يكشف الباحث اللبناني المرموق إنّ صمود الشعب الفلسطيني أمام هجمة صهيونيّة عالميّة امتدّت لقرن من الزمن معجزة بحدّ ذاته، بالرغم من التضحيات والخسائر والتدمير، حيث احتضنت القوة العالميّة العظمى إسرائيل منذ الحرب العالميّة الثانية لكن الشعب الفلسطيني لم يستكن أو ينكسر، بل قام ليغسل عن الأمة عار الخنوع والهزائم المتكررة.

الحرب على غزة العـزّة ومضاعفاتها

أسعد أبو خليل

 

سبعة أسابيع مرّت على الحرب الإسرائيليّة الوحشيّة ضد غزة. هذه حقبة كافية كي نستخلص بعض العبَر منها عن الغرب وعن العرب. أولاً، إنّ استمرار الحرب دليل معاناة جيش العدوّ في محاولته لتحقيق أهدافه. سقطَ للعدوّ (فقط منذ بدء التوغّل البرّي وفقط في غزة) ٦٧ جندياً (من المُعلن عنهم، وعدوّنا كذّاب، كما اكتشف بعضكم). قارنْ ذلك باجتياح العدوّ للجنوب في اجتياح ١٩٧٨ عندما سقط له ١٨ جندياً فقط. العدوّ يتقدّم في غزة ببطء شديد، والوتيرة تنذر بخسارات أكبر لو تقدّم أكثر. قبول العدوّ بوقف النار (ولو لفترة قصيرة) دليل ضعف لا دليل قوّة. هو كان قد أعلنَ أنه لن يتوقّف قبل القضاء على «حماس» بالكامل، والهدف لا يزال بعيد المنال كما كان عند البدء بالعمليّة (وإعلان نتنياهو أن «الموساد» سيتعقّب قادة «حماس» هو دليل فشل أيضاً). والعدوّ ينجح في الالتزام بعقيدته المؤسِّسة عندما يحقّق نصراً سريعاً كما فعل في ١٩٦٧ أو في حروبه ضدّ لبنان حتى ١٩٨٢. القدرة الصاروخيّة لـ«حماس» لم تتعطّل، بل هي طاولت تل أبيب أخيراً. النبض البياني لـ«حماس» لم يضعف على مرّ الأيام.

ثانياً، فشلت آمال أميركا وإسرائيل في إبعاد «حماس» عن الشعب الفلسطيني. بايدن وصحبه أصرّوا على مرّ العدوان أن «حماس» لا تمثّل الشعب الفلسطيني. كالعادة، يظنّ المستعمر الأبيض أن باستطاعته اختيار زعماء المضطهدين الملوّنين. كان العنصريّون البيض يختارون للسود ممثّليهم من الخانعين بينهم. أنور السادات هو الممثل الشرعي الوحيد للشعب العربي والإسلامي عند الغرب. زادت شعبيّة منظمة التحرير عندما أصرّ الغرب وإسرائيل على إقصائها من المعادلة. والحركة الوطنيّة فشلت في مسعاها لإقصاء «الكتائب»، بل إن مسعاها في عزل الحزب زاد من شعبيّته عند المسيحيّين. كل الدلائل تشير إلى أن «حماس» هي الأكثر شعبيّة عند الشعب الفلسطيني. هل هناك شك في أن «حماس» ستفوز بأي انتخابات ضد محمود عبّاس وحسين الشيخ وعصابة رام الله؟ إنّ سبب عدم إجراء انتخابات في الضفة والقطاع لسنوات طويلة هو أن أميركا وإسرائيل لا تضمنان خسارة «حماس»، وإلا كانت هي عجّلت في الانتخابات.

نعرف نحن في لبنان كيف تستغلّ أميركا الانتخابات: هي أصرّت على إجراء انتخابات بعد اغتيال الحريري، لأنها أرادت أن تستفيد من المناخ المُلائم لقوى ١٤ آذار. إنّ تحوّل أبو عبيدة إلى ظاهرة شعبيّة في كل العالم العربي يعكس ما يُصطلح على تسميته بالنتائج غير المُتوخّاة – أي أنك يمكن أن تهدف إلى تحقيق هدف ما من عمل حربي فتأتي النتائج عكسيّة (مثل صعود ظاهرة عبد الناصر بعد العدوان الثلاثي الذي كان يهدف إلى إنهاء ظاهرته بالكامل). «حماس» ضمنت شعبيّة لسنوات آتية، وبناءً عليه يمكنها أن ترث منظمة التحرير، أو أن تؤسّس لمنظمة فلسطينيّة جامعة. وأكبر اقتراع ثقة بـ«حماس» هو غياب اللوم العلني من أهل غزة، وهذا ما كان يعوِّل عليه العدوّ (عوَّلَ عليه إلى درجة أنه استعان بممثّلة لفبركة شريط لوم «حماس»).

ثالثاً، التفوّق الجوي بات العنصر الوحيد عند العدوّ. هو ليس عنصراً بسيطاً، لكنه العنصر الوحيد. المشاة كان عنصراً في الحروب التي انطلقت منذ النكبة، لكن ذلك تدهور بدليل تقصير نسبة القتل بين العرب والإسرائيليّين (أذكر دراسة لـ«مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة» في أوائل السبعينيّات وفيها ورد أن نسبة القتل كانت ١٠٠ لواحد، لمصلحة العدوّ). أراد العدوّ أن يقتل عدداً هائلاً من الفلسطينيّين بغية تقليص نسبة القتل لمصلحته.

رابعاً، أصبح استهداف المدنيّين اختصاصاً للعدوّ. حركات المقاومة عبر التاريخ المعاصر خاضت في نقاشات طويلة حول جدوى أو أخلاقيّة استهداف مدنيّين خارج فلسطين المحتلّة أو داخلها. حتى حركة «حماس» بعد موجة التفجيرات في الانتفاضة الثانية خاضت في نقاشات داخليّة تأثّرت بالنقاش العام عند الشعب الفلسطيني. خسر العدوّ المعركة الإعلاميّة بالكامل. صحيح أن الإعلام الغربي النافذ لا يزال يناصر إسرائيل ويطمس الرواية الأخرى بقدر المستطاع، لكنّ ضخّ السردية الفلسطينيّة عبر مواقع التواصل يفوز بالتعداد والتداول والوقع.

خامساً، النظام العربي الرسمي ليس معطّلاً. هو بأمر من السعودية يخدم مصلحة إسرائيل. هو عطّل مبادرات في قمّة الرياض تحدّثت عن تسليح الشعب الفلسطيني أو استخدام سلاح الاقتصاد أو قطع العلاقات مع إسرائيل. وعلاقة السعوديّة السرّية مع إسرائيل أقوى من علاقات الدول العربيّة العلنيّة معها. السعوديّة والإمارات أثبتتا (من خلال الإعلام وسلوك الجامعة العربيّة) أنهما حليفتان وثيقتان لإسرائيل في أوقات الشدّة وأوقات الرخاء.

سابعاً، خسر العدوّ المعركة الإعلاميّة بالكامل. صحيح أن الإعلام الغربي النافذ لا يزال يناصر إسرائيل ويطمس الرواية الأخرى بقدر المستطاع، لكن ضخ السردية الفلسطينيّة عبر المواقع يفوز بالتعداد والتداول والوقع. مقارنات التظاهرات من أجل فلسطين بالتظاهرات من أجل إسرائيل تظهر تفاوتاً كبيراً لمصلحة فلسطين، وهنا نتكلّم عن دول الغرب المتعصّبة للصهيونيّة. وهاشتاغات التعاطف هي بنسب ملايين لمصلحة فلسطين. ماذا يعني أن الشباب الأميركي الأبيض أعاد اكتشاف رسالة بن لادن إلى أميركا والتي يتحدّث فيها عن انحياز أميركا لإسرائيل كعنصر من عناصر العداء ضد أميركا (لكن بن لادن مرجع سيئ للغاية)؟ «القاعدة» و«داعش» تخصّصتتا في قتل المسلمين (والغربيّين عند «القاعدة») ولم تستهدفا إسرائيل أبداً (وإسرائيل كانت تحتضن مقاتلي «القاعدة» في سوريا، باعتراف الحكومة الإسرائيليّة). نوعيّة بروباغاندا إسرائيل باتت مثار سخرية وهي كانت في زمن أبا إيبان مضرب المثل في الغرب (طبعاً، كانت بروباغاندا إسرائيل، أمس واليوم، تعتمد على الكذب والتلفيق والفبركة).

ثامناً، لن يعي الغرب مضاعفات سياساته في حرب غزة إلا بعد إخماد النيران. السلوك الغربي الحكومي، في السياسة الخارجيّة والداخليّة، سيعيد النظر في النظرة إلى الغرب في كل مجتمعات الدول النامية. أي طرح شعار لعقوبات دوليّة والقانون الدولي وجرائم الحرب سيُقابل بالسخرية والتشكيك. لاحظت أن أي إعلان من الحكومة الأميركية حول روسيا بات يستدعي كمّاً هائلاً من الهزء والسخرية. لا يمكن لأيّ عاقل أن يصدق مزاعم الحكومات الغربيّة. طبعاً، هناك جمعيّات ووسائل إعلام مُمَوَّلة من الغرب والتي ستستمرّ في عملها للترويج لقيم غربيّة زائفة. لكن تصوّر أن تعقد جمعيّة مموّلة من ألمانيا أو سويسرا أو فرنسا مؤتمراً أو ورشة عمل عن «حريّة التعبير» أو عن «التعايش» أو «احترام الاختلاف» أو (وهنا النكتة الكبرى) عن اللاعنف. أو لنتخيّل أن السفارة الهولنديّة تعظنا عن حقوق الإنسان أو أن السفارة الألمانيّة تحدّثنا عن القانون والشرعية الدوليّة. مهمة هؤلاء باتت أصعب. وسائل إعلام سوروس و«الناتو» ستعاني. وسوروس الابن أكثر مجاهرة بالأجندة الخبيثة من والده: هو يهنئ الحكومة الأوكرانيّة على دورها في الحرب، ويؤجّج لها مثل الحكومات الغربيّة.

تاسعاً، بدأت أميركا وحلفاؤها يفقدون السيطرة على مقدّرات العالم. الفصائل العراقيّة التي قصفت القاعدة الأميركيّة أوضحت أنها تفعل ذلك لمعاقبة أميركا على موقفها من فلسطين. الثمن الذي ستدفعه أميركا بسبب تبنّيها حرب الإبادة في غزة سيكبُرُ. طبعاً، الحكومات ليست في وارد محاسبة أميركا وهي التي تنصاع لأوامرها. ودول العالم النامي تتمرّد بتشجيع من الصين وروسيا. وعندما يتمرّد الحليف السعودي، وإن قليلاً، على الراعي الأميركي، فإن هذا يفتح المجال أمام المزيد من المبادرات نحو الصين.) لم تكن زيارة الوزير السعودي بصحبة وفد الجامعة العربيّة للصين قبل أيام من أجل إيقاف الحرب، بل لإطالة الوقت أمام إسرائيل لتكمل ما بدأت به. لكن إسرائيل في ٢٠٠٦ والآن في غزة تخيّب آمال حلفائها لأن أعداءها أشدّ بأساً منها).

