تبدو هذه القصائد وكأنها تكتب رحلة الشاعرالعراقي الكبير الأخيرة للمغرب، ولكننا نستطيع أن نقرأ تحت إهابها علاقة حب قديمة بالمكان، وقدرة على استنطاق تغيرات الزمن وتبدلات المكان الأليف معه، تنبض بها تواريخ الشاعر مع نفسه ومع المكان والزمان معا.

مغربيّاتٌ سبعٌ

سعدي يوسف

المَدْبَغة
سلَّمٌ ضيّقٌ، وحديدٌ، سيأخذكَ...
السُّلَّمُ الضيِّقُ، الحلَزونُ، سيبدأُ من آخرِ المخزنِ.
السّترةُ الجِلْدُ، ثَمَّتَ، والشايُ أخضرَ،
تلكَ الحقائبُ مفتوحةٌ، كفِخاخٍ، ستسقطُ فيها عجائزُ برلينَ...
والشمسُ غائبةٌ أبداً
(ربما تُحرِقُ الجِلْد)
يأخذك السلَّمُ الضيِّقُ، الحلزونُ، إلى السطحِ:
من ههنا تُبصرُ المَدْبَغةْ:
شمسُ إفريقيا تتمهَّلُ، حتى تغورَ عميقاً بتلك القدورِ المدوَّرةِ.
الماءُ يفقدُ ما هو للماءِ.
للماءِ رائحةٌ كالمجاري التي في الحميمِ
وللماءِ لونٌ،
وللماءِ طَعْمُ الرصاصِ.
الرجالُ يدورون بين القدورِ، عراةً إلى النصفِ.
كانت جلودُ جِمالٍ على السطحِ تَنْشَفُ
كان قطيعٌ من الماعزِ الغِرِّ ينزعُ أثوابَهُ قربَ ثورٍ بلا جثّةٍ
أتُرى دخلتْ في القدورِ خيولٌ من الأطلسِ؟
الشمسُ باردةٌ
شمسُ إفريقيا تتمهّلُ كي تُنْضِجَ الجِلْدَ
كي تتفادى سكاكينَنا بالغياب...

لندن 30/ 3/ 2009

 

خِزانةُ جامعِ القرويّين
كرسيُّ محمدٍ الخامسِ كان بسيطاً
خشباً
لم تجرحْه يدٌ لتزخرفَه،
أو لتلوِّنَهُ.
كرسيُّ محمدٍ الخامسِ كان على بابِ المخطوطاتِ السعديةِ
يحرسُها.
لو كانت تلك القُبّةُ مُذْهَبةً من تِبْرِ السعديّينَ!
لكنّ القبّةَ عاريةٌ
إلاّ من مخطوطاتِ النحوِ
وكرسيّ محمدٍ الخامس!

لندن 30/ 3/ 2009

 

ساحةُ الهَدِيم (مكناس)
مولاي، اسماعيلُ،
قِفْ، نرجوكَ... هذا حَدُّكَ!
ابتدأتْ منازلُنا الفقيرةُ
وانتهى غالي قصورِكَ!
ليس بَعدَ الساحةِ القوراءِ مِن هَدْمٍ...
أتعرفُ أننا نخشى الدخولَ إلى حدائقِكَ؟
الصهاريجُ ارتوَتْ منها خيولُكَ
غيرَ أنّ غِياضَنا، الزيتونَ والليمونَ والنعناعَ، جفّتْ...
نحن، يا مولايَ اسماعيل، شعبُكَ
نحن لسنا في بلادِ السِّيبةِ...
الراياتُ رايتُكَ
المنابرُ كلُّها تدعو لكَ،
الغاباتُ مزرعةٌ لكَ
الشطآنُ والوديانُ، والنُّعْمى، وثلجُ الأطلسِ البحريّ.
يا مولاي اسماعيلُ
قِفْ!
نرجوكَ...
هذا حَدُّكَ!

لندن 7/ 4/ 2009

 

الشاطئ البربريّ
Barbary Coast
أقولُ الصراحةَ:
هذي البلادُ التي كِدتُ أعرفُها مرّةً
لن أتوقَ لأعرفَها الآنَ...
هذي البلادُ أخَبِّيءُ أعشابَها وأزِقَّتَها في جيوبي الكثيرةِ
لن أسألَ،
الوردُ والسرُّ لا يُسألانِ
الحقيقةُ لا تُسألُ.
الحُبُّ لا يُسألُ.
الدربُ ما بينَ وجدةَ شرقاً وسَبْتةَ،
دربي العتيقُ الذي وطّأتْهُ خُطايَ الخفيفاتُ
أيّامَ كانت موائدُنا نَزْرةً
وبيارقُنا عاليات...
لكَ الحمدُ، يا شاطئي البربريَّ
لك الحمدُ
يا مَن وهبتَ الأصابعَ وقتَ النبات.

