تتعدد عوالم هذه الرواية المغربية وتتوزع بين عالم افتراضي بمواقعه الإليكترونية ومنتدياته، وعالم الحياة اليومية بالتفاصيل الدقيقة للعلاقات اليومية وأسرارها، كاشفة من خلال تلك العوالم بخطاباتها المتباينة عن صور متعددة للمرأة، وما يعتمل داخل الشخصيات من أشواق وأحلام ورغبات

كائنات من غبار (رواية)

هشام بن الشاوي

(1)

كما يجدر برجل وحيد، وبائس تغفو إرهاقا، والحافلة تمخر عباب الإسفلت، في ظلمة المغيب الشاحبة... تنتبه إلى أن تلك الفتاة المحجبة تشبه امرأة سكنتك، ذات شقاء، على الأقل هذه تتطلع إليها بحرية، وأنت تدرك تمام الإدراك أنك رجل غير ناضج عاطفيا، وتطارد سراب استقرار عاطفي: "آه. يا هند!يا جرحا وشم في القلب..!!". 

كانت أجمل ما أبصرت عيناك ـ يومها ـ وكانت تصدك، وأنت بكل الضعف الإنساني، الذي يختزله الحب اليائس تطاردها، وهي مدججة بكبرياء مراهقة، رشيقة، شهية، حلوة، بشفتين قرمزييتين، وجه كالقمر، وعينين قاتلتين، حتى لو رمتك بنظرات احتقار.

اعتقدوا أنها مجرد نزوة، كان رفاقك وأقاربك يسخرون منك..

صديقك الكهل استعرض مغامراته، هازئا منك في إشفاق.. أوهمك أنه بطل من أبطال الميلودراما الهندية، فاز بقلب معبودته، متحديا كل الصعاب... فكرت في ما يقال عنه، وهو يسلم راتبه الشهري لزوجته، التي تتكفل بكل أعباء البيت المادية، ويأخذ منها ما يبتاع به سجائر محدد عددها كل يوم!!  

كلما التقيت هندا ـ صدفة ـ قريبا من محيط الحي، رمتك بنظرة تتجاهلها. تحدق فيك لوهلة.. باحثة عن وجه الشبه بينك وبين الذي كنته، مستعيدة شيئا مفقودا.. حتى الأصدقاء اندهشوا حين التقوك بعد سنوات، وقد تخلصت من بعض نزقك...

لا تستغرب، حتى مشاعر النساء تتبخر، كتلك التي كتبت إليك، في بداية غرقكما العاطفي:

Je t'aime , a la folie... 

(أحبك حتى الجنون).

كان أول مسج وصلك منها. لم يكن تعارفكما حبا من أول نظرة، وإنما وليد لقاءات قصيرة، ثم صرت (نسيا منسيا)، يا قلب!دائما تضيع كل الأشياء الجميلة باستبدادك العاطفي، بمحاكمة لماضي حبيباتك، بكلماتك الأشبه بالخناجر، وأنت تحب بسادية وتغار بطريقتك الهوجاء... ـ  لن أنساك إلا في حالة واحدة: زواج أحدنا. لا أستطيع أن أنساك.. لكن سأحاول!! تستند برأسها إلى فخذك: لن أحب أحدا بعدك، بسبب ما كابدت معك، ماعدت أنام.. من قبل كنت أغوص في النوم، بمجرد وضع رأسي على الوسادة. الآن أبقى شاردة، أفكر فيك ساعات قابلتها بعد إصرارها على لقائك، ذلك المساء، في تلك الخلوة، وهي تتهمك أنك صرت تتجاهلها، ولا تحبها.. كنت حزينا ومتعبا. تخنقك بقبلاتها، لا تستطيع أن تجاري شفتيها، تضحك مبتهجة، تمد يدا متكهربة إلى سروالها.. تهتف متضاحكة: إنه موصد بمائة قفل..! تضيع كل محاولاتك سدى، تجثو عند قدميها، تتسكع يدك فوق صدرها.. وفي لهفة، تساعدها في رفع ثوبها، كاشفة لك عن نهدها الأيسر... ولأنك كنت تحلم بها زوجة تبادلك الحب، كتبت إليها في رسالة قصيرة معتذرا، رافضا أن يبتذل حبكما شبقا، رغم النداء الملح، الصارخ في الأعماق: "أن أعاملك كالأخرين، كرجل وامرأة.. فهذا جرم لا يغتفر، يا حبي الأخير!!". 

ولكي تحطم كل شيء...

كتبت لها أنك مع عاهرة، كنت مدفوعا بقوة غريبة، وحتى لا تتألم أكثر مما يتحمل جسدك الواهن، وتتخلص من عذابات حب، حكم عليه بالإعدام من طرف الآخرين، كعادة كل قصص الحب الرائعة.. كتبت لها أن العاهرة كانت حائضا، وأنك (...) من الخلف، وتخيلتها مكانها...!!

كنت (كاذبا) في تخيلك حبيبتك في ذلك الوضع، لكن كنت تحتاج إلى أن تكرهك، بأية طريقة!!

في مكالماتها الأخيرة، صارحتك أنها ماعادت قادرة على تحمل تعذيبك اليومي لها، بكلامك الجارح والبذئ.. وباسم الحب والغيرة! 

لم تكن نبرة صوتها حزينة كما في السابق... هو الفراق حان أوانه: "هناك من اتصل بي، طالبا مني أن أبتعد عنك". إذا، فلترتشف دمعك وحيدا..!! 

ليلتها..

تركل كل ما في طريقك، تسب الأطفال الذين يلعبون الكرة قرب البيت:

ـ ابتعدوا، يا أبناء الـ...

يتحداك أحدهم بلامبالاته، ترفعه من فوق الرصيف، وتدرك عواقب أن ترميه أرضا، تدعه يلامس الأرض بقدميه..

تحس أنك في أمس الحاجة إلى هدوء تام، وألا تكلم أحدا... 

في أزمور، تلك المدينة الأطلسية، الصغيرة، ببيوتها البيض، ونوافذها وأبوابها الزرق، اعترض سبيلك طفل مشرد يتسول دراهم، يشتري بها لصاق (السليسيون)، فقذفت في وجهه بذاءاتك المعهودة: ـ سير عند القحاب في للا عائشة البحرية!

في الحافلة الزرقاء رقم 3، المتجهة من أزمور إلى "للا عائشة البحرية"، أصرت فتاة مجلببة على أن تقف أمامك، لم تكن جميلة بما يكفي لإثارتك.. حتى مفاتنها غير بارزة بشكل شهواني..

فقط، وبطريقة آلية، ودون أدنى استمتاع، وتعبر عن امتنانها، باستكانتها وتجاهلها.. لم تلق نظرة متوعدة، ولا مستزيدة.. كما يجدر ببدوية محاصرة بالصبار، وأعين لا تنام...

لم تكن في جمال تلك الثلاثينية، التي هيجتك، حين لمحت ثوبها الداخلي القصير(البرميدة)، غير منتبهة إلى أن جلبابها ـ وهي مع الجالسات في انتظار حافلة أزمور ـ قد ستر ما ستر، وكشف ما كشف. كان جمالها عاديا غير فتان، وترتاح إليه العين، فتشتهي أن تلعق بلسانك بطن فخذها المشع بياضا تعمدت الشابة البدوية أن تجعل أمها وأخاها، يقفان في الزحام أمامها، وقد استكانت يدها إلى دفء ملمس أصابعك في ما يشبه الاحتضان. لم يحدث أي التحام.. هو بعض الدفء في الزحام. تدخل ساقك في تجويف جلبابها مابين ساقيها المنفرجتين، تلامس ساقها، وتجعل فخذك يلامس ردفها، تحاول لمس كتفها في ما يشبه الاستناد، تحول يدك إلى خصرها، معبرا عن امتنانك لتجاوبها المحايد دون أن تجرؤ على لمس فاكهة صدر، في حجم قبضة اليد. لم تكن جميلة ولا قبيحة أيضا، لكن حاجتها ملحة إلى... من يتهجى أبجديات جسدها المشتعل خلف ثياب محتشمة، يحدثك قلبك: "لا تعرف فيم تفكر بنات حواء في مثل هذا الموقف، ربما يقلن: يا لك من غبي!!

لا تتوقع من امرأة (حتى لو كانت بغيا) أن تقول لك: إني أريدك.. إني أشتهيك!! إن الجسد يجرنا دوما إلى الخطايا، وأن الخطيئة امرأة شهوانية لعوب"!!. 

تلسعك أشعة الشمس، تحس بامتعاض من تلك الطقوس، ومن نسوة لا يفكرن إلا بما بين أفخاذهن..

بجوار ضريح للا عائشة البحرية، نصبت خيام مهترئة، على شكل مطاعم، ومزارات دجالين وعرافات، وعبر ممر ضئيل يتدفق جدول ماء عكر، وقدر كبير مفحم، ملئ ماء تغتسل به (زائرات) الضريح للتبرك، بعضهم يبيع شموعا وبخورا. يثير انتباهك اللون الأخضر لمناديل وأعلام تبيع الوهم.. تلمح إحداهن تسوي ساعتها، وحذاؤها على الأرض ينتظر أن تنتعله، شعرها لازال به بلل، وإلى جانبها رجل أنيق في ريعان الشباب.. تتهجى كتابات بالحناء على الجدران البيضاء للضريح: أسماء شباب وشابات يحلمون بالنصف الآخر، وديكين ضئيلين. يأتيك هاتف من الأعماق: "ماعلاقة سواد لون هذين الديكين وخضرة الحبل الصغير، الذي ربطا به إلى حجرة؟ لم تصدق النساء تلك الخرافات، التي تتعلق برجل يودن تقييده بحبل شرعي؟ أي عبث أحمق أن يبحثن عن ضالتهن عند رجل يحتاج إلى رجل، عند ذلك المجذوب المخنث ـ والعهدة على البائع المتجول ـ الذي يرى الطالع، وأشياء أخرى لا تعنيك لكنها تعني الكثير الكثير لنساء، يلهثن وراء ظل رجل وفراش دافئ، ولا يرين أبعد مما تحتهن...؟؟".

تفكر بصوت مرتفع: لو أجري أي استطلاع تلفزيوني عن الضريح، هل سيسمح بتصوير ذلك الكم الهائل من الثياب الداخلية، والتي أغلبها أبيض اللون، وسط الأشواك والنفايات البشرية.. ثياب يتخلصن منها بعد الاغتسال، كأي شيء منحوس؟ هل يمكن تصوير امرأة، وهي تتبول بين أشجار الشوك؟ أم ستركز الكاميرا على بعض الأزبال المتناثرة هنا وهناك، على الرمال، ونهر أم الربيع، وهو ينساب في هدوء تفتقده الدواخل، معانقا المحيط الطلسي على إيقاع الدفوف والأهازيج الشعبية، وعربات (الكارو) التي تجرها الأنعام، مؤثتة مشهدا سياحيا رخيصا؟...  

تبصق على الأرض، وتغادر المصطاف كئيبا، بعد تناول السندويش وبعض (الدردشة) مع البائع، وتندفع في اتجاه الحافلة.

في أزمور، تحاول أن تستمع بوقتك، بالتيه في فضاء زمكاني جديد.

تتوصل بمكالمة هاتفية من صديقك الفاسي محمد، يعاتبك على أنك لم تعرفه على منتجع سيدي بوزيد، تتخيل أنه سمع عنه الكثير هناك.. تجيبه: إنك في أزمور، الآن بعيدا عن مدينتك البغي... بشواطئها في فندق صغير بسيدي بوزيد (عرفت من المعاشي أن صاحبه مسؤول كبير في مدينة أخرى!) تندهش، عند رؤية علامة خمر شهيرة علقت على المدخل، وقراءة أسعار خيالية لخدماته المعروضة، وقد كتبت على لوح دعائي صغير، طالبت المعاشي بأجرة مضاعفة.. فرد: إنه يأخذ ما يشاء من شراب روحي في حضوره.

فوق سطح الفندق، وزعت ـ بانتظام ـ كراس وطاولات بلاستيكية تحمل شارة البيبسي كولا، ومظلات، ومغسلة صغيرة، ثلاجة معطلة، مزهريات فخمة، وأعلام ملونة ترفرف فوق الواجهات الثلاث للمبنى، تلمح رجلا وامرأة، وبنات يلعبن تحت مظلات شمسية، تتطلع إلى بقية الفيلات التي لا يفصلها عن البحر سوى خطوات، تتداعى الصور والأحاسيس، تتذكر قيظ المطار المهجور، حيث تختبئ العصافير والحشرات زوالا، فلا تصادف ـ في طريقك ـ غير نفايات المكان وأشواكه، وحجارته، وأكياس بلاستيكية بالية.

يطلب منكما أحد الموظفين ـ أنت وزميلك ـ ألا تحدثا أية ضجة، وأن تؤجلا عملكما حتى لا توقظا النزلاء، تكتم مشاعرك الغاضبة، تزأر أعماقك في صمت: "يٍِِلعن (...)، يا بن القوادة!". 

في انتظار المعاشي، تبذر توترك متسكعا، تلمح شابة تغادر الفندق، بثياب تبرز مفاتنها، وفتاتين تتأهبان لركوب سيارة فخمة، شبه عاريتين.. تفكر: إن عبارة (مجتمع عربي مسلم)، أسوأ كذبة سمعتها! يبدو زميلك مستمتعا بما حوله، تغالب غليانك الداخلي، وهو يسألك عن رأيك في إحداهن، ترد عليه بجفاء: "لا أحب العاهرات الـ (خمس نجوم)! (تنفخ غيظا) هذا الخراء لمعاشي تأخر..."!! 

تلفظك حافلة أزمور، تحس بألفة غريبة حين تطأ قدماك أرصفة مدينتك، تدرك أنك تحبها، رغم كل عيوبها، يهتف قلبك: ما أغرب الطبيعة الإنسانية!

يتضاعف تعبك، تمني النفس ألا تتأخر الحافلة رقم 3.. تلمح تجمهرا بشريا، وسيارة الشرطة عند مدخل أحد الأزقة، يلتهمك الفضول.. يحوقل شيخ، تلطم إحداهن خدها، تسري في جسدك رعشة، حين تعرف أنه عثر على رضيع، متخلى عنه في سلة، ينام قرير العين. تردد حيزبون: إن النساء لا يجدن غير رفع أرجلهن، دون التفكير في العواقب، تتساءل: "هل سيعرف أي شيء عما تخبئه له الأيام، وإن صار ملاكا ـ في حال وفاته ـ ربما سيطلب الغفران لأبويه، حتى لو أخرجاه إلى هذه الحياة، بطريقة غير شرعية. الحياة جميلة! لكن قد يصير نفس المتشرد الذي يتسول، بثيابه المتسخة، ونظرات الآخرين تطفح احتقارا وإقصاء، عقابا على ذنب لم يقترفه، وقدر لم يختره!!"

وينتشلك من حوارك الباطني ضحك رفاق، وهم يتطلعون إلى امرأة، غادرت الحافلة للتو، مشيرين ـ بأيديهم ـ إلى تلك البقعة اللزجة.. تشد جلبابها من الخلف، فتبرز استدارة عجيزتها الفاتنة، تلقي نظرة جانبية على خلفيتها قائلة: "الله يعطيهم الكونصير(السرطان) في...". 

(2)

عوى الكلب متوجعاً حين ارتطم به سطل قصديري، تستخدمه الجدة عند حلب بقراتها، ردد سبابه المعهود، بنفس الملامح العابسة: "الله يٍِِلْعن جد باباكم كامْلين". تجهل سبب ثورة الخال التي جعلته يضرب بقدمه سطل الحليب، كما تعودوا تسميته.. في مخيلتك انطبعت صورة رجل جاد أكثر من اللازم، يحرص ـ دوما ـ على أن تبقى تعابير وجهه قاسية في الخيمة (البيت) وخارجها، ولا تعرف سر تهجمه الأزلي.. لعلها استقامة سلوكه، ربما يكون الوحيد الذي لم يتعب جدتك ـ كبقية الأخوال ـ في طرق أبواب العرافات، لتعرف من جعلن فلذات كبدها يهجرون البيت والأهل...

ذاكرتك الطفولية الغضة، تجود عليك بصورة صبي ـ كنته ـ عرف من ثرثراتهن: أمك،جدتك، وزوجات أخوالك عن صويحبات... تحاول جاهداً، الربط بين فكرتين غريبتين عما تربيت عليه: انقلاب أحوال أخوالك، والسكر، النساء، والشبق... وأمك ـ نزولا عند رغبة جدتك ـ تأمرك أن تطرق باب قريبتكم، وتبلغها أن (تبعد) ابنتها عن أخوالك الثلاثة...

تعوزني الكلمات، ولا أستطيع التعبير عما يخالجني. لا أعرف لم يتحدث الكثيرون عن مثل هذه الأشياء بكثير من الزهو..؟؟

أمك تردد: إنك، وخالك أنجبتكما امرأة واحدة. تضحك في سرك، رغم حرصك الشديد على ألا تقلد أحدا، وأن تستقل بشخصيتك عن الآخرين...