عاشراً، تحرّر العرب والمسلمون في الغرب. أو لنقل إن الشباب العربي في الغرب تحرّر من أثقال كبّلت عمل ونطاق أجيال سبقته. لم أكن أتصوّر أن أرى في شوارع مدن كاليفورنيا شباباً (عربياً ومسلماً بأكثره، لكن مع وجود يهود وبيض مسيحيّين وبعض المسنّين التقدميّين) وهم يهتفون لحريّة فلسطين ولشعار «من البحر إلى النهر». إنّ الإصرار على الهتاف الأخير هو تحدّ بوجه المنظمات الصهيونية، وحكومات الغرب التي تريد أن تحظر الشعار. هذا القمع أدّى إلى ردّة فعل عكسيّة. هناك فتاتان لبنانيّتان في نيويورك تعرّضتا لحملة تشنيع فظيعة (ما يُسمى هنا بالـ«دوكسنغ»، أي التشهير عبر نشر معلومات شخصيّة عن الشخص من أجل التسبّب بمعاقبة ماليّة واجتماعيّة) لأنهما شوهدتا وهما تنزعان ملصقات للمخطوفين الإسرائيليّين في غزة. هذا التمرّد من قبل الجيل الجديد سيصطدم لا محالة بثوابت السياسات الغربيّة: أي أن قدرة الغرب على التسويق لديموقراطيّته ستضعف جراء حاجتها إلى مزيد من القمع الداخلي للتعامل مع الشباب العربي والمسلم الذي يعيش في مجتمعاته. وهذا الشباب لا يأبه للقانون: رأيناه في فرنسا وبريطانيا متجاهلاً للقوانين حول التظاهر.

حادي عشر، نظريّة المسار الإبراهيمي سقطت في غزة. افتراض أن طمس القضيّة ودفنها ممكن بوجود أنظمة مُطبّعة زال، وقدرة الإدارة الأميركيّة (شريكة حرب الإبادة المباشرة) على بسط الصلح الإبراهيمي تقلّصت كثيراً. والنظام السعودي يريد أن يتقدّم، لكنه يحجم خوفاً من ردود الفعل في المملكة وفي العالم العربي. غزة غيّرت المعادلات والمعايير والحساسيات. لم يعد لمقولة أن قضية فلسطين ليست مهمة اعتبار حتى في عواصم الغرب. بايدن كان أول رئيس منذ نيكسون لم يباشر بخطوات محددة في «مسيرة سلام».

ثاني عشر، قدرات حماس والحزب والحوثيّين مخيفة للمشروع الصهيوني. الرغبة في قلب النظام الإيراني لا تزال توجّه سياسات واشنطن وتل أبيب. حماس والحزب شكّلا مشروعاً صلباً ومتراصّاً وتعاملا مع الخطر الأمني بشدّة خلافاً لتجربة منظمة التحرير، حيث كانت المنظمات متراخية ومخترقة بسبب عدم غربلة المتقدّمين للانضواء. والسرية لم تكن معتمدة (يذكر الذين عاصروا التجربة أن الأسماء الحركيّة كانت أقرب إلى المزاح، وكان الجميع يعرف الأسماء الحقيقيّة للرفاق والإخوة في الخليّة). المشروع الصهيوني يزيد من وحشيّته لأنه يدرك أن هؤلاء من طينة مختلفة وجديدة لم يألفها الجندي الإسرائيلي من قبل. تراقب صور تقدّم المشاة وتتذكّر العنجهيّة التي تحرّكوا بها في غزواتهم في لبنان.

ثالث عشر، الغرب أعلن أنه شريك لإسرائيل في الحرب على غزة، وهو سيدفع الثمن من جراء ذلك من قبل تنظيمات جديدة على الأغلب. حرب الإبادة على غزة ستولّد حركات وتنظيمات ثأريّة جديدة والاقتصاص سيكون عالميّاً على الأرجح لأن كل عواصم الغرب (ربما باستثناء إيرلندا) شاركت إسرائيل في حربها. شعرت حكومات وشعوب الغرب بأن العرق الأبيض في خطر وأن جحافل السود والملوّنين ستصعد بصعود المقاومة الفلسطينيّة في غزة ولبنان. أميركا لم تشعر بعد بمضاعفات هذه الحرب.

الحرب على ما تقف عليه اليوم ليست في مصلحة إسرائيل عسكرياً أو سياسيّاً. هي نصر ضد الأطفال والإنسانيّة في العالم. صحيح أن المعركة لم تنتهِ بعد، لكنّ النصر الإسرائيلي الذي كانت إسرائيل تحلم به على طريقة ١٩٦٧ ولبنان فاتَ أوانه مهما حصل بعد اليوم. ولكي نعرف كيف تحقق هذا الأمر، علينا أن نتبع مسيرة «حماس» التي قادة إلى هذا التحول الجذري.

«حماس» في أطوارها المختلفة:
مرّت الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة في مراحل عديدة وتغيّرت أنواع قياداتها. كانت الحركة في الثلاثينيات منقسمة بين أجنحة عائلة الحسيني والنشاشيبي (التي كانت قريبة من الهاشميّين) وكانت طبقة الحِرفيّين المهنيّين والمثقّفين تعمل من خلال حزب الاستقلال الفلسطيني. فيما بعد، نبذ الشعب الفلسطيني كل التيّارات السياسيّة التي قادته نحو النكبة. أعاد تشكيل أحزاب جديدة، أو انضوى في أحزاب أخرى موجودة: من البعث إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى حركة القوميّين العرب. ومنظّمة التحرير لم تجذبه في البداية لأنها كانت أداة للأنظمة العربيّة، وهدفت إلى تسكين الغضب الفلسطيني العارم.

بعد 1967، انطلقت مسيرة من العمل التنظيمي الفلسطيني الجديد. منظمات كان عمادها الإصرار على ضرورة الكفاح المسلّح كطريق أساسي (أو وحيد عند الثوريّين) لتحرير فلسطين. عدد التنظيمات كان كبيراً جداً والتنسيق بينها كان غائباً. كل المحاولات لجمع الطاقات كانت فاشلة وانتهت كأدوات لـ«فتح» (لكن اللوم يقع على كل التنظيمات). كان هناك دائرة عسكريّة في منظمة التحرير (ورأسها لسنوات قائد منظمة «الصاعقة»، زهير محسن، الذي قتله العدوّ في مدينة كان الفرنسيّة. ليس معروفاً إن كانت إقامته في كان من ضمن العمل العسكري الفلسطيني)، وكان هناك «الأمن الموحد» وكان أداةً فتحاويّة. التنظيمات انشقّت أكثر من مرّة. الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين انطلقت من رحم حركة القوميّين العرب، وانشقّت عنها الجبهة الديموقراطيّة والجبهة الشعبيّة-القيادة العامّة و«الجبهة الشعبيّة الثوريّة لتحرير فلسطين»، وغيرهم.

ليس الموضوع هنا تقييم ما أُطلقَ عليه وصف «الثورة الفلسطينيّة»، ولكن الوصف كان بالمعنى المجازي الشعري وليس العملي. عرفات لم يكن يميّز في الخطاب أو البيانات بين الشعر والتقرير. فشلت كل هذه التنظيمات قبل أن تخرج من بيروت في 1982. الفشل هو الذي مهّد الطريق لدخول العدوّ إلى لبنان واقتلاع التجربة. خسرت «الثورة» القاعدة الشعبيّة اللبنانيّة، وتُركت معزولةً من حلفائها المنتفعين. رُحِّلت عن لبنان في أذلّ نهاية لحركة تحرّر فلسطيني، مع أنّ عرفات، كعادته، تغنّى بنصر موهوم حقّقه (عصام السرطاوي، وكان تسوويّاً ساداتيّاً، سخرَ وقال إن النصر القادم سيذهب بنا إلى جزر فيجي).

انطلاقة «حماس» كانت نتاج تبلور مرحلة جديدة من العمل الفلسطيني. كانت الردّ على الهوس التسووي الذي حكم ياسر عرفات. صحيح أن عرفات لم ينبذ العنف (أو «الإرهاب»، حسبما أملت عليه القول وزارة الخارجيّة الأميركيّة) إلا عندما جعلت أميركا ذلك شرطاً للتفاوض معه. عرفات تعامل مع الكفاح المسلّح لكن ليس كطريق لتحرير فلسطين، كما قالت أدبيّات منظمة التحرير و«فتح». تعامل مع الكفاح كطريقة لكسب النفوذ التفاوضي فقط. لكن، كما قال برجنسكي عنه في مقابلة مع مجلّة «الدراسات الفلسطينيّة» في 1984: لم يكن عرفات جاداً لا في الكفاح المسلّح ولا في الديبلوماسيّة، فبقي يلعب على الحبل كالبهلوان.

«حماس» كانت عنصراً من عناصر الانتفاضة الأولى، ولكن ليس بالحجارة وحدها. هي أتت تكريساً لمنهج الكفاح المسلّح، وهذه الانطلاقة كانت مفاجئة لأن الحركات الإسلاميّة كانت مهادنة منذ النكبة، وأقامت صِلات قويّة مع أنظمة متحالفة مع أميركا، مثل السعودية والأردن والإمارات والكويت. حتى إسرائيل لم تكن تمانع في وجود الحركات الإسلامية التي انشغلت بالدعوة والقضايا الاجتماعيّة والتزمّت على حساب التحرير والجهاد. الحرب في أفغانستان أيقظت الحركات الإسلاميّة من سباتها وبدأت مسيرة جديدة تُقرن فيها العنف بالدعوة. سقوط الاتحاد السوفياتي أمدّ الحركات الإسلاميّة بثقة مفرطة بالنفس.

مسار «حماس» معروف، والجذور في سياق «الإخوان المسلمين» معروفة هي أيضاً. لكن «حماس»، مثل حزب الله، تغيّرت وتطوّرت وتعلّمت من التجربة. حزب الله كان مخيفاً في بداياته: هو (أو منظمات انضوت فيه لاحقاً) قام بأعمال نوعيّة لطرد الإسرائيليّين من لبنان، ومقارعة الأميركيّين فيه. لم يكن سهلاً أن تؤدّي أعمالك إلى إجبار الأميركيّين على الرحيل عن لبنان.

حركة «حماس» اليوم هي غير ما كانت عليه في أيامها الأولى (تماماً مثل تجربة الحزب). التنظيمان، مثلاً، نبذا معاداة اليهود، كيهود، وأعلنا في آخر وثيقة سياسيّة لهما أنّ عداءهما موجّه حصراً ضد الصهيونيّة وإسرائيل. وكان التنظيمان في البداية يجاهران بالعداء لليهودية، وحتى المسيحيّة. حسن نصرالله لبننَ الحزب ويمكن فهمه اليوم، لا بل انتقاده، من منظور أنه حزب لبناني صرف، كما يقول الخبير في شؤونه، بشير سعادة. ويمكن، أكاديميّاً ومنهجيّاً وسياسيّاً، فهم الحزب كظاهرة لبنانية أكثر مما يمكن فهمه كظاهرة إيرانيّة مزعومة. النظرة الأخيرة هي التي تعمّم سوء فهم الحزب وتأثيره. «حماس» أيضاً تعلّمت فهم المجتمع الفلسطيني الذي نبذ الطائفيّة منذ انطلاقة الحركة الصهيونيّة لعلمه أن زرع الشقاق بين المسلمين والمسيحيّين كان من الخطط السرّية التي وافق عليها حاييم وايزمان بعد زيارته إلى فلسطين في عام 1920.