لندن 9/ 4/ 2009

 

نُزْلُ تْرانس أتلانتيك (مِكْناس)
Transatlantique (Meknes) Hotel
عُمرُ هذا النُّزْلِ عُمري:
عُمرُهُ خمسٌ وسبعون، وبِضعٌ من حروبٍ.
ينهضُ النُزْلُ على مَشْرفةٍ تَصْلُحُ أن تنصِبَ فيها مدفعاً
يمكنُ أن يقصفَ حَيَّ العربِ، الأسواقَ والتاريخَ والزُّلَّيجَ...
كانت هيأةُ الضبّاطِ في الجيشِ الفرنسيّ ترى في النُزْلِ بيتاً أو مَقَرّاً،
من هنا يمكِنُ للخيّالةِ السيرُ إلى "وجدةَ" ليلاً،
ثم يأوونَ إلى بردِ تِلِمسانَ صباحَ الغدِ...
كان العالَمُ المعروفُ في مُنبسَطِ الكفِّ!
.........................
.........................
ولكني هنا
في البارِ...
أبدو ضائعاً
مستَنفَداً في ولَهِي
إذ أسمعُ "العَرْبِيَّ" يتلو أزرقَ الجازِ
وإذْ ألمحُهُ يغمِزُ لي في آخِرِ الأغنيةِ.
النُّزْلُ الذي أعرفُهُ لم يَعُدِ النُّزْلَ الذي أعرفُهُ...
.........................
.........................
اللحظةُ، كالقطّةِ:
إني أسمعُ، البغتةَ، خَطوي، عبْرَ ممشى العشبِ
أسمعُ الأوراقَ تَسّاقَطُ في الليلِ
حفيفَ الطيرِ إذ يأوي إلى عُشٍّ بِلِيفِ النخلِ
ِمن صومعةٍ في البلدةِ انثالَ الأذانُ...
العالَمُ استكمَلَ معناهُ.
وهذا النُزْلُ أيضاً!

لندن 2/ 4/ 2009

 

جْوان في بار نُوفَلْتِي
ربّما للمرةِ الأولى يرى الساقي، جَمالُ، امرأةً تجلسُ في كرسيِّها العالي
بهذا البارِ،
كي تطلبَ منه كأسَ "رِيكار"...
لقد كان نهاراً رائقاً
والشمسُ في يوم الربيعِ الأولِ،
الناسُ الذين اقتعَدوا مقهى الرصيفِ استمتعوا بالقهوةِ
الآنَ تجيءُ الخطوةُ الأخرى:
إلى البارِ!
.........................
.........................
كأنّ جْوانَ لا تدري بما يَحْدُثُ في البارِ...
لقد جاءَ الجميعُ!
اختفتِ الشمسُ
وما عادَ بهذا الصَّوْبِ من "مكناسَ" مقهى...
وسماءٌ رَطْبةٌ تُمطِرُ رِيكاراً على رأسِ جوان،
البارُ أمسى مسرحاً...
قالت جوانُ:
"الآنَ حانَ الوقتُ كي نمضي إلى الفندقِ..."

لندن 8/ 4/ 2009

 

سيّدي اللقلقُ
ملأَ الرومانُ هذا السهلَ بالأعنابِ والأعمدةِ.
الأَرْزُ الذي يكْمُنُ في الأطلسِ يُمسي سفناً
أو عرشَ جنديٍّ،
وقد يصبحُ كأساً لنبيذ السهلِ
باباً
أو سريراً...
نحنُ جَوّابونَ،
لم نغلقْ علينا أفُقاً
لم نبْنِ بيتاً
دارةً، أو قلعةً...
نحن بنَينا مُدُناً في صحنِ حلوى
وانتظرنا لحظةَ الإفطارِ، آنَ التّمْرةُ الجنّةُ.
ما أشبهَنا بالنحلِ والنخلِ!
وما أشبهَنا باللقلقِ!
السهلُ فسيحٌ...
هل سيبني سيِّدي اللقلقُ عشّاً
بينَ مكناسٍ وفاس؟

لندن 1/ 4/ 2009