمد رضا الشبيبي، نسخة من المضابط الى الشريف حسين بن علي بن محمد الهاشمي، قائد الثورة العربية الكبرى، ومؤسس المملكة الحجازية الهاشمية. كان للشيرازي الحائري دور طليعي في ايقاد وادامة لهيب ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني. ثورة اندلعت في الفرات الاوسط وامتدت الى الفرات الاعلى والى مناطق واسعة من العراق. كان لفتواه التي تضمنت وجوب مطالبة العراقيين لحقوقهم وجواز لجوئهم الى القوة الدفاعية اذا امتنع الانكليز عن قبول مطالبهم، تأثير حاسم في تأجج الثورة وتعاظمها.

ولم يكتف الشيرازي الحائري بإصدار فتواه بل ارسلها بواسطة مبعوثيه الى مختلف انحاء العراق وقبائلها، جنوباً وشمالاً، شرقاً وغرباً. اتسعت الثورة وعمت مدناً وشعاباً على امتداد العراق: كربلاء، النجف، ديوانية، رارنجية، كوفة، رميثة، مسيب، عفك، ناصرية، سامراء، ديالى، كفري، خالص، اربيل، الزاب الاعلى، عانة، تلعفر، فلوجة، رمادي والكثير غيرها. وشارك فقهاء آخرون الشيرازي الحائري في دعمه لثورة العشرين منهم مهدي الخالصي وولده محمد، وفتح الله شيخ الشريعة، ومحمد سعيد الحبوبي، وهبة الدين الشهرستاني، ومحمد مهدي الصدر، وعبد الكريم الجزائري. اما الاقطاب الوطنيون الذين جاهدوا فكان منهم شعلان ابو الجون، وعبد الواحد سكر، وجعفر ابو التمن، وعلي بزركان، ومحمد حسن الصدر، ويوسف السويدي، ونور الياسري، وحبيب الخيزران، وضاري الزوبعي، ومحسن ابو طبيخ، ومحمود الحفيد.

كان الشيرازي الحائري معروفاً ليس فقط بإيمانه الوحدوي الفذ، قولاً وفعلاً، متمثلاً بدعوته الى تلاحم المذاهب الاسلامية وتلاؤم القوى الوطنية، ولكن ايضاً بتطلعاته الاستقلالية والتحررية، وبسعيه الى التوحد العربي. في محاولة للبريطانيين لإثارة النعرة الطائفية طلبوا منه، بدلاً عن السادن (كليدار) السني في سامراء، تنسيب شيعيّ ليكون سادناً لمراقد علي الهادي، الامام العاشر، والحسن العسكري، الامام الحادي عشر، عليهما السلام. الا ان المحاولة باءت بالفشل حيث اجابهم الشيرازي الحائري "لا فرق عندي بين السني والشيعي، الكليدار الحالي رجل طيب ولا اوافق على عزله". ومن مآثر الشيرازي الحائري استحثاث الشيعة والسنة على اداء الصلاة في مساجد كل منهما.

كدليل علي النزعة العروبية لاتباع الشيرازي الحائري، الّف احد ابرز وكلائه، الشيخ محمد حسن ابو المحاسن، قصيدة معبّرة قال فيها:

"فمتى تؤلف وحدة عربية                 وطنية الإصدار والإيراد،

ليس العراق بموطني هو وحده،           فبلاد قومي كلهن بلادي".

وفي هذا السياق ايضا حرر محمد رضا النجل الاكبر للشيرازي الحائري رسالة الى الامير علي، الابن الاكبر للشريف حسين،  وصف فيها التاج الهاشمي بانه "جوهر حياة الامة العربية وبقاؤها" وجاء فيها "ان العراق، شأن سائر الاقطار العربية، قد اعلن مبايعته لوالدك، ويمكنني ان اضيف أن العراق اكثر حماساً للاستقلال المطلق. ان العراق اكثر قومية واقرب الى الوحدة العربية.". انتقل الشيرازي الحائري الى رحمة الله في آب / اغسطس 1920 وتلقى العراقيون خبر وفاته بالحزن الشديد والاسى العميق. رثاه العديد من الشعراء، من جملتهم الشاعر الكربلائي محسن أبو الحب الذي تضمنت احدى قصائد "لقد كان كهفاً للعروبة ملجأ، ويحملُ للإسلام خير لواءِ".

جسّدت ثورة العشرين اسمى خصال اهل العراق المتمثلة في الاباء، والبسالة، والنزاهة الايمانية، والنضال الوحدوي. فكما كتب علي الوردي "ثورة العشرين هي اول حدث في تاريخ العراق، يشترك فيه العراقيون بمختلف فئاتهم وطبقاتهم، فقد شوهدت فيها العمامة الى جانب الطربوش، والكشيدة الى جانب اللفة القلعية، والعقال الى جانب الكلاو، وكلهم يهتفون يحيا الوطن"..  كم يبدو العراق بديعاً عندما ترفرف في سمائه الزرقاء رايات الوحدة الوطنية وبيارق العز والشهامة. يكمن جمال العراق وكمال شعبه الاصيل في نبله، وحضاراته، ونخوته ووحدويته.

وفي عام 1921 ذهب وفد من الوجهاء العراقيين، يقال انه ضم حوالي 90 شخصاً، كثير منهم، ان لم يكن اغلبهم، من الشيعة، الى الحجاز للقاء الشريف حسين، طالبين منه تنسيب ولده ملكاً على العراق. من ضمن الوفد كان جعفر ابو التمن ونور الياسري وعلوان الحاج سعدون وهادي المكوطر ومحسن ابو طبيخ وشعلان الجبر ومحمود رامز وزكي امين المدفعي ورايح العطية. وهذا برهان آخر، ان كان هنالك حاجة الى برهان آخر، على ان الاتجاه الطبيعي لبوصلة شيعة العراق الاصلاء هو الغرب نحو وطنهم العربي وليس الشرق نحو ايران. كما ذكر احد مفكري الامة العظام "ان اروع لحظات التجلي الشيعي هي لحظات اندماج نضالهم بالكفاح العام لمجموع الشعب والامة، لحظات توحد الخاص بالعام. إن لشيعة العراق باعاً طويلاً في الاتجاه القومي العربي إسهاماً وريادةً".

احدى القرائن الاخرى التي تبين التوجه العروبي لشيعة العراق هو ان السيد علي اليزدي، ابن المرجع محمد كاظم اليزدي، عزز موقعه الديني بتصريحاته المتكررة بانه، رغم اصوله الايرانية، يعتبر نفسه عراقياً وعربياً. تولى السيد محمد كاظم الزيدي المرجعية في النجف لحين وفاته في نيسان / ابريل 1919، وبعد وفاته اصبح الشيرازي الحائري هو المرجع الاعلى. هنالك امثلة اخرى لعديد من كبار القوم في الوطن العربي، ذوي الاصول غير العربية، الذين جاهروا باعتزازهم بولائهم للعروبة، مما يؤكد ان الانتماء العروبي هو في الاساس ارتباط ووعي حضاري ولا يقتضي الانتساب العنصري.

