يقدم هذا المقال قراءة في الكتاب الذي حررته منى أنيس من مجموعة الأشرطة الصوتية التي تركها ألبير آرييه وروى فيها ذكرياته الغنية عن تجربته الشخصية/ العامة في الوقت نفسه، وحولتها المحررة إلى كتاب شيّق له بنيته ورؤاه التي تهم كل راغب في معرفة تاريخ مصر الحقيقي.

اضطرابات قرن كما يرويها ألبير آرييه

المواطن اليهودي المصري الأخير

المناضل الذي شارك في الحياة السياسية ورافق الثورات على رغم الشك الدائم به

شريف صالح

 

بحسب كتاب "مذكرات يهودي مصري" (دار الشروق - القاهرة) لألبير آريه، عاش معظم اليهود في بلدان الشمال الأفريقي بعد سقوط الأندلس وتعرضهم ـ مع المسلمين ـ لمحاكم التفتيش، وبرعوا في مهن مثل التجارة والطب. من نسل هؤلاء ولد ألبير (1930ـ 2021) "اليهودي الأخير" الذي كان شاهداً على أحداث ما يقرب من مئة عام، وأبرزها "اندثار" اليهود في مصر. ويقدم كتابه في سبعة عشر فصلاً وثيقة غنية لرجل شاهد كل شيء عن كثب. آثر البقاء على رغم تعرضه للسجن والاعتقال وفرص الهجرة إلى أوروبا، ويقول في المقدمة: "آرائي السياسية هي التي علمتني حب مصر، والتمسك بها ورفض أي محاولة للنفي منها". ولد لأسرة مستورة الحال، في وسط البلد (القاهرة الخديوية)، وعمل وعاش في البقعة ذاتها، حمل والده جاك أوراق الدولة العثمانية قبل أن يختار أن يكون مصرياً، وكان ينتمي لليهود السفارديم، بينما تعود جذور عائلة أمه إلى أصول روسية من اليهود الإشكيناز. اشتهر باسم التدليل "تي تي"، وعاش طفولته في شارع البستان في عمارة شيدت على جزء من حديقة فيلا مظلوم باشا التي أصبحت ـ في ما بعد ـ مركز غوته الثقافي الألماني. في صباه تأثر بمشهدين؛ الأول تظاهرة في ميدان الإسماعيلية (التحرير)، والآخر رؤية أطفال الفقراء الحفاة في شبين القناطر في زيارة عائلية. لم تحرص عائلته على تربيته تربية يهودية، فكانت علاقته بالأديان تقتصر على بعض القصص والمعلومات العامة، خصوصاً أنه انتسب إلى مدرسة الليسيه الفرنسية الشهيرة، والتي لم تكن تدرس الأديان. في أحد الأيام صحبته أمه طفلاً إلى المعبد فأصر المسؤولون أن تتركه في الطابق الأسفل وتذهب مع النساء إلى الطابق الأعلى، فاعترضت وقالت: "الدين الذي يفصلني عن ابني لا حاجة لي به".

أحلام اليسار
تعرف إلى أنشطة المركز الثقافي الاجتماعي، واطلع على عديد الكتب والروايات ومنها رواية إيطالية بعنوان "فونتامارا" انضم بسببها الشباب إلى اليسار. آنذاك شكل "خلية شيوعية" تقرأ كتب ماركس ولينين بالإنجليزية. ومن الأسماء الشيوعية التي تعرف إليها وقتذاك عبد المنعم الغزالي شقيق زينب الغزالي القيادية الإخوانية الشهيرة! زار جامعة القاهرة لاستقبال إسماعيل الأزهري (رئيس وزراء السودان في ما بعد) وتعرف إلى قيادات مثل الكاتبة لطيفة الزيات، وعبد المعبود الجبيلي الذي أصبح عضواً في التنظيم الطليعي في عهد عبد الناصر، ثم وزيراً في عهد السادات. كانت لدى اليسار أحلام تتعلق بالعدالة والحرية واحترام العلم، لذلك وصف ألبير بإسهاب ازدهار الأنشطة الثقافية والفنية، وتردد الشباب على دور السينما وعروض الأوبرا. وحكى عن تأثره بمدرس اللغة الفرنسية في الليسيه رينييه غرانييه الذي علمه حب الأدب الفرنسي، وكان له فضل كبير على أسماء من أعلام الحركة الوطنية والثقافية في مصر مثل أنور عبد الملك ومحمد سيد أحمد وأمينة رشيد.)

