يكشف هذا المقال عن تغير الخطاب الذي ساد لسنوات صاغت فيه الصهيونية رؤية الغرب للقضية الفلسطينية، فقد بدّد طوفان الأقصى هذا التزوير، وكشف عن حق الفلسطينيين في أرضهم، وعن طبيعة الصهيونية العنصرية وممارستها المتواصلة للتطهير العرقي والإبادة، وعريها من أي قيم إنسانية. وهذا ما دفع عدد كبير من مثقفي فرنسا للاحتجاج.

إنها إبادة الحضارة الفلسطينية

ألسنةُ المثقفين بفرنسا بدأت بالتحرّر

بوعلام رمضاني

 

يبدو أنَّ المفكر المُستعرب فرانسوا بورغا (راجع حوارنا معه في هذا العدد) استطاع أن ينتصِر على "جهابذَةِ" الآلة الإعلامية الصهيونية، التي لم تعد قادرة على الاستمرار في التعتيم على تداعيات إبادة غزّة. وكلمةُ "الإبادة"، التي كانت حتى وقتٍ قريبٍ من المُحرَّمات التي لا يُمكن تصوّرها، باتت مُتداولة على ألسنة مُعظم المثقفين والسياسيين الفرنسيين، بعد أن أصبحت حقيقةً مُكتملة الأركان لا يمكن القفز عليها. بورغا الذي انتصر للحرية في نهاية الشهر الماضي، ولقَّن أعداءها درسًا يبعث فولتير من رماده، بعد تبرئته قانونيًا من تهمة تمجيد الإرهاب، انتصر لعددٍ لا يُستهان به من المثقفين والفنانين والسياسيين والنشطاء، يهودًا كانوا أم غير يهود. لقد خرجوا عن صمتهم التراجيدي رويدًا رويدًا، مُكرهين وغير مخيَّرين، بعد أن بلغت وحشيةُ الإبادة الفلسطينية درجةً تُجبِرنا على إعادة تعريف مفهوم السريالية.

إبادةٌ بمعايير "أوشفيتز"
رغم أن المنع المكارثي الناعم في شكل قانونٍ غيرِ مكتوب، والحصار الإعلامي، والتوجيه المفروض على صحافيين أصبحوا يقومون بدور أعضاء محاكم التفتيش، والتهديد والوعيد والمحاكمات القضائية (مثال فرانسوا بورغا)، تتحرّر ألسنةُ المثقفين والسياسيين والفنانين على نار هادئة، ولو بنِسَب محتشمة لدى بعضهم، للتنديد بإبادة غزّة بعد أن أضحت معاييرُها هي نفسها معاييرُ إبادة اليهود في أوشفيتز خلال الحرب العالمية الثانية، من منطلق القانون الدولي، وليس استنادًا لأصحابِ التقليب الأيديولوجي الصهيوني، الذي ما زال يُشهَر في وجه كل من يُقارن إبادة غزّة بإبادات سابقة (الهيريرو، والتوتسيون، والبوسنيون، واليهود، والغجر، والأرمن، والهنود الحمر).
وإذا كان تيري أرديسون، الصحافي المعروف، ونجم القناة السادسة الخاصة، قد اضطرّ للاعتذار بعد أن تجاوز المحظور إثر مُقارنته بين إبادتَي غزّة وأوشفيتز، فإن الصحافي الشهير إمريك كارون، صاحب الشعر الطويل والرطب ـ الأمر الذي يدفعه إلى إعادة الجزء الذي يعيقُ نظره إلى مكانه ـ واللحية غير الإسلامية، والمستوى المهني العالي، والعضو في حزب "فرنسا الأبية"، قد تحدّى بالحجّة الدامغة الصحافي الكبير مثله جاك بوردان، نجم (راديو مونتي كارلو)، وقناة (بي إف أم)، حينما اعترف بدهاء الهارب من الحصار والاستنطاق الأقرب إلى الروح المكارثية الأمنية قائلًا: "المقارنة غيرُ واردة، لكن ما يحدث في غزّة إبادة حقيقية أيضًا".