احد هؤلاء الكبار كان ابراهيم نجل الوالي محمد علي الذي حكم مصر 43 عاماً من 1805 الى 1848. كان محمد علي، ذو الاصول الالبانية، كفئاً وطموحاً واستطاع ليس فقط تطوير مصر الى دولة متقدمة، بل ايضا دحر الوهابيين في الجزيرة العربية، ومد سيطرته الى السودان. لكن اهم انجازاته كانت توحيد مصر مع كامل سوريا الكبرى (فلسطين، سوريا، لبنان). وتأسيس دولة عربية قوية، تخلف السلطنة العثمانية المتهالكة. أرعب الدول الغربية واقضّ مضاجعهم، فتحالفت كل من بريطانيا وروسيا القيصرية وبروسيا (المانيا) والنمسا على سحق مشروع محمد علي التوحيدي. ابراهيم نجل محمد علي، الفارس البارع والشجاع والذي قاد الجيش المصري في تحقيق الانتصارات اعلاه، شاهر بولائه العروبي وبافتخاره بالأمجاد العربية والاسلامية. ابآن نزعته العروبية عندما جاهر "اني جئت الى مصر صبياً، ومنذ ذلك الحين مصّرتني شمسها وغيّرت دمي فجعلته دماً عربياً".

ارتعدت فرائص الغرب بانبثاق دولة مصر وسوريا العربية الموحدة وفعلوا كل ما في وسعهم لوأدها في مهدها (الامر الذي تكرر عند قيام الجمهورية العربية المتحدة في 1958) ولم يكتفوا بذلك بل خططوا لمنع قيام اي دولة مشابه في المستقبل. في هذا الصدد، كتب لورد بالمرستون "يجب تشجيع اليهود على الذهاب الى فلسطين ليمنعوا اي خطط شريرة مستقبلية يقوم بها محمد علي او من يخلفه". تولى بالمرستون اعلى المناصب في الحكومة البريطانية كرئيس وزرائها ووزير خارجيتها. جاء تصريح بالمرستون هذا قبل حوالي 60 سنة من تأسيس "المنظمة الصهيونية العالمية" التي انشئت في 1897. ومع هذا يدعي الغرب بصفاقة انهم لم يدعموا قيام الكيان الغاصب لأغراضهم الاستعمارية، بل ان نشوء الكيان كان نتيجة  ممارسة اليهود "لحق تقرير المصير"! اي حق هذا الذي  يسلب وينتهك بقباحة الحقوق المشروعة للسكان الاصليين: الشعب العربي الفلسطيني؟

في عام 1956 قدم الفرات الاوسط، والنجف الاشرف خاصةً، مثالاً رائعاً آخر لالتحام الايمان الديني النيّر بالتوجه التحرري الوحدوي العروبي. عندما أمم عبد الناصر في تموز / يوليو 1956 قناة السويس التي كانت تملكها الدولتان الاستعماريتان، بريطانيا وفرنسا، والتي كانت تمثل شريان حياة اوروبا حيث ثلثا نفطها يتم استيراده من خلالها، اندلعت جماهير الامة العربية في تأييد عارم لمصر في مواجهتها لقوى الظلم الاستعمارية. اعتبرت هذه القوى تحدي عبد الناصر لها بمثابة خطر مميت لمصالحها الاستغلالية، وتهديد جسيم لربيبها الكيان الصهيوني الغاصب. الامر الذي ادى في تشرين الاول / اكتوبر 1956 ان تشن بريطانيا وفرنسا والكيان الغاصب عدواناً غاشماً على مصر للاطاحة بعبد الناصر.

ما ان بدأ العدوان الثلاثي حتى هب العراق انتصاراً لمصر عبد الناصر. من اضخم المظاهرات هي تلك التي اندلعت في النجف الاشرف والتحقت بها مدينة الحي وجماهير من الكوفة وكربلاء والديوانية والحلة. مظاهرات عارمة شارك فيها رجال الدين والطلبة ومنتسبو الحوزات العلمية والكسبة واصحاب المهن، وساندها وجهاء النجف ومراجعها الدينية منهم محسن الحكيم وعبد الكريم الجزائري وحسين الحمامي وعلي محمد رضا كاشف الغطاء. ادت هذه المظاهرات الى مجابهات دامية مع شرطة النظام الملكي اسفرت عن استشهاد واصابة العشرات. من ضمن الذين استشهدوا عبد الحسين محمد جواد الشيخ راضي حفيد المرجع الديني حسين الحمامي. في مدينة الحي اعُتقل مئات المتظاهرين وحُكم بالإعدام على القائدين عطا مهدي الدباس وعلي الشيخ حمود. عندما وضِع حبل المشنقة حول عنق الشهيد علي الشيخ حمود هتف بكل بسالة واباء "عاش شعبنا، عاشت العروبة". بعد كل هذه المآثر والتضحيات، هل يمكن التشكيك بالتوجه العروبي للعراقيين الشيعة الاصلاء؟

في عام 2019 مرة اخرى اثبت احرار العراق بأرواحهم الغالية ودمائهم الزكية: شيمهم الوطنية، ورؤيتهم الوحدوية، وتوجهاتهم التحررية وتطلعاتهم اللاطائفية وثوابتهم العروبية. فرغم بغي الاحتلال واتباعه وإجراءاتهم التعسفية المراد منها شرذمة الشعب العراقي ونهبه واذلاله والقضاء على طاقاته وتجريده من عروبته، صمد العراقيون الابرار وامتنعوا عن السقوط في مستنقع الطائفية الآسن. تجلى ذلك بكل وضوح في انتفاضتهم المجيدة في تشرين الاول / اكتوبر 2019. نهض مئات الالوف منهم، اغلبهم من المحافظات الجنوبية، في انتفاضة وحدوية ضد الفساد والتبعية والمحاصصة الطائفية المقيتة، حناجرهم تهدر "لا شيعة ولا سنة، هذا العراق ما نبيعه". بذلت "الفئة الباغية" اقصى جهدها لقمع الانتفاضة بالقوة المفرطة التي ادت الى عشرات الآلاف من الضحايا ما بين شهيد وجريح.