بدأ التضييق على نشاط آريه عام 1949 عندما داهم الضابط عبد العزيز حجازي شقته فرأى والده جاك، وكان معتاداً على شراء الملابس الرياضية منه، فقال له إنه سيذكر أن العنوان خطأ، ثم نصحه أن يطلب من ابنه تمزيق أي منشورات. وعلى رغم انتمائه إلى اليسار يروي موقفاً طريفاً مع أحمد لطفي السيد باشا في بنسيون صغير حيث تصرف الباشا بنبل شديد مع شاب نكرة. ويعقب بالقول: "لو كان هذا الموقف قد حدث أيام الثورة مع أحد الضباط لكانوا قد ألقوا بي في الخارج، فالحقيقة أن الباشوات كانت لهم أخلاق رفيعة".

فلسطين وإسرائيل
في مراهقته زار ألبير فلسطين مع أسرته وأشار إلى تعايش العرب واليهود. في تلك الفترة تعرف إلى شخص من أصل نمساوي يدعى "هانز" تولى تجنيده ضمن الحركة الشيوعية ومناهضة "الصهيونية"، وأكد له أن اليهود جزء من الحركة الوطنية المصرية وعليهم أن يكافحوا من أجل الاستقلال وليس الهجرة إلى فلسطين. ثم سافر مرة ثانية في قطار يخرج من محطة مصر إلى القدس خلال اثنتي عشرة ساعة، ولم يعجب بالمجتمع العسكري الزراعي الذي أنشئ في المستوطنات (الكيبوتزات).

مع قرار التقسيم، صعّد الإخوان خطابهم الدعائي ضد اليهود، فيما رأى الشيوعيون الحل في دولة ثنائية القومية. ومن عارض التقسيم عاد وأيده، بعد تأييد الاتحاد السوفياتي له، خصوصاً "حدتو" في بيان نشرته بعنوان: "لماذا نؤيد التقسيم؟".

لم يتحمس معظم اليهود المصريين للهجرة لكن النظام في مصر ضيق عليهم بعد النكبة. وزاد التضييق عقب العدوان الثلاثي بسبب سياسة القمع لنظام عبد الناصر وتأميم ممتلكات اليهود وسحب الجنسية منهم حال السفر، فآثروا الهجرة. بعد تجربة الاعتقال والإفراج عنه، رتب له سعد كامل لقاء مع ثروت عكاشة للاستفادة من خبراته، ثم فوجئ بأن مدير الاستخبارات صلاح نصر يطلب من عكاشة أن يسأله عن استعداده للسفر إلى إسرائيل، فرفض لأنه كان معادياً للحركة الصهيونية ولو سافر سيقبض عليه. ويشير إلى تعالي أصوات داخل إسرائيل تطالب بالسلام مع مصر منذ عام 1969، ومن أجل ذلك اتصل أحمد حمروش بهنري كوريل بتكليف من عبد الناصر شخصياً. احتفظ ألبير بموقفه المبدئي ضد الحركة الصهيونية. مع ذلك رفض النظر إلى إسرائيل باعتبار أن كل من فيها جيش، وصهيوني، مشيراً إلى إمكانية مد جسور مع أنصار السلام هناك. وفي سنواته الأخيرة اهتم بجمع التراث اليهودي من منطلق أنه جزء مهم من التاريخ الوطني المصري.

