في النسخة الأصلية من المخطوطة التي حققها أخيراً، فارس أحمد العلاوي (دار نينوى)، يعيد الباحث السوري الحق لصاحبه باسترجاع الفصول المحذوفة من المخطوطة، خصوصاً تلك التي ينتقد الحلّاق فيها عهد والي دمشق أسعد باشا العظم وجوره على الأهالي، بالإضافة إلى تحليل محتويات المخطوطة، وسيرة المؤلف، والمصادر التي اعتمدها في كتابة يومياته، كاشفاً عن أبرز الظواهر التي رصدها هذا الحلّاق النبيه

«حوادث دمشق اليومية».

أو يوميات الحلّاق الذي انشغل بما تحت فروة الرأس

خليل صويلح

 

بجرعة بنج مركّزة، أطاح محمد سعيد القاسمي (1843 - 1900) مخطوطة "حوادث دمشق اليومية" التي دوّنها المؤرخ الشعبي شهاب الدين بن أحمد بن بدير الحلّاق، أواخر القرن الثامن عشر، من موقعه كحلّاق يتطلع لأن ينتسب إلى طبقة العلماء، خصوصاً أن بعض الأعيان كانوا يترددون إلى محلّه، فكان ينصت إلى أحاديثهم باهتمام، ويدوّن يومياته كمرآة لأحوال المدينة ومكابدات العوام، وسرديات الهامش، مميطاً اللثام عن حوادث لا تعني المؤرخين الرسميين.

هكذا أخضع القاسمي يوميات الحلّاق لعملية جراحية قاسية، أفضت إلى بتر أعضاء النصّ بقوة مبضع الحذف والإضافة، تحت بند التنقيح والتهذيب. لكن اكتشاف هذه المخطوطة النفيسة يستحق وقفة: يروي القاسمي بأنه أراد أن يبتاع شيئاً من عطّار، فوضع العطّار ما باعه في ورقة مكتوبة، ولما عاد الشيخ إلى بيته، فتح الورقة وقرأ ما فيها، فأدرك أنها جزء من مخطوطة تاريخية، فعاد على الفور إلى دكّان العطّار وحصل على بقية الكرّاسة، حتى اجتمعت له مخطوطة "حوادث دمشق اليومية".

ما فعله القاسمي فعلياً هو تشويه النصّ الأصلي، بقصد تسكين آلام الحلّاق ومحوها من متن هذه المدوّنة المهملة، بلغة هجينة أطاحت عامية الحلّاق، وإذا بالمخطوطة تتحوّل إلى بطة عرجاء لا هوية أصلية لها، وكأن القاسمي أراد محو سرديات مؤرخ العامية التي تنطوي على موقف نقدي صريح مما كان يجري في تلك الفترة المضطربة من تاريخ دمشق، خلال عهد الوالي أسعد باشا العظم، فحذف كل ما يخصّ استبداد الوالي تجاه الرعية، وممارسات الأعيان، والأشعار الهجائية، وحتى بعض الأمثال الشعبية، كأن يتحوّل المثل الشعبي الدمشقي "كلام الليل ملطوخ بزبدة، فإذا طلع عليه النهار ذاب"، إلى "كلام الليل يمحوه النهار"، بالإضافة إلى عشرات المذابح اللغوية الأخرى.

فههنا نسف علني لسرديات العوام كنوع من التعالي على الهامش، لكن رحلة المخطوطة لن تتوقف هنا، إذ وصلت نسخة منها إلى القاهرة، ثم ارتحلت إلى مدينة دبلن، بعد أن اقتناها رجل أعمال أميركي يُدعى ألفرد شستر بيتي، يعيش في إيرلندا، لتأخذ مكانها في رفوف مكتبة المدينة حتى اليوم.

في النسخة الأصلية من المخطوطة التي حققها أخيراً، فارس أحمد العلاوي (دار نينوى)، يعيد الباحث السوري الحق لصاحبه باسترجاع الفصول المحذوفة من المخطوطة، خصوصاً تلك التي ينتقد الحلّاق فيها عهد والي دمشق أسعد باشا العظم وجوره على الأهالي، بالإضافة إلى تحليل محتويات المخطوطة، وسيرة المؤلف، والمصادر التي اعتمدها في كتابة يومياته، كاشفاً عن أبرز الظواهر التي رصدها هذا الحلّاق النبيه طوال 23 عاماً (1741- 1762) من موقع المراقب لأحوال المدينة عن كثب، وتوثيق كلّ ما يتعلّق بالغلاء، وزيادة نسبة الفساد الاخلاقي، واهتزاز القيم والأعراف، وارتفاع الضرائب.

ففي القوائم المرفقة بأسعار البضائع والمواد الغذائية، إشارة إلى تدهور أحوال الناس المعاشية "ما جعل الخلق تستغيث وتستجير"، و"تركوا الأعوام في الذل والإرغام، منتظرين الفرج من الملك العلّام ومغيّر الدول والأزمان"، و"وزير الشام مشغول في عمارة داره، ولم يلتفت إلى رعاياه وأنصاره"، و"ما أبقى للفقراء قمصان، وهذا الغلاء ما سمعنا بمثله أبداً، وقد طال المطال، والناس منتظرة للفرج من الملك المتعال"، و"لأن الغلا معلّق بالشام، والمعاملة مغشوشة والفلوس غير منقوشة، والخلق نايمة ومطروشة، والنسا باحت، والرجال ساحت، والحدود طاحت، والأكابر مشغولة، ومروءة الرجال مغلولة، وكل منهم مشغول بحال".

 

عن (الميادين)