الانتفاضة التشرينية المجيدة لم تكن حالة منعزلة، فقد اندلعت العديد من التظاهرات في مختلف انحاء العراق منذ احتلاله، من جملتها الاحتجاجات الشعبية الواسعة في مدينة البصرة التي نشبت في تموز/ يوليو 2018. تظاهر أهل البصرة وكادحوها استنكاراً للفساد والنهب المستشريين، واعتراضاً على الاوضاع المعيشية المزرية السائدة. اوضاع تعسة تمثلت في ادخال اكثر من 30 الف متسمم الى المستشفيات نتيجة شربهم مياه تبين انها ملوثة. انصب غضب المتظاهرون على القنصلية الايرانية التي اُحرقت، والسفارة الامريكية، ومقرات احزاب "الفئة الباغية"، وبعض المقرات الحكومية. توضح هذه التظاهرات مدى انتشار الفساد وعمق معاناة ابناء مدينة تُعتبر بمواردها من اغنى مدن الخليج العربي. طغمة ظالمة تنهب وشعب اصيل يقاسي.

طائفية النظام السابق:
اضافة الى الافتراء القائل ان شيعة العراق يفتقدون الولاء الوطني والعروبي، هنالك تلفيق آخر مفاده ان النظام السابق كان نظاماً طائفياً سنياً! اتهام النظام السابق بالطائفية له غرضان، الاول، هو تمرير مقولة ان شيعة العراق يمثلون مكوّنا منفصلا تعرض للاضطهاد بمعزل عن بقية عرب العراق؛ والثاني هو محاولة لتفسير الجور الذي تقترفه "الفئة الباغية" على عامة اهل العراق. من نافلة القول، ان النظام السابق كان نظاماً استبدادياً دكتاتورياً سلطوياً، الا ان منهجيته لا تدل انه كان طائفياً سنياً معادياً للشيعة. جبروته وتسلطه احاق كل من رآه مناهضاً او خارقاً لتوجهاته بغض النظر عن مواقعهم او اصولهم المذهبية والعرقية. فكما صرح السيد علي السيستاني "ان نظام صدام حسين لم يكن طائفياً في اي وقت، بل كان دكتاتورياً". انه لأمر محيّر ان يُتهم النظام السابق بكونه طائفياً سنياً وضالعاً باضطهاد الشيعة وكارهاً لهم، في حين ان قائمة قادته، المطلوب اعتقالهم امريكياً، كانت تضم 36 شيعياً من مجموع 55! الحقيقة التي تستحق الذكر ايضاً، ان من ابرز المشاركين في ايجاد حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، في اوائل خمسينات القرن الماضي، كانوا شيعة منهم فؤاد الركابي وسعدون حمادي وشمس الدين كاظم.

تبين الوقائع كذلك تولي عراقيين شيعة مسؤوليات عليا ومناصب محورية اثناء فترة النظام السابق منها: رئاسة الوزارة، رئاسة المجلس الوطني، عضوية مجلس قيادة الثورة، عضوية القيادة القطرية، وزارة الدفاع، وزارة الداخلية، وزارة الخارجية، وزارة النفط، وزارة الاعلام، رئاسة اركان الجيش، قيادة قوات عسكرية، مديرية الامن العام، رئاسة جهاز المخابرات، رئاسة محكمة الثورة، ادارة منظمة الطاقة الذرية، ادارة هيئة التصنيع العسكري، رئاسة البنك المركزي، ممثلية العراق في الامم المتحدة، رئاسة تحرير الصحيفة الناطقة باسم حزب البعث، وهذا غيضُ من فيض.

في المقابل، جل المحاولات الانقلابية العسكرية على النظام السابق تولاها ضباط سنة، من اهمها 'مؤامرة الجبور' التي كان من المفروض ان تنفذ في 6/1/1990 اكتشفها النظام قبل قيامها وفي حزيران/ يونيو من السنة نفسها اُعدم معدوها. من اول المعارضين الاسلاميين الذين اعدمهم النظام السابق كان عبد العزيز البدري، رجل الدين السني وامير ولاية العراق في حزب التحرير. لعل من اهم المحافظات العراقية التي احاطها النظام السابق بعناية خاصة كانت محافظة صلاح الدين (تكريت)، التي تقع فيها قرية العوجة، مسقط رأس صدام حسين، وموطن عشيرته البيجات، فرع من قبيلة البو ناصر. ارفع منصبين فيها، المسؤول الحزبي والمحافظ، ائتمن النظام السابق كليهما الى شيعيين هما نايف شنداخ الغالبي وضياء يحيى العلي. استشهد شنداخ الغالبي عند تصديه لقوات الاحتلال الامريكية، وصادرت "الفئة الباغية" املاكه واغتالوا ولده غسان. آلاف من النخب العراقية الوطنية: علماء، واصحاب الكفاءات، واساتذة، وخبراء، وطيارون وضباط بارزون، تم تصفيتهم بعد الغزو على ايدي "الفئة الباغية"، واجهزة المخابرات الاجنبية من ضمنها الموساد.

من جملة الترّهات التي تقدمها "الفئة الباغية" كدليل على ظلم النظام السابق للشيعة هو حظره في ذكرى استشهاد الحسين (ع) لشعائر كالتطبير باستعمال القامات (السيوف) لشق الرؤوس، وضرب الاجساد بالسلاسل. منع النظام السابق للتطبير لا يدينه باضطهاد الشيعة، حيث ان التطبير ممنوع ايضاً في ايران، فهل يمكن اتهام النظام الايراني بانه معادٍ للشيعة كذلك؟ اضافة الى ذلك، الكثير من علماء الشيعة الكبار يعتبرون التطبير واي شعائر تؤدي الى الاذى الذاتي هي بدع مستوردة من خارج المذهب. من جملة العلماء الذين اعترضوا على التطبير:  محمد باقر الصدر، ومحسن الامين العاملي، ومرتضى المطهري، ومحسن الحكيم، ومحمد حسين فضل الله، وعلي خامئني، واحمد الوائلي.

من الاكيد ان احياء ذكرى استشهاد الحسين، وتمجيد مآثره، والتقيد بسيرته هي ممارسات حميدة. الا أن الحسين لم يشق رأسه بنفسه، وانما طُعن ونزف دمه الطاهر وهو يقاتل الظالمين والفاسدين. لهذا، الاحياء الصحيح للقيّم الحسينبة والالتزام الصائب بثوابت سيد الشهداء يقتضيان مقارعة اعداء الله والأمة من الظالمين والفاسدين، وليس إلحاق الجراح بالنفس ولطم الذات. اتّباع نهج الحسين وتحقيق رسالته الشامخة "هيهات منا الذلة" يستوجبان، لا محالة، منازلة الظالمين والفاسدين. نأي النفس عن عقابهم وغض النظر عن محاسبتهم يناقضان ابسط ثوابت ومبادئ الحسين.