نضال وثورة
انضم إلى تنظيم "الشرارة" ثم أصبح عضواً في "حدتو"، الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني. ومراراً وتكراراً حاولت تنظيمات يسارية شتى تكوين حزب مصري موحد وهو لم يتحقق. مع القبض على قيادات مثل كمال عبد الحليم وشريف حتاتة وعبد العظيم أنيس، انتقل آريه إلى العمل السري لتأمين المختبئين لأنه لم يكن وجهاً معروفاً، واتسمت معظم مهامه النضالية طيلة أربعين عاماً، بالسرية. أهم تداعيات تلك الفترة اشتعال المقاومة ضد الإنجليز في القنال، ثم حريق القاهرة في 26 يناير (كانون الثاني) بدءاً من كازينو بديعة في ميدان الأوبرا، ثم تكسير المحال وحرقها في شارع فؤاد. واستمرت الحرائق حينذاك من الظهر حتى الثامنة مساء. واعتبر ألبير أن مشعلي الحريق كانوا منظمين وفق أوامر، متهماً بعض الجهات مثل "إخوان الحرية"، وكان تنظيماً مشبوهاً، مع الإشارة إلى تورط فاروق للخلاص من حكومة الوفد والمقاومة في القنال. ونفى ما قيل عن استهداف محال اليهود لأن الحرق شمل الجميع، وبسببه خسر والده جهود ثلاثين عاماً.

وصفت ثورة يوليو بأنها "حركة" ضد الملك، لتطهير البلد. آنذاك هاجم الشيخ الباقوري "اليهود"، فطلب منه نجيب الاعتذار وزار المعبد اليهودي. وعلى رغم أن الثورة أفرجت عن معظم المعتقلين فهي لم تبال بالشيوعيين بزعم أن الشيوعية ليست جريمة سياسية بل اجتماعية! كان دور الشيوعيين أكبر من الإخوان، فتنظيم "حدتو" كان الأكثر تأييداً للثورة وعندما أصدر قادتها جريدتهم "التحرير"، أسندوا مسؤوليتها إلى عضو التنظيم أحمد حمروش. لكن الإخوان تعاونوا أكثر مع السلطة، وأيدها سيد قطب وكان له موقف سيئ ضد إضراب عمال مصنع الغزل والنسيج في كفر الدوار وإعدام خميس والبقري. وعندما حُلت الأحزاب تم استثناء جماعة الإخوان! وبدأ التنكيل بالشيوعيين، وكانت كلها محاكمات عسكرية. حتى ماكينة "الرونيو" الخاصة بتنظيم "حدتو"، تم وضعها في متحف قيادة الثورة وقالوا إنها كانت تطبع منشورات الضباط الأحرار، ولم يقولوا إنها ماكينة الشيوعيين الذين طبعوا للضباط منشوراتهم!

بين السجون
أواخر عام 1953 كان ألبير ضمن المعتقلين مع شريف حتاتة، الروائي المعروف وزوج نوال السعداوي في ما بعد، ومصطفى صدقي وزوجته تحية كاريوكا. عاش مترحلاً بين السجون لمدة 11 عاماً وانشغل بقراءة الكتب المقدسة بما فيها القرآن الكريم، وتبادل التثقيف مع زملائه وممارسة حياة عادية قدر الإمكان، والاهتمام بالزراعة والبستنة. وعلى رغم أنه وصف في القضية بمدير محل "نيو لندن هاوس" من دون ذكر ديانته، ولا أي علاقة تربطه بهنري كوريل الزعيم الشيوعي، لكن الصحف صدرت بالقول: "الحكم على الصهيوني ألبير آريه المتصل بهنري كوريل".

كان أكثر ما آلمه حين نشر فريد وسيد (الاسمان الحركيان لمحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس) تقريراً يطالبان بعدم ضم يهود إلى الحزب لأن ذلك يتعارض مع الوحدة العربية. فشعر ألبير أنه غير مرغوب فيه بسبب ديانته على رغم ما قدمه من تضحيات. كما سبق لبعض رفاقه أن اتهموه بالعمالة للبوليس!

من طرائف ما يرويه أن أحد الضباط كان يحتجز المربيات التي تصنعها له والدته، بعدما أعجب بها! كما بنى الشيوعيون مسجداً للسجّانة بينما لم يفكر الإخوان في فعل ذلك. وعلى رغم تقدير اليساريين لدور عبد الناصر التحرري كان هناك انزعاج من عدائه للديمقراطية. ومن أخطر ما ذكره أن "مجموعة روما" في باريس سلموا للملحق العسكري ثروت عكاشة خطة العدوان الثلاثي، فنقلها لعبد الناصر الذي استخف بها واعتبرها "ألاعيب مخابرات"!.

