يكشف الكاتب الفلسطيني هنا عن أصول التصور الأمريكي المتجذر في ثُؤر الخطاب الذي يتجدد الآن مع حرب الإبادة الجماعية على غزة المقاومة، وكيف تنهض كل مقومات رؤى الغرب وأميركا خاصة، على نفس مفهوم الإبادة التي تتجلى في فيلم مارتن سكورسيزي الأخير في تحليله لهذا الفيلم المهم.

عن مِحور الشرِّ القديمِ المُتَجَدِّد

محمد جميل خضر

 

بشجاعةٍ تُقَدَّر له، لا يتوانى المخرج الأميركيّ المخضرم مارتن سكورسيزي في شريطه السينمائي الجديد "قتلة زهرة القمر/Killers of the Flower Moon" (2023، ثلاث ساعات و26 دقيقة)، عن فضح كثيرٍ من ممارسات الرأسمالية الأميركية الماسونية الجشِعة، وإماطةِ الّلثام عن آليات سيطرة يهود أميركا، وربّما يهود العالم، على مصادر المال والسُّلْطة والقَرار.

تنتهي مراسم دفن غليون، أحد أحبّة قبيلة الأوساج من سكان أميركا الأصليين، بانفجار بئر نفط، لتبدأ أحداث الفيلم، معلنة عن تصادمٍ مؤلمٍ بين كوْن أبناء القبيلة محظوظين بهذا الاكتشاف الذي غيّر وجه مستقبلهم، وجعلهم أكثر جماعات الأرض غِنى، وفي الوقت نفسه، اللعنة التي حلّت عليهم بسبب هذا الذهب الأسود الذي تدفّق في سهول إقامتهم بولاية أوكلاهوما من دون هوادة وبكميات مهولة، فالأبيضُ الاستعماريُّ لن يتركهم بحالهم، هذا ما تؤكّده طبيعة العلاقة منذ بواكيرِها بين السكّان الأصليين وبين المسْتعمرين الأوروبيين البيض، وهذا ما حدث فعلًا، وما دارت أحداث الفيلم، المطبوخ على نار هادئة، حوله.

طقوسُ الفِطرة
بفطرةٍ إنسانيةٍ نقيّةِ المناهج والسّلوك والإِرْث، يواصل شعبُ الأوسَاج الحفاظ على قيمه وعاداتهِ ومعتقداتِه، كان كبارهم يدركون أن أطفالهم سوف يتعلمون لغة أخرى غير لغة أجدادهم، وعادات جديدة لا تشبه عاداتهم، وكانوا يتقبّلون هذه الحقائق بعقلٍ منفتحٍ ووعيٍ عميق لسيرورةِ الوجود وناموسيةِ الزمن. حتى أنهم تقبّلوا مؤشرات الجشعِ التي أظهرها الرجل الأبيض فور اكتشاف النفط في مرابعِ أرضهم، لِيقينهم أن خير الأرض يمكن أن يكفي كلَّ أهل الأرض. المعضلة، إذًا، لا تتعلّق بهم، بل بالآخر الذي لا يريد، لو أتيح له، أن يترك لأصحاب حقول النفط هذه أيَّ شيء منها، يودّ لو يمتصّهم عن آخرِهم، وفي كثير من الأحيان بأكثرِ الطرق خسّة، بأن يتزوّج بناتهم ويدس لهنّ ما يقصّر أعمارهنّ، لِيستولي بعد ذلك على ميراثهنّ من أموال آبائهنّ وأطْيانهنّ وحصّتهنّ من ذهب موطنهنّ الأسود.
حتى مولي بوركارت (أدّت الدور بجدارةٍ آسرةٍ الممثلة ليلي جلادستون من السكّان الأصليين)، كانت بِفطرتها مستشعرةً أن نوايا (ذئب البراري) كما كانت تناديه بلغتِها الأم، إيرنيست بوركارت الأبيض الشَّرِه الاستئثاريّ الذي أصبح زوجها في ما بعد (أدى دوره الممثل ليوناردو دي كابريو)، هي نوايا غير بريئة ولا مُحِبّة ولا مُتفانية نحو معاني الحب الحقيقي المُفضي إلى زواج مقدّس.
أمّة الأوساج (المحظوظون) كما كان يسميهم البيض غيرة وحسدًا وضيق عين، تعاملوا بالروحانيةِ الفطريةِ نفسها لحظة انفجار أوّل بئر نفط في براري وجودهم، كانوا يدفنون غليون واحد من زعمائهم انتقل إلى العالم الآخَر، وحين تدفّق كالبركانِ عامود السائل الأسود الّلزج، رقصوا حوله تصاحبهم موسيقى أبدع روبيي روبيرتسون في جعلها، بمشاركة المؤلف الموسيقي الأميركي راندال بوستر، جزءًا أصيلًا من عناصر الشريط وروافع فرادته.
(الكنديّ روبيي روبيرتسون (1943 ـ 2023)، عازف القيثار، وكاتب السيناريو، والمغنّي، والممثّل، ومنتج الأسطوانات، ومؤلف الموسيقات التصويرية، رحل في شهر أغسطس/ آب قبل أن يرى الفيلم النور).

