يواصل الكاتب المغربي انشغالاته بتحولات عمليتي القراءة والكتابة، ومآلات الكثير من الصيغ القديمة في التعامل معهما. ويكشف لنا عن الكثير من المفارقات التي ينطوي عليها الزمن الرقمي، ومخاطر ما جلبه تطوره إلى مرحلة الذكاء الصناعي الذي سيفيد البشر بدون شك، ولكن له الكثير من الاخطار بلاشك أيضا!

القراءة والكتابة: مفارقات الزمن الرقمي

ومخاطر الذكاء الاصطناعي

فريد الزاهي

 

في لقاء لي بأدونيس، منذ أشهر، في مدينة مراكش، بمناسبة ندوة عن الترجمة، وبعد الحديث عن صداقاته المغربية، وقصيدة "فاس مراكش والفضاء ينسج التآويل"، وعن الخطيبي بالأساس، بمرح يكاد يكون طفوليا، أسرّ لي الرجل بحسرة بالغة: "لم يعد ثمة قراء ولا قراءة" ... رمت بي هذه الجملة في سلسلة من النهايات الأبوكاليبتيكية تُتداول بخصوص الفن عن موت الذات والإنسان )فوكو)، وموت المؤلف (بارت)، وموت اللوحة، وموت الحب (باومان) ... وغيرها. هذه النبرة القيامية أضحت تلازم ذهن المفكرين الغربيين بالأساس، وتلقى ما تلقى من الاستحسان، مع أنها هي نفسها في حاجة إلى التمحيص والتفكيك، أو إلى تنسيب على الأقل.

من عصر الكتابة إلى عصر الصورة
في الغرب، كما في العالم العربي، كانت أول خلخلة لمركزية اللغة والمقروء و"الكتاب" تتمثل في فتنة الصور، التي جعلتها تخرج من وظيفتها الدينية لتغدو فنًا قائمًا بذاته. من ثم، صار المصور يحظى بقيمة متصاعدة منذ عصر النهضة. وانتقلت الثقافة من أحادية التعبير اللغوي إلى ثنائية العلامة والصورة. بيد أن العلاقة بين اللغوي والتصويري ظلت حاضرة بقوة من خلال فنون الطباعة (السطامبا) التي رافقت الكتاب بالصور التوضيحية والاقتراحية، مما جعل الصورة سندًا لإنتاج المعرفة، وللتربية أيضًا.

غالبًا ما يزعم كثيرون أن أثر الإنترنت منذ نهاية القرن الماضي كان وبالًا على القراءة، وأنه السبب الأكيد الثاوي وراء تراجعها وتحجيم موقعها المتضائل في الحياة اليومية للناس. لكن هؤلاء يتناسون أن الجريدة كانت أول خطر على الكتاب، وأن أثر التلفزيون كان أوخم عليها، بالرغم من ظهور القنوات الثقافية. فحين ولجت الشاشة الصغيرة البيوت، أضحى طقس السهرة التلفزيونية والتي تلتف فيها العائلة بأكملها حول المسلسل ونشرة الأخبار عادة تنسي القراءة والكتاب والحديث الجماعي والحكايات الشفهية والأخبار المتداولة. ومع شيوع هذا التقليد التلفزيوني، وتكاثر القنوات، لم يعد الجهاز حكرًا على الصالون، وعلى الجلسات الجماعية، بل أضحى يرافق الناس أيضًا في قاعات النوم؛ وهو ما خلق إدمانًا بصريًا لدى العديدين والعديدات، وجعل من الشاشة مساعدًا على النوم، فتظل شغالة حتى بعد استسلام المتفرج(ة) إلى السبات. بعد أن كان ما يسمى le livre de chevet (كتاب السرير) رفيق اللحظات الأخيرة من الليل.

حين اكتسح التلفزيون ساعات اليوم بأكملها، وصار الاختيار بين القنوات (الزابينغ) أمرًا ميسورًا، انزوى الكتاب بين الرفوف التي تحتضنه، وغدت المكتبة ديكورًا، وصرنا لا نلفيه مفتوحًا في أي زاوية من البيت، إلا الكتب الدراسية والمقررات الجامعية. ولم تعد القراءة احترافًا، بل هواية يتشبث بها عاشقو الأزمنة الجميلة، أولئك الذين يعيشون في مخيلتهم وأذهانهم عقود السينما الإيطالية الجديدة، وموسيقى البيتلز والدزيبلين، سواء من الشباب، أو الكهول والشيوخ. وحين أسائل قارئة، أو قارئًا شابًا، في المقهى أو القطار، أكتشفه من هذه الفصيلة التي ترفض عيش زمن السيولة البصرية، وتتعلق بأهداب زمن كم تتمنى لو أنها عاشته فعلًا، فتستعيده بالقراءة.