طهران - بغداد واشكاليات العلاقة:
مهد الحضارات، العراق، لنعمته الفريدة بالموارد الطبيعية الغنية والقوى البشرية القادرة، يحوز على جل المقومات التي تؤهله ان يسمو ويزدهر ذاتياً. مقومات تيسر له ايضاً اداء واجبه القومي ودوره الطليعي في مجابهة قوى الشر الاستعمارية والصهيونية والطائفية والرجعية. العراق، بمضائه ووفرة امكانياته وشكيمة شعبه الموحد وتوجهه العروبي، الحضاري لا العنصري، يمثل طاقة رادعة لقوى الشر والتخلف والاستغلال. خصائل العراق جعلته هدفاً متواصلاً لهذه القوى للتآمر والعدوان، لقهره وتمزيق قواه البشرية.

تكتلت هذه القوى في تحالف غير مقدس افضى الى حصار قاتل، وغزو آثم، واحتلال غاشم للعراق في 2003. غزو قادته واشنطن المتصهينة وحلفاؤها، بمعية من تواطأ معها، ومن حرض عليه من انظمة دول الجوار واذنابهم، على الاخص المتواجدة في طهران والرياض. تحالف عماده الانتقام  والحقد واللؤم، غايته اهلاك قطر منيع عروبي شامخ. كان تكتل الرياض مع واشنطن امراً وارداً ومتوقعاً لتحالفهما الوطيد منذ تأسيس المملكة في 1932، غير ان وفاق طهران مع واشنطن قد يبدو غريباً بسبب خصومتهما الظاهرة. الا ان العاصمتين، وفق "الغاية تبرر الوسيلة" و"عدو عدوي صديقي" وضعتا الخصومة بينهما جانباً من اجل اكتساح عدوهما المشترك، العراق. لكن هذا لا يعني المساواة بين واشنطن وطهران في مقدار الاثم؛ واشنطن بغت واجرمت، طهران تواطأت واستغلت. يجب التأكيد ايضاً ان التهديد الوجودي للامة العربية قابع في تل ابيب وليس في طهران.

عندما اطاحت الثورة الايرانية في 1979 بالنظام الشاهنشاهي المتحالف مع واشنطن وتل ابيب، ابتهج احرار الامة العربية وتفاءلوا بتشكيل تحالف استراتيجي ما بين الامتين الشقيقتين العربية والايرانية، تحالف يحقق الازدهار المشترك ويجابه الاستكبار الدولي والتهديد الصهيوني. تحالف مجيد كان احرار الأمة العربية: مصر عبد الناصر والمقاومة الفلسطينية والأبرار العروبيون يطمحون لتحقيقه عندما كانوا يدعمون المعارضة الايرانية في عهد الشاه. تحالف يؤدي الى التئام العروبيين مع نظائرهم الايرانيين في خندق واحد لمقارعة اعداء الامة. ما شجع العروبيين على امكانية انجاز هذا التحالف كان تمجيد الخميني لعبد الناصر بقوله عنه "هو اعظم عربي ظهر في عصرنا، ووفاته خسارة عظيمة للعالم الاسلامي وللعلاقات بين مصر وايران، لقد كان اقرب زعيم لثورتنا عندما كنا مطاردين من الشاه، لقد كان اول شخص وجهت اليه التحية وترحمت عليه عقب وصولي الى ايران بعد الثورة".

التوجه الإيماني والسياسي الناصري، الذي نوّر وميضه ارجاء الوطن العربي، كان توجهاً وحدوياً محارباً لأي نزعة طائفية، مذهبية كانت او عنصرية. غير ان النظام الايراني الجديد، للأسف الشديد، اتخذ موقفاً مغايراً، موقفاً خيّب آمال احرار الأمة العربية وخذل بقسوة تطلعاتهم، موقفاً طائفياً عكس اولوية النظام في تصدير معتقداته المذهبية الضيقة الى دول جواره العربية. تبنت طهران نظرية "ولاية الفقيه" المطلقة، وهي نظرية فئوية تناقض عملياً النهج الاسلامي الوحدوي الجامع، نظرية ضيقة يعارضها اغلب فقهاء الشيعة الإثني عشرية، في مقدمتهم مرجع نجف الاعلى السيد علي السيستاني. وفق هذه النظرية ينوب "الولي الفقيه" (المرشد الاعلى) عن الامام الغائب، المهدي المنتظر، في قيادة الامة الاسلامية دينياً وسياسياً، اي ان ولايته لا تقتصر على الشؤون الفقهية بل تمتد الى الامور السياسية والسلطوية، وبذلك يصبح "ولي الفقيه" الحاكم الفعلي والفقيه الاعلى.

جهود النظام الايراني لتصدير توجهاته المذهبية خلقت تباغضاً وجواً عدائياً مع انظمة دول الجوار العربية خصوصاً العراق. وقع العراق وايران في الجزائر عام 1975 اتفاقية تعاهدا فيها على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلد الآخر، وعلى تخطيط الحدود في شط العرب. التدخل الايراني السافر بعد ثورة 1979 كان نقضاً واضحاً لاتفاقية الجزائر، وتحدياً وجودياً للقيادة العراقية، وتهديداً للأمن القومي العراقي، الامر الذي ادى الى اندلاع الحرب الايرانية-العراقية. حرب دامية وعبثية استمرت 8 سنوات طوال اسفرت عن مقتل مئات الالوف من شباب الجارتين واهدار مليارات الدولارات من خيرات الدولتين، حرب استنزافية المستفيد الاول منها القوى الاستعمارية والصهيونية، حرب مدمرة اصر "ولي الفقيه" على اطالتها الى ان ارغمته القوات المسلحة العراقية على "تجرّع كأس السم" (نوشيدن جام زهر) وقبول وقف اطلاق النار بدون قيد او شرط في آب/ اغسطس 1988.

الحرب توقفت الا ان تداعياتها الكارثية استمرت،  تداعيات حتمية وعواقب فادحة تمثلت في اجتياح الكويت في 1990، وحرب ضروس شنتها واشنطن المتصهينة على العراق دامت 13 سنة، اتخذت اشكالاً عدة من هجوم عسكري مدمر، الى قصف جوي مهلك، الى حصار قاتل، الى غزو آثم واحتلال جائر في 2003. اصرار "الولي الفقيه" المؤسف على ديمومة حربه على العراق لم يتهاون رغم عدة اسباب جوهرية كانت تستدعي انهاءها، خصوصاً في 1982. من اهم تلك الاسباب ايقاف هدر الدم الزكي، وكبح الدمار، وقرار انسحاب القوات العراقية، واسترجاع ايران اراضيها، ومبادرات القيادة العراقية الداعية الى ايقاف العمليات العسكرية، والوساطات المكثفة الدولية والاسلامية والعربية. عناد النظام الايراني على مواصلة هجماته على العراق جره الى مساومته على مبادئه المعلنة بالعداء للشيطان الاكبر (الولايات المتحدة) والشيطان الاصغر (الكيان الصهيوني).