بوحُ الموسيقى
في الشريط الأيقونة لِسكورسيزي، كما لو أنه فيلم الوداع للمخرج المخضرم (81 عامًا)، تتبدّل وظائف الموسيقى من مشهديةٍ إلى أُخرى، فموسيقى أوّل النفط تختلف، على سبيل المثال، عن موسيقى الكرنفالاتِ الخاصّة بالسكّان الأصليين، وهذهِ بدورِها تختلف عن موسيقى الأعياد والمناسبات الخاصة بالبيضِ الذين فرضوا لغتهم وبعضَ ثقافتهم على أصحاب الأرض والحيازَة.

أمّا موسيقى ختام الفيلم فهي بأصواتِ السكّان الأصليين وصيحاتِ أنينِهم وقرعِ طبولِهم.
شكّلت الموسيقى في كثير من أحداث الفيلم ومفاصلهِ الأخلاقيّة والدّرامية ما يُشبه البَوْح، وما يرتقي إلى كونهِ لغة ثالثة يتواصل عبْرها الناس المتجمهرون حول حقل نفط (يتضمّن الفيلم لغتيْن: الإنكليزية، ولغة السكّان الأصليين)، كما لو أن أمكنةَ الفيلم جميعَها عبارةٌ عن مسرح جريمة لا تريد أن تترجّل قبل أن تُجهزَ على مالكي ومالِكات حقوق النفط جميعهم وجميعهنّ.
على كل حال، فإن الصيغةَ الإخراجيةَ التي رأى سكورسيزي أن يعتمدها في فيلمه المُهم على صعيديّ المعنى والمبنى، وهي صيغة تذكّرنا بالعصر الذهبي للسينما، من حيث الكوادِر، والمَجاميع، والإِضاءة، والمشهدياتِ الكبرى، والحركيّة الصاخبة، والبناءِ الهرميّ البَطيء المُتماسك، والتسلسلِ الحِرَفيّ، والتنويعِ اللمّاح بين الطبيعة والإنسان، وتجنّب الأحكام الكاسِحة، والإداناتِ الفاقِعة، كل هذا وَغيره، أتاح للموسيقى مساحة قلّما تُتيحها أفلام هذه الأيام، فعندما أحرق ويليام هيل الملقّب بالملك (روبيرتو دي نيرو بدورٍ يذكّرنا بزمنهِ الذهبيّ)، الذي أخبر ابن أخيه إيرنيست أنه بلغ الدرجة 32 في سلّم الماسونية، مزرعة خيوله، ليقبضَ التأمين الذي سعّره لتلكَ المزرعة، والبالغ 30 ألف دولار، كان الاقتراح الموسيقي بين المخرج والمؤلفيْن الموسيقييْن للفيلم، عميقًا كما لو أنه طالعٌ من همهماتِ الوجعِ من كلِّ تلك الشرور، ليس وجع الناس فقط، ولكن أيضًا، وجعِ الزرعِ والضّرع والطبيعةِ الأُم، والغاباتِ المنسيّة، والبَراري الغارقة بأطماعِ بني البشر حين، على غفْلة، ينفجر منها ما يلسعُ العقول ويُعمي الأبصار. القيثارات (لعبة روبيرتسون) تتناوب مع الأصوات البشرية التي لا تكاد تقول كلمات بعينِها بقدرِ ما تحلّ محلَّ آلاتٍ موسيقيةٍ آتيةٍ من أدغال التّيه، لتصنعا معًا (القيثاراتُ والأصْوات) ترنيمةَ المجهول الذي ينتظر الجميع: البيضُ القتلة والسكّان الأصليون الضحايا الذين واجهوا الجرائم المتسلسلةِ بنبلٍ رفيعٍ ووعيٍ سديدٍ لم تقدّره عصابة القتل التي اتّخذت في الشريط شكل "أخويّة" عصباويةٍ مافويةٍ بليغةِ الدّلالات والشبهِ بأخويّات أوروبا وعموم مستوطنات الغرب الشّره الذي لا يريد، على ما يبدو، أن يقول لنفسه، ولو مرّة أنْ كفى، إنني اكتفيت.