هكذا، بعد أن كانت القراءة فعلًا أنطولوجيا صارت امتيازًا اختلافيًا. والقلائل الذين يمتدحونها بالصور ويتحدثون عنها بفخر في بروفايلاتهم بوسائط التواصل الاجتماعي، يعلنون بذلك عن تميزهم، وعن انتمائهم لقبائل بائدة أجهز عليها الإنستغرام، والتيك توك، وهلامية التواصل البصري. لكن عصر الصورة لم يقتل الكتاب ولا القراءة، بل منحهما، كما قال ريجيس دوبريه، جلدة جديدة. ولا أدل على ذلك أن الإنترنت رغم سطوته البصرية قد منح لكثيرين متعة الكتابة والقراءة والتعبير، بشكل شذري وفوضوي طبعًا، لكن بشكل أوكد. لقد كفت القراءة عن أن تكون طقسًا فرديًا توجّديًا لتغدو طقسًا جماعيًا أشبه بطقوس الذكر. وأضحى القارئ مكشوفًا يتقاسم متعته مع الآخرين بشكل تزامني.

الكتاب(ة) والقراءة في زمن البصريّ
ونحن نعتقد أن فعل القراءة يعيش الاحتضار، لا نستحضره إلا في شكله التقليدي، ناسين التحولات التي عرفها مفهوم القراءة، حين وسعته البنيوية ليشمل السينما والصورة والعالم. فنحن نقرأ الملامح في التواصل اليومي، ونفك حروف كل شيء ببصرنا وأفهامنا، من اللغة إلى الإشارات. بهذا المعنى، صار الناس يتحدثون عن الأمية البصرية قياسًا على الأمية اللغوية، وعن نحو الصورة قياسًا على نحو اللغة. هذا التوسيع لمفهوم القراءة يبدو كما لو أنه جاء رد فعل على اكتساح الصورة والبصري لإدراكاتنا، بعد أن كانت اللغة تلعب فيه دورًا محوريًا.

ومع ذلك، أضحى عشاق الكتاب يتباكون على انحسار القراءة والقراء، ويتحسرون على مصير الكتاب والكاتب، مع أن وسائل التواصل الجديدة منحته حيوات جديدة، بطرق شذرية أحيانًا، غير أنها توفر له تداولًا جديدًا. فما حصل هو أن الحوامل والأسناد تبدلت، إذ غدا الكتاب صورة تقرأ في الشاشة كما الصورة بمفهومها التقليدي. وغدت العلامة بدورها صورة يمكن أن نتدخل فيها، بل أن نحولها إلى صورة بتقنيات معلومياتية. إننا هنا نعود إلى أصل مفهوم القراءة، باعتباره تلاوة وترديدًا (كما في حال قراءة النبي للوحي كصورة ذهنية مرئية بالبصيرة لا بالبصر) للوحي، أي لصورة لا لنص علاماته مرئية. بهذا المعنى، ليست القراءة مرتبطة أصلًا بنص مكتوب سلفًا، وإنما بنص موجود سلفًا تحوله القراءة إلى لغة. من هنا تكون القراءة ترجمة للامرئي إلى حسي (مسموع) أو مكتوب. بل تكون القراءة أصلًا للكتابة. أليس هذا هو المبدأ الذي تمارسه الشفهية الجديدة لتقنيات التواصل الجديدة؟

لم يعد البحث عن كتاب يتطلب كثيرًا من الجهد، فمحركات البحث تفيدك بوجوده في مكان ما، أو متاحًا بصيغة البي دي إف، أو "كيندل" (مجانًا، أو بمقابل أرخص من الورقي). وحين يستعصي ذلك، تجد منه مقاطع، أو قراءة مختصرة، أو مفصلة له، تنبئنا بفحواه. صحيح أن كثيرين يفضلون الكتاب الورقي، بما يمكّنه من ملامسة حسية وعينية، وبما يثيره من ذبذبات "شبقية" في الأنامل. وأنا في الحقيقة لم أعد أهتم من وقت طويل بهذا الفارق. فبيتي يرزح تحت ثقل المكتبة ووطأتها، بحيث إنها تتقدم حثيثًا لكي تستعمر البيت بكامله. وكثيرًا ما أقضي وقتًا طويلًا في البحث عن كتاب نسيت أن أعيده إلى مكانه المعتاد.

أما مكتبتي الرقمية فإنها تتكاثر، وبدأت تأخذ قسطًا وافرًا من مراجعي، بحيث إنها صارت مكتبة محمولة مثلها مثل هاتفي، ناهيك عن أن الحصول على نسخة أولى من كتاب قديم (السحر والدين في شمال أفريقيا، 1908، مثلًا) أمر يبدو من باب المحال. أما كتاب المعسول للمختار السوسي، فإن أجزاءه العشرين كانت ستلتهم مكتبتي فيما أنها لا تأخذ إلا حيزًا من ذاكرة حاسوبي. هكذا يمكنني أن أتمتع بذخائر المكتبة الوطنية الرقمية بسهولة بالغة، وأتمكن من العودة لما كنت أفتقده من أعداد من مجلة "أنفاس" الشهيرة والمجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع بعد أن رقمنتهما المكتبة الوطنية المغربية. أما القراء الجدد الذين لم يقرؤوا عددًا واحدًا منها قراءة عينية ملموسة، فإنهم يحظون بالحظ نفسه من المتعة والإفادة.