من جهته، ورغم مُعاقبته بتوقيفه مدة أسبوع عن مزاولة عمله كصحافي معلّق في قناة (أر تي إل)، بقيَ جان بيار أباتي مُصرًّا على موقفه متحديًا مسؤوليه بتسجيله فيديو في قارعة الطريق مكررًا: "ما فعله الفرنسيون في الجزائر إبادة مثلما فعل النازيون في قرية أورادور سير غلان في العاشر من يونيو/ حزيران من عام 1944"، وتقع القرية في منطقة أوت فيان، وسط غرب فرنسا، وهي قريبة من مدينة ليموج. عاد الصحافي المتمرّد على التعتيم والمحاصرة المكارثية إلى عمله، وبقي وفيًّا لموقفه النادر في وطن "حرية التعبير" التي تتوقّف عند الحديث عن فلسطين، على حدّ تعبير آلان غريش. غريش، ولمن لا يعرفه، هو الكاتب والصحافي الكبير، وابن هنري كوريال مؤسس الحزب الشيوعي المصري بالتبني، ومدير موقع (أوريان 21)، الذي أراده منبرًا حرًّا يعيش بفضل التبرعات والهبات والاشتراكات المالية للمعجبين الذين يتزايدون من يوم لآخر على إيقاع إبادة غزّة.

من بينوش نجمة "كان" إلى لوكليزيو وإرنو:
قبل أن يُوقّع حوالي 300 كاتبة وكاتب عريضة يُنددون فيها بإبادة غزّة جهرًا على صفحات صحيفة "ليبراسيون" يوم 26 من الشهر الماضي، لم تتألّق النجمة السينمائية الشهيرة جولييت بينوش، بطلة فيلم "المريض الإنكليزي" الشهير، فقط بروح مخملية صرف لصيقة بالمهرجان العالمي الذي تحتضنه سنويًّا مدينة "كان"، عروسة البحر اللازوردي البديع. خلافًا لمعظم نجومه ونجماته، تجاوزت الروحَ المخملية والصبغة الرسمية التي يُحظر من خلالها الحديث عن إبادةِ غزّة بنعومة القانون غير المكتوب، وعِوض الاكتفاء بالحديث عن المهرجان السينمائي العالمي في ليلة حالمة، راحت النجمة الوديعة تُمجّد غزّة من خلال تكريمها الصحافية والمصورة فاطمة حسونة، التي راحت ضحية الإبادة الجماعية مع أفراد عائلتها لحظة تحدثها مباشرة مع الإيرانية سبيدة فارسي قبل يوم من عرض الفيلم الوثائقي الذي أخرجته عنها "ضع روحك على كفك وامشِ"، وهو الفيلم الذي سيبقى وصمةَ عارٍ في جبين كلِّ من سكت على الإبادة التي تتعاظم لحظة كتابة هذه السطور باسم تحميل حركة حماس مسؤوليتها.

الروائية الشهيرة أني إرنو، التي كانت من موقعات وموقعي العريضة المذكورة التي نشرتها الصحيفة الفرنسية اليسارية الشهيرة، وصاحبة جائزة نوبل للآداب عام 2022، مع رفيق دربها الروائي الكبير الآخر جان ماري لوكليزيو، الفائز بالجائزة نفسها عام 2008، عادت مؤخرًا لتصرُخَ بقوَّةٍ غيرِ مسبوقة في وجه من يركب موجة الازدواجية المقيتة أخلاقيًّا عند الحديث على طريقة "الفيلسوف" آلان فينكلكروت، أشهر مفكري الشاشات التلفزيونية، عن حرب غزّة من دون الاعتراف بأنها تتعرض لإبادة كما تعرّض لها أجداده اليهود. "فينكي"، كما يناديه المقربون، اجتهد مؤخرًا وهو يواجه روني برومان، الرئيس السابق لمنظمة "أطباء بلا حدود"، في ستوديو قناة (فرانس كلتور/ فرنسا الثقافة)، مندّدًا بمكارثية أبناء وطنه، رغم إدانته حركة حماس. الصحافية التي جمعت الاثنين فشلت في التوفيق بينهما نتيجة تأكيد برومان على الإبادة والتطهير العرقي، خلافًا لـ"فينكي" الذي اكتفى باعتبار نتنياهو مجرم حرب مثل برنار هنري ليفي.