عوى الكلب، والسبب زوجة الخال، ومن خالتك الصغرى، التي انسحبت من المشهد الصاخب، يكاد الدم يفور من خديها وهي تكبح جماح ضحكها، تعرف من كلامها المتقطع أن سبب ثورة أخيها الأكبر: الممرض الذي حضر كالعادة، في موعد الحقنة، ولم يكن في البيت رجال.. الصغار مع الجد المنشغل بين حقوله، لكن شيئا واحدا يشغل بالك ـ هذه اللحظة ـ لا تعرف إن كان خالك على صواب أم لا، وهل ستغضب الجدة، بسبب الخسائر الفادحة التي لحقت بسطلها الأثير، رفيق الصباحات الطرية.. السطل ماعاد يصلح سوى لأن (يبزق) عليه الدجاج..؟؟ ما ذنب الكلب المسكين إن كانت الزوجة مدللة، وذاكرة الطفولة لا تستوعب هاجس أن يسرق الممرض بضع لحظات بهجة من التلصص على حليب الجسد البض.. وكم دوخك جمال ع ، قبل ارتباطها بخالك!

الألواح الخشبية المهترئة تئن تحت مطرقة عمك (م)، تعرف أنه لم يعد يطيق أخوالك، بعد قبولهم صديق طفولته زوجا لأختهم، بصراحة أكثر: سرقها منه، رغم أنه خطبها قبله.. هذا سبب كافِِ لأن يكره عمك زوج خالتك مدى الحياة، وأنت لا تطيقه، حتى من قبل أن يصير زوج الخالة!

عمك، صديقه الوحيد من بين أبناء العمومة، لا سيما وأن كل شباب الدوار يجري في عروقهم دم واحد، دم جد أبيك وأمك. تخمن أن سبب ابتعاد (س) ـ والذي سيصير زوج خالتك ـ عن أقرانه أنه الوحيد الذي كان متعلما، وصداقتهما الصميمية انقلبت عداوة بغيضة...

تصهل الشمس في كبد السماء، يسرد العم تفاصيل ما حدث، وضربات المطرقة تفضح توتره الداخلي.

طال انتظار زوج الخالة، الأكل بدأ يبرد، الصغار يتخاطفون لقيمات الخبز وحبات الزيتون، وجدتك تحرص على ألا يتغذوا قبل حضور سعادة زوج ابنتها..

الجد: بلا شخصية، عفوا بلا رأي!!

والجوع عدو لدود تحت رحمة انتظار طال، انتظار زوج، كان خالك الأكبر، الوحيد الرافض لتزويجهم الخالة بتلك الطريقة. تفكر: "أحيانا، نقبل بأشياء مهينة.. ربما حتى لا تلتصق بها صفة: عانس. والعانس شجرة لا تطرح ثمارا".

تضرب الجدة أعز حبات قلب خالك، بعد أن كادت أن توقع شيئا مما فوق المائدة قصيرة الأرجل، وهي تستند بيديها عليها، كما يجدر بمن تتعلم المشي.. دون أن يدري، استوى واقفا، وبحركة رشيقة، رفع الصحن من طرفه، فانقذف أمام باب الحجرة.. وانقض الكلب والقطة على غنيمة لم يحلما بها من قبل...

تغمغم: "شكرا للسماء ولعصبية الخال"!!

وتنفجر ضحكا...

هذه الحكاية، تستروا عليها، كأشياء كثيرة مسكوت عنها، لا ينبغي أن يطلع عليها الآخرون، كزواج غير متكافئ، رزقهم صهرا يزروهم فقط من أجل بطنه.. (يغسل مصارينه)، بتعبير عمك الأصغر، والوحيد الذي، بحكم رفقة العمل، لا تتحرج من التفوه في حضرته بكلام نابٍ:

ـ سمر هاذ القـْ (...)، أنا جاي!

ضحك "التباري" البناء الكهل الخمسيني، وملح الورش، حتى دمعت عيناه، حين سمع تلك الكلمة، ونهرك باسما:

ـ تاحشم من عمك.

تتداعى جدران ذاكرته، التباري تلفظ بالكلمة عينها، وزوجته تطالبه بجلب (عْدال) ماء من بئر الدوار، بنبرة جافة رد عليها: ما ساكَي حتى قـَ (...)!!

تتطلع إلى هاتفك الخلوي. الساعة الثانية عشر إلا ربع: "راني غادي نمشي نكمل هادوك الضريبات"

تتأمل بابتهاج حوض الأسماك الملونة في انتظار أن يفرغ أحد الأجهزة.. إحدى السمكات تطارد إصبعك من خلف الزجاج، الأخريات مذعورات، تطن في رأسك عبارة صاحبة المقهى نت: (إنها تعودت على ملاطفات الزبائن)، يشرد ذهنك...

نانا.. ذلك المساء، كانت حزينة.

سألتها: إن ضايقها زملاؤها مرة أخرى.. بعروض الصداقة، الرغبة في التعارف، و.. و... حتى صارت تفكر في أن تلازم البيت.

ـ لا. ليس هذا السبب.. اليوم ماتت سمكتي!
ـ ربما من الوحدة..
ـ ربما.
ـ وطبعا كانت من نصيب قط الجيران الذي طالما اشتهاها.
ـ هههه. لا، دفتنها في مزهرية بالحديقة، يا (هبولي).

تبحث عن أي شيء يبذر كآبة المساءات الرمادية...

ـ لقد تعرفت على امرأة أخرى، وكل دردشتنا (قلة أدب). هههه.

بعد لحظة انتظار ثلجي، كتبت: لا تصدق.

تلوذ بصمتك الصاخب، تفكر في أن تستفزها:

ـ هاتِ بوسة..

تحتمي بسكينتها، ترد:

ـ صرت أخاف منك. أنت لا تختلف عن الآخرين!
ـ منذ مدة لم تضعي صورتك هنا...
ـ تحجبت..
ـ سبق أن رأيتها، رغم أنها لم تكن واضحة...
ـ تلك قديمة..
ـ يا (لئيمة)، أمزح معك. تعرفين أني أحبك من دون أن أفكر فيك كامرأة.. أنت الشيء الوحيد النقي في حياتي، ولست كبقية (شراميط) الكتابة..

تصمت، تخمن أنها تقرأ ـ بتمعن ـ كلماتكما المتقافزة على صفحة الدردشة..

الأمهات غادرن بعد انتهاء دردشتهن مع إحدى القريبات، البنتان الصغيرتان، تتصفحان موقعا. شيء ما يجعلك تحس بالمسؤولية اتجاه بنات أخوالك، تقترب من الشاشة.. أزياء عرائس، وبستان ألوان، وحواء متأرجحة بين الطفولة الغاربة والأنوثة المشرقة. تنتبه إلى أنه منتدى بعد تفحص ردود، تسألها: إن كانت عضوة مشاركة، تحرك رأسها نافية.. أحدهم أقحم نفسه وسط عرائس المنتدى، واضعا إميله لا غير كرد، وآخر اختار عنوان المسنجر اسما. تقول لنفسك: "حتى الصغيرات يا عرب، يا أبناء العاهرات تلوثونهن."!!..

بحركة عصبية، تهز لوح المفاتيح، طالبا منهما مغادرة المكان فورا، لاعنا كل شيء، رغم تأكيد الصغرى أنها لا تبالي بتلك الأشياء.

وتحس بوخز في الأعماق.
ككل ليلة، تتشاجران...

ـ أعرف أنك تحبينني، لكني لا أطيق أن أقرأ تحت كتاباتك قصائد غزل من أولاد الق(...). من أين حصلوا على إميلك؟ لا شك أنهم يكاتبونك كل يوم، وإلا بم تفسرين هذه اللوعة؟ وهذا الإصرار الغريب على أن ينسوا قلوبهم تحت كتاباتك. طبعا ليس شعرا، هي كلمات تكفي ـ فقط ـ لكي تفتح أية عاهرة فخذيها، وحين يفرغ منها يبصق في وجهها؟؟...

ما علاقة ما تكتبين بتعليقات مراهقة، وسبق أن طلبت منك الابتعاد عن النشر في تلك الأماكن الرخيصة. أرجوك، توقفي عن كتابة تلك المراهقات.. المشاعر الجميلة نحتفظ بها في دواخلنا، لا نذيعها، لا تنسي أن الحب في مجتمعنا الشرقي هو الوجه للآخر للعهارة..

ـ هل تراني عاهرة؟؟
ـ يا عزيزتي، لا تؤولي كلامي حسب هواك. مللت، مللت، كل يوم معجب.. لم أرَ لهؤلاء الكلاب مثيلا. عاد ٍجدا أن يغازل رجل امرأة، أن يمتدح جمالها، لكن أن يكتب لها بلوعة عن عذابات و.. و.. هذا كثير!! سأموت قبل الأوان بسبب عشاقك الميامين، هم يستمتعون بلعبتهم، يمارسونها مع ألف امرأة كل يوم، ويحرقون أعصابي. أنا رجل غيور جدا، ولا يصلح للحب.
ـ لأول مرة، أحس بالمهانة. لم أسمح لأحد ـ من قبل ـ بأن يتحكم في حياتي ويهينني مثلك...
ـ قلت لك: دعيني وشأني، لا أريد أن أحب امرأة عرفت آخرين قبلي.. لا أحتمل أن يعلق على كتاباتك أحد حتى لو كان جبريل عليه السلام!

يبدو أنها النهاية.. لنفترق..

ـ دائما تهددني بالفراق، وتبحث عن أي مبرر لتعود إلى حبيباتك السابقات.

يأتيك صوتها ـ من الجهة الأخرى ـ متحشرجا، وهي تجهش في بكاء، يعصرقلبك.

ـ كل يوم تهديدات وإهانات، كل يوم تعذبني..

هذه طريقتي المتوحشة والوحيدة في التعبير عن حبي المتطرف.. لا أجيد الغزل الذي تعشقه النساء.. إنهم ينتظرونك، لا تتأخري عليهم، ردي على رسائلهم الإلكترونية الحارة، واعطهم مواعيد للدردشة. دقيقة. سأحضر لك رابطا.. هذه العاهرة مثلا ـ تصفحي الرابط ـ لا أنكر أني أحببتها،اكتشفت أني مغفل كبير: الرجل الذي تهاجمه أمام الملأ، في المنتديات، واصفة إياه بـ: "كازانوفا"، تعشقه، وتفعل ذلك لأنه هجرها.. هو من أرسل إلي رابط إحدى قذاراتها قائلا: (شوف الشرموطة كاتبة إيه..)!! ليجعلني مخلب قط... وهاهي تنشر صورته إلى جانب صورة طفليها في مدونتها.. تخيلي امرأة تكره طليقها حتى الموت، وتعبد رجلا ينظر إليها ـ مثل بقية النساء ـ كعاهرة لا غير. كم أكره هذا العجوز الكلب!!

ـ هو رجل نذل، وهي أعماها قلبها... إن كنت قد أحببتها كما تقول، لا تسىء إليها، ترفع عنها من أجل ابنيها!!

امتقع لونك، تدفق لعابك غامرا لوح المفاتيح، وكل الحقد الأسود تكوم في قلبك: "تفووووووووو. كلكن تدافعن عن ماضيكن، عن العهارة باسم الحب"!!

ـ أنا لا أفتح فخذي لأي رجل أصادفه في الطريق. تجاهلت كل الإغراءات، لأني أحبك.. لا ذنب لي في عقدك النفسية وتجاربك السابقة!

تستمع إلى أغنية عاطفية تمزق قلبك، تخفت حدة كلماتك، وبصوت متهدج، مبلل بالدموع تهتف:"أحــــــــــبــــــــــــــك".

سألك عمك عن سبب شرودك الحزين هذا الصباح، لم تصارحه أنك لم تنم جيدا.. سيسخرون منك إن قلت لهم: "إن امرأة بينك وبينها مدن، بحار، وجبال أحبتك، وعاهدتها على الوفاء"، و "اختصرت فيها كل نساء الكون.."

تنفض عن ثيابك الغبار، تصعد درجات السلم برشاقة، تهلل وجه صاحبة البيت بشرا، حين لمحتك واقفا، متأملا (المْعلمين)، تترجاك أن تنهي أشغال التراميم في بيتها، حتى ترتاح من الفوضى. يسود المكان هرج عند رؤيتك..

ـ لحظة.. لقد اشتقت إلى ميمي...

تتأمل الحقيبة الوردية، الصغيرة،المعلقة في عنق كلبة من صنف لا تتجاوز قامته قدما، تحرك ذيلها في حركات متسارعة، معبرة عن ابتهاجها.. صاحبة البيت تؤكد للرفاق أن ميمي تعلقت بك.. تدس أصابعك في جوف حقيبتها باحثا عن قطعة جبن أو شوكولاته، يضعها ابن صاحبة البيت كلما اصطحبها معه إلى الشاطئ: لم تتركي لي أي شيء، يا ابنة الحرام!

تتقافز واضعة قائمتيها الأماميتين فوق فخذيك..

ـ عمرها خمس سنوات، وابني نزار متعلق بها حتى الجنون...

توضح:

ـ ألفة خمس سنوات ليست شيئا هينا، إنها صارت مثل زوجته...
ـ وهددني: لو حدث لها أي مكروه، بألا أرى وجهه أبدا.. أحيانا أقسو عليها حين تعكر صفو مزاجي.

علق أحدهم: التعلق بالكلبة أفضل من رفاق السوء و...

تمد أصابعك إلى عنقها، تتأمل حقيبتها الصغيرة، وهي بين يديك، وبحركة بهلوانية تلوح بها:

ـ سأذهب إلى السوق. أتحتاجون إلى أي شيء؟!

ينفجر المكان ضحكا...

تضع صاحبة البيت يدها على خدها، تغالب ضحكتها، مغلفة رجاءها بجدية لا تليق بها كامرأة، كي تنهي عملك، مشيرة إلى أغراض البيت المتناثرة هنا وهناك.. 

(3)

قبل أن يشرع في عمله بادرته مستفسرة: "أظن مزاجك غير متعكر اليوم.. ليلة البارحة، خفت أن تكون قد وقعت". 

تساقط ملاط الحاشية العلوية للنافذة ـ أكثر من مرة ـ بفعل الجاذبية، وبسبب سمكه الذي صار ثلاثة أضعاف السمك العادي (أقل من سنتمتر).. رش فوقه الإسمنت، غمر الغبار عينيه وصدره وذراعيه.. نفس الرقعة تقع مرة أخرى قطعة أخرى رافضة أن تثبت في مكانها. رمي بحامل الملاط البلاستيكي محدثا دويا أشبه بالانفجار عند ارتطامه بالحائط، طوّح بالملاسة أرضا متفوها بكلام نابٍ، وهي جالسة في غرفة مجاورة.. متأملا شكله وهو ملطخ بالملاط وغبار الإسمنت. سأله أحدهم: ـ لم لا تستخدم الجبس، سيجف للتو؟

ـ لا أستعمله، ولا يجوز استخدامه في الأماكن المعرضة للماء والمطر. ـ يبدو أنك تحتاج إلى سيجارة وكأس شاي...
ـ ......
ـ كل شيء يحتاج إلى أن تتعامل معه بلين!

قال في سره: "كنت أظن أني سأنهي العمل في يوم، وها أنذا أمضي ثالث يوم في هذا الخراب، سأعمل يومين بالمجان.. في الوقت الذي يرتاح فيه بقية الرفاق، أعمل ليل نهار، ومن أجل لا شيء... أعرف أني منحوس، حتى راحة البدن لا أنعم بها، وجيبي كفؤاد أم موسى..!! اللعنة على من كانت السبب! ليتها تموت عساني أرتاح ويرتاحون أيضا!!" تكرر صاحبة البيت السؤال: ـ هل أقلقتك في شيء؟ صمت لحظة..

ـ لا. لا شيء.. فقط كانت أمي مريضة.

ولم يهتم بسماع بقية كلامها، ودعواتها بشفاء كل الأمهات لأنه اختلق كذبة المرض.. وطنّ في أذنه كلام أمه وهي تعنفه: ـ أين هي نقودك؟ ماذا تفعل بها؟ هل تدخن الحشيش؟.. ـ تلك الدراهم التي يجود بها (...)،لا تكفي لأي شيء! 

مساء، في المقهى..

بدا مكتئبا غارقا في شروده ": ثمن فنجان قهوة يجعلك تحس ألاجدوى منك ومن وجودك..!!".

مع أصدقاء أخيه الأصغر، المنتشين بفرحهم في البكالوريا، يودون أن يترجم أهاليهم احتفاءهم بنجاحاتهم إلى دراجات نارية، سلبت عقولهم في المصطافات.. حتى لا يحسوا بأنهم أقل من أولئك الذين يتباهون بلعبهم: دراجات وخليلات..

ـ لا يعنيني ذلك، حتى لو كان يقودها وهي على عجلة واحدة. لازلتم صغارا، ولا تهمني تمثيليات الاستعراضات البهلوانية وحرق المراحل. لم أعد أفكر في أي شيء..!!

مر حمار ضال يطارده أطفال أشقياء وهم يلسعون ظهره بالعصي والحجارة وهو يهرول أمامهم مذعورا..

ـ طيب، ما رأيك في هذا السكوتر؟

ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة رغما عنه، راودته فكرة أن يعترض سبيلهم ويِؤنبهم.. تجاهل الأمر اتقاء سخرية رواد المقهى، قائلا لنفسه: "إنه مجرد حمار أجرب هزيل و(مْديني).. لو كان حمارا قرويا قحا، لما فكروا حتى في الوقوف خلفه"!! 