كان عام 1959 الأسوأ؛ فقد توفي والده، من دون أن يحقق أهم أمنيتين أن يرى ابنه الوحيد خارج السجن، وأن يلاعب أحفاده. ويشير إلى وقوع حوادث وفاة تحت التعذيب أشهرها وفاة فريد حداد الذي وصفت وفاته على أنها "ضربة شمس"، ثم شهدي عطية صيف 1960 بحيث تحول خبر وفاته إلى فضيحة عالمية.

محل الأب
التحق ألبير بالدراسة في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية، وفي كلية الحقوق الفرنسية في الوقت نفسه، وفيها نال شهادته الجامعية. وانشغل ـ قبل اعتقاله ـ بمساعدة والده في تجارة الملابس والأدوات الرياضية. وكان من أشهر زبائنه سوزان زوجة عميد الأدب العربي طه حسين التي اعتادت تطريز أول حرفين من اسمه TH على ملابسه، وبعض قادة الثورة مثل خالد محيي الدين وصلاح سالم ومحيي الدين أبو العز. وتعرف إلى مدرس تربية رياضية يتردد على المحل اسمه محمد مهدي عاكف أصبح لاحقاً مرشد الإخوان. كان يشتري الملابس والأدوات بزعم أنها للكشافة، ثم اتضح أنها لمعسكر تدريب في كرداسة! وفي ما بعد التقاه في سجن الواحات وتعاونا معاً في عجن الخبز للمساجين!

بعد وفاة أبيه، اضطرت والدته إلى بيع المحل، ولم يبق له سوى مكتب الجملة، وكان باسم زوجة صديقه ومحاميه علي عبد الباري. إلى أن أفرج عنه في أبريل (نيسان) عام 1964. في عام 1965 اضطرت والدته للسفر إلى حيث كانت تعيش شقيقته الوحيدة، وآنذاك لم يكن يسمح لليهود بالسفر إلا إذا تنازلوا عن جنسيتهم المصرية، ففعلت ولم تعد إلى مصر، وعاشت وماتت هناك.

حب وإسلام وزواج
أحب ألبير مرتين قبل أن يلتقي رفيقة دربه سهير شفيق، ونظراً لاختلاف الدين أعلن إسلامه وأنجب منها ولديه سامي وهاني. ومع تدهور نشاط المحل عقب النكسة، لجأ إلى تصدير الزهور والفاصوليا إلى الاتحاد السوفياتي بالشراكة مع صديقه علي عبد الباري. ويشير عرضاً إلى أن قيمة الجنيه آنذاك كانت قوية حيث الدولار بـ39 قرشاً!

مع ذلك استمرت معاناته بسبب الشكوك بشأن هويته وولائه، فلم يستطع الحصول على جواز سفر كمصري و"مسلم" إلا بواسطة خالد محيي الدين الذي تعاون معه في مهام كثيرة لمناصرة القضايا الوطنية والعربية، واستمر عمله التطوعي لسنوات في المجلس القومي للسلام. وبمرور الوقت تراجع انشغاله بالسياسة، ورفض الانتماء الى حزب التجمع الذي أسسه رفاق الأمس. وقد ارتبط طيلة حياته بباريس ارتباطاً عميقاً لكثرة تردده عليها، وإقامة أخته ثم أمه فيها، وهناك أُنقذ نجله سامي من الموت، وكان معظم أصدقائه المقربين ومن قدموا له مساعدات في محنه، يعيشون هناك.

صحيح أنه اختار لنفسه طريق النضال مخالفاً طريق والده رجل "البيزنس" البارع، إلا أنه عقب النكسة عاد إلى التجارة، وخاض مشاريع كثيرة، واشترك مع رفاق النضال ـ منهم رفعت السعيد ـ في استصلاح عشرات الأفدنة. ولأنه كان يحق له أخذ تعويض مالي عن سنوات اعتقاله ومصادرة سيارته، نال ألبير آريه بالفعل بضعة آلاف من الجنيهات، فاشترى بهما سجادتين ووضعهما أمام الباب لمسح الأرجل فيهما!

 

عن (اندبندت عربية)