مساومة تمثّلت بإجراء طهران مداولات سرية مع واشنطن وتل ابيب افضت الى دفع النظام الايراني مليارات الدولارات اليهما ثمناً لأسلحة ومعدات وقطع غيار تم شراؤها لاستخدامها في حربه على العراق. لم تقتصر هذه الاتفاقيات على ما سمي بفضيحة "ايران- غيت" بل تعداها الى صفقات كبرى اخرى باهظة الثمن. صفقات ازالت النقاب عنها صحيفة النيويورك تايمس في 8 ديسمبر 1991 بواسطة المحقق الصحفي البارز سيمور هيرش المعروف بكشفه فضائح كبرى للجيش الامريكي في فيتنام وابو غريب ومؤخراً عن تفجير انابيب الغاز من روسيا الى المانيا وكثير غيرها.

ما معنى ان يدفع النظام الايراني مليارات الدولارات الى عدوه المعلن الزنديق من اجل الاستمرار في قتال جاره الذي يشاركه الدين وجيشه الذي غالبيته يشاركونه الدين والمذهب؟ تبريره هو من اجل ازالة النظام العراقي ليتمكن حينئذ من محاربة عدوه الزنديق (طريق القدس يمر عبر بغداد!)،  نفس العدو الذي اثراه وعززه بمليارات الدولارات!! بئس التبرير وضراوة الضغينة وقحولة الوعي. العداء الجارف الذي يضمره النظام الايراني للعراق جعله لا يتردد في اتخاذ اي اجراء، وبمشاركة اي جهة، من اجل قهر جاره العربي. كمؤشر على هذا السلوك، تنسيقه، على ما يبدو، مع الكيان الغاصب لتدمير المفاعل النووي العراقي (مفاعل تموز/ اوزيراك) جنوب شرقي بغداد. من اول الهجمات التي قام بها الطيران الايراني بعد بدء الحرب مع العراق كانت غارته على مفاعل تموز في 30/ 9/ 1980 والتي بائت بالفشل حيث لم تتمكن من احداث الا اضراراً طفيفة. لكن، بعد مرور 9 اشهر تقريباً، قام هذه المرة الكيان الغاصب نفسه بشن غارات جوية على المفاعل في 7/ 6/1981 أدت إلى اتلافه.

وفقاً لما جاء في كتاب "التحالف الغادر" لمؤلفه تريتا بارسي، البروفسور السابق في جامعة جونز هوبكنز، واشنطن، (ص107)، قبل شهر من القصف الثاني، اجتمع في فرنسا ممثلين من النظام الايراني مع مسؤولين من الكيان الغاصب، شرح فيه الايرانيون تفاصيل هجومهم غير الناجح، ووافقوا على السماح لطائرات الكيان، ان اقتضت الضرورة، بالهبوط في ايران. اضافة على ذلك، زود الايرانيون الكيان الغاصب بصور وخرائط للمفاعل العراقي. لا شك ان الصمود الباسل للقوات المسلحة العراقية الذي اثمر في دحر قوات النظام الايراني ومنعها من تحقيق اي نجاح عسكري استراتيجي رغم هجماتها المتتالية بموجات بشرية هائلة واسلحة حديثة فتاكة، وتكبدها مئات الآلاف من الضحايا ومليارات الدولارات من الخسائر المادية، ادى حتماً الى ضغينة عميقة ورغبة ساحقة في الانتقام من العراق وشعبه وقواته المسلحة. هذا يفسر عدم تردد طهران في ان تتواطأ مع 'الشيطان الاكبر' في حربها على العراق.

المداولات ما بين الادارتين الامريكية والايرانية لم تنقطع. الدبلوماسي الامريكي، زلماي خليلزاد، ممثل اميركا في الامم المتحدة والذي عيّنه بوش في 2/ 12/ 2002 كمندوبه الخاص عند "المعارضة" العراقية في الخارج، باح في كتابه "المبعوث" (ص: ١٦٤-١٦٥) انه قبيل الغزو عقد اجتماعين مع محمد جواد ظريف، ممثل ايران في الامم المتحدة في حينها ولاحقاً وزير خارجيتها، اكد له فيهما عزم واشنطن على ازالة نظام صدام حسين، وبعدم وجود اي خطط لتوسيع الحرب الى ايران، والتوقع بتعاون ايران في بعض النواحي. وابلغه كذلك برغبة واشنطن في ان تشجع ايران 'الشيعة العراقيين' على مساهمتهم في الحكومة العراقية الجديدة. في المقابل اشار ظريف بوجوب اعادة تشكيل جذري للقوات الامنية العراقية لعدم امكانية اصلاحها، ودعا كذلك الى اجتثاث عميق لحزب البعث.

من اول ما قامت به الادارة الامريكية عند احتلالها للعراق هو تنفيذ كلا المطلبين الايرانيين: حل القوات المسلحة العراقية واجتثاث البعث. تنفيذ ابان امتنان واشنطن لما قدمته لها طهران من تسهيلات لإنجاح احتلالها وعمق تنسيقهما المتبادل. تسهيلات وتنسيق ثبته محمد علي ابطحي، نائب الرئيس الايراني للشؤون القانونية والبرلمانية، بقوله في 15/ 1/ 2004 بأن بلاده "قدمت الكثير من العون للأمريكيين في حربهم ضد افغانستان والعراق"،  مؤكداً "لولا التعاون الايراني لما سقطت كابول وبغداد بهذه السهولة".

من هم 'الشيعة العراقيون' الذين اشار لهم خليلزاد عند اجتماعه مع جواد ظريف؟ إنهم لفيف من العراقيين الذي استطاع النظام الايراني توظيفه لخدمة مصالحه الذاتية، لفيف تبنى التمذّهب الفتنوي على حساب الانتماء الوطني، لفيف قاتل ابناء وطنه ودعم الحصار الاجرامي الذي فتك بمئات الالوف من أهل بلدهم، لفيف رحب بقوات الاحتلال وابتهج بالمناصب التي انعم بها عليه، لفيف مهد له الاحتلال التحكم بالعراق والعيث فيه فساداً منذ 2003، لفيف خارج على قيّم آل البيت، لفيف يُشكل غالبية "الفئة الباغية". إن رذيلة مؤازرة الاحتلال ومزاولة الفساد تشمل زمراً منحطة من جميع المكونات. زمراً حوّلت عراق العز الى دولة منهوبة محاصصية فاشلة، زمراً ظالمة سعت الى تمزيق شعبه الأبي وافقاره واسقاطه في مستنقع التعاسة والحرمان، زمراً تعمل على تحويل مهد الحضارات الى بلد الموبقات، وعلى إحالة مرتع الثقافة الى حاوية للقمامة، زمراً أولوياتها تنحصر في السرقة، والرياء، والتمذهب الفتنوي، زمراً تعتبر الوطنية والنزاهة والكفاءة قيماً بائدة ومبادئ باطلة، زمراً تقيدت بنظام المحاصصة الطائفي والعنصري الهدام الذي رسمته تل ابيب ونفذته واشنطن.