قبل لحظات، بين اليقظة والنوم، في فراشه، وهو مستسلم لإغفاءة الغسق اللذيذة..رأى بيتا غير محدد الملامح. وقف أمام بابه، لم يلتفت إلى جدرانه. لم يكن مهما ـ كما في الحلم ـ إن كان بيتا حديث البناء أو من البيوت القديمة، المبنية بالحجر والتراب (بياضة). ما استأثر بتفكيره.. كوخ بناؤه وسقفه من أعواد وقش لازال مبتلا بقطر الندى، وسط حقول خضراء تلمع تحت شمس، ترسل أشعتها الصباحية الذهبية في غنج العرائس.. ليس بينه وبين بيت القش سوى بضع خطوات، وقريبا منه رجل لم يتمكن من رؤية ملامحه، كان مدبرا، يرتدي جلبابين رثين، وقد تمزق الجلباب العلوي من الجانبين حتى الخصر، كان حافي القدمين مغبرهما، يكاد الرائي يلمح تشققاتهما من خلف، يمشي في اتجاه مطلع الشمس، والسماء أصفى من عين الديك، عاقدا يديه خلف ظهره. وفي الحلم تساءل عن سبب وحدته وتواجده في هذا المكان.. حدس أنه عازب ووحيد وكهل، ومثله يكون منبوذا بعيدا عن حريم الدوار... ومهمش اجتماعيا.

حلم مجنون!

ولا يرافقه غير كلب يغط في نوم عميق، وقد حشر رأسه بين قوائمه متكوما مثل ثعبان..  

قد يكون جد أمه، والعم يحكي ـ بتشف دائم ـ عن ابنة (الخماس) وخادم القبيلة التي صارت تنهى وتأمر.. تفهم حقده على الجدة، بيد أنه لا يستطيع أن يتفوه بما يصطخب بين جوانحه.. لكي لا يجرح مشاعر عمه، لكن ما يرعبه أن ينتهي به المطاف خماسا، يعيش في كوخ منعزل كهذا... هل يرضخ لابتزازات أب يعبد (نسيبته) أم يبحث عن مورد رزق آخر؟ كلما حدثه الأصدقاء عن استيعابه لتصاميم الخرسانة المسلحة، والعمل كـ (شاف شانتيي) أي مشرف أو قائد فريق في الشركات بأجر محترم دون أدنى مجهود عضلي، ليبني مستقبله بعيدا عن أب يقص جناحيه باستمرار حتى لا يحلق بعيدا عن العش..

ثارت ثائرته، منهيا الكلام بعصبية: "أرجوكم! أغلقوا هذا الموضوع!!".  

عكست ملامحه انفعال دواخله، وهو يتمدد فوق كرسيه كالوجع الذي تمطط في قلبه هذه اللحظة، وضع ساقا فوق ساق، طلب من أصدقائه الصغار أن يتركوه لوحده.. غارقا في عالمه الخاص... 

زمن آخر...
صباح شتوي. السماء ملبدة بغيوم داكنة، تبعث في النفس أسى غامضا. شبابيك الجيران لا زالت تغط في نومها العسلي.. إنها الساعة السابعة صباحا، ولا زالت بعض الظلمة الخفيفة تطوق المكان، والبرد القارس ضيف ثقيل في مثل هذه الصباحات الكئيبة، يلسع الأيادي ويصفع الوجوه.. غير ثيابه، وفي الحلق غصة.. نفض أسمال العمل، اندلعت عاصفة غبار أبيض، سأله رفيقه ضاحكا: "أكنت تتعارك مع الكلاب؟".. قاصدا ثياب العمل التي تتمزق بسرعة، تثاءب، وبصق بلا لعاب.

بحث عن بقايا أكياس الأسمنت، وطلب قداحة من أحدهم...

في الطابق العلوي سمع أصوات ارتطام المطارق بحديد (الشرجوانات) ممزقا سكون الحي. تناهى إليه صوت أحدهم يفك ألواح السواري قائلا:

ـ انهضي يا قَـ (...). كفاك نوما...!!

قاصدا الجارة التي تتباهى بنشر ثيابها الداخلية في حديقة الفيلا الخلفية، على حبل الغسيل كل ساعة.. استحضر كلامه، كلما رآها تنشر فتنتها: "يبدو أنها (تسيح) من تحت مثل قربة مثقوبة!!".

حاول أن يغتصب ابتسامة، لكن دون جدوى... 

أطل برأسه من فوق آخر درجات السلم الخشبي، لاح له فوق السقالة المحاذية لجدار الواجهة عمه وعبدالرحيم.. رفيق في مثل سنه وأقرب إليه في التفكير من الآخرين.. كانا يتحدثان في انتظار أن ينتهي (كَبالا) وابن عمه (بْعية) من عجن الملاط،.. خمن أنهما ـ كالعادة ـ يتحدثان عن (قًبْقًََََََب) وكراهية عمه له.. من أجل زعامة وهمية أو قيادة للورش، تذكر أنه ينسى صفة (ابن الباطرون).. لا يفكر في الاستعلاء عليهم، يرتاح إلى العمل مع مصطفى قبقب.. لأنه طور مهاراته في النجارة المسلحة (الكوفراج)، عكس عمه الذي يعامله بطريقة أقرب إلى طريقة أبيه، كأنه لا يصلح لأي شيء.. لا يصلح خليفة له، يضحك مع العمال.. يعفي نفسه من التفكير في الزعامة في وجود عمه وقبقب.. إن تواجد مع أحدهم في ورش واحد أو التقوا ـ ثلاثتهم ـ في ورش واحد.

العم يقول عن قبقب: إنه "سْرابسي" (يغش في العمل) و "كَايْدَور التابع" (يتقرب إلى رب العمل مثل كلب يتمسح بساقه).

لا يهمه إصدار أوامر وتعليمات بلهجة متعالية، ثيابه الممزقة تدل على ذلك.. فقط يحس ببعض الغبن حين يقارنوا بينه وبين ابن المقاول (عْبيقة) المتعجرف الذي يقود سيارة أبيه، وبهندام أنيق ونظارات سوداء.. لكنه (غير متعلم)، لا يفقه شيئا في "الصنعة"، وربما لا يجيد فك شفرات تصاميم البناء والخرسانة المسلحة أيضا.

كل هذا ليس مهما...

نهر (بعية) القزم العشريني الأشبه ببرميل وهو يتندر بما حصل في دوار الدحوش (الجحوش) في غيابه بالأمس قائلا:

ـ الصباح لله.. تثرثر في كل الأوقات مثل المذياع!!

جاءه صوت (قبقب) معقبا:

ـ إنه يعوض الساعات التي ضاعت في النوم ولم يتكلم فيها... راه كايبات يتشارجا في الليل (يشحن مثل بطارية).

ولمح مصطفى قبقب يفك ـ وحده ـ ألواح السواري قائلا لشخص غير مرئي: ـ واااانبيل.. تا شد المادرية أولد الحرام. عاندااااك تطيحها.. الله يلعن والدين أمك!..

تناول نصف آجرة، جلس قريبا منه ملتقطا أنفاسه.. لكز عبدالرحيم بكوعه عمه قائلا: "البَشْرة (يقصد العكس: العبوس) دايما كاتكون يوم السبت ودكَان اللفتة..."، وضحكا حتى دمعت عيونهما لمرأى ملامحه نصف النائمة، الثملى والمتجهمة...

ـ الهم إلا قوا تايضحك!

كانا يتحدثان ـ بقلق ـ عن الضالة (السقف) التي سيعملون فيها حتى وقت متأخر دون ربح، ولو ساعة واحدة.. لعلوها وعطب الآلتين المتعاقب، واستغراق الباطرون في النوم يوم الضالة، على غير عادته حتى يبدأوا فيها متأخرين. وفي الصباحات الأخرى، يتقافز هنا وهناك تحت جنح الظلام. 

لاحت جماعة عمال منهمكين في جر الخلاط الآلي ـ متصايحين ـ نحو مكانها أسفل الرافع الآلي الهرم وهو على شفير سطح الورش، استحثهم أحدهم أن يعملوا بسرعة لعلهم يربحون ساعتين أو ثلاثة على الأقل، فلديهم ما يكفي من أشغال، وعند رؤية (العطاش) حمودة،الشيخ الواهن.. علق العم باسما رغم المرارة وتوتر الأجواء: 

ـ ها اللي قلنا. كا يقلب غير على المعدمين والشايطين. شوف العطاشة اللي جايب...غادي نقراو مع الطلْبة.

لعلعت قهقهاتهم..

فوحدها تلاوة القرآن تحتاج إلى شيخوخة ووهن حمودة... 

سرى بعض الدفء في الأجساد، بدأوا يتخففون من معاطفهم، أشار أحدهم إلى أن يشرعوا في جمع (العشرات) لإعداد الفطور.. طاف عليهم (بعية). التِباري ـ كالعادة ـ فتح حافظة نقوده بحرص شديد حتى لا يرى أحد صفائحه المعدنية، بحث عن قطع نقدية صفراء، عدها أكثر من مرة، تلكأ متسائلا عن (حصيات السكر اللي شاطوا البارح). 

التفوا حول الغلاي(المقراج) الذي علت نصفه الخارجي السفلي قشرة سوداء من الدخان المتفحم. تفحص رشيد (بعية) سلته وهو يضعها بقربه، متمسكا بها كطفل يمسك بطرف جلباب أمه خشية أن يتوه، تأمل الرفاق خبزة في حجم عجلة.. علق عبدالله (كبالا) متهكما:

ـ مضيع خوتك في الزرع أمسخوط الوالدين.

رد عليه مصطفى قبقب:

ـ راه هو اللي خدام عليهم.. خليه ياكل باش يقدر يخدم.

تساءل التِباري عن بقية الكؤوس التي يخفونها فور انتهائهم من شرب الشاي، وهدد بتكسير كل الكؤوس...

صرخ (كبالا):

ـ هذا كأسي،لا يقربه أحد. ضعوه..

تدخل العم مقترحا عليه أن يترك لهم الكأس مادام يفطر بـ (منعش) متأملا خبزتيه وهو ينهشهما ـ عبدالله ـ مثل ذئب..

بدأت الأصوات تعلو في صخب..
رفع عبدالرحيم كأسا وقرأ الرقم المطبوع تحته..

ـ هذا كأسي،لا يشرب فيه أحد..

عنف (كبالا) عمه التباري:

ـ حط ليا كاسي التباري. واش تابارك تشري في البلاد، وماقاد تشري كاس بجوج دراهم!!

وأمسك بالمقراج مهددا برميه..

صرخ في وجهه الآخرون دفعة واحدة، ملوحين بعصا الغرامة.. أشار إلى عمه أن يبحث عن أية قارورة بلاستيكية أو قنينة مربى: لماذا كأسي الذي يتهشم دائما؟...

كل الكؤوس تتخاطفها الأيدي..

إلا كأس مصطفى..

عرض عليه أن يتناوب معه في الشرب،غمز له العم بعينه ألا يقربه.. ملمحا إلى أصوات أشبه بزقزقة العصافير يرددها قفصه الصدري، وأسنانه تصطك، فيسمع لها صوت كطقطقة الحطب في النار.. يصاحبهما شهيق وزفير متداخلان. أثارت حالته انتباهه وهو يعمل معه لكنه لم يود إحراجه بالسؤال.. قلده (كبالا) خلسة، انتبهوا إلى حركته قائلا:

ـ صارط لجام!

وروى التباري حكاية بناء، لا تكف كتفاه عن الاهتزاز، من يراه ـ من بعيد ـ يخيل إليه أنه يرقص طربا.. نام في صباه ـ وهو يرعى الغنم ـ فوجدها الأب ترعى في حقل الذرة، ففاجأه بضربة بسوط يستخدم لضرب!

في عقده الخامس ولا زال يرتعد لوحده من يومها..!!

استوى (كبالا) واقفا،ربت على بطنه المتكور ة أمامه:

ـ كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون.

تمرغوا في الضحك، وهو يستشهد بآية كريمة تلائم شراهته وحبه للأكل فقط..

أعطاه (بعية) كأسه..

ـ صب له الشاي هنا...

تأمل الفتات العالق بحواشيه، صبه أرضا في حنق، وفارقهم..

عاد من دكان البقال المجاور حاملا كيسا بلاستيكيا أسود..  

أطل عبدالرحيم من الشباك، لعق بنظراته عجيزة الجارة وهي منحنية، تجمع (التشطيبة) من أمام بيتها.

ـ وا بليزة (حقيبة) عندها!!

عند سماعهم كلمة السر (بليزة) قاموا ـ عزابا ومتزوجين ـ باحتلال النوافذ، متلصصين على خيراتها الفائضة من تحت سروال يخنق تضاريسها الوعرة..

صرخ (بعية) في هياج:

ـ أح ح ح ااااح ح ح ح.

نهره عمه:

ـ دايما تنقول ليك: ملي يهدروا الناس قول الله يرحمنا.

وتكوموا فوقه جميعا راكلين، صافعين، متضاحكين وهو يستغيث بأعلى صوته..  

ظهيرة، والشمس في منتصف السماء، تمدد العمال تحت ظلال الجدران وصفائح قصديرية أو ألواح أو ورق مقوى نصبت على شكل واقيات شمسية.. مفترشين الأسمال أو أكياس الأسمنت الفارغة.. رنا مشدوها إلى مخبول تعود أن ينام في عراء المطار المهجور ـ كل قيلولة ـ تحت أشعة الشمس اللافحة مرتديا جلبابا خشنا.

تأمل السماء وسحبها البيضاء المتلاحقة، ارتشف شايه بلذة، رأى قطا رافعا قائمته الخلفية.. ابتسم حين تذكر تعليق التباري ساخرا: "حتى القط تغارون منه!".

قام بمحاصرته و(بعية) أثناء موسم التزاوج وهو يزعجهم، أثناء القيلولات، بموائه الذكوري الشبق.. لكن (كبالا) رماه بـ (شرجوان)، سبب له كسرا في قائمته الخلفية.

حدق في صورة هرين صغيرين على شاشة هاتفه المحمول الملونة، وهما نائمين فوق خرقة بالية وسط ألواح رميت في غير انتظام. وحين لاحت أمهما قادمة لإرضاعهما، أخلى لها السبيل وطلب من المتواجدين في الطابق السفلي الابتعاد عن طريقها، فسخروا منه: "يالحنانك أيها المجرم.. أنسيت أنك من تسبب في عطب أبيهم؟...". وفي صورة أخرى كشر أحد الهرين عن أنيابه، وأذهله أن كل المخلوقات تكون رائعة الجمال في صغرها..  

فجأة، تناهى إلى مسامعه وهو غارق في عالمه الباطني هرج خارج الورش.. انقبض قلبه، خيل إليه أنه سمع صوت أحد رفاقه، فاندفع في اتجاه الدرج مع بقية العمال... 

(4)

وتأكد حدسه...

قفز الدرجتين الأخيرتين من السلم الخشبي، وعند الدهليز وهو ينعطف مغادرا بئر السلم، اصطدم بـ "كبالا" وهو يتمطى..

كانت تزأر بصوتها الحاد وهي تمسك عبدالرحيم من تلابيبه، امرأة في عنفوان الشباب.. كثيرا ما كانت تسرقه من ذاته وهي في طريقها إلى روض الأطفال، ممسكة بيدي صغيريها... كانت تشبه آخر حبيباته حد الوجع الذي لازال يتمطى في أعماقه!

حاولت أن تنطح عبدالرحيم برأسها، تدخل "بعية" بقامته القصيرة بينهما، فبدا مثل طفل وسط الأذرع المتشابكة، وبنبرة هادئة رد عليها عبدالرحيم:

ـ لا أريد أن أؤذيك يا امرأة.
ـ لن أتركك حتى يأتي زوجي.. سألهما الرفاق عن سبب الخلاف، وهما يحاولون فض الاشتباك..
ـ إنه دائما (يقل أدبه) كلما رآني، ومن عند تلك الأشواك، وهو... رغم أني قلت له: لا أصلح لك، أنا امرأة متزوجة. وبالأمس أيضا تعرض إلى طريقي، وأنا عند البقال.

انقضت على آجرة حمراء،سارعوا إلى اختطافها من يدها.. غمز له "التباري" بعينه أن يغتنم الفرصة، يغير ثيابه وينصرف من الباب الخلفي للفيلا...

هم يعرفون أن عبدالرحيم يذهب لقضاء حاجته عند تلك الأشواك الرابضة عند الطريق الزراعية المهملة..

ـ لا لن أذهب من هنا، وسأقول أنك نشلت حافظة نقودي وأجهضتني.. لن أرحل من هنا حتى يأتي زوجي.

أقسم عبدالرحيم أنه لم يغازلها، فطن إسماعيل إلى أن يتعامل معها بلين.. وقف إلى جانبها حيث جلست على حجر في انتظار وصول زوجها:

ـ ماذا ستربحين لو حضر زوجك وارتكب جريمة، وأنت أم لصغيرين في أمس الحاجة إلى أبيهما، وهذا الجنين الذي سيولد وأبوه في السجن؟

بدأ صدرها يعلو ويهبط مع كل شهيق وزفير، وامتدت يدها تكفكف دموعا لم تنتظر أن تنسكب... 