ولكنّ مسار الحركة اصطدم بسلطة أوسلو منذ البداية. عانى الأعضاء والمقاومون من بطش سلطة أوسلو ووحشيّتها ضدّهم. كانت مهمة سلطة أوسلو، ولا تزال، حماية إسرائيل من المقاومة الفلسطينيّة بأي ثمن. ياسر عرفات نفسه أمر باعتقال مقاومين وتعذيبهم. خرج أعضاء «حماس» من التجربة واعين للارتباط العضوي بين سلطة أوسلو وبين سلطة الاحتلال. لكن ما الذي يميّز حركة «حماس» عن سابقاتها في منظمة التحرير؟

أولاً، التعلّم من الأخطاء. أدركت الحركة أنّ عمليّات العنف العشوائي في الانتفاضة الثانية أتت بردود فعل عكسيّة حتى في نفوس بعض الفلسطينيّين والعرب. اتّسع صدر الحركة لسماع النقاش وانتهاج مسلك عسكري مختلف يركّز على الأهداف العسكريّة. وحتى في العمليّة الأخيرة، كان الهدف هو جنود الاحتلال لكن العمليّة نجحت أكثر مما توقّعت الحركة، فوقع عناصرها على عدد كبير من الجنود، كما أنّ فتح الحدود سمح لعناصر من تنظيمات أخرى بالخروج من الأسر وإلقاء القبض على ما وُجد من إسرائيليّين. لا نزال نجهل تفاصيل ذلك اليوم الذي هزَّ أركان الكيان.

ثانياً: الحسّ الأمني. كان غياب الحسّ الأمني هو مقتلة فصائل منظمة التحرير. كيف يمكن أن يصل جاسوس لبناني (وهناك من يرى أنه كان جاسوساً إسرائيليّاً) وليد قدّورة، إلى عضويّة اللجنة المركزيّة في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين. وكان يمكن أن يُعفى عنه بعد صدور حكم بالإعدام بسبب روابط عائليّة في داخل الجبهة. قيادتا «حماس» والحزب تتمتّعان بحسّ أمني مرهف يحمي من الاختراق. ينسى الناس أنّ نصرالله لعب دوراً أمنياً كمسؤول في مرحلة عن أمن الضاحية، والسنوار كان مسؤولاً، شخصياً، عن تعقّب العملاء. أنيس النقاش تحدّث في كتابه الأخير عن حالة التسيّب الأمني والاختراق السهل التي وسمت تجربة منظمة التحرير.

يروي هاني الحسين لهيلينا كوبان في كتابها عن منظمة التحرير كيف أن الآلاف انضمّوا لـ«فتح» بعد معركة الكرامة. لم تكن طلبات الانضمام تخضع لأي تحقيق أو تدقيق أو مساءلة. وكانت إسرائيل ترمي بمعتقلين سابقين عبر الحدود مع لبنان وكانوا يُستقبلون استقبال الأبطال. كنت دائماً أتساءل، كم منهم مبعوث من قبل العدوّ؟ «حماس» والحزب حميا أنفسهما من الاختراق الفظيع. حالات التجسّس الفردية لا تتناقض مع النجاح بصورة عامّة: لم نكن نسمع عن كشف الاختراقات في حالات منظمة التحرير. فشل العدوّ في العمليّة الأخيرة في الوصول إلى قيادة «حماس» يعود لغياب جواسيس «فتح» عن ساحة غزة. وقيادات «حماس» والحزب تتصلّب بالعقيدة الدينية وتتوقّع، أو تتقرّب من، الشهادة بشوق (ردة فعل محمد رعد على استشهاد ابنه نموذج لهذا التوق للشهادة).

ثالثاً، قادة الحزب و«حماس» شديدو البأس وحازمون وقساة غلاظ لو تطلّب الأمر. جبهة التحرير الجزائرية لم تكن لتنجح لو لم تكن هناك عمليّات رصد ومعاقبة شديدة للمتعاملين والمتعاونين. قادة منظمة التحرير كانوا شديدي اللين والتساهل وقابلين للانهيار السريع. قارِنوا انهيار أبو إياد في أيلول الأسود وارتماءه تحت أقدام الملك حسين، بحالة الصلابة للسنوار ومصطفى الديراني وعبد الكريم عبيد في الأسر الإسرائيلي. السنوار رفض التعامل مع الإسرائيليّين حتى في الأسر. هؤلاء، لو أُجيزَ القول، من طينة أخرى تماماً. هل يمكن أن تتصوّر أن العدوّ يتصيّد قائداً في الحزب أو «حماس» في مدينة ساحلية على الشاطئ الفرنسي؟

رابعاً، طوّر الحزب و«حماس» نموذجاً فذاً من المقاومة العسكرية. ويقول بشير سعادة إنه من الإنصاف التذكير بأنه لم يكن لمنظمة التحرير من تجربة سابقة تستقي منها. كانت تبدأ من الصفر، فيما اعتمدت «حماس» والحزب على تجارب منظمة التحرير وخيباتها لبناء تجربة جديدة. درس التنظيمان التجارب السابقة وتعلّما منها كثيراً، كما أنهما كانا أكثر جديّة في دراسة العدوّ ومعرفته، عسكرياً وسياسياً. محمود عباس كان مستشار عرفات للشؤون الإسرائيليّة.

خامساً، التعاون بين حركات المقاومة (حلفاء إيران) نموذج نادر في العمل السياسي والعسكري في لبنان وفلسطين. كانت الفصائل الفلسطينية تتحارب وتتنابذ باستمرار. الجبهة الديموقراطيّة والشعبيّة كانتا أقرب للأعداء. لكن «حماس» والحزب، تعاونا وتبادلا خبرات رغم الخلاف العقائدي والمذهبي. هذا التكامل انتقل في العلاقة مع «أنصار الله» في اليمن و«الحشد» في العراق، ما شكّل تجارب تنظيميّة عسكريّة على مستوى العالم العربي، وهذا لم تسعَ قيادة عرفات إلى صنعه.

سادساً، إنّ يوم 7 أكتوبر، بصرف النظر عن التقييم، يمثّل فذاذة عسكريّة يعترف بها العدوّ وحلفاؤه. هو لم يكن فقط نتيجة تقصير إسرائيل (هناك مبالغة في التركيز على التقصير من أجل التقليل من نجاح «حماس»). النجاح العسكري كان نتيجة تخطيط دقيق ودراسة مفصّلة وتحضير دؤوب وتمرين على مدى نحو سنة. وكانت الخلايا منفصلة عن بعضها لا تعرف وهي تتحضّر طبيعة المهمّة. وكل هذا التحضير لم يكن تحت أعين العدوّ أو الجواسيس في غزة. في زمن منظمة التحرير في لبنان، كان جيش العدوّ ينتظر متسلّلين حالما يقطعوا الحدود لأن المخبرين الكثر كانوا يزوّدون العدوّ بالمعلومات. توصّلت حركة «حماس» إلى مستوى مرتفع من الجهوزيّة (بالمعنى الحقيقي للكلمة، وليس بالمعنى الفارغ الذي يستعمله قائد الجيش اللبناني في خطبه المُكرّرة). تَرى ماذا جرى في يوم 7 أكتوبر وتتساءل إذا كان هناك تسابق بين الحزب والحركة على الإبهار في العمل العسكري.

سابعاً، قرّرت «حماس» أن تسعى بكل الوسائل إلى الخروج من السجن الكبير. حتى السفير الأميركي السابق، تشاز فريمان، تجرّأ وحيداً على وصف عمليّة «طوفان الأقصى» على أنها خروج عسكري من سجن كبير أو معسكر اعتقال. «حماس» أرادت حسم الوضع في غزة والاستيلاء على زمام المبادرة.

ثامناً، «حماس» أمام قرار مصيري يتعلّق بالتسوية السياسيّة. هي هادنت أوسلو كثيراً وغازلت كثيراً «السيّد الرئيس، محمود عبّاس»، وهو شيخ المتعاملين مع إسرائيل وقائد جواسيس الساحة الفلسطينية. على «حماس» أن تقرّر: هل هي تقبل أوسلو أم ترفضها بالكامل؟ الانتخابات كانت على أساس أوسلو وشهدت كيف أن أميركا و«فتح» وإسرائيل لم يحترموا النتائج عندما أتت في مصلحة «حماس». هل هي مع الدولة الواحدة أو الدولتيْن؟ قوّة «حماس» يجب أن تحسم الجدل لصالح تحرير كل فلسطين.

إسرائيل تمنع حرّية التعبير في العالم أجمع:
إسرائيل في ورطة كبرى. وجودُها ودوامُها مرتبطٌ، كليّاً، بالدعم الأميركي لها. الدعم الأوروبي يرتبط بالدعم الأميركي، لو زالَ زالَ. عسكريّاً، لم تعد الدولة تستطيع أن تدافع عن نفسها كما في الماضي. استعانت في مواجهة منظّمة فلسطينيّة مسلّحة بتدخّل عسكري أميركي وبريطاني وألماني إلى جانبها. لولا القليل من الحياء، كانت السعوديّة والإمارات سترسلان قوّاتهما لدعم الجيش الإسرائيلي. والتعاطف مع إسرائيل تناقصَ كثيراً عبر السنوات في البلدان الغربيّة، أي الدول التي تعتبرها الدولة العنصريّة مؤثّرة. عندما يكون التعاطف مع إسرائيل بين الشباب نحو الثلث أو أقلّ في أميركا، تكون إسرائيل تواجه مستقبلاً غير زاهٍ لها. صحيح، تستطيع أن تكون أكثريّة الشعب الغربي مع فلسطين، وتبقى الأحزاب المؤثّرة داعمة في قياداتها لإسرائيل، كما الحال في بريطانيا وفرنسا وغيرهما من الدول الأوروبيّة. هاكُم الحزب الديموقراطي الأميركي: بات نصفه، أو أكثر قليلاً، ميّالاً إلى الجانب الفلسطيني، ولكن قيادة الحزب صلبة في تعصّبها لإسرائيل.

أجيال جديدة تنبذ الصهيونية وتجاهر بقرفها من دولة إسرائيل. هناك جيل جديد سيتربّى حول العالم على كراهية إسرائيل من خلال مشاهد القتل والتدمير في غزة. المؤشّر في أميركا هم نجوم هوليوود: أكثرهم صمتوا والصمت دليل عدم تعاطف مع إسرائيل. المُتعاطف مع إسرائيل يُجاهر، الصامت يكون خائفاً من المجاهرة بموقف معارض لإسرائيل. مشهدٌ قبل أيّام لم أكن أظنّ أنني سأراه. استدعى الكونغرس الأميركي رؤساء ثلاث جامعات نخبويّة كبرى واستجوبهم حول حرّيات التعبير في حرمهم وكيف أنّ الإدارة لم تحظر التعبير المعادي لإسرائيل (معادٍ لليهود حسب الكونغرس). ما هو التعبير المعادي لليهود في عرف الكونغرس؟ يتراوح بين رفع شعار «الانتفاضة» وبين رفع شعار «من البحر إلى النهر»، الذي بات يقضّ مضاجع الصهاينة في الغرب.