نحن نقرأ الكتاب الرقمي ونتصفحه بطريقة أسرع، وأحيانًا نستل منه، أو نقتطع فقرات نحتاجها كشاهد. الكتاب الرقمي أكثر حرية وخفة، وحجمه لا يخضع لمحددات فضائية. صحيح أن الكتاب بطابعه الفضائي المغلق والثابت يمنحنا وجوده الأكيد، في الحين الذي يصعب أحيانًا الحفاظ على الكتاب الإلكتروني، نظرًا لهفوات الحفظ والتسجيل والأعطاب الممكنة للآليات الإلكترونية. ومع ذلك، فالكتاب الإلكتروني يتداول في مجموعة قد ترتبط به، بحيث يغدو معنى الكتاب مغايرًا. كان الكتاب الورقي يؤكد مفهوم المؤلف ومفهوم الحقيقة المعرفية، أما الكتاب الخاضع لسيولة التداول الإلكتروني فإنه ينتمي إلى معرفة عارضة متحولة ومتداولة بشكل مغاير.

مع ذلك، لن يأفل الكتاب الورقي، ولا القراءة "الورقية"، ولن تقتلهما الصورة والتقنيات الرقمية الجديدة للمعرفة. فقد تضاعفت المنشورات الفرنسية بالنصف في السنوات الأخيرة، ودور النشر الورقية في العالم العربي تكاثرت بشكل سريع. وهي مفارقة تمنح للكتاب وللقراءة، إضافة إلى ممكنات الكتاب الرقمي المسوَّق، وضعية جديدة، يلزم الوقوف عليها بالدراسة الإحصائية والسوسيولوجية، لا بما يصرح به الناشرون من مبيعات.

مآلات الكتابة والقراءة في عصر الذكاء الاصطناعي
كنت من بين الذين ينتقدون في بدايات ظهور "غوغل الترجمة" الفظاعات التي يرتكبها المترجم الآلي. ومع الوقت، لاحظت أن قدرات هذا المترجم الاصطناعي قد تطورت ممكناتها، بحيث إنه أضحى ينافس ذكائي "الطبيعي". وفي الأوقات الأخيرة اكتشفت أن أحد الكتاب، لا يتجاوز عمره العقود الأربعة، قد أصدر في ظرف وجيز أكثر من خمسين كتابًا بالعربية والفرنسية في قضايا شتى ومتنافرة، من الفلسفة إلى السياسة إلى الرواية. فكان ردّ فعلي الأول يتمثل في التساؤل إن لم يكن الرجل يكتب بالاستعانة ببرامج الذكاء الاصطناعي في الكتابة، أي أنه يوكل إلهامه ومعارفه لكائن آلي يتمتع بكافة المؤهلات في الكتابة والدقة والإحاطة المعرفية.

هذه "المزحة" قد تكون حقيقة، أو هي قد تغدو كذلك. فالحوار مع الكائن الآلي يمكن أن يتحول إلى استبدال للمواقع. وليس من قبيل الصدفة أن الخطيبي، الذي كان أحد القلائل المفكرين للتقنية، قد ختم حياته برواية "فتنة كائن متحول" (2009)، يحاور فيه الروبوت، وتدخل فيه الشخصية الرئيسية في علاقة مع كائن سايبورغ يسعى من خلالها إلى مساءلة مصير الحضارة ومآلاتها. إنها رؤية استشرافية للمثقف العربي المتمثل لتقاليده الثقافية، والمنفتح على أسئلة المستقبل. لكنها أيضًا مساءلة لمصير الكيان الإنساني الغامض، ولمغامرات الحب في زمن التواصل الرقمي.

هكذا، فإن النقاش الدائر حاليًا عن مخاطر الذكاء الاصطناعي، ونهاية الإنسان والطبيعة، يتناسى أن الإنسان خلق حداثته بالتقنية وامتلاك الطبيعة. وما دام الإنسان ينتمي للطبيعة، فإنه يتحوّل بالضرورة إلى موضوع لهذه التقنية التي كان مبتكرًا لها. التقنية وسيلة تتحول إلى سلطة، والبعد الثقافي للكائن الإنساني يجعل الإيثيقا سورًا للحماية من نزواته كما من الأبعاد المدمرة لمبتكراته. بيد أن للتقنية نزوعًا إلى الاستقلال، وجموحًا للانفلات، قد يغدو مدمرًا لصاحبه. بهذا المعنى، ستكون ممارسة الكتابة بالذكاء الاصطناعي مفارقة أخرى يلزمنا انتظار نتائجها... أو لنقل إنها مفارقة ستدفع بالإنسان أيضًا إلى استعادة إنسيته، في شكل مقاومة واسترجاع لفطرته؛ وتلكم لعَمري مسألة أخرى.

 

عن (ضفة ثالثة)