تتضافر في قصة الكاتب المغربي وشائج متعددة من الاجتماعي والسياسي إلى الشعبي والأسطوري في كتابتها للعوالم التحتية الثرية لمدينة طنجة، وفي استخدامها لمنظور الطفل في رؤية ما يدور في هذا العالم الخصيب وتفاعله معه.

جداران

عبد اللطيف الإدريسي

استيقظت مهرولاً على تبادل الصياح بين أمي وابن الخالة.

ـ خالتي.. خالتي!
ـ ما بك تصرخ هكذا يا وحش؟ اطلع.. الصباح لله.. الناس مازالوا ناعسين.

ظننت أنها هي.

وصل ابن الخالة إلى غرفتنا فوق السطوح وهو يلهث.. استفهمته أمي عن سرّ هذا الصراخ الباكر.

أجابها وهو يستعيد أنفاسه.

ـ عمّي.. هكذا كان ينادي أبي.. قبضوا عليه.

خيّم صمت ثقيل على المكان.. حتّى أنها عوت، ولم نسمعها.

ترادفت دمعتان من عيني أمّي. تساءلت.. نفس السؤال الذي طرحته على نفسها منذ أكثر من سبع سنوات، عندما ألقوا عليه القبض لأول مرّة.

ـ آش عشاك الليلة؟
ـ ماذا سنتعشّى الليلة؟

لم يترك لها سوى مصروف غذاء وعشاء الأمس. تركها في أسى وقصد مقرّ الكيران، قاصداً تطوان يبحث بين معارفه عمّن يقرضه قليلاً من المال.. لعن الله السياسة.. لا تجلب إلا الويل.

ـ عا... عا.. عا.. عاعاعا..

تعلّقت بأمّي صارخا:

ـ أمّي.. أمّي.
ـ ما بك؟
ـ بنت الفحّام.
ـ ما بها؟
ـ تصرخ.
ـ لماذا تصرخ؟
ـ لا أعرف!

أجابت أمّي وذهنها شارد:

ـ إييييه... ولا أنا..

لم تعر أيّ اهتمام لصراخ بنت الفحّام.. إنها قلقة.. مرتبكة.. همّها زوجها الذي غاب، وسيغيب عنها مرّة ثانية.

ـ عا.. عا.. عاعاعاعا.. عا.
ـ مسكينة بنت الفحّام.. قالت أمّي وهي، مثل أبي، غائبة.

لم يسبق لي أن التقيت ببنت الفحّام.

أعرف كلّ أفراد عائلتها.. أبوها السي أحمد الفحّام.. "اللاّ طيطم" زوجته؛ جاء بها السي أحمد من إحدى قرى "جبالة" المجاورة للمدينة بعد موت أمّ بنت الفحّام، حسب أقوال أمّي، بسبعة أشهر. أخوها الكبير السيمو الحوّات.. يبيع الأواني المنزلية القديمة في الجوطية. أمّا لماذا سمّي بالحوّات فهذا سرّ سيبقى محتفظاً به إلى الأبد.

منزل السي أحمد الفحّام مكوّن من سفلي وفوقي وبعدها السطوح. نفس الهندسة التي عليها المنزل الذي نسكنه. السيمو الحوّات يسكن في الطابق الأرضي مع زوجته، أبوه وزوجته الجديدة يسكنان في الطابق العلوي، أما غرفة السطوح المجاورة لغرفتنا فهي مخصّصة لبنت الفحّام. يفصل بيننا جدار من الآجرّ الملبّس بالإسمنت.

فاجأتني أمّي وأنا أرسم بالفحم على جانب من الجدار زهرية بورود كلها من لون واحد.. عاتبتني وقرّرت بعد ذلك بسبعة أيّام ـ وقد صادف ذلك "العواشر" ـ أن تصبغ الجدار بالجير الأبيض المخلوط بالنيلة.

أحب الأزرق كثيراً.. في بعض الأحيان عند خروجي من الغرفة عابراً فضاء سطحنا في طريقي إلى المدرسة كنت، كلّما أنظر إلى الجدار، أظنّ أن سماء حلّت محلّه.

