ضمن المحور الذي خصصناه في هذا العدد لمواقف المثقفين من حرب الإبادة التي تشنها دولة الاستيطان الصهيوني على غزة وأبناء فلسطين، يذكرنا الباحث المغربي هنا بمواقف المفكرين الفرنسيين من هذه القضية. وكيف وقف الكثيرون منهم من ماسينيون وحتى رودنسون وديلوز وبورديو مع فلسطين، بينما تذبذب آخرون مثل سارتر.

ماسينيون وسارتر: مفارقات الموقف من فلسطين

فريد الزاهي

 

منذ انطلاق الصراع في قطاع غزة، أضحى صوت بعض المثقفين "المؤثرين"، ممن عرفوا بـ"الفلاسفة الجدد"، من قبيل هنري برنار ليفي، يصدح في القنوات الإخبارية الفرنسية منددًا بالإرهاب والإرهابيينK ومشيدًا بحكمة وحصافة الدولة التي يدين لها بالولاء عن بعد. ففي ظرفية توجد فيها إحدى أكبر الدول الحربية، المجهزة بترسانة عسكرية تعد الأكثر "نجاعة" وفاعلية في منطقة الشرق الأوسط، في مواجهة شعب شبه أعزل، معزول عن العالم، من دون ماء ولا وقود ولا أدوية في عز الشتاء، لا يهتم بعض المثقفين إلا بولاءاتهم النابعة أحيانًا من أصولهم اليهودية، وأحيانًا أخرى من مواقفهم من الإسلام، ومن "الإرهاب".

وكما كانت صدمة المثقفين المغاربة كبيرة بالتصريح الذي نشره الطاهر بن جلون، الكاتب المغربي الغونكوري المدلل من قبل الفرنكفونية، غداة أحداث غزة، منددًا بالأحداث، من غير أن يتوقع فكره الضيق ما نجم عن ذلك من حصار وتجويع للفلسطينيين وتقتيل للأطفال وتدمير للمستشفيات ... كانت صدمة المثقفين العرب أكبر ببيان التضامن مع إسرائيل الذي وقعه منظر الأخلاق التواصلية يورغن هابرماس، الذي يحظى لدى عدد من المثقفين والمفكرين العرب بكثير من الاحترام والتقدير.

يشكل عدد من المفكرين والمثقفين الغربيين مرجعية أكيدة في الفكر العربي. وحضورهم في بلورة هذا الفكر باتت أكيدة بحيث إننا نصاب بالجزع حين نكتشف ولاء هايدغر للنازية في فترة معينة من مسيرته، وتركبنا الحيرة حين نقف على موقف سارتر، أو ليفيناس، من القضية الفلسطينية، في الوقت الذي نحس فيه بصواب مرجعيتنا الثقافية حين نرى كيف أن جان جينيه، أو جيل دولوز، أو بيير بورديو، وريجيس دوبريه، وغيرهم، وقفوا من القضية موقفًا يشرف بشكل كبير فكرهم النقدي.
هل علينا أن ننفض أيدينا من هؤلاء الأعلام الذين شكلوا فكرنا، وساهموا بشكل أو بآخر في بناء حداثتنا الفكرية؟ هل نكف عن استيحاء وقراءة هابرماس، وسارتر، وليفيناس، لعدائهم البين للقضية الوحيدة التي شكلت لحمة الوعي القومي العربي لعقود طويلة؟ وهل نكف عن قراءة الأديب والطبيب الفرنسي الشهير لويس فرديناند سيلين، هذا العبقري الأدبي، فقط لأنه كان مواليًا للنازية؟ تلك هي المفارقات التي تجعل الحقيقة دومًا ذات وجهين، أو أكثر، وتتطلب من مفكرينا أن يكونوا أكثر إقناعًا، وأكثر حضورًا في الساحة العالمية.

ماسينيون وجينيالوجيا «الحق الفلسطيني» في الفكر الفرنسي
في وقت ما، كان الموقف من القضية الفلسطينية، ومن الصهيونية وإسرائيل، علامة على التقدمية ومناصرة حقوق الشعوب في التحرر والعيش الكريم. وليس من قبيل الصدفة أن ينحاز بعض المثقفين الكبار، الذين يحظون بعلاقة طيبة مع العالم العربي، إلى الحق الفلسطيني منذ بدايات القضية. كان لويس ماسينيون، المعروف بدراساته للثقافة العربية، وكتابه المرجعي عن مأساة الحلاج، المثقف الفرنسي الوحيد الذي وقف ضد ميول المفكرين والمثقفين الفرنسين منذ بدايات المشكلة الفلسطينية حتى وفاته عام 1962. بدأ الرجل بالانحياز لقيام دولة إسرائيل حين التقى بالقدس حاييم وايزمان عام 1917. بيد أنه منذ 1936 انتفض ضد استعمار الإسرائيليين لفلسطين، ووقف بحزم ضد تقسيمها. فمنذ قيام الدولة الإسرائيلية عام 1948، ناهض بشراسة ترحيل أبناء الأرض، وإنشاء معسكرات اللاجئين. كانت مواقف ماسينيون توصف حينئذ بأنها "مغالية"، لأنه رأى أن الصهيونية حادت عن مبادئها السلمية والتعايشية منذ 1927، فيما أن المثقفين الفرنسيين لن يعترفوا بشرعية الصهيونية إلا عام 1945.