تشتتوا، بقيت مرابضة عند صخرتها أمام الورش، يمموا وجوههم شطر دكان بقال الحي، والجارات من شبابيكهن يتابعن مايحدث.. تندروا بحركات "كبالا" وهو يحاول فك أذرعهما المتشابكة، ويداه تلامسان صدرها الثر بحركات تبدو غير مقصودة.. سأل أحدهم الجار الملتحي عما حدث، رد عليه بنبرة ازدراء:

ـ إنهم البناؤون...!!

أحس بعبارته خنجرا مسموما يخترق فؤاده، كأن مهنتهم تهمة مرادفة لكل ماهو سيء وقبيح، تمنى ـ في قرارة نفسه ـ أن يحطم رأسه: "أيها السكير النتن تتحدث عنا كما لو كنا حشرات، وأنت الحقير الذي يشرب الجعة خلسة في الزوايا الخلفية للحي، أكثر من مرة رأيتك تشرب غير بعيد عن بيتك وفي الشارع. تتلفت حواليك مثل لص، تدس رأسك تحت سترتك، وترفع العلبة المعدنية من الجيب الداخلي إلى فمك.. من يراك ـ عن بعد ـ يظنك تتأمل الشمس برومانسية قل نظيرها عند إداري سام مثلك".

ابتلع مرارته، وغاص في أعماقه متجاهلا كل ماحوله...غير مبال بالزوج الهائج كالثور وهو يسأل عمن تجرأ على زوجته جارا دراجته النارية المتهالكة...

وطاف بمخيلته ماحدث في الحافلة في أحد الآحاد الكئيبية..

كان منعزلا عما حوله، مترفعا عن كل شيء.. وعلى الكراسي الخلفية للحافلة المهترئة تناثر مراهقون، كان أحدهم يلتقط صورا ومقاطع فيديو بالهاتف المحمول للحسان الكواعب، لمحته إحداهن، فهمست في أذن الواقفة إلى جوارها، فانقضت عليه كصقر، ورمت الجهاز من النافذة المشرعة، وعيناها جمر يلتهب.. أطل برأسه، لمح هاتفه المحمول متفتتا تحت عجلات سيارة عابرة، ندت عنها صرخة قوية، عندما هوت كفه بقوة على خدها.. اختلط الحابل بالنابل، طالب رفاقه وبعض الركاب السائق بإيقاف الحافلة.. ومن خلفهم انطلقت أبواق السيارت كالسعار، احتجاجا على عرقلة حركة المرور.

لم ينتبه إلى صعود رجال الشرطة، وهو يتصفح هاتفه المحمول.. انتشله منه أحدهم بحركة رشيقة، وهو يطالبه بأوراق هويته..

ـ لا أظن أن شخصا كئيبا وبائسا مثلي، قادر على شراء هاتف من نوع (فودافون)، يا سيدي، أنا لا أبتسم حتى في وجه المرأة التي أنجبتني: أمي، فكيف أنظر إلى مثل هذه...؟

تصفح الشرطي مليا بطاقته.. سأله عن مهنته، رد عليه بلهجة جافة:

ـ (حوفار).

لم يفهم الشرطي الكلمة، فبسط يديه الخشنتين أمام ناظريه.. أقبل أحد رجال الشرطة مصغيا إلى حوارهما الهادئ..

ـ يمكنك أن تتهمني أني معهم بمجرد أني جالس بقربهم.. ذاك حقك، لكن تأمل بنيتهم الجسمانية القوية، تسريحة شعورهم الغريبة، و.. و... أنت تهينني بهذه الطريقة والله!

تأمل الضابط الشاب بطاقته، قرأ بتمعن اسمه، أعاد طرح السؤال.. ليتأكد من اسمه العائلي، وأشار إلى زميله بإيماءة من رأسه أن ينسحب في صمت..

ـ لم أعرفك..
ـ أنا زوج (ح)...
ـ أخت زوجة عمك..  

بصق على الأرض لاعنا كل نساء الأرض، لمح الجارة وهو يصعد درجات السلم الخارجي المؤدي إلى الطابق الأول من الفيلا.. رنا إلى الجارة المولعة باستعراض ثيابها الداخلية في حديقتها الخلفية، وهي تصعد الدرج مادة يدها إلى سروالها الضيق، تشده لتبرز فتنتها الخلفية الطاغية، وتوجع في صمت.. غير قادر على أن يبوح لأحد رفاقه بما يكابد في حضرة هذه الأربعينية التي حيرته، التهم مفاتنها بعينيه في صمت نهم.. وهتف لنفسه: "ربما زوجه العجوز...."!!

حين تفتح شباكها على الساعة التاسعة صباحا، تبقى متسمرة خلفه تنظر إليها بعيون مراهقة عرفت الحب لأول مرة.. فصار يترصد إطلالاتها الصباحية متشاغلا بأي شيء، بعيدا عن أعين الرفاق.. فالدجاجة (لا تبيض) وسط جماعة، بتعبيرهم. ويتشاجر مع العزاب منهم حين يضبط أحدهم يتلصص عليها.. مرددا في سره: "هذه غنيمتي، ولن أسمح لأحد أن يمسها". يتصرف كالأطفال مخفيا ما يشبه الغيرة: "أيمكن أن أكون قد أغرمت بها، وأنا أتابعها خلال أسابيع تلميحاتها الأنثوية الشهوانية؟".

ـ أيعقل أن تنظر إلى واحد مثلك؟ تأمل أسمال الشحاذين التي ترتديها..!
ـ النساء لا يهمهن المنظر وإنما...!!

جن جنونه، فصاح:

ـ إن نكحتها فانكحني معها أيضا..!! 

وعض على أصابعه..

رآها تنظف حديقتها الخلفية مع الخادمة، كانت ترفع فستانها إلى مافوق خصرها، ويلوح سروالها الأسود الضيق خانقا عجيزة تواقة إلى الانطلاق، وحين تلمح الخادمة قادمة تسدل الستارة على فتنتها الآسرة.  

تكرر المشهد أكثر من مرة، وكانت تعرف أنه يراقبها في صمت.

واندهش عندما علم من "بعية" الجالس ليلا أمام بوابة الورش، فجاءته متذرعة بكرة صغيرتها التي رمتها في حديقة الورش، واغتمنت الفرصة لتتجول بين رحاب البيت الموعود، فسألته إن كان يبيت وحده...

فصرخ في وجهه ضاغطا على مخارج الحروف:

ـ غبي، لا تفهم أي شيء.
ـ لقد كان معها طفلها.. وسألتني عنك وقالت: إنها لا تحبك. وأنك سيء للغاية.
ـ أعرف أن لا أحد يطيقني.. لكن تلك السيدة تكرهني لشيء واحد فقط، لأنني لم ألمح لها.. هل تحب أن أحكي لك كل شيء ولا تخبر أحدا؟
ـ صدقت، كل من رآها، قال: أنها تريد من...!!
ـ جميل. بدأت تفهم.. لكن احذر أن ترتكب أية حماقة.. هذه متزوجة، وسيصدقونها، ولن يتكلم عنها أحد بسوء، لكن سيحتقرونك قائلين: (عطا الله الزْبل)!! 

في المقهى، مساء..

وهو مع الأصدقاء الصغار، وقف إلى جوارهم "المعاشي" بشاربه الذي بدأت بعض الشعيرات البيضاء تغازله، الكراسي مشغولة، وهو مسترخي.. أشارإليه "المعاشي" أن يرى شيئا مرميا بالقرب منهما، قام مسرعا ناحيته، وارتمى المعاشي فوق مقعده، فطن إلى لعبته، حاول سحب الكرسي من تحته، لكن دون جدوى ولعلعت ضحكاتهم، وعلق باسما:

ـ هذه المرة خدعتني، مرة أخرى لن أثق فيك، (وجذب كرسيا آخر)، أعرف أن كل ما يشغلك هو مكاني.. لا أحد يستحق أن تحتل مقعده سواي. (وبسخرية لاذعة) هذه الجلسة تذكرك بجلسة "الكرمة" (شجرة التين).

احتقن وجهه، ولعلعت ضحكات الأصدقاء..

ـ شتان بينك وبين جلسة الكرمة، يجب أن تشرب البيرة أولا حتى تصير عندك هذه.. مثل خالك (ربت على بطنه، وتابع حديثة بزهو) منذ عشر سنوات لم أشرب الخمر، كنا نسهر حتى الساعة الرابعة صباحا...

بدا شبه غائب عن الوجود، وهو يتحسر على زمن ولى إلى غير رجعة، وقد انعكس أثر الذكرى على تعابير وجهه، واستأنف حديثة بعد لحظات سهو...

ـ هل نلتقي غدا في سيدي بوزيد.. لدي بعض الأشغال هناك يجب أن أتممها؟

ـ تقصد عند الحاج بو باااااااااار(صاحب الفندق).

أحس "المعاشي" أنه يستخف به حين نعت هذه الشجيرة بـ: (الكرمة)، وشرد ذهنه للحظات، ووجد نفسه صغيرا، تائها في قيظ القيلولات بين أشجار الأوكالبتوس الفارعة، وهديل اليمام يبث في النفس أسى غامضا، كأنه نواح أسطوري، وتحت أشعة شمس لاهبة، يطاردون أعشاش العصافير واليمام، والحجارة الصغيرة والتراب يحرقان أقدامهم الحافية، وبحنين يتأمل كل ما تقع عليه عيناه: الشوك، النباتات الطفيلية، الصبار والحواجز الحجرية (السْطاير)، يحذرهم الأهالي من الخروج ساعة القيلولة، يغافلونهم حتى يخلدوا إلى النوم، فيلتقي كل صبيان الدوار في أماكن معينة ودون سابق موعد عند البئر أو في البيدر أو في (الجْنانات) بين أشجار التين الهرمة برائحتها المميزة وأشجارالأوكالبتوس. 

تبادل و "المعاشي" نظرة ذات معنى، حين لمحوا جارهم المتقاعد قادما في اتجاه المقهى، الذي يغلف نفسه بهالة من الوقار لامعنى له، ويزعجه فشله في اختراق عزلته رغم أنه أحيانا يلقي عليه التحية بصوت لا يسمع، فقط يحرك شفتيه ويرفع بيده تحية، وأحيانا لا يلقيها على أحد، يمر من أمامهم متجاهلا الكبار والصغار.. أدرك أنه يريد الكرسي من الجار المجاور دكانه للمقهى، سارع إلى إحضاره، حتى يدخن سيجارة بعيدا عن أعين زوجته ويغادرهم في صمت التماثيل عائدا إلى مصبنته  

ابتدره باسما:

ـ والحاج إمتى غادي تدير لينا الزردة، زردة الصباغة ديال الطوموبيل؟...

تضايق نوعا ما من تطفله رغم طيف ابتسامة باهتة، ارتبك، تلعثم، ابتلع الحروف وامتقع وجهه المتغضن.. وبنبرة طفولية مستنجدة وجه حديثة إلى الجار:

ـ الحاج.. شوف.. هذا مالو.. 

وحكى للمعاشي هامسا في أذنه أنه سأل قبل أيام عن سائل كيماوي يستخدم في الصباغة..

أخفى ضحكه والكلمة ترفض أن تستقيم على لسانه وبنبرته البدوية جدا..

ـ الحاج، والحاج.. عندك السولو..
ـ اعتق، وحلات ليه...

قالها في سره، كاتما كل ضحك الدنيا..

ـ عندك السيلو.. لو.. لوزيك. 

أحس باهتزاز هاتفه المحمول، أدرك أنها رسالة قصيرة (sms)، بدا له الرقم غير مألوف سارع إلى قراءتها: "سأكون في الجديدة هذا المساء، أنا محتاج جدا إلى من يقاسمني همي، هذا رقمي الجديد.عماد".

انتابه قلق. منذ سنوات لم يقابله، حاول أن يسترجع شريط الذكريات، غارقا في صمته، لمح المعاشي إلى هدوئه متهكما:

ـ (الله لا يطيح حبك على حجرة)!
ـ لا. إنه مجرد صديق من زملاء الدراسة، يود مقابلتي، منذ ثلاث سنوات لم ألتقه، انقطعت عني أخباره، بعد أن غادر وأمه المدينة بعد وفاة أبيه...

وقبل أن يسترسل في حديثه، خفق قلبه وهو يسمع ذلك الرنين الذي يعرف من خلاله أنها المتصل.. غالب شهقة، انتحب ركنا قصيا، مخفضا صوته ـ اتقاء سخريتهم ـ وهو يتكلم بلهجة مصرية مع "قطته الشامية".. قام المعاشي، غادر طاولته، لمحه وهو يقرب يده من الهاتف، كأنما يخشى أن يسمع غيرهما كلامه، وبصوت كالهمس هتف: "أهلين حبيبي. وحشتيييييييييني مووووووووووووووت".

علق "المعاشي" هازئا:

ـ عنداكي تثيقي بيه. راه غير كذاااااااااب.

وقلد الحاج سيلولوزيك قائلا:

ـ سير. سير الله يعيط شي مصيبة!!

وانفجرا ضحكا... 

(5)

ـ لا أصدق حياتي أنك من تتصلي بي، بصراحة، لم أتعود أن تتلفن إلي أية امرأة.
ـ لست أية امرأة..!
ـ بالتأكيد، يا شمس حياتي وأميرة أحلامي.
ـ لدي خبر سار جدا..
ـ ماهو؟..
ـ منذ زمن أفكر في زيارة المغرب. كثيرا ما كنت أتوقف أثناء تجوالي بين القنوات الفضائية عند القناة المغربية، وأتخيلني إلى جانبك.. نتجول بين أزقة الأسواق الشعبية، وبأحد المطاعم تدعوني إلى شرب (الحْريرة)!!
ـ أظن أنك...
ـ آه، ستبعث جريدتنا بعض مندوبيها إلى المغرب لحضور
معرض الكتاب بالدار البيضاء.
ـ خبر سارّ.
ـ حياتي، أتذكرين أول لقاء تعارف..؟

تصمت للحظات غارقة في بهجة الذكرى الآسرة. 

كتب تعليقا جافا على موضوع لها في منتدى أدبي، أهداها كل جرائمها اللغوية.. وللتو، كتب إلى صاحبة المنتدى أن تطلب من هذه السورية التوقف عن نشر كتاباتها في ركن الشعر: "أنت امرأة مثلها، لو كتبت لها ذلك ستتهمني باضطهادها...".

وانشغل بتفحص ملف أحد الأعضاء، حدق في صورته الرمزية، قال في سريرته: "ألم تتعب من تغيير صورك كل ساعة، أيها التافه؟". توصل بإشعار بوصول رسالة خاصة من صاحبة المنتدى: "يكفي المنتدى أن معظم الكتاب هجروه، خفف من حدة ردودك". فكر في الرد عليها بأنه لا يجيد النفاق مثلهم، حدس أنها ستفقد صوابها..

على الإطار السفلي الخاص بمشاهدي الموضوع لاح له اسم مديرة المنتدى والـ (دون جوان) الفلسطيني وكاتبة الموضوع.

قرأ رد المديرة.. كلمات ترحيب لطيفة وامتنان على الحضور المشرق دوما، "تلك صاحبة المنتدى تحرص على تواجد الأعضاء، ويحق لها أن تجاملهم". قرأ تعليقا ورديا، فثارت ثائرته، وبأصابع تعدو كخيول السباق كتب: "ابحث عن ضالتك في أحد مواقع المراهقين.. حرر بلدك بدل أن تضيع وقتك في التعليق على تأوهات العذارى. لا تنس أن تتوقف عن تغيير صورتك كل دقيقة، هذا منتدى ثقافي محترم وليس ماخورا أيها الـ... ابحث عن إحدى قطط الليل بدل أن تطبل لمن ينصبن الفاعل ويرفعن المفعول به. مع كامل احتقاري!!".

قفز إلى المشهد الضوئي اسم بحروف حمراء، فأدرك أن (زوج السيدة) دخل أيضا، أو ربما دخلت باسمه، إذ اختفت الحروف بنية اللون الخاصة بها. بقي اسمه وردي اللون، الدال عليه كمشرف وسط اسمي عضوين متواجدين في نفس الموضوع، أعاد تحديث الصفحة، فوجئ بحذف تعليقه الأخير ولون حروف اسمه صار أسود.. مجرد عضو عادٍ!

أحس بنار تلتهم أحشاءه، فكتب: "أدع لكم هذا المنتدى المهجور، هنيئا لك كل نساء العالم يا بن القحبة. سأحاول أن أكون (جنتلمانا) حين أصبح بمثل خستك. وداعاً".

وفي أقل من لحظات، حجب عنه المنتدى.. لم يعد بإمكانه قراءة أي مادة، كتب له: "تم حظر حسابك.لا وجود لأمثالك بيننا".  

ـ كم كانت مؤلمة تلك التجربة حبيبتي. لكن هذا حال العرب، لا يحبون إلا من ينافقهم..!!