الشعار بات محظوراً في عدد من الجامعات، ولكنّ النشطاء الفلسطينيّين (خصوصاً الطالبات الفلسطينيّات اللواتي يقدن العمل الفلسطيني في أميركا) لا يكترثون ويهتفون بملء حناجرهم، «من البحر إلى النهر»، وهو قويّ بالإنكليزيّة ويَعِدُ بـ«تحرير فلسطين». لكن أميركا كانت تزهو بنفسها أنها، خلافاً للدول الشيوعيّة، تحترم الحرّيات، (كانت تزهو بنفسها عندما كانت الكلاب البوليسيّة تطارد السود في شوارع الجنوب وعندما كانت الماكرثيّة المحمومة تسود في البلاد وتمنع حريّات التعبير باسم ... الحريّة). الكونغرس بات يراقب مسار حرّية التعبير في الجامعات ليضمن أنها محدودة ومقيّدة لأن الحرّيات غير المقيّدة تزعج الطلاب اليهود، وتجعلهم يقلقون على مصيرهم.

طالبة يهودية صهيونيّة قالت إن زملاءها أشعروها بأنها غير محبوبة لأنها تدعم إسرائيل، وقالت إنها شعرت بمعاداة سامية فظيعة. وتنقالت الصحافة قضيّتَها، وكادت أن تصبح آن فرانك القرن الواحد والعشرين. وهؤلاء، باستسهالهم لاستعمال معاداة الساميّة، ينفّرون الناس من المعركة الحقيقيّة ضد معاداة الساميّة، لأن إسرائيل والصهاينة لا يمانعون من التحالف مع أعتى معادي الساميّة في الغرب إذا كانوا موالين لإسرائيل. مَحجّة إيلون ماسك إلى إسرائيل كانت أبلغ دليل: عُفيَ عن معاداته للسامية بمجرّد أن التقى نتنياهو وذمَّ «حماس». أساتذة الجامعة اعترفوا هنا (في استطلاع جديد) بأنهم لا يشعرون بحرّية الحديث عن الصراع العربي-الإسرائيلي وأكثرهم اعترف أنه يخاف (بأكثرية 81%) من اعتراض مناصري إسرائيل على كلامهم. الكونغرس لا يكتفي: يريد حظر النوادي المناصرة لفلسطين وجرّ الهاتفين بتحرير فلسطين للمحاسبة أو المحاكمة. إسرائيل واللوبي الإسرائيلي يفقدان أعصابهما.

تحتاج إسرائيل إلى مزيد من الوسائل لرفض وجهة النظر الصهيونيّة. ليس هناك من طريقة إلّا حظر معاداة الصهيونيّة، وهو، أي الحظر، ينتشر ويمتدّ من دولة غربيّة إلى أخرى. الذي أقلقَ اللوبي الإسرائيلي في واشنطن (والذي يرعى اللوبيات الإسرائيليّة حول العالم، وهو ينسّق مع السفارة السعوديّة والإماراتيّة في العاصمة الأميركيّة) كل مظاهر التعاطف الشبابي مع فلسطين، خصوصاً في دول الغرب. إسرائيل لا تكترث للرأي العام إلّا في دول الغرب لأن العنصريّة تجمعها مع قادة الغرب، ولأن عداءها للملوّنين جمعها تاريخيّاً مع الرجل الأبيض في جنوب أفريقيا وفي أوروبا وأميركا. سلاح معاداة السامية بيد إسرائيل ليس جديداً. وقد أفرد نورمان فنكلشتين (الذي يكرّس الكثير من وقته هذه الأيام لدحض الدعاية والأكاذيب الصهيونيّة، مستعيناً في سرديّته بنجاة والديه من المحرقة وفناء معظم أفراد عائلته فيها) دراسات عن التسليح السياسي لمعاداة السامية من قبل الحركة الصهيونيّة.

واجهت إسرائيل عبد الناصر به واختلقت أكاذيب عنه، بما فيه أنه دعا إلى رمي اليهود بالبحر، وهم زعموا، كَذِباً أيضاً، أن أحمد الشقيري قالها (لم أجد أي إشارة لها في الأدب السياسي العربي إلّا في تصريح لحسن البنا في سنة 1948 في مجلّة «المصوّر» المصريّة). وخامنئي نفى أخيراً أن يكون هدف إيران رمي اليهود في البحر، ولكن وسائل الإعلام الصهيونية، التي تتخصّص في نقل كلام الكراهية من العرب والمسلمين وترجمته، تجاهلت كلام خامنئي لأنه لا يتّسق مع السرديّة. كان يهوشوفاط هاركابي يتخصّص (قبل زمن منظمة «ميمري» التي أسّسها مسؤول إسرائيلي استخباراتي «سابق») في تجميع كلام الكراهية المعادي لليهود كيهود في الثقافة العربيّة. طبعاً، كان النصيب الأكبر من هذا الكلام ينطلق من الخليج. السعودية استثمرت كثيراً في أدب الكراهية ضد اليهود. انتقلت دولة السعودية والإمارات من أدب كراهية اليهود إلى أدب حب اليهود، ورفع شأنهم (في الوقت الذي لا يزال إعلام السعودية يزخر بكراهية الشيعة).

ودفع تهمة معاداة اليهودية سهلة: أن يمتنع العربي ومناصرو القضيّة عن التعبير المعادي لليهود. وبالفعل، تطوّر الخطاب السياسي العربي نحو خطاب إنساني ينبذ الخطاب المعادي لليهود. عند الجمعيات ووسائل الإعلام المُموَّلة من حكومات «الناتو» وسوروس، تطرّفوا بالاتجاه الغربي: يعترضون على أي كلمة مهينة لليهود (والاعتراض محمود) ولكنهم لا يمانعون في خطابات التحريض ضد الشيعة والعلويّين في الخطاب السياسي العربي، الخليجي المصدر. وهناك بعض العرب يردّ ببلاهة عبر القول: لا يمكن للعرب أن يكونوا معادين للسامية لأنهم ساميّون. لا، المعنى الإيتومولوجي للكلمة لا يهمّ، لأن المعنى المتعارف يعني معاداة اليهود فقط، وليس كل الشعوب الساميّة.

وحتى حزب الله في وثيقته السياسية الأخيرة في عام 2009 نبذ معاداة اليهودية وحصر العداء بالصهيونية، كما فعلت «حماس» في وثيقتها من عام 2017، مع أن بعض قادة «حماس» لا يزالون يتحدّثون بخطاب معادٍ لليهود (وترصد هذا الخطاب منظمة «ميمري» وتترجمه وتوزّعه على نطاق واسع حول العالم. وقد وجد الصهاينة طريقة أخرى. ماذا لو أعدنا تعريف معاداة السامية كي تشمل أيّ نقد لإسرائيل. وبالفعل، تفتّقت قريحة منظمة «اتحاد تذكّر المحرقة الدولي» عن تعريف جديد لمعاداة السامية. والتعريف بات مُعتمَداً من قبل الكونغرس الأميركي ووزارة الخارجيّة الأميركيّة. التعريف الجديد مضحك في جهده لحظر الخطاب المزعج لإسرائيل. هو مثلاً يعتبر أن أيّ نقد لإسرائيل بمنسوب مفرط يندرج في معاداة السامية.

أي هم يحدّدون لنا منسوب نقد إسرائيل. وأي تعامل مع إسرائيل بطريقة تختلف عن التعامل مع أي دولة أخرى يندرج ضمن معاداة السامية. أي إنه علينا في نقدنا لإسرائيل أن نصرّ على نقد دول أخرى، إسلامية أو عربية، كي لا يكون نقدنا حصرياً بدولة هي يهودية. وإياك أن تعارض حقّ تقرير المصير لليهود. هذا من ضمن معاداة السامية. لكن كما قال المستشرق الفرنسي، ماكسيم رودنسون، ذات مرّة: أنا لست ضدّ حقّ تقرير المصير لليهود على سطح القمر، مثلاً. وما عناه، أنه لا يمانع أن يكون لليهود الحق في إقامة دولة على ألّا تكون على حساب دولة أخرى. ومقارنة إسرائيل بالنازية هي أيضاً معاداة للسامية، حسب التعريف.

لكن إسرائيل تقارن أعداءها دائماً بالنازيّة: من زمن الحاج أمين إلى زمن الشقيري إلى الزمن الحالي. يحقّ لها وحدها عقد المقارنات كما تشاء، كما فعل نتنياهو عندما برّأ هتلر من جريمة المحرقة وحاجج أنّ المسلمين هم الذين أوعزوا له بذلك. ويضيف التعريف أنّ لوم اليهود على أفعال إسرائيل هو معاداة للسامية، وهذا صحيح. لكن إسرائيل هي المذنبة في هذا الصدد. هي تصرّ على أنها دولة كل اليهود حول العالم مما يزيل الفصل، ظلماً، بينها كدولة احتلاليّة استيطانيّة وبين يهود العالم وبعضهم لا شأن لهم بإسرائيل. وهناك مسعى جدّي اليوم لإعادة التعريف مرّة أخرى لإضافة كلمات «الانتفاضة» وهتاف «من البحر إلى النهر» إلى تعريف متجدّد لمعاداة اليهوديّة.

السعي لن ينتهي. ستكون هناك هتافات جديدة ومصطلحات جديدة تنتشر بين جماهير الشباب في دول الغرب. انتهى عهد سيطرة اللوبي الإسرائيلي على كل قطاعات الرأي العام الأميركي. حتى السود كانوا في مصاف المواقف الصهيونيّة في الماضي. السود اليوم من أقل المجموعات تأييداً لإسرائيل. في المظاهرات التي جرت هنا، كانوا الأجرأ وبعضهم هتف لـ«حماس» وعمليّة «طوفان الأقصى». ويستطيع السود أن يتمتّعوا بحرّية تعبير تفوق حرّية تعبير العرب والمسلمين في أميركا. الجامعات خرجت عن السيطرة، وهناك حملة اليوم لفصل رؤساء جامعات لأنهم سمحوا بتظاهرات سُجّلت فيها هتافات «من البحر إلى النهر» أو مصطلح «انتفاضة» الذي يخيف ويُعتَبر أنه دعوة لإبادة اليهود.

من دون مبالغة، إنّ كل الهتافات من أجل فلسطين باتت، حسب تعريف جديد ومبتكر، بمثابة دعوات لإبادة كل اليهود في عالم. والتظلّم، أو اصطناع التظلّم، بات من عدة عمل اللوبيات الإسرائليّة حول العالم. الصهيونيّة هي اليوم العدوّ الأوّل لحرية التعبير في العالم، خصوصاً العالم الغربي الذي يمدّها بما تحتاجه من سلاح ومال وتغطية إعلاميّة في جرائمها المستمرّة. لكن السياسة الصهيونيّة لا يمكن إلا وأن تصطدم بعقبة: كلّما ضغطت إسرائيل على حكومات الغرب من أجل حظر التعبير المناصر لفلسطين كلّما فضحت كذبة الحرّيات في العالم الغربي. عندما يتدخّل الكونغرس الأميركي في مسألة تعبيرات الطلاب في الحرم الجامعي في البلاد، فإنّ ذلك يخفّض من مرتبة دول الغرب في السلّم الذي اختلقه الغرب كي يرى نفسه فيه متفوّقاً على دول المنظومة الشيوعيّة.