كانت مواقف ماسينيون سابقة بكثير على وعي الساحة الثقافية الفرنسية بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وفي الوقت الذي كان فيه يفضح الطبيعة الاستعمارية للاستيطان الصهيوني وجد نفسه وحيدًا عام 1948 وعام 1963 للتنديد بالطريقة التي انتهجتها الصهيونية عبر ما تسميه "عودة إسرائيل" إلى فلسطين، التي رأى فيها حسب عبارته "التقنية الأكثر اكتمالًا وشراسة التي استخدمها أكثر أشكال الاستعمار مثارًا للسخط". كان ماسينيون من أوائل المثقفين الغربيين من عيّن مبكرًا استيطان إسرائيل لفلسطين بكونه استعمارًا مخزيًا، لأن الدولة الصهيونية الوليدة لم تتورع، غداة قيامها عام 1949، عن طرد مليون فلسطيني من أراضيها.

صحيح أن ماسينيون كان منذ عام 1917 صهيونيًا، لكنه كان يؤمن عندئذ بأن "عودة إسرائيل" كان يلزم بأن تتم وفقًا لما يسميه "تفاهمًا شريفًا" بين اليهود والفلسطينيين، كما عبر عن ذلك عام 1921. بيد أنه ما إن أدرك أن هذا الرجوع كان يتم بشكل استعماري جديد، حارمًا السكان العرب، مسيحيين ومسلمين، من الحق في أن يعيشوا بسلام في أرض أجدادهم، حتى نفض عن نفسه هذه الصفة. بل إنه سيغدو معاديًا متطرفًا للصهيونية بعد 1948، حين لجأت الدولة الصهيونية إلى التهجير والطرد الجماعي للسكان الفلسطينيين من أراضيهم للرمي بهم في معسكرات للاجئين.

بيد أننا يمكن أن نعد هذا التحول المبكر موقفًا استشرافيًا واضحًا وغير مهادن. فماسينيون من بين القلائل الذين رأوا الاحتلال الإسرائيلي استعمارًا جديدًا ليس أقل وحشية من أشكال الاستعمار القديم، وانقلابًا في وضعية اليهود من الضحية إلى الجلاد. يقول في ذلك بوضوح باهر: "إن شعب إسرائيل، المنبوذ إلى الأبد، الذي دمرته مجازر هتلر، والذي كان يتطلع إلى إعادة التجمع في "الوطن القومي" المعترف به له منذ عام 1917 قد تبنى الاستعمار، وقرر إجبار العرب المسلمين والمسيحيين العمال والفلاحين على الفرار، قصد إيواء المهاجرين واللاجئين اليهود، من خلال إرهابهم بهجمات منهجية".

سارتر: المفكر الحائر أمام القضية الفلسطينية
كان جان بول سارتر، المفكر الذي دافع بحماسة عن تحرر الجزائر، هو نفسه الذي دعا إلى تأييد قيام إسرائيل. وهو في ذلك كان مقتنعًا، بعد ما عاناه اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، أنه يدافع عن حماية هؤلاء من معاداة السامية. ولأنه كان مدافعًا عن تحرر الشعوب المستعمرة، فلم يكن له بدٌّ من أن يعترف أيضًا بحق الشعب الفلسطيني في التحرر. إنه موقف البين البين، والتوفيق بين صداقته للعرب، وصداقته لليهود. حين اعترف سارتر عام 1948 بدولة إسرائيل، بدا وكأنه يتراجع عن نقطتين هامتين ضمنهما كتابه "تأملات في القضية اليهودية"، الذي جاء فيه: "ليس ثمة من تاريخ يهودي"، و"معاداة السامية هي ما يخلق اليهودي (...) والتي تكره اليهودي على أن يختار نفسه يهوديًا بالرغم عنه"، وهو ما يجعل من الشعب اليهودي فئة سلبية خالصة، لا شعبًا تشكل تاريخيًا.