ـ تتذكر أني انسحبت من المنتدى بعد إيقاف عضويتك. ذلك الخسيس كان لا يتوقف عن كتابة الرسائل الخاصة عبر المنتدى إلى كل العضوات.. كم كنت أحتقر الأسلوب الذي يتبعه. يكتب للزميلات ردودا رائعة، ويكاد يبوس أقدامهن على البريد الخاص لكي يضفنه إلى قائمة المسنجر. لم يكن باستطاعة أية زميلة أن تعرض نفسها لموقف مشبوه، فكن ينسحبن في صمت من المنتديات التي يتواجد فيها!!

كنت تدفعني دفعا إلى اكتشافك من خلال كتاباتك الحزينة رغم جرأتها.

ـ أنا سكران وبلا خمر. يكفي أن أسمع صوتك حلو النبرات لأنسى كل ما تقدم وما تأخر!!
ـ أعرف أن كل الرجال لا يفكرون إلا في (السكس)، لهذا لم أكن أقبل من يضيفونني، فبمجرد أن يكتب لكِ: (هـاااااي)، يطلب منك أن تشغلي (الكام).. ثمة شيء ما شدني إليك أيها الوغد.
ـ طيب آنستي، عمي يبدو قادما. أراك لاحقا.. ربما لن أظهرهذه الليلة على المسنجر... ظروف عائلية. باي.

وأرسل قبلة: "أتمنى ألا تضيع.. بسبب الضغط على الشبكة!". 

وضع الجهاز في جيبه برفق، حيا عمه وانتحى به جانبا ملوحا لأصدقاء المقهى بيده: "إلى اللقاء".

ـ أين الباطرون؟
ـ  لا أعرف، أظنه في تلك القرية التي تنعق فيها الغربان.
ـ ألن تذهب..؟!
ـ لا، حتى لو مات كل أفرادها.. حرمت على نفسي أن أطأ ترابها بعد الذي حدث. لست دمية يحركونها كما شاؤوا.
ـ ذاك عمك الذي مات هذا المساء، أما أنا فلا يعنيني لي أي شيء.. نسيت أن لي أجداد. بالعكس، سأحتفل الليلة بهذه المناسبة السعيدة.. لن أبيت في البيت،لن يسألني أحد، كما لو كنت مراهقة، أين تأخرت.
ـ مع "بعية" و "كبالا".. طيب،هات مفاتيح دراجتك النارية.
ـ بشرط..
ـ تعرف أن هذا ال(...) أخاك... صار يتعمد الضغط علي ماديا حتى أرضخ، لا يرمي لى بفتات جيبه إلا حينما يشاء، ومن دون شك، سيتباهى بكرمه الليلة، وأنا أفهم لعبتهم الحقيرة.. سبق وقلت لك: أني لن أتزوجها حتى لو عانقت الأرض السماء. تعرف أني...

ناوله المفاتيح، والتقط بأنامله ورقية مالية وردية. 

عند بوابة الورشة غسقا..

بعد انصراف العمال، يتجادل "بعية" و "كبالا" بصوت خافت. هذا الأخير جر دراجته الهوائية المتهالكة، ولاح لـ "بعية" سرواله الممزق من تحت وفضلات البهائم تحت حذائه، خاطبه بلهجة جافة: "لا أعرف ماذا ينتظرك في تلك القرية الغبراء؟ لم تتعود أن تتخلف عن سهرات السبت. دعك مع البهائم..!!".

ـ أنا حر، لا أريد أن أسهر معكم.. كرهت القحاب والخمر. أريد أن أتوب.

ـ لا أصدقك.. هناك شيء ما، ولا بد أن أعرفه.. هيا. انطلق قبل أن يحل الظلام وتتوه عن (خيمتكم). 

عكست ملامح "بعية" بعض الحزن المترنح في الأعماق، وغمغم: "لن يكون للسهرة مذاق من دون حماقات هذا الدب!!".

أحكم "بعية" إغلاق باب الورشة، ويمم وجهه شطرمخدع الهاتف العمومي.

سابحا في بحر ذكرياته مع حبيبته الإلكترونية، وهو يقرأ رسائلها القصيرة المسجلة على هاتفه المحمول.. يستحضر لقاءات المسنجر الأولى في المساءات الرتيبة، أثناء وقت صار شبه مقدس أن يلتقيا فيه، حتى أحسا ببعض الألفة والانجذاب الخفي..

لخص لها تعاسته في إحساسه المرير بالوحدة والشجن، عرف منها أنها تزوجت أحد أقاربها، الذي فرض عليها من طرف أسرتها، وأنها خلعته ولا زالت عذراء: "لا شعوريا، ستكره كل الرجال الذين لا يفكرون إلا في الجنس، وتبحث عمن يبادلها حبا عذريا".

ووجد نفسه مدفوعا إلى مجاراتها..  

وقف أمامه عماد، لم يصدق ما يرى.. نحيلا أكثر مما ينبغي، وقد لطخ الحزن صفحة وجهه، فبدا أكبر من سنه، كأن كل هموم العالم جثمت فوق صدره.. تبادلا عناقا حارا والسؤال عن الأحوال، ارتشفا فنجاني قهوة وغادرا.. أشار إليه أن يذهبا إلى الورش القريب منهما.

ـ أعرف أنه لم يسبق لك أن زرت ورش بناء، لكن توجد حجرة جاهزة بما يلزم.. دافئة، منعزلة عن العالم..

دفع البوابة الحديدية المواربة، أعاد إغلاقها بنفس الطريقة التي توهم المار من أمام الورش أن لا أحد في الداخل: "سيتوافد الرفاق تباعا".

رأى "بعية" ممددا فوق السرير المهلهل، إلى جانبه امرأة ثلاثيينة خمرية الوجه، مترهلة الجسد وهي تعد طعام العشاء على ضوء شمعة، وغير بعيد عنهما.. ألواح خشبية تستخدم في النجارة المسلحة شكلت على هيئة مائدة، مغطاة بثوب رخيص تناثرت فوقها كؤوس الشاي، رفع "المعاشي" أحدها، سأل "بعية" عن رقم كأس "كبالا" ضاحكا، واستطرد: "الله يحفظنا من كأس قبقب!!".

ـ اطمئن، قمنا بوضع علامة خفية عليه بالكُلاب من تحت، هشمنا جزءا من قاعه. 

رمي "كبالا" الدراجة في إهمال على حائط البيت الطيني الذي بدأ

ملاطه يتقشر..

وتحت جنح الظلام التقى عمه "التباري" واقفا أمام بيته، يرمي بعض أعواد الذرة اليابسة على الأرض بين بقرتيه العجفاوين.. مداعبا ظهر إحداهما، فيما الأتان تمد رأسها في حركات متسارعة مطالبة بنصيبها من التبن، مصدرة صوتا لن يقاومه، ويحفظه بحكم عشرته القديمة لحيواناته.. يعرف من خلال الصوت إن كانت جائعة أو عطشى أو مرهقة... ثم سأل ابن أخيه "كبالا"، الذي ركل بقدمه الكلب وهو يتمسح فيه حين رفع السلة البالية من المقود..

ـ أراك اليوم لم تبت مع (الدْراري)..؟

فطن "كبالا" إلى ما يلمح، فغير الحديث:

ـ لم أجد أمي في الدار. أليست عندكم؟

قالها وهو ينقل نظراته بين أركان بيت عمه باحثا عن شيء ما، لا يعرفه سواه..

ـ لا، لقد ذهبت مع زهرة للعزاء.

امتقع وجهه، كأن سطلا من الماء البارد رش فوقه على حين غرة. لا ذ بالصمت، وسأله العم..

ـ سأغير ثيابي، وأذهب. ألن ترافقني؟..

ـ لا.لا.لا. هم لم يعزوني في أبي...

لم يكن يعني "كبالا" موت الجد في شيء.. لا تهمه الوشائج الرابطة بين أفراد الدوارين، راح يبحث عما يأكل ليبدد توتره الطاغي مثقلا بما يصطخب بين جوانحه، غير قادر على البوح ـ لأحد ـ بما يجول في خاطره، ثم ارتمى على سريره في الظلمة متحسرا على ضياع السهرتين.. وضع شريطا شعبيا للستاتي في المسجلة، أشعل سيجارة شقراء رخيصة، راح يدخنها في تلذذ..  

في عمق الليل البهيم، تفرق الرفاق، كعادته تسلل إلى اصطبل عمه الملاصق لبيتهم من الخلف.. سمع خشخشة أوراق، وخطوات تقترب.. انغماسه في لذة اللحظة جعله ينشغل عن معرفة من يخرج من بيته بعد منتصف الليل.. ضبطته زوجة عمه التباري محتضنا الأتان من الخلف وجسده يهتز.. كانت لاتزال تشد سروالها وتبانها من تحت ثوبها المرفوع ما فوق الركبتين، تراجع إلى الخلف ولازال... شهقت، غير قادرة على رفع عينيها:

ـ عرفت الآن لم لا تحبل كل أتان (نكسبها)؟
ـ أرجوك، لا تخبري عمي..
ـ بشرط..

لم يكن باستطاعتها أن تقول له أن عمه يأبى أن يلتصق بها من الخلف، ليطفئ نيران تلك الشهوة الشيطانية التي اندلعت في بيدر جسدها، وهي تتمرغ فوق شوك الفراش. تردد في سريرتها: "ليس ذنبي أن أحدهم التصق بي من الخلف في زحام الحافلة المتوجهة إلى السوق الأسبوعي..". أدرك النداء الخفي للجسد الأربعيني المحروم وهي تستند بيديها على الحائط في تلك الظلمة، دافعة بعجيزتها المترجرجة نحوه.. دس شيئه بين فلقتيها مطوقا خصرها بذراعيه بقوة، وأنفاسه تحرق وجهها.. تدفق رضابه فوق رقبتها، تقززت، فنهرته ألا يقبلها... 

شد نفسا عميقا من سيجارته، ارتسمت على شفتيه ابتسامة حين مر طيفها بذاكرته متأوهة، تترجاه أن يترفق بها: "يومين وأنا أمشي كالإوزة، ونساء القرية يمازحنني: لم تمشين كصبي بعد ختانه"؟

وأحس بكراهية شديدة اتجاه خال أمه وهو يسرق منه بهجة السبت المشتهاة. قال لنفسه وهو يزفر: "ألم يختر أن يموت إلا يوم السبت؟؟ حتى عمي "التباري" صار يربط أتانه العجوز في الخارج ولا رغبة لي فيها". 

غادرا الشرفة العلوية حيث جلسا بعيدا عن "بعية" و "المعاشي" ومزاحهم الثقيل مع العاهرات الثلاث.. بعد أن أدرك بفراسته رغبة عماد في البوح له بأشياء تضايقه.. بعيدا عن غرباء لا يعرفهم، تواعدا على أن يلتقيا صباحا في الورش، ثم يزوران زميلهما في الدراسة عبدالرحيم في حجرته.. طفا الحزن على ملامحه متأثرا بما روى له عماد، وقال لنفسه: "تبا لأم لا تفكر إلا في أسفلها!". خيل إليه أنه سمع هدير دراجة نارية، لا ح له "كبالا" يحرث بقدميه الشارع محاولا إيقاف دراجة نارية بلا مكابح، وهو يصيح: "ما كاينش لفران، حايد من الطريق!!".

شد الدراجة النارية نحوه محاولا إيقافها، وصاح:

ـ وصل كبالا!!

للتو..

انطلق أصوات من الداخل، تهتف بصوت واحد مثل مشجعي كرة القدم:

ـ (وووي.. وووي.. كبالا ووووي.. ووووي). 

(6)

في هدأة الليل البهيم، تلوح القرى المجاورة والبعيدة غارقة في صمت أواخر ليالي الشتاء الكئيبة. يتناهى نباح الكلاب متقطعا وبعيدا.. النجوم تسبح في الفضاء السحيق تحرس القمر الشاحب، وقد توارى خلف السحب..

قبالة البيوت، نصبت خيمة كبيرة في الباحة الواسعة، إضاءتها الساطعة تسلب ليل القرية صمته الجليل وظلامه الدامس.. يلوح الحزن على صفحات وجوه الفلاحين، المتناثرين داخل الخيمة، مشكلين جماعات صغرى، متفرقة.. متحلقين حول صواني الشاي وأطباق الكسكس، تحدثوا بصيغة الماضي عن الجد الفقيد ـ بكلمات مختصرة كأنما ينتزعونها انتزاعا من قلوبهم ـ عن تعلقه بقريته التي لم يفارقها إلا لماما.. عن مكارم أخلاقه، صلواته وحجه، قبره الذي لم يجدوا عناء في حفره في هذه الأمسية، وهم يدفنونه على عجل، قبيل حلول الظلام.. ثم انساب الحديث إلى المطر الشحيح، توقع ضعف المحاصيل الزراعية، كراء المراعي، غلاء الأعلاف، وأمنيتهم القديمة في حفر بئر أخرى وتزويدها بمحرك... وبخطوات حثيثة يتنقل الأخوال والأعمام بين الخيمة وبيت العزاء حاملين أطباقا أو صواني، وكلاب الدوار تروح وتجيء بينهم وديعة، صامتة كعادتها في ليالي الأعراس والمآتم، تبحث متكاسلة عن بقايا الطعام...

تعلو أصوات فقهاء الدواوير بتلاوة القرآن، يسود الصمت، وفي الداخل يتردد صدى أنين خافت لنساء حزانى ممتزجا بدموع أعينهن الملتهبة، يمزقه صوت إحدى القريبات، وهي تنهر النسوة المتكاسلات عن خدمة المعزيات برباطة جأش ورقة مغلفة بقسوة لينة... 

تأملته المرأة وهوغارق في صمته، حاولت أن تلاطفه، ودون جدوى.. سألته عن سر حزنه، لم ينبس بكلمة، أجابها أحد الندماء بأن جده مات هذا اليوم..

لم يهتم لسماع بقية كلامهم..

تزاحمت الصور في ذاكرته، أحاسيس شتى اصطخبت في أعماقه، أحس بهم ثقيل ينزاح عن كاهله، تلك خطوة كان يجب أن يتخذها.. يتألم حين يستحضر أن من كان وراء قراره اللامتوقع حبيبته التي عبرت له عن رغبتها في العيش معه، بشرط أن يبارك والديه زواجهما. تساءل: "كيف يتخلى عن امرأة وهي تحبه كل هذا الحب ويتزوج فتاة بدوية أمية لا شيء يوحد بينهما غير دم القرابة ولا يستلطفان بعضهما...؟؟". 

فكر أياما وليالٍ في التخلص من عبء وافق عليه بصمت سلبي، والقلب (العاشق الملاّل) كان في سبات وجداني...

يعتصر قلبه الألم، لا ينسى دموع أمه وهي تحول ذلك اليوم إلى مأتم، والجد اتهم أبويه أنهما مرغوا سمعته في الوحل بعد أن كان رأسه مرفوع وسط القبائل.. ويتهم الأقارب العم بأنه من حرضه ـ بحكم عملهما المشترك في ورش واحد ـ حتى يرد لهم صفعة تزويجهم الخالة لصديقه بعد أن كانت خطيبته..

العم أيد قراره قائلا: "يوم الخطبة لم تكن حاضرا معهم، لم تتفق مع أحد... فعلوا كل شيء من دون حضورك...!!".

الأب أقسم ألا تدخل بيته أية واحدة من ربيبات الشوارع..

البيت صار أشبه ببيت عزاء، الأم تهزأ من بكائه بعد أن تخلت عنه الحبيبة خوفا من رد فعل أسرته: "كل هذا من أجل امرأة، لا شك أنها (سحرت لك). ولن تجد مغفلا غيرك بعد أن (شبعت) من الخروج مع زملائها في العمل... لقد خسرت البنتين معا!!".

الخال الأكبر يشيح عنه بوجهه كلما التقاه في الطريق، يردد بقية الأقارب بأسى: "لن تجد لها مثيلا...!!".

والجد بهذه البساطة نسي كل شيء، كل شيء.. كما لو كنت أحد ثيرانه، بمجرد أن يرى أية بقرة من البقرات يعتليها حتى لو كانت أمه أو أخته..

ينسى كل شيء.. فرحه النقي في العطل المدرسية بأكبر أحفاده كل هذه السنوات في لحظة.. تهتف الأم:

ـ من الآن فصاعدا، لا تضع قدمك في القرية حتى لو مات أبواي!

رد بحزم، ومن دون تفكير:

ـ  موافق.  

انسابت دموعه حارة..

واساه الرفاق، كفكفها.. انحنى على المرأة التي لم ينتبه إلى التصاق جسدها به، يرشق بقبلاته مابين خدها وعنقها متفاديا رائحة التبغ المنبعثة من فمها، ويده تعبث بثديها الثر...

أفرغ "كبالا" الكأس في جوفه دفعة واحدة، ردد بصوت طفولي حاد، كما تعود كلما رأى نسوة مارات أمام الورش: "وابااااغي اللْحمْ مْ مْ مْ، واباغي لْحَاااايْمممة رْطَيْيِِْيْيْيْبَة"، تفطن العابرات إلى غزله الوقح البذئ، تتضاحكن في غنج، مزهوات بأجسادهن..

مدّ "المعاشي" لـ "كبالا" ما تبقى من الوعاء، طالبا منه أن يتنازل لهم عن العشاء، لأنه شره، يحتج بصوت حاد:

ـ (أنا وَلِّيتْ كلب ناكل في الكَميلة). 