سألت أمّي لماذا تصرخ بنت الفحّام هكذا.
ـ ربّما لأنّها بها مسّ.. هكذا قالت.
وسألتها إن سبق لها أن رأت بنت الفحّام.
ـ مراراً.. لمّا كانت صغيرة.
رأتها أيضاً قبل موت أمّها بسبعة شهور.
ـ لقد كانت فتّاة جميلة وذكية. قالت وهي سرحانة.
ـ هل تعرف أنها ازدادت عمياء. أضافت.
ـ وهل كانت تصرخ هكذا وهي صغيرة؟
ـ لا.. لا.

«في ذلك الوقت
كانت.
كانت رغوة صابون ناعمة
تلاطف ذوات الزقاق.
رائحة عطر زكية
تزلّف فضاءاته.
كان.
كان طرزها
من داخل ظلمتها
خيط من ماء عينيها
ينضح الموائد والفرش
أهدتني جوخة
اختطفها لصوص السطوح
وأنا في سبعة أشهري الأولى
وشيته بزهرية
بورود
من كلّ الألوان».

أخبرنا جدّي بأنّ أبي حكم عليه بسبعة عشر شهراً سجنا نافذة، وأنّه حوّل من حبس "عزاريطو" إلى سجن القنيطرة العسكري.

لقد حضرت في حفلة "السبوع" التي أقيمت في اليوم السابع بعد ميلادي.. حكت لي أمّي كيف كنت أبكي وكيف أخذتني، وكيف بين يديها حضنتني، وكيف في وجهها حملقت، وكيف عن البكاء توقّفت، وكيف ركّزت نظرتها عليّ طويلاً، وكيف طلبت من أمّي أن تصفني لها.

ـ عا.. عاعاعا.. عاعا.. عاعاعاعا.. عاعا.

يا لها من ليلة ساخنة! داهمني خوف مرعب.. مالها تصرخ هذه الليلة أكثر من العادة؟

انزلقت بين أحضان أمّي وأنا أرتعش من برد سروالي المبلّل بالبول.

ـ ما بك يا حبيبي؟
ـ بنت الفحّام.. صراخها يخيفني.
ـ اذهب وغير سروالك ثم تعال جنبي.
ـ ما لعينيك مبلّلتين؟
ـ إيه يا وليدير.. اللي ما خرج من الدنيا ما خرج من عقايبها.. أبوك مريض.

حدّثني أحد أولاد الجيران، وهو أيضاً جاري في القسم، أشاركه نفس المنضدة، عن ممرّضة تزور بنت الفحّام مرّة في الأسبوع لتهدئتها بالحقن، أن أمّه سألتها عن سبب صراخها.. قالت: إنّ كلباً عضّها فأصابها داء الكلَب.

ـ كم عمرها؟
ـ هي أصغر من السيمو بسبع، أو سبع عشرة سنة؟
ـ والسيمو كم عمره؟
ـ الله أعلم يا حبيبي.

«في انعدام الوصول لسنّه‏
انعدام سنّها..‏
ترى هل سنتقاطع؟‏
وأطرّز لذاتها وجها؟‏
وأضع عليه رقماً؟‏
و...
مع ذاكرتي صلحا».

فاجأني أبي مرّة بمطرقة ومسمار طويل وعريض بين يديّ، وأنا أحاول أن أحفر ثقبا في الجدار الذي يفصل بين غرفتنا وغرفة بنت الفحّام. كم تمنيت أن أراها، أن أضع لسحنتها وجهاً. أنّبني أبي وطلب منّي ألاّ أكرّر مثل هذه الفعايل.