لن تنجح إسرائيل في المسعى. عندما تشاهد الطلاب وهم يهتفون بشعار «من البحر إلى النهر» تعلم أنه ليس من قوّة تستطيع أن توقف هذا الزخم الشبابي. ومحاولات قمعهم ستبوء بالفشل وسترتدّ عكسياً. هناك إصرار من شباب الجامعات على التحدّي. أعددتُ كلمةً لتظاهرة طلابيّة في جامعة هنا ووجدتُ في الحديث مع الطلبة أن الخطاب المعتدل بات منبوذاً، وهذا عكس ما كان الوضع عليه في الثمانينيات عندما كنتُ طالباً. في ذلك الزمن، كنتَ تُتّهم بالتخريب من قبل بعض الجمعيات الطلابية والمنظمات العربيّة عندما ترفض المفاوضات مع إسرائيل وتصرّ على تحرير فلسطين. المشروع الصهيوني آيل للسقوط، لا محالة. سيقسط هناك ولن توجد قوة غربية تنقذه.

ماذا تريد الدول الإقليمية والعالمية من هذه الحرب؟
الحرب في غزة ليست حرباً إسرائيليّة. لا تستطيع دول الغرب أن تتنصَّل منها، ولا هي تتنصّل منها حالياً. لكنها ستحاول مستقبلاً أن تتنصّلَ منها عندما تتغيّر موازين القوى وتضطرّ دول الغرب إلى أن تدفع أثمان هذه الحرب الإباديّة التي لم يسبق أن فاقتها وحشيّة إسرائيليّة من قبل. ليس سهلاً أن تتفوّق إسرائيل على نفسها في الوحشيّة، وقد تحقّق ذلك في هذه الحرب. هذا، طبعاً، دليل ذعر وتخبّط إسرائيلي استراتيجي. تحاول إسرائيل أن تعود بنا إلى زمن ما بعد حرب ١٩٦٧، عندما دبَّ الرعبُ في قلوب العرب خوفاً من الجندي الإسرائيلي. ساهمَ إعلامُ العرب في الترويج لهذه الصورة، كما ساهمت أدبيّات «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، والتي صوّرت لنا أن النصر محال قبل أن نتطوّر حضارياً ونعيد اكتشاف الذرة والدولاب والحمّص.

إسرائيل كانت تعتمد على العنف وعلى الردع القائم على التخويف. تواجه في جنوب لبنان وفي فلسطين فدائيّين جدداً، لا يهابون الموت. هؤلاء لا يستسلمون مهما كان الثمن. هذا يؤكّد أن العقيدة الدينيّة للحزب و«حماس» تفيد في التعبئة وفي البذل عندما تكون النهاية عند الشهداء بدايةً جميلة. المقاتل الشيوعي أو القومي في الماضي لم يكن عنده وعد بجنّة (والأديان تحرم الشيوعيّين منها). طبعاً، استبسل كل مقاتلي الحركة الوطنية ومنظمة التحرير من قبل، لكن التجربة الحالية فريدة واستثنائيّة في البأس والشدّة والشجاعة. نحن أمام مدرسة عربيّة جديدة في القتال. إسرائيل تشكو لبنان للأمم المتحدة. مَن كان يحلم بذلك؟ أنا من جيل نشأ على شكاوى لبنانيّة متراكمة إلى الأمم المتحدة عن إجرام إسرائيل ضد لبنان. المقاومة الحالية ترمي فتصيب، وتتلقّى ولا تنحني.

التدمير والقصف العشوائي من قبل إسرائيل دليل عجز مطلق. لا تعرف إسرائيل ماذا تفعل. ترفع شعارات ضخمة عن إنهاء حالة «حماس» وهي تتلقى الضربات الموجعة من الحركة بعد أكثر من شهرين من حرب مدمّرة. لكن أين تقف الدول المختلفة ممّا يجري وماذا تريد هذه الدول؟
أميركا: تريد أميركا من إسرائيل أن تثأرَ من حماس، وتعتبر أن الثأر من حقّها (الاستشراق ظنّ أن الثأر سمة ثقافيّة عربيّة). «حماس» لم تعلن الحرب ضد أميركا في تاريخها، ولم تضرب أهدافاً خارج فلسطين، لكن إسرائيل دائماً تسعى لتجعل من أعدائها أعداءً لأميركا. أميركا جعلت من معركة إسرائيل ضد حماس معركتها، وهذا الموقف تبنّاه الحزبان هنا. ولهذا، يصعب الفكاك منه، لأنه يضع إسرائيل في دفّة القيادة وهي التي تقرّر متى يجوز إعلان النصر ونهاية المعركة.
أميركا لم تكن تتوقّع هذا المنسوب من الوحشيّة، لكن بايدن ووزير خارجيّته لا يعانيان أبداً من وخز الضمير. على العكس، الرجلان يقدّمان الأعذار والحجج لتسويغ الوحشيّة الإسرائيليّة. أميركا تخشى من حزب الله ومن إيران وهي تخشى أن يؤدّي انتصار «حماس» إلى تقوية شوكة المحور بالكامل. لكنها لا ترى كيف يمكن منع هذا الانتصار على ضوء الصمود الأسطوري وعدم ظهور أصوات شعبيّة في غزة ضد «حماس» (حاولت المحطات السعوديّة الخبيثة أن تعثر على أفراد كي يهجوا «حماس»، لكن ذلك كان من ضمن السعي المستميت لعوْن المجهود الحربي الإسرائيلي)
.
أوروبا: لم يعد يجدي الحديث عن سياسة خارجيّة لأوروبا وكندا. أصبحوا مجرّد كيان ذيلي ملحق بإمبراطوريّة أميركا. يبدو الزمن الذي كانت فيه كندا وأوروبا تنتهجان سياسات مستقلّة عن أميركا زمناً غابراً. كانت تجربة شيراك في معارضة حرب العراق هي آخر تسجيل لاعتراض. غضبة ردّة الفعل الأميركيّة أصبحت درساً. أجبروا شيراك على استجداء الرضى الأميركي للصفح عنه. حتى مواقف حكومة إسبانيا وإيرلندا لا يُعوَّل عليها. الكل تحت سطوة الـ«ناتو»: إمّا أن تدخل فيه وإما أنت مغضوب عليك. هذه المرّة ماكرون أراد إرضاء اللوبي الإسرائيلي في أميركا، فاقترح تشكيل جبهة عالميّة لمحاربة «حماس» حول العالم. حتى أميركا لم تتحمّس للفكرة.

روسيا: لم تغيِّر سياساتها. تتخذ مواقف خطابيّة تستنكر فيها الإفراط في استعمال العنف من دون أن تعدّل قيد أنملة من تحالفها وودّها نحو إسرائيل. روسيا تتصرّف كأنها تخاف من إسرائيل. نتنياهو في سيرته يذكر أن بوتين كان يسمح له بفعل ما يشاء في سوريا. العدوان المتكرّر على سوريا يحمل بصمات مشاركة روسيّة. والحكومة السوريّة ضعيفة للغاية ولا تقوى على الاعتراض على الموقف الروسي. روسيا تريد للحرب أن تستمرّ لأنها تستنزف أي مصداقيّة وتأييد لأميركا في العالم العربي، وفي العالم أجمع حتى في دول الغرب. هناك تغيير كبير في نظرة شباب الغرب للمشروع الغربي برمّته.
البعض يرون وحشيّة غربيّة لم تتوافق مع ما تربّوا عليه من إيمان بمثاليّات باطلة عن الغرب و«العالم الحرّ». هذا يروق لبوتين لأنه يُضعف المجتمع الغربي من الداخل. هناك صراعات هائلة في الغرب: بين الكبار والشباب، بين الملوّنين والبيض، بين الحزبَين المتصارعَين (يمين، وإن كان يساراً بالاسم، مقابل يمين متطرّف)، وبين أهل الريف والمدينة. التعويل الروسي على الصراعات يفسّر العمل الروسي (غير) السرّي في التأثير عبر المواقع على نقاشات داخليّة في الغرب (الغرب يبالغ كثيراً في حجم هذه التدخلات وفي تأثيرها). قد تكون روسيا مهتمّة باستمرار الحرب لأن ذلك يشغل أميركا عن الهمّ الأوكراني، ولأن الحرب تستنزف الموارد الماليّة والعسكريّة لأميركا.
لم تتقدّم روسيا بمشروع جدّي واحد لوقف النار أو لتقديم مشروع في مصلحة القضيّة الفلسطينيّة. لافروف طلع اليوم بحلّ يتضمّن ضمان أمن إسرائيل. ٢٠ ألف شهيد فلسطيني، ولا تعتبر روسيا أن الشعب الفلسطيني هو الذي يستحقّ ضمان الأمن. النقد الروسي لإسرائيل هو مُلطّف، وبوتين يلوم أميركا أكثر مما يلوم إسرائيل. العلاقة بين بوتين وإسرائيل غير مفهومة، وغير مفهوم الخوف الذي يعتريه من إغضاب إسرائيل
.

الصين: أدركنا في الحرب على غزة أن الصين وروسيا ليستا في وارد تحدّي الإرادة الأميركيّة. أو لنقل، إن الصين وروسيا ليستا بعد في وارد التحدّي. والموضوع الفلسطيني ليس أولويّة عند أي منهما. الصين لم تذهب بعيداً في دعم روسيا في حربها، وهي، مثل روسيا، لا تريد إغضاب إسرائيل. على العكس، هي تتحدّث عن فلسطين بنفس خطاب دول الغرب، من دون التقدّم عليه بأنملة. لا تتحدّث عن عقوبات أو عن تأثير على العلاقة الثنائيّة. يبدو للمتابع عن بعد أن الصين وروسيا تعانيان من نفس المرض الذي عانت منه الحكومات العربيّة منذ السبعينيات، ألا وهو الخوف من اللوبي الإسرائيلي. اللوبي الإسرائيلي مخيف لكل سفارات العالم في واشنطن، ولهذا يتودّد الجميع له.
تلاحظ في واشنطن أن السفارات (غير الخليجية حتى) تحرص على أفضل العلاقات، حتى اجتماعياً، مع أقطاب اللوبي الإسرائيلي، وأجنحته التي تمثّل اليمين المتطرّف في إسرائيل
. باتت السفارات العربيّة تدعو في إعلامها وفي حفلاتها ومآدبها أشخاصاً من اللوبي وذراعه الفكري (مؤسّسة واشنطن) وحتى من «مؤسّسة الدفاع عن الديموقراطيّة» التي ترى في أرييل شارون اعتدالاً غير مبرّر. الصين تخشى إثارة حساسيات الكونغرس الأميركي، وهمّها الأوّل الحفاظ على أولويّة التنمية الاقتصاديّة. أميركا تستفزّ الصين باستمرار وتحاول أن تثير حساسياتها، لكن الصين تستوعب الموضوع وتحرص على علاقات جيّدة مع أميركا.