أبناءُ السّماء
أخذ شعب الأوساج اسمهم من نهريّ ميسوري وأوساج: "ني يو كون سكا"، أي أبناء المياه الوسطى. طردهم الرجل الأبيض من ميسوري وآركنساس وكانساس، ليستقروا في أوكلاهوما، حيث المجاعةُ في النهار، والذئابُ الجائعة في الليل. لم يكونوا من بين القبائل الخمس المتحضّرة: شيروكي، تشيكاسو، تشوكتو، كريك وسيمينول. الفجر هو وقتهم المقدّس للصلاة، يسمّون الشمس الجد، والقمر الأم، والنار الأب، أما الزهور الصغيرة التي كانت تنتشر فوق التلال وفي البراري فكانوا يسمونها "زهرة القمر"، وهي زهرة تنتشر بكثرة في براريهِم، كما لو أن إلهَهم (واه ـ كون ـ تاه) قد نظر إلى الأرض، ثم ابتسم ورشّ عليها الحلوى.
ورغم أنهم أبناء المياه الوُسطى، إلا أن لهم كُنية أُخرى هي أبناء السماء، ويبدو أن السكّان الأصليين، وبِما كانوا يتحلّون بِه من أخلاقياتٍ وطبائعَ راقية، هم جميعهم أبناء السّماء.
الأوساجيّونَ لا يحبّذون الثرثرة، ويصِفونها بـ"زقْزقة الشّحرور"، لكن "صمتهم لا يعني أنهم لا يعرفون الأشياء بعمق وحكمة. شعب الأوساج هم أطيب أبناء أرض الربّ وأرقاهُم"، كما جاء في شهادة وليام هيل، وهو أكثر من سعى إلى قتلهم، في سياق تعريف ابن أخيه بهم، على طريقة إعرف عدوّك. هيل لم يكتفِ بالتعريف الشفويّ، بل سلّم إيرنيست كتابًا عنهم وَعن تاريخهم وعاداتهم، وأمره أن يقرأه، فقتلُ البيضِ ينبغي أن يكون قتلًا متحضّرًا مزوّدًا بِالمعرفة!!
تسامح الأوساج، كتسامحِ مولي مع زوجها إيرنيست وهي التي اكتشفت ذئبويّته وأطماعهِ من أول لقاء جمعهما معًا، وقبْل أن تقبلَ به زوجًا، يُشْبِهُ، إلى حدٍّ بعيد، تسامح الكنعانيين أصحاب الأرض والحق في فلسطين، حيث الطامع المستعمِر الراغب باستيطانٍ غير قانونيٍّ لم ينظر إلى هذا التسامح بوصفه نبلًا، وقبولًا للآخر، وترفّعًا، بل تعامل معه على أنه قلّة ذكاء، وتفْريط، وغيابُ وجود، ولعلّ هذا ما شجّع العصابات الصهيونية والحركة التي أنشأت هذه العصابات، أن تعلن على الملأ أنهم حطّوا ركائبهِم فوق أرضٍ بِلا شعب، فصارت مُلْكهم بوصفهِم شعبًا بِلا أرض!

الفيلم لا يترك موضوع التسامح من دون أن يُبدي رأيًا حوله، فهو يقتبسُ في مستهلّه، لا بل في شارتهِ الأولى، عبارةً للشاعرةِ الأميركية من أصول إفريقية أودري لورد (1934 ـ 1992): "لم يحْمِني صمتي، ولن يحميك صمتُك".