وكعادة أبناء الدوار في التندر بهذه اللازمة، سأله "المعاشي" عن حكاية جده حين رأى أول مرة التلفزيون. كان "كبالا" طفلا في ربيعه العاشر.. ظهر مقدم نشرة الأخبار مستهلا كلامه بتحية "السلام عليكم"، فالتفت الجد إلى "كبالا" مشدوها قائلا:

ـ (هو عرفني وأنا معرفتوش)!!

عند سماعهم كلمة التلفزيون تذكروا المسجلة التي حطمها "كبالا" في حالة سكر وهو ينزلق في ظلمة الدرج، حزنوا لفقدانها ولم يهتموا لأنينه تلك الليلة، ومن دونها صارت سهراتهم أشبه بمأتم، فصبوا عليه جام غضبهم وفائض لعناتهم. 

مع تباشير الصباح، تسلل "المعاشي" من الفراش، هز "كبالا" من كتفه:

ـ (ماغادي تمشي تحرث آمسخوط الوالدين)..؟

بين النوم واليقظة، رد بصوت متهدج بأنه لا يمكن أن يعمل في الحقل والورش.. يكفي أن يدبر لهم المال. تلك شؤون أخيه (بو الرْكابي سمحمد). 

تستيقظ النساء الأربعة عند سماع حديثهما الخافت، يرتدين جلابيبهن مغادرات الحجرة في صمت وهن يتثاءبن.. يسبقهن "المعاشي" واقفا أمام البوابة الحديدية، يلتفت يمنة ويسرة، ثم يشير إليهن بيده أن يخرجن بسرعة..  

في صباحات الآحاد يغرق الحي في صمت آسر مغرٍ بالخمول، عكس بقية أيام الأسبوع، حيث تدب فيه حيوية وصخب مبكرين، منبعثين من ورش البناء الوحديد في الحي.. تغازل شمس الضحى وجه "بعية" النائم قبالة النافذة وهي تخترق الستارة البالية.. يلقي نظرة على عقارب الساعة، يسارع بإيقاظ رفيقيه.. "كبالا" يتلكأ وهو يتمطى في فراشه كبغل يتمرغ في التراب..  

تنعم القرية بهدوء غير معتاد، داخل الخيمة تناثر بعض الأقارب فوق الحصير، يقدم "المعاشي" تعازيه مدعيا أنه كان في الدارالبيضاء حين بلغه الخبر، ولم يصل غير هذا الصباح...

يلوح الأب مطرق الرأس مع أحد الأخوال، يتحدثان عن أوراش البناء، عن الابن العاق.. الذي لا يريد أن يصير رجلا، لا زواج ولا تحمل مسؤولية الإشراف على الورش، ويقضي اليوم في المزاح مع العمال بدل أن يكون صارما معهم.. لم يفكر حتى في أن يظهر أمام المعزين.. يقترح عليه الخال أن يبعده عن أولاد دوار الدحوش: (بعية وكبالا والتباري..)، وأن يتنازل له عن ورش الحاج، ويكتفي بأن يزور الورش، من حين لآخر، زيارات عابرة: "عندي" مْعلم "يعول عليه في كل شيء".

أطرق الأب برأسه صامتا موافقا..

وجاءهما صوت الخال الأكبر، يلوح بيده في الهواء هاشا على الغنم وهو يشتمها كعادة الفلاحين...  

قاموا بجمع أغطيتهم، تشميسها فوق الجدران، وتصبين بعض الثياب وأزياء العمل، قرابة الساعة الثانية عشر تناولوا وجبة فطورهم وغادروا ـ ثلاثتمهم ـ الورش، مدججين بضحكهم الصاخب، لاح لهم عماد في شجار مع الجارة.. تشده من ثيابه تجره داخل بيتها متوسلة:

ـ حرام عليك! حتى لو كنت كلبة لا تعاملني هكذا.. ثلاث سنوات لم أرك، وتمر من أمام البيت وكأني لست أمك..؟؟

عقدت الدهشة ألستنهم...

قال لنفسه: "أيمكن أن تكون هذه المرأة التي دوختني بشهوانيتها أُمّ صديقي؟ أيمكن أن أصارحه أني أشتهيها وتشتهيني.. ولكن؟؟ يا الله!!". 

(7)

أشار إلى رفيقيه أن ينتظراه بعيدا، ولمح في عيونهما نظرات ذات معنى، فرّق التجمهر الصغير لبعض متطفلي الحي، وطلب من عماد البقاء في مكانه أمام البيت، شدّها من يدها إلى الداخل خلف البوابة، وفي داخله ذئب مسعورعلى أهبة الانقضاض مكشرا عن أنيابه، همس الذئب: "حان الوقت لرد الاعتبار، والانتقام من كل بنات حواء، مضى زمن البراءة.. ابتلع مرارة خياناتهن مع رجال أكثر نذالة تماما مثلما تقتضي الضرورة الفنية، في هذه الحالات!!

فلتحاول أن تبدو بمظهر الفتى الشهم، لا بأس..!!".

وفي رحم خياله تشكلت فكرة كتابة قصة قصيرة عن هذه الأم، تلح الأفكارعلى أن يحرر من ظلمات سجنها.. "لا بأس إن خدعت قراءك المفترضين، وبدوت أمامهم فارسا نبيلا في زمن الرداءة، لست نبيا، لست النذل الوحيد، وليست نهاية العالم إن تخليت عن مبادئك مرة واحدة مقابل نزوة عابرة، (هكذا برر لنفسه كل شيء).. سأحاول الليلة أن أرتب أفكاري، وأختار لها كعنوان، حتى ولو بدا مستهلكا، لكنه قريب من أجواء هذا النص الوليد: (عفوا أيتها الأم)!!".

كل هذه الخواطر جالت في رأسه وهو يتجاوز مسافة خطوتين فاصلتين بين ابن وأمه.. ومثلما يحدث في بعض الأوقات الحرجة، دس يده في جيبه منتشلا تلك الورقة السحرية، التي تضم اسمه ورقم هاتفه ومسنجره، وربت على يدها مطمئنا وهو يدسها في راحة كفها في ثقة، متعمدا أن يتحسس نعومتها:

ـ لا داعي للقلق، أحترم مشاعرك رغم أن ما حدث لم يكن بإرادتكما.. ثقي أني لن أرتاح حتى يعود إليك.

اختفت تلك القطة المتنمرة التي تعودت على أن تخاطب الآخرين باستعلاء، أحس بها تتضاءل صامتة ـ حين عرف نقطة ضعفها ـ غير قادرة على أن تنبس بكلمة.

ـ لا تخبر أحداً!

قالتها وهي ترفع عينيها إلى الورش

أدرك أنها لا تود أن يعرف البناؤون حكايتها.

ـ عماد مثل أخي..!!

وقرأت في عينيه نظرات شبقة سادية لم يحاول أن يغلفها بأية مشاعر رقيقة.

بثقة واعتزاز ضم أصابعها البضة وأحكم قبضتها فوق راحتها حيث تستريح تلك الورقة الصغيرة الملفوفة بعناية فائقة.. كأنما يقول لها: "كل ما تريدينه تجدينه في الورقة، لا تتأخري، يا عنقود الأنوثة الباذخ"!!  

عند محطة الحافلات، التقوا بعبد الرحيم، سأله إن كان لا يزال يتذكر هذا الشاب، مشيرا بيده إلى عماد، تأملهما بحميمية وهما يغرقان في عناق حميم، وقد أثاره ذلك النداء الخفي للقلوب المحبة التي لا يخطئ نبضها، ولو تبدلت الملامح قليلا. لمح إلى عبدالرحيم أنهم سيتركونهما.. وجه كلامه إلى عماد: "هذا من كنت تسأل عنه"، لا حت لهما الحافلة رقم 2:

ـ انصرفا قبل أن تحتل كل مقاعدها، أمّا أنا فسأذهب مع هذين المعتوهين إلى سوق الحمراء...

في انتظار قدوم الحافلة رقم 3 انشغل بتأمل ملامح الوجوه والبنايات التي حولهما، أثار اهتمامه صمت "كبالا" حين مرت من أمامهم نادية، خادمة الجيران التي لا يعرفان سوى اسمها من خلال نداءات ابني مشغلتها الصغيرين، كانت تحمل شيئا في يدها، تعودوا أن يروها ترتدي الحلباب السماوي الوحيد، شابة في ربيعها الخامس والعشرين.. بقوام كغصن البان، وجه بدري صبوح يسلب العقول، وعينين لا تخطئ سهام نظراتها القلوب.

تأمل صمت "كبالا"، كات يعرف ما يجيش في دواخله من مشاعر مضطربة.. لعله نوع من الحب الذي لا يمكن لـ "كبالا" أن يعبر عنه إلا بطريقته الخاصة، يصمت غير قادر على الكلام، يعبدها في صمت، حتما تحس بما تخالجه وهو يرتكب حماقاته اليومية كلما أبصرها، ولعلها تضحك مشفقة عليه حين تخلو إلى نفسها.. التفت إليها يشيعها بنظراتها وهو هائم، فاصطدم بالعمود الكهربائي، وضحك "بعية" حتى دمعت عيناه قائلا:

ـ (وا كِي دِرْتِي مع الحُبّ والشْتا كَاتْصُبْ)!! 

وعربد "كبالا" مثل طفل مدلل حاد المزاج، نفس الابتسامات الساخرة لمح أطيافها على شفاه النساء الواقفات إلى جوارهم في انتظار الحافلات.. خمن أن منظره البدوي وملامحه الجامدة وجسده الضخم لا توحي لمن يراه أن يكون رقيق القلب، ويحب بعنف رومانسي...

يتعمد "بعية" أن يسمع النساء المجاورات سخريته منه...

ـ كِي دِرْتِي مع الحُبّ والشْتا كَاتْصُبْ.. سيرْ الحمرا شْري شِي كَبّوطْ!!

استشاط غضبا وطارده وهو يرشقه بالحجارة خالقين جوا مرحا بدد بعض توتر الحافلات التي تأخرت..

كان يحس بما يكابد "كبالا"، "إنه الحب ابن الكلب!"، هتف لنفسه..

كانوا يشفقون عليه من (بهدلة) الحب ورغما عنهم يضحكون، ارتسمت على شفتيه ابتسامة وهو يتذكر يوم ضحك بعية حتى (بال في سرواله).

مرّ كبالا بالبرويطة (الناقلة) حاملا كيسي أسمنت من أمام الورش، وتجاوزه هائما على وجهه، بدل أن يدخل عبر المرآب سرح بعيدا... حين لمح نادية، ويعلم أنها لم تبتسم في وجهه ولو مرة واحدة، بقي يدفع الناقلة أمامه غير عابئ بما حوله وهو يلتفت خلفه كعاشق متيم.. غير منتبه أنه تجاوز الورشة، وذاب في سحر الالتفاتات والشارع الطويل يرجع صدى صوت عجلة الناقلة.

وينتشله من شروده صياح عمه "التباري" وهو يصب عليه جام غضبه: (واش غادي نباتو الليلة هنا.هارا السيما أمسخوط الوالدين. سير اتزوج، الله يعطيك شي مصيبة.. شوهتينا بحال ما عمرك ما شفتي العيالات..). ترتسم على شفتيه ابتسامة طفولية، ويستدير غير مأسوف على المسافة التي قطعها رغم تذمره المعهود بأن يحضر رب العمل الأسمنت بدل أن ينقلوها من (الديبّو) على أكتافهم، وعجلة الناقلة تردد ذلك الصوت المزعج الأشبه بنعيق البوم ممزقا صمت الأماسي الشتوية.

يسخرون منه، يلوذ بالصمت ويصب حنقه في كومة الخرسانة المسلحة، وينتقم من إهانات عمه في صمت، يدفع إليه السطول بلا توقف، ودون أن يرحم كهولته التي ماعادت تستطيع مجاراة عنفوانه، ولا يعطيه فرصة لالتقاط أنفاسه: "تريد أن تعمل. خذ، حتى تنام مع الدجاج، وتوقف عن الشكوى مثل العجائز..".

في ظلمة الاصطبل وهما يختلسان متعتهما المحرمة، بحبور تهتف زوجة عمه:

ـ إنه ينام بمجرد أن يضع رأسه على (المخدة).
ـ جيد. أعرف، لأني.. لا أدعه يحك رأسه في العمل.

يتعاطف مع "كبالا" وهو يحكي له عن حلم الظهيرة، حلم بكر طاهر.. يراها في حلمه تغدق عليه بابتسامة لؤلؤية تنعش بمطرها صحراء أيامه، وشعرها يسترخي على منكبيها موجة رطبة، وفي عينيها تغرد البلابل، كان يدرك أن يختصر عاشق كل بهجته في الظفر بمجرد ابتسامة طفولية عذبة، تنسيه كل ما حوله...

ـ هذا أجمل ما في الحب، يجعلك ترى الكون جميلا.
ـ في الليل، بمجرد أن أتذكرها يفارق جفني النوم. يا ربي!

وتنهد ملتاعا. 

لقطة بانورامية من فوق، يشاهد عبد الرحيم وهو يخلع قميصه وإلى جانبه عماد، وقد بدا يستسلم لإغفاءة لذيذة، بعد أن داعبت رائحة (الكيف) خلايا رأسه وبددت توتره الداخلي، يسدل الستارة، بعد أن أحكم إغلاق باب حجرته، ويطفئ المصباح، ويتصاعد أنين خافت..

ويغرق المكان في إظلام تام...

بين الممرات الضيقة الفاصلة بين صفوف باعة يعرضون بضاعاتهم الرخيصة على الأرض، يلمحون رجلا بعكازين وساق مبتورة، يمد يده نحو المارة.. المشهد عادي جدا ورتيب ولا يحرك أي شيء في دواخلهم، "لا يعور ولا يعرج إلا البلاء المسلط "، علق كبالا.. سألاه مازحين عن معنى عبارته..

ـ لو لم يكن أعرج لكان شيطانا، ربما لهذا عاقبه الله..

وعلقا بصوت واحد...

ـ يا سلااااااااااااام!

وانفجرا ضحكا، ثم طلب منهما درهما وهو يتحسس جيوبه، استغربا شهامته بعد انصراف الكهل، وراقباه في صمت، ولمحاه وهو يرمي الدرهم أمام متسولة ترضع صغيرها.. رغم قذارة ملابسها، كان ثديها يطفح أنوثة وحلمته الرمادية المتصلبة تلمع...

ـ (ابن القـ... ماعندوش فين يرقد)!!

نظر إلى ساعته وهو يسمع آذان العصر، فأيقن أن الموعد أزف، وحان الوقت ليودعهما... 

أحس براحة داخلية عميقة وهو يستقل الحافلة رقم 8، خالجه ابتهاج عميق وهو يلمح مقعدا شاغرا إلى جانب نادية، وسألها في لطف بالغ إن كان بإمكانه الجلوس... 

(8)

كانت منشغلة بأكل شيء ما لم يعره انتباها، كسرة خبز أو قطعة حلوى.. وبعض التعب يستلقي فوق ملامح وجهها الطفولي الصبوح، وفوق فخذيها تضع كيسا بلاستيكيا صغيرا.. تحاشى التطفل على خصوصياتها، لاذ بالصمت بعد أن عبّرت له بابتسامة صافية عن موافقتها...

لاذ بالصمت، ألقى نظرة من النافذة المجاورة لها، تخيل "كبالا" يعبر الشارع دافعا النقالة، غير مكترث لضجيج منبهات السيارات، وقد توقف لحظة تدوم دهرا، يتأملها، يرنو إليهما سوية، ثم يهيم على وجهه بـ (برويطته) حزينا كسيرا، تخيل المشهد بكل تفاصيله، فندت عنه ضحكة كبح جماحها واضعا يده على فمه..

مزقت الستارة التي بينهما مستفسرة عن سبب ضحكه.

بنبرة اعتذار:

ـ لا، لا أسخر منك.. بالعكس، اصفحي عني إن خانتني الكلمات.. لا أصدق أنه يمكن أن تجمعنا الصدف السعيدة، وأرى ملامحك عن قرب حتى لو لم أتكلم..

أطرقت برأسها..

ـ صدقيني كل ما في الأمر، تذكرت صديقنا أبو (برويطة).. حرام عليك، كلما رآك (تْلِيفْ ليه) عقله، يصير كالأطفال حين يضيعون النقود في الطريق.

ابتسمت رغما عنها...

ـ يبدو أنك (عزيزة عليه)، وإن حدث له أي مكروه.. فأنت الملامة
ـ إلى أين أنت ذاهب؟
ـ تائه مثل (كبالا) لكن بدون (برويطة)، على الأقل، لا لوم عليه فهو مغرم.. أما أنا فما عاد للحب مكان في قلبي.. صدقيني ليس لدي أية وجهة معينة.. تائه مثل أي (بوهالي). وأنت يا زينة البنات؟
ـ في طريقي إلى بيتنا...
ـ أود أن أسألك سؤالا، لكني محرج.
ـ ممكن..
ـ هل أنت متزوجة؟
ـ  متزوجة وغير متزوجة..
ـ كيف؟ ولم أنت حزينة دائما، امرأة في جمالك لم تخلق للحزن؟
ـ توفي زوجي قبل أشهر في حادثة سير. هذه صورة ابني، عمره عشر سنوات، وهذه ابنتي ثمان سنوات...