المحمّدان: (كما يسمّيهما المؤرّخ وليد الخالدي): حاكما السعوديّة والإمارات طامة كبرى بقياس الزمن العربي منذ عهد النكبة. لم يسبق أن تحالف حاكم عربي مع إسرائيل ضد أعداء عرب وغير عرب، وحتى ضد مواطنيهم، كما فعل الحاكمان. هؤلاء يستعينون بتقنيّات إسرائيليّة (باهظة الثمن) للتجسّس على، ومراقبة، مواطنين وعلى أفراد العائلة (كما فعل محمد بن راشد، المثال الأعلى لإعلاميّي وإعلاميّات لبنان). باتت إسرائيل للمحمدَين ذراعاً إقليميّة وداخليّة، يستعينون بها لأغراض القمع ومطاردة وقتل المعارضين. هذا جانب من العمل المشترك الذي لن نعلم عنه قبل سنوات من اليوم (تماماً، كما عملت المخابرات المغربيّة مع «الموساد» في مطاردة وقتل معارضي النظام).
لكن الأداء العسكري الإسرائيلي ضد أعداء المحمدَين وإسرائيل (أي حركات المقاومة المسلّحة) ليس باهراً على الإطلاق، بل هو كشف ضعفاً بنيويّاً في قدرة جيش العدوّ على خوض معارك قتاليّة ضد جنود محور المقاومة. الرجلان يريدان، من ناحية، القضاء على «حماس» بالكامل، ويفضّلان لو أن إسرائيل تقضي على حزب الله وعلى الحشد الشعبي في العراق، لكن إسرائيل لم تحقّق بعد هدفها المعلن في القضاء على «حماس». لكنّ هناك ميزاناً إضافياً آخر للمحمدَين: هما لا يريدان للحرب أن تطول لأن كل يوم إضافي يزيد من تعبئة الرأي العام الداخلي ضد إسرائيل. واعترف توماس فريدمان في زيارة أخيرة للبلدَين بأن الحاكمَين يخافان من تنامي الشعبيّة لـ«حماس» في العالم العربي. هذا مُقلق لأنه سيعرقل مسيرة التطبيع التحالفي (وأكدت السعوديّة على لسان جو بايدن وعلى لسان توماس فريدمان أنها ماضية في مسيرة التطبيع حالما تنتهي الحرب، وأن تدمير غزة لن يغيّر من أولويّات سياسة محمد بن سلمان الخارجيّة). إنّ استمرار الحرب سيزيد من حاجة النظامَين إلى القمع الداخلي للحفاظ على رونق الطاعة المطلقة في التعبيرات العلنيّة. والتعاطف المتنامي مع فلسطين سيفرض على النظام السعودي تحديداً طلب سقف أعلى من التنازل الإسرائيلي غير الكلامي. النظام الإماراتي لم يطلب أي تنازل من إسرائيل، لكن السعودية، بحكم قيادتها العربيّة والإسلاميّة الدينيّة، ستطلب من إسرائيل أكثر من «تحسين حياة الفلسطينيّين» (وهذا كان بالحرف المطلب السعودي الوحيد من إسرائيل، حسب مقابلة محمد بن سلمان مع «فوكس نيوز»)
.

السلطة الفلسطينيّة: هذه السلطة العميلة للاحتلال تعيش أحلى أيّامها. زعيم عصابة التنسيق الأمني المترهّل بات هدف زيارات الغربيّين، ليس حباً به، بل لأنه ليس لديهم بديل حقيقي لـ«حماس» غير هذه السلطة الرثّة التي ليست أكثر من نسق فلسطيني عن جيش أنطوان لحد. الإدارة الأميركيّة تضع الخطوط النهائيّة لما بعد الحرب: تريد «إنعاش» سلطة محمود عبّاس وبسط سيطرتها على غزة. لكن أميركا هي التي أجهضت الانتخابات الفلسطينيّة منذ ٢٠٠٦ لأنها تريد بقاء عصابات الفساد والتنسيق الأمني في الحكم. هي تعلم عن فساد شلّة محمود عباس (وفساد عائلته)، لكنها لا تكترث لأنها تستفيد من وجوده ولو عبر التنفّس الاصطناعي لتجنّب الاعتراف بحقيقة تمثيليّة «حماس» بدرجة تفوق كل منافسيها في الساحة الفلسطينية (بمن فيهم سلام فيّاض، فؤاد سنيورة فلسطين، والذي أسبغ عليه جورج بوش وصف «صبيّي»، بعدما نال ١٪ من مجموع الأصوات في آخر انتخابات خاضها).

كل هذه القوى ستعجز عن كسر إرادة المقاومة في فلسطين. المقاومة دخلت مرحلة جديدة. حتى معركة «الكرامة» باتت صغيرة جداً بالمقارنة. هذا مفصل جديد في تاريخ صراعنا مع إسرائيل، وختامه لن يكون لمصلحة المشروع الصهيوني.

إعادة الاعتبار للعرب بعد الحرب (لا الهزيمة)
أنا أحاجُّ لسنوات أن أدب «النقد الذاتي بعد الهزيمة» (والذي ساهم فيه يساريّون مثل صادق جلال العظم وأدونيس وهشام شرابي ومختار العاني وغيرهم) ألحق ضرراً بالغاً بالذات العربيّة، وأنه شوّشَ على مسيرة البناء العربي بعد هزيمة 1967. وليس صدفة أن اليمين الرجعي العربي (الخليجيّ الرعاية) تلقّف هذا الأدب بشوق وحماس شديديْن وروّج له. والكتابات هذه تلقّت ترحيباً حتى من قبل الصهاينة الذين ترجموا الكثير منها (يمكن العودة إلى كتابات نسيم رجوان وإيمانويل سيفان ويهوشافات هاركابي). فؤاد عجمي، قبل وفاته، حرص على الإشراف على ترجمة إنكليزيّة لكتاب صادق العظم، «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، والذي ألهم عجمي (أوّل صهيوني عربي مُجاهِر في أميركا) في كتابه الأوّل، «المحنة العربيّة».

ولا أستثني من نقدي هذا كتاب قسطنطين زريق، (معنى النكبة)، وكان من أكثر الكتب تأثيراً على الشباب العربي في حينه. زريق، في كتابه، حثَّ العرب على الانخراط في «العالم الذي نعيش فيه، نجاريه في نظم العيش والفكر» (هو كان يعني العالم الغربي، حتماً، وليس الصيني أو الهندي). كما أنه دعا إلى «فصل الدولة عن التنظيم الديني فصلاً مطلقاً، وتدريب العقل وتنظيمه بالإقبال على العلوم الوضعيّة والتجريبيّة، والابتعاد ما أمكن عن الخيال المخدِّر والرومانطيقيّة المائعة». لم يكتف زريق بكتابه الذائع الصيت بعد 1948 (وكان له تأثير كبير على جورج حبش ورفاقه في الجامعة الأميركيّة في بيروت وعلى أفواج طالبيّة توالت في نادي «العروة الوثقى»)، بل زاد عليه بعد الهزيمة في عام 1967 بكتاب رديف بعنوان «معنى النكبة مجدّداً»، وفيه دعا إلى مواصلة «التحديث»، وهو المصطلح نفسه الذي ساد في سياسات الحكومة الأميركيّة نحو الشرق الأوسط والذي هيمن على الدراسات الغربيّة عن بلادنا منذ الخمسينيّات حتى السبعينيّات (اكتشفوا بعدها مصطلح «المجتمع المدني»).

ويمكن الربط بين «أدب النقد الذاتي بعد الهزيمة» وتقارير «التنمية العربيّة» التي كانت الأمم المتحدة تصدّرها في السنوات الأخيرة بتمويل خليجي. كان كتّاب الرأي في أميركا بعد 11 أيلول، من توماس فريدمان إلى ديفيد أغناطيوس وغيرهما، يستشهدون دوريّاً بتقارير التنمية للقول إن مشاكل العالم العربي هي مشاكل داخليّة مستعصية وإن التدخّل الخارجي والاحتلال ليسا المُسبّبيْن للمحن العربيّة. كانت أنظمة الخليج تموِّل هذه التقارير التي أرادت أن تثبت أن الغرب وإسرائيل بريئان من دمائنا، حرفيّاً. ثقافة الإفراط في التركيز على الحروب والفتن الداخليّة تصبّ في مجرى تبرئة الغرب، كأنّ الغرب ليس متورّطاً حتى رأسه في كل الفتن والصراعات الداخليّة (مشروع إثارة الفتنة المذهبيّة في العالم العربي كان سياسة أميركيّة مقصودة ومُنسّقة مع دول الخليج وإسرائيل).

ومصطلح «التحديث» تعرّض لنقد شديد من قبل الدراسات الاجتماعيّة الغربيّة ما بعد الكولونياليّة لما فيه من تسويغ غير خافٍ لفرض الهيمنة الغربيّة على بلادنا. زريق أراد استثارة ثورة عقليّة وحضاريّة (كان مُطاع الصفدي يحدّث الجميع، كما أخبرني صادق جلال العظم، عن ضرورة إصدار مجلّة عربيّة «حضاريّة»). طبعاً، تضمّن كتابا زريق بعض الاقتراحات المفيدة عن وحدة العرب، وعن توحيد الجهود وعن خدمة القضيّة، لكن أن يقرن ذلك بنبذ الخيال والرومانسيّة، فهذا قطع مع الثقافة العربيّة، وربط العرب بالغرب بعناوين مُضلِّلة. فكر «النقد الذاتي» كان فكر تحقير العرب ونشر فكر الانهزام والعجز. لو استرشدنا بهذا الفكر ومضامينه لما تحرّر جنوب لبنان، ولا كانت غزة صامدة (وصادمة) بعد تدمير ممنهج من قبل جيش إبادي النزعة والهدف.

هذا كالذي يقول لك: صحيح أن الحزب حرّر الجنوب ولا يزال يردع إسرائيل، كما لم ترتدع في تاريخها، لكنّ الحزب ديني العقيدة فيما كانت «جمّول» علمانيّة (من دون مناقشة علمانية اليسار العربي الذي خاف في معظم الأحيان، باستثناء الحزب السوري القومي الاجتماعي، من ضخّ فكر العلمانيّة). وهؤلاء النقّاد كانوا، بعد 1967، يعظوننا عن ضرورة تحقيق الديموقراطيّة كشرط أساسي لتحقيق النصر على إسرائيل، وأن النصر العسكري يحتاج إلى نهضة شاملة. لو أن جمال عبد الناصر وافق على اقتراحات «الإخوان» و«الوفد» واليسار المصري في إقامة نظام ديموقراطي، لما كان بإمكانه تحقيق ثورة اجتماعيّة واقتصاديّة في مصر. ولما كان خدم فكرة القوميّة العربيّة كما لم يحدث في التاريخ قبله. النظام الديموقراطي المصري كان انهار قبل حدوث العدوان الثلاثي، والعدوان الثلاثي لم يكن ليحصل لأن النظام الديموقراطي (الذي كان سيأتي بـ«الإخوان» و«الوفد») كان سيتجنّب تأميم قناة السويس، وجعلها «شركة مساهمة مصريّة».

لو أن روسيا تطوّرت بعد عهد لينين إلى دولة ديموقراطيّة على النمط الغربي لما كان بإمكانها تحقيق النصر التاريخي على النازية. إن ديكتاتوريّة ستالين كانت، شئنا أم أبينا، عاملاً في الصمود وفي دحر النازيّة. كل القرارات التي اتخذها من ناحية نقل الصناعات والتعبئة الشاملة وعدم الرضوخ للشروط النازية كانت مستحيلة في ظل نظام ديموقراطي منتخب.