هل توجد في العالم دولة تحترم نفسها يتقيد نظامها السياسي بالمحاصصة الطائفية والعنصرية؟ هل تقبل ايران مثلا ان يتحدد عرق منصب "مرشدها الاعلى" بان يكون فارسياً، ورئيس جمهوريتها آذارياً، ونائبه كردياً، ورئيس مجلس الشورى بلوشياً، ورئيس مجلس الخبراء تركمانياً، وهلم جراً؟ هل توافق الولايات المتحدة ان يقتصر منصب رئيسها على البروتستانت، ورئيس مجلس شيوخها على الكاثوليك، ورئيس مجلس نوابها على اليهود الخ؟ أحد اقطاب "المعارضة" الذي اعدم النظام السابق شقيقه ونسيبه واعتقله وشقيقته وشقيقه الأخر، واضطر الى الالتجاء الى ايران ثم سورية، وعاد الى العراق بعد الغزو الامريكي في 2003، اقرّ هذا القطب مؤخراً ان خارطة الساحة العراقية الحالية هي "ارادة اسرائيلية نفذها الامريكيون، ورحب بها الايرانيون. اسقاط صدام لم يكن بالآلة النضالية العراقية بل كان بالآلة العسكرية الامريكية، والامريكان حينما دخلوا العراق بآلياتهم الغاشمة وجدوا ان هناك شريكاً ينتظرهم: ايران.

لذلك في تقديري وقراءتي ان الايرانيين والامريكان توافقوا على ادارة الحكم في العراق. اسرائيل تريد تمزيق هذا البلد ولا يمكن تمزيقه وهو وحدة واحدة. رؤية واضحة عند الاسرائيليين ان هذا البلد يتم تدميره عن طريق خارطة سياسية قائمة على اساس عرقي وطائفي. الامريكان نفذوا والايرانيين رحبوا". واضاف ايضاً "لو كنت بهذا الوعي قبل ان يسقط صدام الذي انا عليه الآن، لوقفت الى جانب بلدي ضد الغزو الامريكي ونتائجه، وليبق صدام". بعبارة اخرى، ان الطغمة التي تعسّفت بالعراق بعد احتلاله واسقطته الى الحضيض، هي منظومة انجبها تلاقح غير شرعي بين مصالح واشنطن المتصهينة واطماع طهران في الهيمنة والتسلط.

يدعم النظام الايراني مشكوراً قوى المقاومة في بعض الدول العربية، الا ان هذا الدعم لا يبرر تدخله الضار في الشأن العراقي، ولا يحلل له مساندة الزمر الدنسة التي تصول وتجول فساداً وظلماً في العراق. الدعم الذي توفره طهران الى فصائل "محور المقاومة" العربية يفقد اهميته ان كان ثمنه قهر العراق، وبالتالي ازاحته كقوة ضاربة ضد الكيان الغاصب. احدى الفوائد التي تكتسبها طهران من هذا الدعم هي ان هذه القوى تشكّل عملياً خط الدفاع الاول لحماية مشروعها النووي من اي هجوم محتمل، اي ان النظام الايراني يجني ثمن دعمه بمساهمة هذه القوى في الدفاع عن الامن الوطني الايراني.

ان قهر العراق يمثل كسراً لأمته العربية، ودعماً للعدو الصهيوني. العراق الذي في 1973 ارسل قواته ودباباته وسلاحه الجوي الى سوريا، وساهم في حماية دمشق من السقوط حين نازل قوات الكيان الغاصب في معركة سعسع الضارية، العراق الذي دكت صواريخه تل ابيب، العراق الذي حرر شبه جزيرة الفاو في 35 ساعة، العراق الذي انطلقت نسوره من قاعدة قويسنا الجوية في مصر لتدمير مواقع العدو في سيناء وشارك اشقاءه المصريين الاشاوس في تدمير خط بارليف والعبور المجيد لقناة السويس في تشرين الاول/اكتوبر 1973، العراق الذي كانت ولا تزال فلسطين وشعبها النبيل في عينيه. هذا هو العراق الذي يهدف الاعداء اخضاعه ومنعه من الجهاد لانتشال الامة من اوحال الذلة والهوان والجهل.

ان واشنطن المتصهينة في حربها على العراق لم تنفق ترليونات الدولارات وتخسر الالاف من جنودها ما بين قتيل وجريح لكي فقط تحز رأس النظام السابق، مبتغاها الاساسي هو قطع رأس العراق. قطع رأسه يعني انهاء العراق كقوة قادرة على تهديد المصالح الامريكية والغربية وعلى مجابهة الكيان العدواني الغاصب. جزء مهم من هذا المشروع هو تسليم زمام حكم العراق الى "الفئة الباغية" لضمان دوام فساد العراق وخرابه. ان معاضدة طهران الفاعلة "للفئة الباغية  على مدى العشرين سنة الماضية يعني عملياً مشاركتها لواشنطن في تنفيذ مشروعها الخسيس. يسأل الكثير من العراقيين لماذا تحتضن طهران النظام البائس الذي صنعته واشنطن؟ لماذا تناست طهران اهم مبادئها المعلنة وهو الوقوف مع الشعوب المستضعفة ضد الظالمين والمفسدين؟ هل هنالك اكثر ظلماً وفساداً من حليفتها الطغمة الحاكمة في العراق؟ هل يوجد تفسير منطقي آخر لموقف النظام الايراني بخلاف اعطائه الاولوية لتوجهه الطائفي والمصلحي الضيق؟

تتبجح طهران واتباعها بأن للنظام الايراني فضلاً كبيراً على العراق، اذ حسب ما يدعون، لولا الدعم الذي وفره خبراؤها العسكريون، لما استطاع العراق التخلص من تنظيم داعش الإرهابي الذي كان في 2014 على قاب قوسين او ادنى من احتلال بغداد! يتساءل عراقيون لماذا نحتاج خبراء من جيش هزمناه، ولم نستعن بضباط جيشنا الذي دحرهم؟ ضباط مغاوير من امثال سعدي طعمة عباس الجبوري، وماهر عبد الرشيد، وعبد الواحد شنان ال رباط، واياد الراوي، ومحمد رضا الجشعمي، ويالجين عمر عادل.