وضعت كرسيا وتسلّقت سور وسط السطح الداخلي المربع الذي يطلّ على فناء جيران الطابق السلفي، وكانت نوافذ الفناء. سمعت جارتنا في الطابق الأرضي، وهي تقول لجارتنا اللافاطمة: حدّثتني الجارة صاحبة الهرّة السوداء التي تسكن في المنزل المقابل لمنزل عائلة الفحّام بأنه يحكى أن بنت الفحّام كلّ ليلة تتزيّن وتلبس قفطاناً طرزته بنفسها وتخرج تتفسح في السطوح. مصاحبة أهل البلد المختفين. موالين الأرض.. وتقضي الليل برفقتهم تغني وترقص وتمرح حتى طلوع الفجر. وفي رواية أخرى تقول الجارة إنّ عمّة المرحومة أمّ بنت الفحّام كانت قد قضت عندهم بعض الأيام. وكانت قد صعدت في إحدى الليالي لتطمئن على ابنة بنت أخيها، فلم تجدها في غرفتها.. فقضت الليل كلّه تنتظرها متستّرة وراء الباب المؤدي للسطح حتّى أدركها النوم.. أيقضها قبيل الفجر صوت رجال ونساء من داخل الغرفة كانوا يتأهبون للرحيل.

أعلمنا جدّي بأن أبي كان مريضاً وقد قضى سبعة أيّام في الغرفة المخصّصة للمرضى داخل السجن.

بقيت بنت الفحّام مدّة طويلة لم تصرخ.. تعجّبت لهذا الأمر.. وضعت أذني على موضع ما في الجدار الفاصل بين غرفتنا وغرفتها.. وقد عزمت أن أسترق السمع.. أحسست بحضورها.. بدفئها.. حاولت أن ألتصق بالجدار لأقترب منها أكثر فإذا بي أضع، غير متعمّد، يدي على زرّ صغير كان مختفياً بين آجرّتين، حرّك فتح باب في وسط الجدار. باب سرّي.. شيء مغناطيسي جلبني نحو ممرّ ضيق وطويل.. دخلني رعب رهيب.. سمعت صدى عوائها يأتي من بعيد.. أحسست بضربات قلبي تزداد خفقاناً.. حاولت التراجع إلى الوراء.. لم أستطع.. الشيء المغناطيسي يجلبني نحوه.. صدى العواء يضخُم.. ضوء الممرّ خافت.. أرى شبحاً.. عيناي تحوّلت إلى عدسة كاميرا تحاول التقاط صورة الشبح والتمعن في وجهه.. اقتربت منها.. قرّرت أن أرفع السترة عن وجهها.. ضوء باهر عمّ المكان.‏

قالت بنت الفحام:

ـ تبارك الله.. حجاب الله.. خمسة وخميس عليه.. شحال زوين هاد الصبي.. الله يحفظوا من العين وينجيه من دواير الزمن. هادي سلسلة ديال الدهب وعليها مخمسة. اشريتها لو من عند مول الدهاب اللي في الصيّاغين.

ـ ربّي يخليك، نكونوا معك فزواجك إن شاء الله.

احمرّ وجه بنت الفحّام.. حاولت أن تخفي وجهها عن الأنظار.. طلبت من أمّها، بعدما وضعتني بين يديّ أمي بكلّ حنان، أن ترافقها إلى غرفتها في الطابق السفلي.. عدت إلى الصراخ مرّة ثانية.

صحت:

ـ لا.. لا.. اتركوني.. أبعدوني عن وجهها.. لا أريد أن أراه.

تركت فراشي مبللاً.. تحسّست سلسلتي الذهبية التي تطوق عنقي.. اليد لا زالت في مكانها.. توجهت نحو سرير أمي.. انزلقت بين أحضانها وأنا أرتعش كزجاج نوافذ الكيران التي تنقل المسافرين من طنجة إلى القنيطرة.

زرنا أبي في السجن.. وكان قد مرّ على اعتقاله سبعة أشهر.. كان فرحاً.. مليئا بالإثارة.. عيناه تتفجّر سعادة.. لقد أكّد له المحامي.. بأن ضغوط حزبه، وتراجع الحكام، ستجعل العدالة هي الأخرى تتراجع وتصدر حكماً بالسراح المؤقت.. سيفرج عنه في غضون السبعة أشهر المقبلة.