بيد أن تطورات القضية ستخلخل هذا الموقف المحايد. هكذا سيصرح عام 1966 في حوار له: "إننا نجد أنفسنا، في الوقت الذي يتواجه فيه العالم العربي وإسرائيل، كما لو كنا منقسمين في ذواتنا، ونحن نعيش هذا التعارض كما لو كان مأساتنا الشخصية". وفي 1966 ـ 1967، خصص سارتر عددًا خاصًا من مجلته الشهيرة "الأزمنة المعاصرة" للمسألة الفلسطينية، كان غنيًا بالنقاش، وسوف يصدر عشية حرب 1967. وفيه يكتب سارتر مقدمة يسعى فيها إلى أن يدرأ عن نفسه نعت معاداة السامية. وسيكون المقال الأقوى في هذا العدد للمفكر والمستشرق ماكسيم رودنسون، يستعيد فيه أطروحة ماسينيون، بعنوان: "هل إسرائيل واقعة كولونيالية؟". وهو سؤال كان نادرًا وغير مسبوق في الساحة الفرنسية (إلا من ماسينيون)، خاصة وأنه صادر عن مفكر ذي أصول يهودية. وفيه يقول بالأخص، وبشكل واضح "أن تكون دولة إسرائيل على أرض فلسطين هو منتهى سيرورة تندرج، بشكل كامل، في الحركة الكبرى للتوسع الأوروبي الأميركي في القرنين التاسع عشر والعشرين، للاستيلاء على الأراضي الأخرى أو إعمارها".

سنوات بعد ذلك، سوف يسعى سارتر إلى الموازنة بين شرعية إسرائيل وحقوق الفلسطينيين في الأراضي كافة التي استولت عليها إسرائيل. وسيصرح أيضًا بخصوص الكفاح الفلسطيني: "أنا لا أرى اليوم للأسف حلًا غير الكفاح. وأنا لا أعاتب الفلسطينيين على فعل ما وافقت عليه حين كان الأمر يتعلق بكفاح جبهة التحرير الوطني الجزائرية، ولا أن يكافحوا حسب إمكانياتهم. ولو كانوا كثيري العدد كانوا سيكافحون بشكل آخر. فالإرهاب هو سلاح الفقراء، وهو كان موجودًا دائمًا، لكنه في آخر المطاف، وفي بعض الحالات، الطريق نحو حرب شعبية". ولا يخفى أن هذا المديح للعنف التحرري، لا يمكن إلا أن يذكرنا بالمقدمة التي كتبها سارتر لكتاب فرانز فانون المعذبون في الأرض (1961)، التي يدعو فيها إلى العنف لتحرير الأرض والإنسان.

بيد أن المفكر الفرنسي المتذبذب، الذي حظي من قبل عبد الكبير الخطيبي بنقد هجائي لاذع (كتاب "الحمى البيضاء" ـ 1973)، المعروف برفضه لجائزة نوبل، كما لعدد من التكريمات الفخرية، سوف يقبل عام 1976 بدكتوراة فخرية من الجامعة العبرية في القدس، مؤكدًا أن رد فعله كان سيكون هو نفسه، لو تلقى هذه الدكتوراة الفخرية من جامعة القاهرة! وفي عام 1979، نظم سارتر، بمعية سيمون دو بوفوار، لدى ميشيل فوكو، مؤتمرًا عن السلم في الشرق الأوسط. وكان أحد المدعوين لهذا المؤتمر لتقديم المفكرين الفلسطينيين إدوارد سعيد، الذي عبّر عن تنديده بالحضور المبالغ فيه لبرنار هنري ليفي، كما عن أسفه للحضور الباهت والسكوني الخالي من أي تعاطف لجان بول سارتر، الذي بدا "كشبح لما كان عليه". وهو ما سينتهي به بمعية سكرتيره الخاص بيني ليفي (الماوي الذي تحول إلى مقتنع باليهودية) إلى حوار سوف يبدو فيه سارتر مفكرًا شاحبًا يتخلى عن التزامه، ويتحول إلى مؤمن بمسيحانية يهودية جديدة تجمع اليهود بالمسيحيين في القضايا كافة.

لهذا السبب، وإزاء هذا التذبذب الواضح، لا يختلف موقف المؤرخ فاروق مردم بك عن موقف الخطيبي، عقودًا قبل ذلك، إذ إنه يرى أن سارتر ومواقفه الفكرية محايدة بشكل مزيف، لأنه ظل يميل أكثر إلى الجانب الإسرائيلي وللشعب اليهودي، محمولًا على تجربة الحرب ومأساة الهولوكوست. إنه الوعي الشقي الذي حلله الخطيبي بشكل باهر. نظر سارتر طويلًا لمفهوم الالتزام. لكن هل يمكننا الالتزام من غير الحسم؟
لقد فضحت قضية الشعب الفلسطيني مفارقات المثقفين الغربيين، ووعيهم الشقي المتأرجح، وإحساسهم بالذنب إزاء اليهود. فالضحية غدا جلادًا، وأحيانًا جلادًا يفوق في وحشيته جلاده القديم. فهل سنتحدث عن متلازمة جديدة تنبثق من قلب إسرائيل؟

 

عن (ضفة ثالثة)