أحس بقلبه يتمزق، ود لو يعتذر عن كل ما دار في عقله الباطن، فكر أن يقول لها: "لا يوجد رجل يقبل أن يتزوج أرملة، لكن لو توفيت الأم، فالأب يختار زوجة من المعزيات أو يتزوح خالة أبنائه..". فكر أن يسألها: "لم قبلت أن تتزوجي وأنت صغيرة السن؟"، بدا له سؤاله غبيا...

رن هاتف شيطاني في داخله...

ـ اطلب منها رقم تلفونها، ألن تغتنم هذه الفرصة الذهبية، هذه أرملة ولازالت في عمرالورد و (...) يا غبي!
ـ لا يمكن، حتى لو كانت آخر امرأة في العالم.. تخيل نفسك مكان ابنها أيها الحيوان!!

أيقظته من شروده وهي تسترسل في سرد حكايتها..

ـ لي أخ واحد، وأبواي دائما ينصحاني أن أنسى ولا أفكر كثيرا في ما حدث.. من أجل ابنيّ.

لاذ بالصمت، ولم انتبه إلا وهي تودعه حين توقفت الحافلة قبالة إحدى القرى، استرخى فوق مقعده بعد أن قل عدد ركاب الحافلة، وخفت ضجيجهم، غرق في شروده كسير القلب، والدمع يكاد يطفر من عينيه.. 

يشيع عبد الرحيم عماد الغارق في خطواته المرتبكة ودموعه، يصب جام غضبه على الزمن المقيت، وأمه.. "العاهرة التي أنجبته"، كما تعود أن يصفها، تذكر أول مرة أحس بها بالرعشة الجهنمية تسري في بدنه، وأمه تنزل سرواله وتتفحصه، خشية أن يغتصبه المراهقون، كان طفلا فتان المحيا، تغار من وسامته الصبايا..

يستعيد متعته كلما دلف إلى البيت، وهي تحذره من الغرباء. صار يجد متعة ناقصة لا تكتمل إلا... حين أجلسه المدرس فوق حجره بعد أن أمر التلاميذ بالانصراف...  

ومثل أي مراهق، انجذب إلى الجنس الآخر، واسودت الدنيا في عينيه حين بدا يدرك معنى هذه الكلمات: لقيط، مجهول الأب، ابن حرام.. ابن امرأة شهوانية شبقة، تتسلل من حضن أزواجها ليلا، وتقابل أحد عشاقها.. يكاد يسمع الجارات الثرثارات يرددن هذا الكلام في طريقه إلى المدرسة أو البيت، فتخترق خناجر صدئة مسمومة فؤاده.

تحمل كل شيء في صمت مرير..

كان يعرف أن الرجل الذي كفله لم يكن أباه، حمل اسم رجل كان تردد أنه مات وهو لا زال جنينا..

لم يكن يعنيه في شيء كل ما حدث ويحدث..

أدرك ـ منذ نعومة فخذيه ـ أن الدنيا تعانده، تسلبه كل بهجة في حين لا تبخل على الآخرين.

حين اختلت به عشيقته، وتكرر الأمر، صفعته بكلامها: "أحتاج إلى رجل حقيقي وليس امرأة مثلي!!".

انتقم من رجولته الناقصة بالانبطاح...

لم يتحمل آلامه النفسية وإحساسه بالمهانة حين يفرغون من لذاتهم، وينهالون عليه لكما وركلا.. توجع في صمت، وجاهر بكفره ـ وبتعبيره ـ برب السماوات والأرض الذي خلق الذكر والأنثى والخنثى... لأنه المسؤول عن كل شيء!!! 

أخرج من جيب داخلي بمعطفه دفترا صغيرا تعود أن يسجل به أفكاره العابرة، وشرع في الكتابة... 

(الزمان ليلة شتوية، المكان بيت منزوٍ، غرفة باردة، فراش معطل.. تتمرغ المرأة في الفراش، والزوج يعزف سمفونية لليل بشخيره العميق.

يطن في رأسها كلام الجارة العجوز التي التقتها في حمام البلدة الصغيرة الهادئة.. نظرات الشمطاء إلى جسدها العاري لم تكن بريئة، وهي تعرض عليها أن تساعدها بأن تمرر الصابون على ظهرها.. فشرعت تتغزل بمفاتنها، وسألتها إن كانت أما... 

مرت سنتان على زواجهما، ودون جدوى...

سألت صديقتها كيف تنجب، فجاءها ردها بغنج أنثوي وضحك فاجر: "ما عليك سوى أن ترفعي رجليك طوال الليل، ولا تذهبي الى الحمام". 

دلتها العجوزعلى فقيه لا يشق له غبار، الزوج لم يهتم بحكاية الإنجاب بسبب تدينه وإيمانه...

كانت تحس بالفراغ يغلف حياتها...

حين ترمق الجارات وهن يضربن أبناءهن في الشارع بسبب (شقاواتهم).. تردد في نفسها: "إنهن لا يقدرن نعم الله عز وجل".

لم تصارح زوجها برغبتها في زيارة الفقيه حتى لا يتهمها بالتخلف والإيمان بالخرافات.. حينما ولجا ذلك الزقاق الرهيب أثارها سكون المكان، أثارانتباهها ستارة بيضاء بعرض المحل تمتد حتى السقف، لم تحس بما حدث، لم تتذكر أي شيء غير رائحة بخور خانق، وجه عجوز كريه بلحية بيضاء، طويل القامة، ضخم البينان، وجدت نفسها تقارن بينه وبين زوجها الضئيل الذي ينام بعد رعشتها الأولى، ويتركها على الجمر..

كل ما تتذكره أنها غابت عن الوعي...

وأحست بالأرض تدور من حولها وهي تكتشف أنها عارية، صعقت، أدركت أنها اغتصبت.. رغما عنها وهي الأبية التي اشتهاها كل عزاب البلدة دون أن يظفروا بابتسامة رضى منها...).

انتبه إلى صوت فتاة الحافلة تنبهه إلى وصولهم إلى نهاية خط الرحلة، مازحته:

ـ ماذا تكتب؟ هل تشتغل مع أصحاب الإحصاء؟
ـ نعم، وقد سئل أحدهم عن ماشيته.. فأجاب: أنا حمار وخويا حمار..!!

وانفجرت ضحكا....

فالنكتة ذات مغزى سياسي، كلماتها السطحية تعني أن له حمارا ولأخيه حمارا... لكن ما وراءها أعمق: أنا مغفل وكذلك أخي!!! 

انتحى جانبا جالسا على حجر، والناس يتأملونه وهو منكب على أوراقه.. مستغربين أن يكون شاب في مثل سنه لازال تلميذا، أو ربما اعتقدوا أنه يكتب تقارير للسلطة..لا يدري كيف ينظر إليه القروييون؟ 

فكر للحظة أن القراء المفترضين سيستغربون كيف عرف بتلك التفاصيل، لا سيما وأن مراد لا يعرف هذه التفاصيل عن ماضي أمه، وسيصير من الصعب التمييز بين الواقعي والخيالي في النص. لمعت في ذهنه حكاية "المعاشي" عن أحداث مشابهة لامرأة شبقة في الدوار وحكايته مع أحد الفقهاء...

(وفي اليوم التالي طلب منها الفقيه المبيت في بيته، واقترحت عليها العجوز أن تخبر زوجها أن أختها في حالة مخاض، ويجب أن تكون بجانبها، وسيرفض الزوج فكرة الحضور معها...

ولم تحس إلا وهي تمطرها بقبلات ممتنة...

كانت العجوز تبتسم في خبث، كأنما تعبر بامتنانها اللامحدود للشيطان.

بيد أن أغرب ما أثارها هو طلب الفقيه، وطلبت من العجوز أن تشرح لها

ـ إنه يريد رجلا.. طبعا هذا يحتاج إلى أن ينام معك، ويسكب ماءه في كأس...

كان يبدو لها غريبا ما تسمعه، أحست بوخز في قلبها.. لكن حاجتها لإسعاد زوجها تجعلها تفعل المستحيل.

ووعدتها العجوز بإقناع أخ لها، وطمأنتها: "حتما، سيقبل هذا الدور"!

أغلق الفقيه كتابه وانصرف..

في الظلمة كان قلبها وعيناها يبكيان، غطت وجهها بوسادة وهو يضاجعها.. وفشلت كل محاولاته في أن يرفع الوسادة لكي يقبلها...

وأحست به يقترب من غيبوبة اللذة لكنه لم...

حاولت أن تتملص من تحته لكنه أحكم قبضته عليها:

ـ أنت حمقاء بالتأكيد؟

أدركت أنها خدعت من طرف العجوز وأخيها...

أحست أنها لا شيء، ليست أكثر من عاهرة رخيصة، أو هكذا صارت...).  

أحس بوجع يخترق خلايا رأسه، توقف عن الكتابة..

فكر في حبكة مقنعة تجعل القارئ يقتنع بسقوطها...

تذكر حكاية المعاشي مع الفقيه، وليجعله في هذه القصة أخ العجوز، وليسجلها في صفحة أخرى، ربما يحتاجها لاحقا عند تنقيح مسودة النص. 

(فرح باقتراح الفقيه بأن ينام مع إحدى زبوناته.. لم ينتبه إلى أنها قامت بعصر شيئه بمنديلها.. محتفظة ببعض سائله اللزج...

في حركاته وسكناته صار يهذي أمام الجميع برغبته في الزواج، بأي شكل من الأشكال وهو الذي لم يقع في مصيدة كل بنات القرية رغم كل الإغراءات.

استغرب صديقه انقلابه المفاجئ، سأله عما جرى له، فحكى له بالتفصيل ما حدث مع الفقيه الصحراوي، ودّعهُ ووعدُه بحل مشكلته...

لم يسأله عن الوسيلة لأنه خمن أنه سيستكتب حجابا عند فقيه آخر... 

رأى نفسه في منامه فوق سحابة، وكل شيء من حوله كالذهب يلمع، وامرأة تصرخ ملوحة بعصاها تحاول أن تصيبه...

أحس بالنفور منها...

كاد يجن في منامه...

في الصبح قابل صديقه، سأله إن كان مازال يفكر في الزواج، فرد عليه بسخريته المعهودة:

ـ هل أنت أحمق؟ أأتزوج تلك....؟). 

توقف عن الكتابة ملتقطا أنفاسه، ثم استطرد..  

(طلبت من زوجها الرحيل بدعوى الخوف على وليدها من أذى عين الحسود، بيد أن خوفها الحقيقي كان من العجوز التي صارت تبتزها بأن تلبي رغبات أخيها، وكل طالبي المتعة الذين يطرقون باب بيتها...

أغرتها بأموالهم وعيرتها بفقر زوجها وعقمه..

ولأنها كانت فاتنة، كانت كل الأعين تتطلع إليها.. في كل خطوة تترك خلفها آلاف التنهدات...

كانت فرحتها بوليدها تكبر معه كل يوم وكل لحظة..

استعانت العجوز بإحدى عاهراتها لتنتقم منها...

وجد الزوج نفسه مطلوب القبض عليه..

إحداهن تدعي أنه أب لقيطها...

كان فرحا بتقرير الطبيب الشرعي ببراءته من التهمة التي لطخت سمعته في البلدة وهو الرجل التقي الورع الذي لا يرفع عينه إلى أية امرأة.. تضرع إلى الله في ابتهال ودموع الفرحة تملأ عينيه، فقاطعه الضابط بجفاء:

ـ هذا ليس مسجدا يا هذا... أنت لا تنجب، ابنك ليس ابنك.. ليس من صلبك....

أحس بالأرض تهتز من تحته، وأغمي عليه...

طلقها، بعد أن فهم ـ متأخرا ـ سر إصرارها على الرحيل من بيت أسرته والعيش بعيدا عن مقر عمله...

وجدت نفسها مجبرة على الرحيل من القبيلة، تطاردها كل اللعنات...

لم يكن امامها غير العجوز توسلتها، قبلت قدميها حتى تنتشلها من الضياع.. وقبلت أن تعيش مع أخيها ولو من دون زواج، بعيدا عن البلدة الصغيرة.

بعد هروبها مع أحدهم..

جن جنون طليقها، وكلما رأى امرأة فاتنة، بدأ يرشقها بالحجارة، لم يكن يهتم أحد بهذيانه وتسكعه في الطرقات، لكن حين صار يرمي العابرات بالحجارة، قاموا بنفيه بعيدا عن البلدة...). 

أحس بالامتنان والحبور عند هذا الحد من الكتابة، وضع القلم والكراسة جانبا، وانتبه إلى أن الغروب قد أزف.. فكر في جولة عابرة بالقرية قبل العودة... 

تمطى قبالة الحقول، رنا إلى خضرة الزرع القصير، والشمس تلون الأفق بحمرة قانية، تأمل ديكا يطارد دجاجة صغيرة فاردا جناحيه، أحس بحنين جارف يهزه إلى قريته وطفولته العذبة هناك، استغرب كيف أنها تبدو له أجمل مكان في العالم، أحس أنه تحت سماء أخرى.. ذلك الإحساس لا يمكن أن يغمره في أي مكان آخر، ولو في الريف التشيكي.

خالجه إحساس بالشوق إلى البيت، وسرب عصافير يطير قريبا منه، إحساس عشرين سنة منصرمة.. "نفس الشعور الطازج في تلك الطفولة المعطرة في القلب والذاكرة، حتى لو لم تكن طفولة سعيدة بكل الأحوال، فللذكريات عبق لا يقاوم"، هتف لنفسه، وألفى نفسه صبيا فوق سطح البيت، كل مساء، ينتشي بزقزقة العصافير وهي تتسابق في اتجاه أعشاشها.. 

وبحنين فائض تأمل الحجارة المكسوة بلون تراني، وآثار حوافر دواب وأغنام على الطريق الزراعية...

استرخى في المقعد الخلفي بالطاكسي، أخرج كراسته الصغيرة وقلمه، تشاغل بالكتابة، مبددا قلق انتظار انطلاقها بعد أن يكتمل عدد المسافرين.. 

(9)

تنفس الصعداء، والسيّارة تشق الطريق المحفّر.. ممزقة سكون المغيب بهدير محركها، أحس بالامتلاء الداخلي غبّ كتابة نصه الجديد، خامره إحساس بهيج بالتفاؤل: "إنه يختلف عن كتاباتي السابقة، وحتما سيغير الكثير من المفاهيم. لا أعرف لم أتعاطف مع الشخوص حد الذوبان.. بغض النظر عن نظرة الآخرين الضيقة إلى فضائحية الأحداث؟ هذا الإحساس بالشفقة لم أحس به من قبل، هل بدأت أقترب من نبض المجمتع؟ هل بدأت أقترب من الناس؟".

أطلق بصره من خلف زجاج النافذة متأملا وداعة الأشياء من حوله، رغم إحساسه المزمن بالحزن الغامض، والملل القاتل في مساءات الآحاد.. إحساس لازمه منذ طفولة بعيدة: "أحيانا يخيل إليّ أني لم أعش ما يسمى بالطفولة، و(لن) أعرف شيئا اسمه الفرح.. تماما مثلما أحس أن الكتابة كانت بلسما لجراح الذات الانطوائية، فتجلت الرغبة اللاّشعورية في التعبير عن هشاشتي الجوانية، وحاجتي الملحة إلى حنان امرأة...".  

في غرفته وحيدا..

على ضفاف السيليكون...

أرسل إليها رسالة قصيرة (sms) لكي تدخل المسنجر.. على القائمة تبدو له "نانا" متواجدة، التي صار يتجاهلها منذ مدة.. لا رغبة له في امرأة تنظر إلى العالم بعيون طفلة، ولا في المزاح معها وهو في أمس الحاجة إلى من تقاسمه بعض همومه.. يحتاج إلى امرأة تمتص بأسفلها أحزانه من أخمص قدمه إلى (قنة) رأسه..

يقوم بوضع شارة (بلوك) على اسمها في القائمة..

رأى شاميته متواجدة في أحد المنتديات.. خفق قلبه، أرسل إليها إميلا: (حبيبتي، أنتظرك على المسنجر، بالمناسبة.. أرسلت إليك نسخة من قصتي الجديدة قبل إرسالها إلى المجلات الإلكترونية، ولا رغبة لي في نشرها في أي منتدى.

أبوووووووووووووسك).

جاءه الرد بعد لحظات: (سأتصل بك هاتفيا بعد نصف ساعة، لا أستطيع دخول المسنجر الآن..).

تناهى إلى مسامعه صوت والديه، بعد عودتهما من البادية.. رفع صوت الموسيقى حتى يتوغل في عزلته الباذخة، واضعا السماعتين على أذنيه،ثم امتدت يده إلى (السندويش)..

وصلته دعوة إضافة من امرأة كتبت في حيز الرسالة القصيرة أنها أم عماد، أحس بفرح بهيج يسري في عروقه.. أضافها للتو، بعد التحية كتبت تسأله عن ابنها بحروف لا تينية.. بحروف عربية اعتذر لها أنه كان مشردا في الزمان والمكان..