ـ أخبر المعلّم أمّك بأنك من بين التلاميذ النجيبين والمجتهدين في المدرسة.. أنا سعيد بهذا. وهذا يشرّفني.
ـ .........
ـ ولكنها أخبرتني أيضاً بأنك مازلت تبول في فراشك.
ـ حتّى أنا سعيد.

وضعت رأسي على حزام سرواله واحتضنت نصف فخذه بين يدي.. أردفت قائلاً:

ـ سألني المُعلّم عن سبب أفولك طول هذه المدّة، أجبته بأنك سافرت إلى فرنسا، ذهبت لزيارة عمّي الذي يعمل في الفحم مثل السي أحمد الفحّام جارنا، عمّ لطيفة.. لماذا ذهب عمّي إلى هولندا ليبيع الفحم؟

قال أبي وابتسامة تحاول أن تحلّ محلّ التعاسة المنتشرة على وجهه:

ـ عمّك لا يبيع الفحم.. إنّه يستخرج الفحم الحجري من المناجم.

بكت أمي.

ـ هل يمكن أن نغيّر لون الفحم إلى الأزرق؟ قلت.

ضحك أبي كثيراً والإثارة ما زالت تملأه.

ضحكت أمي وهي تبكي.

ودّعنا أبي والأسى في عيني أمّي تملؤهما دمعتان وافرتان، أضافتهما إلى بكائها. أما أنا فكنت فخوراً بفكرة تغيير لون الفحم.

لم نسمع عواءها هذا الصباح. الجو صحو جميل، وزرقة السماء تعمّ الفضاء. قضيت وقتاً طويلاً ورأسي مرفوعة تجاه مصدر الزرقة.. بين الفينة والأخرى كانت تتخلّلها خطوط بيضاء تتركها طائرات محلقة هنا بعيداً في أقصى السماء.. خطوط سرعان ما تبدأ في الانمحاء، تاركة رسوماً، كلّ مرّة أحاول أعطيها شكلاً معيّنا وأضع له اسماً قبل أن تندثر متلاشية في الفضاء.. بينما أنا على هذه الحال، سمعت دبدبات صوتية متقطعة مقتحمة صمت سمائي الزرقاء.. آتية من وراء الجدار.

ـ أأ.. أأ........... أأ.. أ....... أأأ...

حركة غير عادية خلف الجدار.. المشي والمجيء.. حفيف الأحذية.. رنين الأصوات.. لم أتعهد مثل هذه الأصوات..

ـ أين أمّك؟ سألت جارة الطابق الأول.

ـ من؟ اللافاطمة؟ أنا هنا في الجهة الأخرى من السطح.. أصبّن بعض الحوائج.

سمعتها تخبر أمّي: أخيراً مول الأمانة خدا أمانتو.

ابتعدت عن الجدار السماوي.. أمعنت النظر طويلاً في جدار سمائي الزرقاء.

ـ اخذينا الكار من باب الحدّ في العاشرة ديال الليل.. وما وصل بنا لطنجة حتّى لخامسة والنصّ ديال الصباح.

استيقظت ذلك الصباح على صوت أبي وهو يسأل أمّي عن أحوالنا وعن أوضاع المنزل.

ـ فين الولد؟
ـ أنا هنا أبابا.. بنت الفحّام ماتت.
ـ شحال هادي باش ماتت؟ 
ـ هادي سبع شهور.. أجابت أمّي؟

خرجت إلى السطح.. حلّقت ببصري في السماء الناصعة الزرقة فإذا بطائرة عابرة الأجواء العليا تسطر خطين أبيضين.. تلاشى الخطان.. ارتسمت من الخطّ الأول حمامة، حلّقت في اتّجاه السماء الزرقاء.. ومن الثاني حمامة أخرى قصدت، وقد كَسَرَتْ جناحيها، جدار غرفتنا الأزرق مرتطمة به.

توقّفت منذ ذلك الوقت عن البول في الفراش.