لو طبّقنا شروط العظم وزريق على تجربة المقاومة اللبنانيّة والفلسطينيّة لما كان بالإمكان تحقيق ما تحقّق من نصر إعجازي (للأمانة، هشام شرابي تكيّف مع مجريات المقاومة اللبنانيّة، وكان شديد الاعتزاز بنصرها وإنجازاتها، ولم يكن أبداً يعتبر أن عقيدتها الدينيّة مانعاً أو مشكلة. وكان دائم الظهور على «المنار» عندما غادر أميركا واستقرَّ في بيروت حيث توفي). فكرة أن النصر على إسرائيل يحتاج إلى ثورة حضاريّة وإلى نبذ الرومانسيّة والخيال «المُخدِّر» تبخّرت فيما جرى في جنوب لبنان وما يجري في غزة. لم تكن لا العلمانية ولا الدولة المدنيّة ولا النهضة الحضارية ضروريّة. إنّ الخيال المُخدِّر هو الذي طوّر نظام الأنفاق في غزة، وهو الذي طوّر أساليب القتال بصورة لم تعرفها حركة مقاومة من قبل.

ومهارة المقاومة اللبنانيّة لم تكن إلا نتاج المزاوجة بين العلم والمعرفة والتدريب الدؤوب والصبر والخيال الجامح، وحتى الرومانسيّة المائعة التي حذّر قسطنطين زريق منها. بعد 11 أيلول، أفتى عدد من خبراء العسكريّة والاستخبارات في أميركا بأن الفشل الأميركي كان فشلاً في الخيال، لأنهم لم يتوقّعوا هذا النوع من العمليّات. وتلافياً لما قد يلي، استدعت الحكومة عدداً من خبراء السيناريو والإخراج من هوليوود لمساعدة الحكومة في ترصّد عمليّات لم تخطر على بالهم من قبل. وسافر مستشار بوش يومها، كارل روف، والتقى بنخبة هوليوود لجلب اقتراحات عمليّة.

إنّ فشل الجيوش العربيّة في الحروب لم يكن أبداً فشلاً حضاريّاً. الأسباب كانت معروفة ومحدّدة. غياب الديموقراطية ليس منها. هذا الأسبوع باتت «نيويورك تايمز» تكرِّر أن الحوثيّين ربحوا الحرب ضد السعوديّة. فشل العرب في الحروب هو فشل في التخطيط والإعداد والتنظيم والتعبئة والتصميم. فكرة الحاجة إلى نهضة حضارية لا يستقيم النصر من دونها كانت أشبه بطرح شروط تعجيزيّة للخروج من المحنة التي تلت النكبة. لم تكن الدعوات إلى الديموقراطيّة إلا ستاراً لعودة القوى السياسيّة التي سادت زمن الاستعمار، والتي سهّلت التدخّل الغربي الصفيق.

إنّ تجربة مقاومة غزة ولبنان واليمن، وحتى العراق ضد «داعش» والاحتلال الأميركي، تثبتُ أن ليس من وهن في العقل العربي، وليس من حاجة إلى نهضة، أو إعادتنا إلى المصنع كي يُعاد صوغنا من جديد. العنصر العربي لم يكن هو المشكلة، ولو كان هناك تنظيم وإعداد وتسليح لانتصر العرب في حرب 1948، ومن دون ديموقراطيّة ومن دون إصدار مجلّة حضاريّة ومن دون التخلّي عن الرومانسيّة المائعة، حسب وصف زريق. هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى (كما ذكّر عامر محسن أكثر من مرّة) كانت مُذِلّة وأصرّ أعداء ألمانيا على إذلالها. ثم نهضت ألمانيا في غضون سنوات فقط. وهزيمة اليابان كانت شنيعة هي الأخرى. نحن طبعاً لا نتعامل مع عدوّ رحيم لأن أميركا ليست في وارد مساعدة العالم العربي لأنه لا يخضع لها إلا على مستوى الحكّام والنخب المرتبطة بها.

إعادة الاعتبار إلى العرب تعني إعادة الثقة بالقدرات العربيّة. إنّ الفيديو الذي نشرته «كتائب القسّام» ويظهر فيه مقاتلون لـ«حماس» وهم يعملون بجدّ في مشغل بسيط لتصنيع الأسلحة هو كل ما نحتاج إليه. المقاومة في لبنان وغزة طوّرت ما لديها من سلاح بقدراتها الذاتيّة ومساعدة من دولة واحدة (قارن بقائمة الدول التي كانت تعين منظمات الثورة الفلسطينيّة). وهناك معنى عميق أن يخاف الجيش الإسرائيلي (الذي يصله من أميركا أحدث ما يُنتج من سلاح متطوّر وفتّاك) من قوى المقاومة في لبنان وغزة. هذه من المعجزات العربيّة. وتجربة إيران تحت الحصار لم ولن تحظى بدراسة من قبل العرب لأنه من غير المسموح النظر إلى إيران بعين موضوعيّة.

 إيران تتفوّق على العرب في البحث العلمي الطبّي المنشور، كما أنها أرسلت أقماراً صناعيّة وهي في طور إرسال مركبات فضائيّة مأهولة بحدود عام 2029. وإيران تتوصّل إلى هذه الإنجازات بقدراتها الذاتيّة، من دون شرائها من دول غربيّة، على طريقة الإمارات. إيران تعاملت، مثل كوريا الشمالية، مع العقوبات الدوليّة على أنها فرصة للاكتفاء الذاتي والتطوير الذاتي. طبعاً، كثر يسخرون من إيران ومن شكل تصنيع سيّاراتها لكن الجهة نفسها التي تسخر من إيران، كانت في الماضي تسخر من التصنيع المصري في عهد جمال عبد الناصر.

معنى النكبة كان تقنيّاً وسياسيّاً وليس حضارياً وثقافيّاً. الغوص في تحليل الذات العربيّة نفسيّاً وسياسيّاً زرعَ فكرة العجز العربي واستعار من الاستشراق الغربي في ذمّ العرب. إنّ صمود الشعب الفلسطيني أمام هجمة صهيونيّة عالميّة امتدّت لأكثر من قرن من الزمن هو معجزة بحدّ ذاتها بالرغم من التضحيات والخسائر والتدمير. القوة العالميّة العظمى احتضنت وتبنّت إسرائيل منذ الحرب العالميّة الثانية لكنّ الشعب الفلسطيني لم يستكن أو ينكسر كحالات بعض السكّان الأصليّين (هذا لا يقلّل من تأثير الوحشيّة الفظيعة التي استخدمها البيض ضد السكان الأصليّين هنا). عندما توفّرت الإرادة والصلابة استطاعت قوى تطوّعية تحقيق إنجازات عسكريّة وإعلاميّة فذّة ضد قوى عالميّة تحظى بدعم أقوى دولة في العالم. كان يمكن لمنظمة التحرير، مثلاً، أن تحقّق نتائج مختلفة، لكن من الإنصاف الاعتراف بأن تجربة المقاومات الحاليّة استفادت من الخبرة التراكمية في ارتكاب الأخطاء وتحقيق بعض النجاحات الصغيرة في الماضي.

كل حركة مقاومة تبني على ما سبقها، والمقاومات اليوم في وضع يسمح لها بتسجيل درجات عالية من النجاح المُبهر. احتاجت أميركا أن تشكّل قوى عالميّة (ضمّت في ما ضمّت أسطول «سيشيل») للوقوف بوجه «أنصار الله» في اليمن. لا يحتاج اليمن إلى تحديث نهضوي كي يهزم هذا التحالف الصفيق. ذمّ العرب صناعة غربيّة، وإن استبطنها بعض العرب، وهي تهدف إلى تعجيزنا وتيئيسنا بوجه إسرائيل. لكن، لماذا يبدو المشروع الصهيوني برمّته عاجزاً ويائساً؟

حزب الله: معضلات الردّ على أنواعه:
لا يمكن أن نستوعب حجم أعباء قرارات جمال عبد الناصر قبل هزيمة عام 1967. ليس سهلاً علينا إدراك صعوبة أن تعلّق الجماهير الآمال العريضة على شخص واحد. عندما يكون الزعيم أكبر من بلده تكبر المسؤوليّة وتكبر عواقب أي قرار يتخذه. لم تعد زعامة حسن نصرالله اليوم بحجم زعامته قبل الحرب السوريّة، لكنه لا يزال زعيماً تتخطّى زعامته حدود لبنان، كما أن دوره في محور المقاومة يتعاظم، وقد يكون المسؤول الأوّل عن القرار المباشر للمحور كلّه. الحرب تستمرّ وكل يوم تزداد الضغوطات على الحزب في كل الاتجاهات. كتب نسيم طالب قبل أيّام إنّ سلوك «أنصار الله» في اليمن يثبتُ أنهم ليسوا أدواتٍ إيرانيّة، بالرغم من التحالف الاضطراري الذي نسجوه بسبب الحصار والحرب الوحشيّة التي تعرّضوا لها (والتقارير الأميركيّة الواردة في تسريبات «ويكيليكس» تقول نفس الشيء عن «أنصار الله»). إنّ فتح الحرب من قبل «أنصار الله» على العالم الغربي والعربي المتحالف مع إسرائيل يتناقض مع الحسابات الدقيقة التي تتبعها السياسة الإيرانيّة. وعلاقة الحزب بإيران تختلف كليّاً، عن علاقة «حماس» أو «أنصار الله» بإيران.

الحزب بات العمود الفقري في التحالف الإقليمي، وفهم نصرالله للسياسات الإقليميّة والدوليّة أعمق من فهم باقي الأطراف والشخصيّات. كما أن دراسته الدقيقة لإسرائيل ومكامن الضعف فيها لا يجاريها الآخرون من أطراف المحور. بناءً عليه، ولأسباب أخرى، يبدو أنه هو الذي يُقرّر مسار الصراع مع إسرائيل. لكن ماذا يمكن أن يفعل الحزب الآن، ماذا يمكن أن يفعل الحزب في ضوء استمرار العدوان؟ إسرائيل تزيد من غيّها ووحشيّتها، وبنيامين نتنياهو يؤجّل وقف الحرب لأسباب عديدة، بما فيها الأسباب الخاصة بمستقبله السياسيّ لعلمه أن ما ينتظره بعد وقف الحرب، هو التحقيقات والمحاكمة والعزل. والعقيدة العسكريّة الإسرائيليّة في ضرورة سحق العرب وتخويفهم لا تحتمل وقف الحرب الآن، كون النتيجة ستكون انتصاراً لـ«حماس».

وأطراف المحور تحتاج إلى بعضها البعض أكثر من أي وقت مضى. وهذا الحساب كان وراء تدخّل الحزب في سوريا، بصرف النظر عن التقييم السياسي العرضي، إذ تمثل سوريا أهم طرق الإمداد الأساسيّة لحركة المقاومة. وقد اجترح المقاومون طرقاً مبتكرة لإمداد غزة عبر السنوات، إلى أن أتى عهد تعاون مصر مع إسرائيل في إحكام إغلاق كل منافذ القطاع، فيما تُحكِم عصابة السلطة منافذ الضفة، أو هي تتعاون مع الاحتلال في وصد أبواب السجن الكبير. لا يستطيع الحزب أن يحسب قراراته بناء على تصريحات أو مطالب أعدائه، في لبنان أو الخارج. عندما يكتب عبد الرحمن الراشد في «الشرق الأوسط» أن الحزب «يتهرّب من المشاركة» تعلم أن النيّة خبيثة وأن العدّة جاهزة للتعامل مع تدخّل الحزب أو إحجامه. لو أن الحزب امتنع عن التدخّل، لكانت هذه الأبواق قد أخرجته من العروبة كلياً.