بادئ ذي بدء، هل كان داعش لينمو في العراق لولا سياسة "الفئة الباغية" الفتنوية؟ هل كان ارهابيو داعش، ومن لف لفهم، قادرين على مجرد التواجد في اي جزء من العراق لولا الغاء الجيش العراقي المقدام الاصيل -الالغاء الذي طلبته طهران ونفذته واشنطن - ولولا لواذ جيش "الفئة الباغية" بالفرار من مواقعه في محافظة نينوى، تاركين اسلحتهم وعتادهم، امام ثلة من محاربي داعش؟ بعد 2003 نُسبت الى مسؤولين في طهران تصريحات استفزازيه يتباهون فيها بهيمنتهم على العراق - هيمنة للتذكير اتاحها لهم "الشيطان الاكبر". من جملة هذه التبجحات: بات العراق اليوم محافظة ايرانية، ومظاهر النظام الايراني باتت تنتشر في العراق وبين العراقيين حتى اكثر مما تنتشر بين الايرانيين انفسهم" (الفريق محمود جهار باغي)، و"ان ايران اصبحت الآن امبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حالياً" (وزير المخابرات علي يونسي) وان حدود ايران "لا تقف عند الشلامجة على الحدود العراقية، بل تصل الى جنوب ايران" (اللواء يحيى رحيم صفوي).

كما اعرب النظام الايراني عن استيائه لأي انضواء عروبي للعراق مهما كانت بسيطاً. فمثلاً احتدمت طهران غضباً على تسمية العراق للدورة 25 لبطولة منتخبات دول الخليج العربية لكرة القدم التي اقيمت في البصرة في كانون الثاني/ يناير 2023 "بكأس الخليج العربي"، وهو الاسم الرسمي لهذه البطولة منذ ولادتها في 1970. استدعى وزير الخارجية الايراني، حسين امير عبد اللهيان، السفير العراقي في طهران ليعرب له عن احتجاجه على "استخدام السلطات العراقية مصطلحاً وهمياً بدلاً من الخليج الفارسي"!  عادةً يتم استدعاء السفير لتأنيبه على اجراء قامت به دولته يهدد الامن القومي للدولة المستدعية. ولم يكتفوا بهذا الاستدعاء المهين، بل طلبوا ايضاً اعتذاراً من رئيس الوزراء العراقي على هذه التسمية.

يبدو أن ما أثار حفيظة النظام الايراني هو تجاسر العراق عليه، كولي أمره، بتسميته الخليج بالعربي وليس بالفارسي. ليس معروفاً ان كانت طهران سابقاً قد تجرأت واستدعت أي سفير للدول الخليجية العربية الاخرى احتجاجاً على هذه التسمية للبطولة عندما استضافتها هذه الدول على مدى 50 سنة الماضية. هذا يبين الدرك الذي سقطت إليه سيادة العراق في عيون طهران؟ لم ينحصر التهجم الايراني على المستوى الرسمي بل امتد الى الاعلامي ايضاً، فقد ذكرت إحدى صحفهم ان "استخدام هذه الاسماء (الخليج العربي) يدل على ان لدى المسؤولين العراقيين أهدافاً قومية تتمثل في التقارب مع العرب"! يا لها من تهمة شنيعة. وفي هذا الصدد، دعا احد ابرز المحللين السياسيين الايرانيين العراق الى الوحدة مع إيران ونبذ "العروبة المزيفة الجاهلية وتراب الذل العربي" وناشد العراقيين التخلص من زيهم المتمثل "بالدشداشة والعقال"!

يبدو ان البعض في طهران يرصدون العروبة من منظار عنصري، اذ بخلاف ذلك يصعب تبرير تشنجهم من العروبة ومن الحضارة العربية (الاشارة هنا الى الحضارة العربية وليس حضارة العرب). الحضارة التي ساهم في ابداعها علماء وحكماء وفقهاء من العرب والفرس والامازيغ والاكراد والاقباط والاتراك وغيرهم من الشعوب المتآخية. عند العروبيين الاسلام والعروبة متداخلان، اذ ينسبون انبعاثهم الوحدوي الباهر الى انبثاق الدين الاسلامي الحنيف. الاسلام لم يوّحد العرب فحسب بل ألهمهم ومهد لهم السبيل ايضاً لتأسيس امبراطوريات ذات حضارات تليدة امتدت من الصين شرقاً الى الاندلس غرباً، غاياتها ليس استغلال واستعباد الشعوب، كالامبراطوريات الاستعمارية، بل لنشر الحق والازدهار والايمان.

كما ان للامة الايرانية خصائصها التاريخية الفريدة، تتمتع الامة العربية بشخصيتها العريقة المتميزة. وللإسلام الفضل الكبير في صيرورة كلا الامتين. ان ترابط اقطار الامة العربية والنهوض العروبي الرزين يجب ان يكون مصدر ترحيب، وليس غيظ، المسلمين الواعين. الا انه يبدو ان غلاة كلا الطرفين يشتركون في عدائهم للتوجه العروبي. أحد اهم "فقهاء" التكفيريين افتى بأن النزعة العروبية هي"دعوة جاهلية، يستحق دعاتها ان يكونوا من جُثى (راكعي) جهنم، وإن صاموا وصلوا، وزعموا انهم مسلمون"

وقد اصاب الاستاذ عبد الباري عطوان كبد الحقيقة عندما كتب "اذا ارادت ايران ان تكسب عقول وقلوب العرب والمسلمين فان عليها ان تكون دولة تقف في خندق الشعوب المستضعفة التي تقاتل من اجل مواجهة الاستكبار والغطرسة الاستعمارية الغربية، وان تجتث قيادتها كل اصحاب النزعات الطائفية والعنصرية الاستعلائية، أما أن توفر منبرا لهؤلاء، وتضعهم في مواقع قيادية متقدمة، فهذا امر يتناقض كليا مع قيم ثورتها الاسلامية التي جاءت من اجل الانتصار للضعفاء والمظلومين ومواجهة الاستعمار الغربي وحليفته اسرائيل".