محور الشر...
شكّل البيض في الفيلم محور شرٍّ خبيث، حيث يدرك كلٌّ منهم أطماع الآخَر، ما جعلهم يتقاسمون ما ليس لهم، وينتشرون كالطّاعون بين الأوساجيينَ يلتفّون على هذا، ويوقعونَ هذه بفتنةِ الرجل الأبيض، وما أنْ ينفجر حقل نفطٍ جديد حتى تقع جرائم جديدة؛ رميٌ بالرصاص، إغراقٌ بالكحول المضروبة المسمّمة، إلقاء في حفرةٍ، أو نهر، إعطاء  أدوية مضافًا إليها بعض السُّم، تعدّدت الأشكال والقتل واحدٌ يسعى إلى هدف واحدٍ هو نيل حقوق المغدورين النفطيّة، فما أشبه اليوم بالبارحة، فإيرنيست العاشق الولهان كما أوهم نفسه، وأوهم المرأة الأوساجيّة التي وقعت في حبّه، نفّذ، بأمرٍ من عمّه (الملك) جريمةَ قتلِ شقيقتِها وزوجِ شقيقتها الأبيض بيل سميث (جوسان إيسبل) الذي كان، بدورِهِ، ينتظر موت زوجته والسَّطو على ميراثها وحقوقِها، بتفجيرِ بيتهما. التفجير كان مرعبًا مدويًّا، وصلت شظاياه إلى بيت مولي التي يقيم معها في بيتها زوجُها القاتل وأولادُها الذي جاءوا خلطةً من ملامحِ الأوساجيينَ والبيضِ الغاصِبين. تفجيرٌ مرعبٌ تخيّلته يقع فوق روؤس أطفالٍ مسالمينَ نائمينَ بسلامٍ في خان يونس، أو دير البلح، أو بيت لاهيا، أو جباليا، أو رفح، فأُسُّ القتلةِ واحد، والعنصريّةُ واحدة.
محور الشر في الفيلم يتضمّن عمّات وزوجات ومحامين ومشرّعين ومنفذّي عمليات القتل، ونصابين يتقاضون على صورة فوتوغرافية 40 دولارًا وهو مبلغ ضخم مقابل صورة في ذلك الزمان (زمن أحداث الفيلم هو مطالع القرن العشرين وصولًا إلى عام 1934، والمعروف أن النفط اُكتشف في أوكلاهوما في عام 1912، وفورَ اكتشافه تسابق البيضُ لسرقةِ حقوقِهِ من السكّان الأصليين). نعشُ الميت الأوساجيّ (وما أكثرهم عبرَ التسبب بأمراض لهم، أو قتلهم) وصل سعره من خشب الماهوجِني إلى 1650 دولارًا، ما يعني ثروةً في تلك الأيام.
سرقاتٌ موصوفة، وجرائمُ بشعة، شكّلت الهوية الحقيقية للاستعمارِ منذ القرن الخامس عشر، وحتى يومنا هذا. وهي سماتٌ لا تفارق المستعمِرَ الغربيّ. لا انتصاره في الحرب العالمية غيّر دوافعه الاستعمارية، ولا ادّعاءه تبنّيه للديمقراطية وحقوق الإنسان!
في واحدٍ من حوارات الفيلم، يقول أحد المحققين الذين أرسلتهم الإدارة الفيديراليّة للتحقيق في جرائم القتل، وقد أصبحت بالعشرات: "بإمكاننا أن نُدين شخصًا ضرب كلبًا، ولا نستطيع إدانةَ من يقتل هنديًّا".
وصول المحققين إلى (غراي هورس) التابعة لولاية أوكلاهوما، جاء بعد سفر مولي إلى واشنطن وإيقافِها الرئيس في مكان عام ووضعِهِ في صورة ما يجري لقبيلةِ الأوسَاج الأصليينَ من مقتلةٍ وتطهيرٍ عرقيّ (يبدو أن التطهير العرقيّ فعل استعماريٌّ بامتياز، وإن كنتم لا تصدّقوني فاسألوا غزّة).
أمّا رأسُ الشرِّ وزعيمُه في الفيلم، فإنه (الملك) وليام هيل، في عودة قوية لروبيرتو دي نيرو، بعد أفلام لم يظهر بها كما عهدناه، مثل "الأيرلنديّ"/
The Irishman (2019)، و"الخلاص الوحشيّ"/ Savage Salvation (2022)، وغيرهما، إذ يهضُم بعمقٍ أبعادَ الشخصية وفنونَ شرورِها، ويطّعمها بعقليةِ رجال العصابات الصقليينَ، خصوصًا تمسكّه بالبعدِ العائليّ لعصابةِ المجرمين حوله.
واليوم تطالعنا الأخويّة الشريرة في أبشع تمثّلاتها، حين يصطف الغرب كلّه، تقريبًا، مع الاحتلال الصهيونيّ وهو يقترف في حق أطفال غزّة جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية، وجرائم التطهير العرقيّ، ويُمعن، ثم يمعنُ، ثم يمعِن، في القتل الجبان المعتمدِ على تفوّقه الجويّ من دون رقيبٍ ولا حسيب.

أيقونة العمر الطويل...
الفيلم بأداءِ مُمثليه، ورسائلِ مُحتواه، وسينمائيةِ مشهديّاته، وبراعةِ حلولهِ الدّرامية، وتنوّعها (المخرج يُمسرح، على سبيل المثال، مشاهدَ قفلةِ الفيلم)، وامْتلاء دقائقهِ جميعها بالسحر والرويّة والبَراعة، يتجلّى بوصفه أيقونةً، يبدو أن مارتن سكورسيزي أراد أن يكون ذروةَ مسيرةٍ مكتظةٍ بالأفلامِ والإنجازاتِ والجَوائز، وأن يقول من خلاله كلمته الجريئة الزاهدة بالحياةِ، حول الغرب والاسْتعمار وبعضِ أسرارِ جمْعِ يهود أميركا وأوروبا لِثرواتِهِم.

 

عن (ضفة ثالثة)