ولو هو فتح الحرب الواسعة، لكان تحمّل وحده مسؤوليّة الدمار، وكان هؤلاء تبرّعوا بتبرئة إسرائيل، كما فعلوا بالنسبة إلى حرب تمّوز. يومها، سوغت جريدة «الشرق الأوسط» القصف الإسرائيلي اليومي على جنوب لبنان وزعمت، نقلاً عن العميد اللبناني المتقاعد، ناجي ملاعب، أن المنازل التي تقصفها إسرائيل هي لعناصر حزب الله (كيف عرف ملاعب ذلك. هل هو قصاص أثر أو دلّال؟). لكنّ الحزب فاجأهم بمساندته أهل غزة عبر الاستهداف اليومي لمواقع عسكريّة إسرائيليّة وتهجير سكان مستعمرات الشمال، لكن هذا لم يصل إلى المستوى المطلوب عند أعداء الحزب. نفس الذين رفعوا شعارات «لا للحرب في لبنان» يلومون الحزب اليوم لأنه لم يفتح الحرب الواسعة ولم يحرّر فلسطين لهم، وهم مرابطون في المحور الإسرائيلي.

الحزب يدرس الوضع من دون أن يتوقّف عن قصف أهداف إسرائيليّة. والحزب أُثبتَ أنه، خلافاً للعدوّ، يتجنّب استهداف المدنيّين إذا امكن. القصف الإسرائيلي كعادته طالَ الجميع. لكن استمرار الحرب يفرض جملة من الأسئلة على الحزب. هل إن وتيرة القصف المتبادل في جنوب لبنان تغيّر من مسار الحرب الإباديّة على غزة؟ هل يمكن للحزب أن يفعل أكثر من دون التأثير على قرار إسرائيلي بجرّ لبنان إلى حرب مدمِّرة؟ وماذا لو انهارت المقاومة في غزة بعد مزيد من التدمير؟ هل يتحمّل المحور سقوط عنصره الفلسطيني الفاعل الذي يضفي بحضوره شرعيّة سياسيّة، إضافة إلى شرعيّة دينيّة في زمن الاحتراب الطائفي؟ كيف يتصرّف الحزب في هذه الحالة، وهو بعيد عن غزة ولا يستطيع أن يفكّ أسرها عن بُعد؟

إنّ هدف القصف هو سياسي بكلفة عالية (يستخفّ البعض من حجم الاشتباك المستمرّ بين لبنان وإسرائيل في الوقت الذي وصل فيه عدد شهداء المقاومة في مواجهة إسرائيل إلى أكثر من 120). والتضامن السياسي هو واجب أخلاقي على الحليف الأوثق لـ«حماس» في الوقت الذي تنصّلت فيه كل الحكومات العربيّة، من دون استثناء، من «حماس» (والإعلام السعودي ناشط يوميّاً في ذم «حماس» وتبرئة إسرائيل). والقصف يضغط على العدو عبر تهجير سكان الجليل الذين تتكفّل الحكومة بإيوائهم في فنادق. وتحوير جهود الجيش من جبهة الضفة وغزة وإشغاله في اشتباكات يوميّة يقلّص من قدرات الجيش مهما زعم العكس من باب مكابرته. هل يستطيع الحزب أن يمنع انهيار المقاومة في غزة من دون فتح الحرب الكبرى؟ من المستبعد لكن هل إن فتح الحرب الكبرى يمنع انهيار المقاومة في غزة لو كان ذلك بمتناول العدوّ؟

وانتصار «حماس» في غزة (وهو متوقّع)، وعلى أهميته بالنسبة إلى حزب الله كقوة مقاومة، إلا أن خصومه، سوف يعملون على تحويله إلى معضلة سياسيّة للحزب أيضاً. سيُقال إن «حماس» حقّقت النصر بقواها الذاتيّة. وسوف تستخلص قوى التحريض الطائفي والمذهبي العبر المفيدة لتأجيج الفتنة. وسيُقال إن الحزب وقف متفرّجاً فيما كانت غزة تتعرّض لأكبر عمليّة تدمير ممنهج في تاريخها المعاصر. وسيُقال إن الحزب رفض أن يهبَّ لنجدة غزة في هذه الحرب المدمِّرة. لكن الحزب يعي التجارب التاريخيّة ويستفيد منها ويتعلّم من أخطاء من سبقه في مواجهة ومحاربة إسرائيل. من غير الحكمة أن تدع خصمك أو عدوّك يحدّد لك برنامجك أو روزنامتك في الصراع. هذا كان خطأ جمال عبد الناصر، عندما تأثّر بمزايدات تعرّض لها من قبل الأنظمة في سوريا والأردن ودول الخليج، وهي مزايدات ضجّ بها الإعلام المؤثر لهذه الأنظمة في لبنان.

الحزب يحدّد أجندته وفقاً لبرنامجه هو، وبرنامج المحور الذي يقوده بالتشارك مع إيران. لم يعد النظام السوري مؤثّراً، بحكم الإنهاك الذي تعرّض له عبر الحرب المدمّرة هناك. انتصار «حماس» هو انتصار للمحور (وانتصار للعرب أجمعين)، وستستطيع «حماس» أن تتعامل مع النصر بطريقة تفيد المحور ككلّ. لكنها تبدو، حتى الساعة، عرضةً لتوجّهات الإعلام الخليجي الذي يضعها دوماً في موقع دفاعي. عليها أن تثبت دوماً أنها ليست أداة إيرانيّة فيما تجاوز الحزب تلك العقدة. وكيف يتخذ الحزب قراره في لبنان؟ وكيف يتأثّر بمعرفته أن هناك نحو نصف الشعب اللبناني من الذين يتمنّون نصر إسرائيل على العرب (هذا كان مساراً لبنانيّاً منذ النكبة. كان هناك دوماً أحزاب وفئات وشخصيّات وكنائس أقرب إلى إسرائيل منها للعرب).

إلى أيّ درجة يكبّل هذا الفريق المنضوي في المحور الخليجي (الذي يضمّ إسرائيل) أيدي الحزب في حركته في مواجهة إسرائيل؟ كان هناك حملة مبرمجة عند بدء الحرب من أجل إعادة تشكيل 14 آذار، أي تحالف متعددّ الطوائف من دون الشيعة (طبعاً، كان هناك أفراد شيعة من الذين نالوا 62 صوتاً في الانتخابات). وهذا التحالف كان يقف ضد المقاومة في حرب تمّوز وبعضه، أو أكثره، ناصرَ إسرائيل ضد لبنان (لم يعد هذا الأمر مخفياً بعد نشر وثائق «ويكيليكس» وفيها أمثال بطرس حرب وهو يعطي إرشادات ميدانيّة لجيش العدوّ كي يتقدّم في أرض الجنوب، وكان وزير الدفاع إلياس المرّ يقدّم النصح لإسرائيل من باب الحرص ... ترى ماذا حلّ بصندوق الأخير للأنتربول؟) لكن بعض المطالبات للحزب برفع وتيرة الحرب صادقة النيّة (وإن كان بعضها الآخر خبيث). والعرب لديهم شعور بالضيق مما يحدث في غزة ورغبة جامحة في مدّ العون لأهلها وإن عن بُعد.

لكن كيف ذلك ولبنان لا يجاور القطاع؟ والحزب يرفع وتيرة قصفه وإيذائه للعدوّ بصورة مدروسة ودقيقة من ضمن سقف الاشتباك المضبوط. وأن تفرض شروط اشتباك على العدوّ هو إنجاز آخر للمقاومة (من دون الاستهانة بتدخّل الفوج المجوقل للجيش اللبناني في عمليّة نوعيّة قبل يومين لإنقاذ مواطنين عالقين في التليفريك). لم يسبق أن استطاع طرف عربي فرض ضوابط على حرب إسرائيليّة ضد العرب. هذا مستوى عالٍ جداً من الردع والتخويف. وأيّ زيادة في منسوب القصف في الجنوب ستفتح المعركة الكبرى. وشعار «نحن نختار زمان ومكان المعركة» بات عرضة للتندّر، وعن حق، من قبل العرب لكثرة ما استعمله النظام السوري في تسويغ عدم ردّه على عدوان إسرائيل. لكن للحزب وحده حق رفع هذا الشعار بسبب المصداقيّة التي اكتسبها من سياساته الردعيّة المؤثّرة.

هل صحيح أن إسرائيل تريد أن تفتح الحرب الكبرى؟ أشكّك في ذلك كثيراً وأرى أنّ التسريبات عن همّة أميركيّة في ضبط إسرائيل يدخل في بروباغاندا صهيونيّة تهدف إلى إضفاء لمسة حنونة على الحكومة الأميركيّة العدوانيّة، وتجميل صورتها في الرأي العام العربي (مروان حمادة أفتى أن الغرب والخليج هم الذين يردعون إسرائيل نحو لبنان، لكن لم يفسّر لماذا هذه السياسة الردعيّة لم تتزامن إلا مع نشوء هذه المقاومة ... لماذا لم يردعوا إسرائيل بين عامَي 1948و 2000) إسرائيل تعلم ما الذي ينتظرها في لبنان، وهي تستخدم وحشيّتها في غزة كي تقيّد يد الحزب لعلمها أن العامل الإنساني مؤثّر في موقف الحزب من الحرب الجارية. لا يريد الحزب أن يُلحق دماراً شاملاً بلبنان مع علمه أنه يستطيع أن يجعل إسرائيل تدفع الثمن غالياً. والحزب يتدخّل يومياً في الحرب بصورة مباشرة (أمور لا نعلمها عن المساندة والعون السرّي في كل الجبهات. أليس سامي شهاب، المقاوم الذي اعتقله النظام المصري وهو يهرّب السلاح إلى غزة، هو الجندي المجهول في حرب غزة؟)

تمارس إسرائيل وأميركا حرباً نفسيّة ضد الحزب، لكن للحزب مهارة لا يُستهان بها في الحرب النفسيّة وهو يعرف كيف يتلاعب بأعصاب العدوّ. لكنه محكوم بضوابط الداخل اللبناني الطائفي. قد لا ترغب أميركا في إشعال الحرب الكبرى مع الحزب، لكن ليس رأفةً بلبنان. بل هي تخشى على مصالحها، وتعلم أن وجودها المنتشر في المنطقة يعرّضها لأذى كبير لو هي شاركت في الحرب ضد الحزب. صحيح أن لا حدود لدعم إدارة جو بايدن لإسرائيل لكن ذلك محصور اليوم بالعدوان على غزة. ولو انتصرت «حماس» سيكون بايدن أكثر استعداداً لإتاحة المجال لإسرائيل لاستعادة بعض من كرامتها. المعضلة لإسرائيل: أن لبنان بات آخر ساحة يمكن لها أن تستعيد كرامتها العسكريّة فيها. هذا إن قدرت على تحقيق ذلك!

*
كاتب عربي - حسابه على تويتر asadabukhalil@