يتمنى ابرار الامة العربية على النظام الايراني ان لا يسمح لأي اوهام بإعادة المجد الامبراطوري الفارسي السابق بالتأثير على مواقفه الاستراتيجية، وان يقوم بعملية إعادة تقييم جذري لسياساته الخارجية تجاه دول الجوار العربية خاصةً العراق. الغرض من اعادة التقييم هو استخلاص دروس ثمينة انتجتها تعاملاته الماضية، دروس من شأنها اتقاء تكرار اخطاء سابقة وحماية المنطقة من ويلات كارثية.  من اتعس تلك الاخطاء محاولاته غير المرحب بها لتصدير ثورته الطائفية بأي وسيلة ممكنة، والتي ادت الى نشوب حرب مدمرة لكل الاطراف، حرب دامت لثمان سنوات لإصرار النظام الايراني على استمرارها. بعد مرور سنتين على ابتدائها، اي في 1982، استعادت ايران كل اراضيها. كان ذلك الوقت الانسب لوقف الحرب، من موقع قوة وليس ضعف، كما حصل بعد 6 سنوات في 1988 عندما تجرع النظام الايراني كأس السم، ووافق على وقف اطلاق النار بدون قيد او شرط.

ست سنوات طوال كلفت ايران ليس فقط فقدان نظامها ماء وجهه، بل ايضاً مئات الالاف من الضحايا ومليارات الدولارات من الخسائر المادية الجسيمة. نجاحه في احتلال الفاو في 1986 اوهمه بأن مدناً عراقية مهمة اخرى، كالبصرة مثلاً، ستتساقط في احضانه. الحاصل هو العكس تماماً، حيث دحر العراق جميع الهجمات الايرانية، وفي نيسان / ابريل 1988 شنت القوات العراقية هجوما معاكساً حررت فيه، في 35 ساعة، شبه جزيرة الفاو في معركة حاسمة تكبد فيها الايرانيون خسائر فادحة. وتعاقبت خلال الاشهر الاربعة التالية انتصارات كاسحة للقوات العراقية ارغمت ايران على القبول غير المشروط لوقف اطلاق النار.

الخطأ الاستراتيجي الثاني الذي اقترفته طهران في الشأن العراقي هو تعاضدها مع زمرٍ فاسدة حتى النخاع اتاح لها الاحتلال الامريكي تبوأ الحكم والسيطرة على مقدرات العراق، زمرٍ رجسة سرقت وتعسفت واجحفت. أجل، لقد اغتنم النظام الايراني من العراق، من خلال تحالفه مع "الفئة الباغية", فوائد جمة: مالية وتجارية وسياسية، خلال العشرين سنة الماضية، الا ان هذه الغنائم جاءت على حساب الشعب العراقي وكادحيه واهله المستضعفين. فوائد مادية تقابلها خسائر معنوية جسيمة، خسائر تتمثل بالمقت الشديد الذي اصبح أغلب الشعب العراقي يحمله للنظام الايراني، مقت امتد لبقية مواطني الاقطار العربية الذين شاهدوا معاناة اشقائهم العراقيين على ايدي حليفته "الفئة الباغية".

بهذا فقدت طهران مصداقيتها وتلاشى جل التقدير الذي كان يكنّه لها ابرار الامة العربية عندما ثار الشعب الايراني وازاح النظام الشاهنشاهي. يخدع النظام الايراني نفسه ان كان يتوهم ان مساندته لحركات المقاومة في اقطار عربية ستبرئ ساحته من السيئات التي اقترفها بحق أهل لعراق. هل يوجد اي مبرر: ديني، مذهبي، دنيوي، ان يثور الشعب الايراني ضد الشاه لفساده وظلمه، ثم يساهم حكامه الجدد في اقامة نظامٍ اكثر فساداً وظلماً في البلد المجاور؟

يكن الابرار العراقيون، رغم خصومتهم مع النظام الايراني، كل الود لإخوتهم ابناء الشعب الايراني، ولا يزالون يتطلعون الى اليوم الذي يجمعهم مع اخوانهم الايرانيين في خندق واحد، ليس ليتقاتلوا بل ليقاتلوا معاً اعداء الامة من استكباريين، وصهاينة، وطائفيين، وتكفيريين. ويدعون الله تعالى ان يهدي طهران الى طي صفحات الماضي، والتخلي عن سعيها للانتقام من خسارتها حرب الثماني سنوات، وعن تطلعها لإدامة فرض هيمنتها على جارها. الوحدة الاسلامية وعلاقة حسن الجوار التي تدعو اليهما طهران لا يتحققان قولاً، بل عملاً وتطبيقاً. لن يتم ذلك ما لم يتناسَ النظام الايراني مرارة تجرعه كأس السم، ويتجاوز مصالحه الانانية، وينبذ "الفئة الباغية". نبذ "الفئة الباغية"، الذي لا محال منه، يستوجبه دافعان: الاول اخلاقي، والثاني ديني.  قال الامام علي (ع) "الرَّاضِي بِفِعْلِ قَوْمٍ كَالدَّاخِلِ فِيهِ مَعَهُمْ، وَعَلَى كُلِّ دَاخِلٍ فِي بَاطِلٍ إِثْمَانِ: إِثْمُ الْعَمَلِ بِهِ وَإِثْمُ الرِّضَى بِهِ".

يكفي ما اصاب العراقيين من مآس وكوارث على مدى السنوات، وان كانت الاطراف الخارجية تريد تفادي انفجارٍ عاتٍ في المنطقة لا تحمد عقباه، عليها ان تترك أهل العراق وشأنهم ليلعقوا جراحهم، ويضمدوا قروح قلوبهم، ويتخلصوا من السموم التي حقنها بهم اعداؤهم، ويوحدوا صفوفهم. الشعب العراقي الواعي اكثر من قادر على الالتئام وترسيخ وحدته بنفسه التي حاول الاغراب تمزيقها. يدرك العراقيون الاحرار ان الخلاص لن يأتي بدون تحقيق وحدتهم الوطنية واستئصال منظومة المحاصصة الطائفية والعرقية. الوحدة هي الجسر الوحيد الآمن الذي يؤدي بهم الى بر التعافي والازدهار.

ان الدعوة الى الوحدة ليست فلسفة فكرية او حذلقة سياسية، انها استقراء واقعي للتاريخ والحاضر والمستقبل. هل توجد أمة في الكون نمت وازدهرت وشعبها متنافر ومتشرذم؟  يجب دوماً الاهتداء بالحكمة الوحدوية المأثورة التي توثّق "ان كانت الشيعة تعني التشيع لآل البيت فكل المسلمين شيعة، وان كانت السنة تعني اتباع كتاب الله وسنة رسوله فكل المسلمين سنة". سأل الامام محمد الشافعي صاحبه يونس بن عبد الاعلى، احد كبار علماء مصر في حينها، "هل دخلت بغداد؟ فأجابه كلا، فقال له: يا يونس اذاً ما رأيت الدنيا ولا رأيت الناس". ويقال ان عمر بن الخطاب (رض) وصف العراق بقوله "العراق جمجمة العرب، وكنز الرجال، ورمح الله في الارض، فاطمئنوا فإن رمح الله لا ينكسر"! اجل، ان العراق لا ولن ينكسر.