ـ هل أنت شاعر؟
ـ مثلك يجعل الصخر ينطق!!
ـ .................................
ـ متى تحسين بي.. يا لوعة الروح؟؟
ـ .................................
ـ منذ رأيتك قبل عام وأنا لا أنام.. لا أنام إلا بعد أن أضمك إلى صدري وأحضنك بقوة و...
ـ وماذا أيضا؟!
ـ  أظنك وحيدة! زوجك.. أليس في البيت الآن؟
ـ في المداومة، لن يأتي إلا صباحا.. وأحسّ بالبرد والوحدة!!

ينظر إلى الساعة.. عقاربها تشير إلى التاسعة ونصف ليلا. في الخارج يتلاشى صياح الأطفال وركضهم ـ مبكرا ـ في ليالي الشتاء.

ـ لحظة، لدي مكالمة هاتفية..
ـ من حبيبتك...؟
ـ ......
ـ تريد مقابلتك الآن! 

أحس بالبرد يلسع وجهه في الخارج، وقلبه مثل عصفور يتراقص في قفص، لا يحتمل كل هذا الفرح الطاغي.. كانت نبرة صوتها حزينة، اختلج فؤاده، وأحس بانقباض في صدره، وقد ضاعف تأخرها في دخول المسنجر قلقه وتوتره..

ـ أعرف أن ثمة خبر سيء.. تكلمي!
ـ لا أستطيع الحضور إلى المغرب، كم حلمت بأن نتنفس هواء واحدا!!..
ـ لماذا؟ ماعدت تحبينني؟ اكتشفت أن حبّنا مجرد أوهام؟؟
ـ أرجوك يكفي ما بي، كفاك تجريحا..

وجاءه صوتها مختنقا، مبللا بالدموع..

ـ أوووووووووف. لم تبكين يا امرأة؟!
ـ لا يمكنني السفر بسبب (الفيزا)...
ـ سيدتي، ابحثي عن أية كذبة أخرى، أنت تخفين عني شيئا ما...

ذاب صوتها في النشيج...

ـ تكلمي أو دعيني وشأني..
ـ سأقبل ذلك الزوج، رغم أني لا أطيق أي رجل، أبواي ضغطا علي.. ولا يمكن أن أعيش وحيدة أبد الدهر.
ـ مفهوووووم! وصلت الرسالة. انسيني.. وداعا. لا تحاولي الاتصال بي مرة أخرى، سأعود إلى نساء الرصيف حتى أنساك!!  

انتابه ألم أحسه فوق طاقة احتماله، طفرت الدموع من عينيه وقلبه: "رباه، لم كتب علي أن أشقى دوما؟ ألأني أحب ببراءة الأطفال؟ لماذا تعاندني ـ دائما ـ هذه الدنيا الكلبة؟". بيدين ترتجفان، وبكل قوته سدد الهاتف المحمول نحو الجدار المقابل له، فتطاير أشلاء وشظايا.. وامتدت يده إلى (الكارت) انتشلها من بين البقايا، وضعها في جيبه، وشتت بقدمه أشلاء هاتفه الخلوي، وفي الحلق غصة. 

ـ أنا ليس لدي أية حبيبة، وتلك.. بعيدة عني، بيني وبينها مدن وجبال وصحارى..
ـ كيف تعرفت عليها؟ ولم ارتبطت بها إذاً؟!
ـ دعكِ من كل شيء.. الشوارع خالية الآن، ليس فيها غير القطط والكلاب الضالة.

أرسل إليها أيقونة يدعوها إلى احتضانها.. طلب منها أن تشغل (الكام)، أخذ يتغزل بمفاتنها، ويترجاها أن تقشر فاكهة صدرها على مهل.. 

بجوار الورش لمح سيارة الشرطة، فاختبأ حتى غيبها المنعطف.. كانت تقف في الظلمة خلف البوابة، سمعت خطواته، أطلت بطرف عينها، التفت حواليه، دلف إلى الداخل، وأغلقا الباب سوية، غرقا في قبلة طويلة..

هو يطوق خصرها، وهي تلف ذراعيها حول عنقه...  

في برد الصباح وقف الأب، أمر "كبالا" بإخراج بعض الألواح الخشبية، وضعها على الرصيف، ومن داخل الورش تناهى إليه صوت "التباري" يتشاجر مع عمه.. يتهمه بإتلاف (دوزانه) قائلا بأنه سيأخذه معه ـ كل يوم ـ إلى بيته، لأن(الحولي لا تثقل عليه قرونه).. بدل البحث كل صباح عن الملاسة أو المطرقة أو (الوترة)...

وقف أمام البوابة حاملا كيس الثياب وأدوات العمل، منتظرا أن يخبره الأب عن مكان عملهم الجديد.. نادى على "التباري"، للتو، وقف الخال بدراجته النارية.. بعد التحايا، أخبره الأب أن المحامي يود بناء حجرة في الحديقة الخلفية للفيلا، وزوجته لا تريد (مْعلمين) غرباء في بيتها.. قبل أن يسلم على خاله، سمعه يقول لأبيه: "اعْطيه ليهم عْطَشْ وتْهَنّا". غمغم ببضع كلمات، مواسيا في برود، وعاتبه الخال على عدم الحضور، فلاذ بالصمت...

دفع "كبالا" النقالة، فأحدثت عجلتها ضجيجا، خاطبه:

ـ (زَيّت هاذ الرْوَيضة.. صبّحنا ع الله)!

ساعد "التباري" "كبالا" في شحن الألواح الخشبية، وسار خلف الأب حينما أشار إليه أن يتبعه.. كان يحس بما يشبه النسيم يداعب أعماقه، سيكون يوما رائعا.. سيعملون مستقلين عن بقية الرفاق، وسيراها اليوم.. بعد ساعة ستشرق شمسها، ولن يصدقه "كبالا" حين يخبره أنه قابلها ـ أمس ـ في الحافلة..

كان هائما وهو يستمع إلى أبيه الذي يشرح له ما سيقومون به.. سارية هنا،جدار واطئ هنا، وشباك هناك... وأنهى كلامه بنبرة الواثق من نفسه: "يجب أن يكون مسقفا قبل ثلاثة أيام".

عند البوابة سمع "التباري" يمازح ابن أخيه:

ـ (هاذ المرة كًاع ما توضرتي وبقايتي غادي سارح)؟؟ 

(10)

انشغلا بتقشير الملاط عموديا.. في موضعي الجدارين، و "كبالا" يحفر في الأرضية الخرسانية، حيث ستنتصب سارية فوق قاعدة سارية البيت الركنية.. وحتى لا يعزل الجدارالمزمع بناؤه الباحة الخلفية للفيلا عن الحديقة،المشرعة على الواجهة الرئيسة للمسكن.. جعلاهما يلتقيان عند حافة الرصيف الجانبي المبلط الممتد حتى المدخل الرئيس المنحدر للمرآب.. فينعطف الداخل في اتجاه الباحة ذات الأرضية المزدانة بمربعات الموزاييك الأبيض، تتخللها قطع رخامية صغرى، شبه مهشمة الحوافي بألوان متباينة، أو يخطو بضع خطوات، فيصادفه باب الحجرة الملاصق للسور الخارجي للحديقة وإلى جانبه شباك يقابلان الباحة الطويلة، واتفقا على أن يجعلا السارية ـ وحتى لا يتضاءل الممر ـ من جهة الواجهة الخلفية، حيث يقبع تحتها سلم رخامي توصل درجاته إلى الطابق الأول، وعلى مقربة منه باب موصول بمطبخ القبو، واتفق مع "التباري" أن يشرع في بناء الجدار الغربي لوحده حتى ينتهي و "كبالا" من تسمير ألواح السارية، شارحا له أن (الفوندو) الممتد حتى سارية الجدار الغربي سيكون أعمق من الثاني الذي سيتوكأ عليه، فوجب مراعاة هذا الفارق في بناء الجدار.

سمع صوت "بعية" التفت إليه، فوجده يلوح بيده لـ "كبالا" وهو يصرخ: (وااااكبالااااا..) من فوق سطح الورش التي تفصلها بيننهم وبينها ثلاثة مساكن.. حين اختبأوا بعد أن انهمرت زخات من المطر، فهش "التباري" لتساقطها كأي فلاح..

كان قلبه ملبدا مثل سماء هذا الصباح، علت شفتيه بسمة حزينة.. حين سمع صفعة قوية تدوي فوق قفا "بعية". عمه وعبدالرحيم لسعا قفاه بصفعة واحدة: (واشْ كا تْسحابْ راسكْ سارحْ النعاج في الواد؟).

سمعوا صوت سيدة البيت وهي تنادي باسم عبدالله...

والتفت إليهم "كبالا"..

ـ شْكون اسْمِيّْتوه عبدالله..؟ (وضرب بيده على جبينه) أخ خ خ خ. نسيت هذي اسميتي...

ارتفع صوت "بعية" مرة أخرى وهو يرقص تحت المطر: (وااااكبالاااااا).

بصوت منغم مرجع رد عليها...

ـ عايزة إيه؟ ماذا تريدين؟

رجته أن يفتح الباب لأن البنت لم تحضر بعد وهي مشغولة بتجهيز الصغيرين للذهاب إلى مدرستهما... 

حين وقعت عيناه على نادية، خفق قلبه بشدة، امتقع لونه، أحس بجفاف في حلقه.. فغر فاه، واستدار بسرعة مبتعدا.. كالملدوغ.

تأمله في صمت غير معقب.. "التباري" لم ينتبه، ولم يحاول أن ينبهه وتركه يسترسل في حكاياه المتدفقة من أرض أصهاره البيضاويين المجاورة لمحطة القطار التي يبحث لها عن مكترٍ يستغلها، لأنها بعيدة عنه، وأصهاره يحتاجون إلى المال.. وإحساسه بالمهانة بعد المال الذي نفقه في الوليمة بعد أن كان متأكدا من أن الرجل كان يريد الأرض، ولا يعرف ما الذي جعله يغير رأيه، بعد انصرافه.. ربما أحدهم (عبأ رأسه) بكلام ما.. لينتقل إلى الحديث عن عدم مسامحته للعم الذي (ضحك عليه) وهو يجعله يعمل حتى بعد الساعة السادسة مساءً في دار عبدالمالك الحداد، دون أن يصارحه بأنه (شادْها عْطَشْ). إنه غدار خان الملح والطعام وعشرة كل هذه السنين من أجل دراهم معدودات... وها قد رأيت كم صرف حين مرض مؤخرا.. هذا عرق الدراويش، وأشاد به حين أعطاهم أحدهم مبلغا معينا.. لم ترضَ أن توزع المبلغ إلا بالتساوي، وعلى كل العاملين حتى الغائبين منهم. لو كان عمك مكانك.. لخبأ ه، ورمى إلينا بالفتات... (أنت لمن خرجتي؟؟) أنت أفضل من عمك وأبيك..!!

عقب بلا مبالاة:

ـ الناس طوب وحجر..

تظاهر أنه لم يرَ نادية عند وصولها، وأطرق برأسه وهو يضع اللمسات الأخيرة على قالب السارية.. 

جاءتهم بعد لحظات بصينية الشاي، تناولها منها، أبعد "كبالا" حتى لا يضطرب في حضرتها، ويوقع كل شيء.. انبته إلى شروده وصمته وهو يحدق فيها بعينين متعبدتين في قداسة.. هتف لنفسه: "لو لم تكن أرملة لـ (...). آه يا قلبي. متى تتوب عن الهوى؟؟".

افتر ثغرها عن ابتسامة لؤلؤية عذبة، و "كبالا" يتميز غيظا، مثل بركان يغلي في صمت..

ـ شكرا.

ونهره:

ـ ابْرَك، الله يبّركْ عليك الحْجر..

وعلق التباري ضاحكا...

ـ نوض، جيب ليك جوج خبزات اخرين.. هاذ الباريزيان ما يدير معاك والو...

ولمح....

للتو، مرت صاحبة البيت بهندام أنيق ورائحة عطرها تسبقها.. جاءت تطمئن على سير العمل قبل ذهابها إلى صيدليتها..

ـ البيت بيتكم. كل ما تريدونه اطلبوه من نادية...

وبصوت واحد شكروها، وعلقت باسمة:

ـ تْهَلاوْ في عبدالله! 

رفع بصره فجأة..

اختلج قلبه وهو يلمحها تتلصص عليهم، وعندما التقت عيونهما اختفت.. كان "كبالا" يدفع الناقلة واضعا فيها الآجر، في عينيه يزغرد فرح العشاق الطفولي بقربهم من المحبوب، ومثل الأطفال حين يتخيلون أنفسهم يقودون دراجات نارية يردد: (عااانْ عااانْ عاااانْ. حَيِّدْ التباري من الطريق). أفرغ حمولتها فوق السقالة.. وأمسك (البالة) على هيئة وتر، وراح يدندن: (حيدوا عمي وانتاقموا مني، حيدو التْويباري وانتاقموا مني...).

تلعلع قهقهاتهم، ويتأملان أصابعه المفلطحة التي لا تليق أن تكون أنامل عازف فنان ورقيق الإحساس، وعلق "التباري" متهكما: "تلك الأصابع لا تصلح إلا لـ (البَغْلي)". 

ضحك ضحكا كالبكاء، وأرسل صدره زفرة حارة. 

في نفس التوقيت غادروا البيت...

بعد العصر، بعد أن صارت الحجرة لا ينقصها إلا النجارة المسلحة الخاصة بالسقف، حيث تناولو غداءهم فوق السقالات دون أن يستريحوا ولو للحظات..

انصرفوا أمام نادية..

كانوا يتحدثون عن برنامج العمل في اليوم الموالي وضرورة الحضور مبكرا..

كانت أم عماد تقف أمام البيت مع صغيرتها..

ارتسم على شفتيها طيف ابتسامة لم يرها سواه، لكن سرعان ما تلاشت حين لمحت خلفهم نادية، وأحست بانقباض في صدرها.. توقف أمام الورش ونادى "كبالا" على "بعية"، فصفقت الباب في عنف خلفها معنفة صغيرتها، وترمق نادية ـ التي مشت بمحاذاتهم مطرقة الرأس ـ بنظرات نارية...  

من فوق أتاه صوت "بعية" وهو يعاتبه على أن هاتفه لا يرد كلما اتصلوا به، يجدوه خارج التغطية...

ـ أطفأته إلى الأبد، أنا حر، ما شأنك؟ هل لديك أي اعتراض؟؟
ـ وذاك...

يلمح بيده من فوق إلى الجهاز الظاهر من جيبه...

ـ هذا رقم ثان يا زوجي العزيز، ورقم سري..

وانتبه إلى صوت خافت..

كانت أم عماد ـ من شباكها ـ تشير إليه بيدها أن ينتظرها حتى تخرج.

وسمع نداء بقية الرفاق يلحون عليه أن يصعد، فتعلل بأنه مكتئب..

تبادل مع عبدالرحيم بعض الهمس، طالبا منه مفاتيح حجرته، فوضح له أنه سيتأخر في الخارج، وينتظر منه رنة على الهاتف...

ـ إليك رقمي الجديد..

ركب رقمه، سمع رنة وأقفل الخط.. 

في الحمام..

تأمل ملامحه الغائمة في المرآة، قال لنفسه: "الساعة الآن الثامنة بتوقيت غرينتش...الحادية عشرة بتوقيت بلدها. لا شك أنها الآن أمام الحاسوب تنتظره.. سأبتعد عن النت.. لن أدخل أي موقع إلكتروني.. يكفيني ما ضيعت من عمري على ضفاف السيليكون. ماذا جنيت؟ لن يتوقف العالم إن غبت عن الحاسوب أسبوعا.. لا. لن أضعف سأحاول أن أنساها حتى لو بعثت ألف رسالة فلن أقرأها.. سأتحمل بعض الألم"، كتب اسمها بالسبابة فوق البخار.. ثم مسح المرآة، وشرع في حلاقة شوك خديه.. تخيلها حزينة كئيبة دامعة العين والقلب.. بين نارين.. نار (البعاد) وزواج بغيض أشبه بجحيم...

تترقرق الدموع في محجريه، تنساب فوق خذيه الحليقين..

وأحس ببعض الراحة. 

ارتدى ثيابه وغادر، وردد الليل صدى وقع خطواته الواثقة من نفسها، وهو يدنو من الدكان القريب من الورش.. تناهت إلى مسامعه قهقهات الرفاق، وقد تناثروا فوق قطع الآجر ممزقين سكون الليل.

"كل هذا ليس مهما..."، يقول في سره..

شيء واحد شغل باله.. لم يكن يتوقع أن تنتهي جلستهما الغرامية رغم بعض الكدر حين سألته كيف قضى يوم عمله في بيت المحامي، أدرك سر تلميحها من خلال نبرات صوتها الحزينة.. اختلج قلبه فرحا بغيرتها من نادية رغم الألم الذي تمطى في دواخله.. فلم تهدأ إلا حين عرفت أنها أم وأرملة، فهتفت في حبور صبياني:

ـ سأجعلك تنسى كل النساء!! 

كل شيء كان على مايرام لولا...

وهما يغادران قبيل الساعة السابعة، كانت تتأبط ذراعه، وترخي رأسها على كتفه في الممر شبه المظلم.

نظر إلى عبد الرحيم مشدوها وإلى جانبه ابنها..

فغرق الأربعة في صمت مقبري...