إنها "خطوة تكتيكية من عند الذي يعتقد أن إسرائيل تردّ على إرهابيي السابع من أكتوبر"، على حدّ تعبيره، خلافًا لبرومان الذي يؤمن أنهم يستحقون الإدانة كما قال جان لويه بورلونج، نائب حزب الديمقراطيين الوسطيين (المودام)، الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء فرانسوا بايرو: "لا يمكن إيجاد عذرٍ لمرتكبي السابع من أكتوبر، لكنه لم يتم من دون سبب". وقصد النائب اليميني الوسطي سياق التطهير العرقي للفلسطينيين الذي ينكره فينكي، خلافًا لبرومان وإيلان بابيه، صاحب كتاب "التطهير العرقي للفلسطينيين"، وهو التطهير الذي أكّده فرانسوا بورغا قبل أسبوعين عند حديثه عن استعباد إسرائيل للفلسطينيين منذ عقود.
أخيرًا، وليس آخرًا... إبادة غزّة تتأكّد من يومٍ لآخر في باريس، رغم تعتيم وحصار المكارثيّين والعَسَس الأمنيّين، وصدور كتابَي "غزّة حرب كولونيالية" الجماعي وغير المسبوق علميًّا، و"مؤرخ في غزّة" لجان بيار فيليو، خير دليل على انكسار الصمت على إبادةٍ أسوأ من النكبة، على حدّ تعبير فيليو في حديث لموقع "ميديا بارت"، الذي يديره الصحافي والكاتب إيدوي بلينال، ضحية حملة مسعورة بقيادة إعلاميي اليمين المتطرّف.

إنها إبادة الحضارة الفلسطينية
رغم السعي الخرافي الحثيث لميليشيات إعلامية مُجنَّدة بقوة ممنهجة لتجسيد رقابة فرنسية يمنع مُهندسوها وصفَ ما يحدث في غزّة بالإبادة ـ بقيادة مالك قناة "سي نيوز"، فانسان بولوريه ــ رغم ذلك، يبقى هامش التعبير الحر واردًا في بعض القنوات الفرنسية العمومية، ومن بينها قناة (الخامسة)، التي استضافت مؤخرًا الروائية الشهيرة أني إرنو، ضيفة برنامج "المكتبة الكبيرة"، الذي يقدّمه الإعلامي فريدريك بونوال، خليفة الراحل برنار بيفو. أصرّت مجددًا، وبقوة أكبر، على وصف ما يحدث في غزّة بالإبادة التي تقضي على الحضارة الفلسطينية حسب قولها، مُضيفة بذلك البُعد الرمزي الثقافي غير المنفصل عن الطابع الإبادي لأجساد الرضّع والأطفال والشيوخ والنساء، بدعوى ملاحقة "إرهابيي" حركة حماس، وهو المُبرّر نفسه الذي رفعه قادة الدعاية الصهيونية ضد مدنيين عُزَّل، لمطاردة مقاومين ماركسيّين وشيوعيّين ووطنيّين وقوميّين غير متديّنين منذ عام 1948.

ضيفة القناة العمومية المذكورة، أكّدت، حزينة، يوم الأربعاء الرابع من الشهر الجاري، قائلة: "الكتابة لم تَعُد تنفع أمام ما يحدث من إبادة في غزّة، وأشعر بألم العاجزة عن القيام بشيء لا تستطيع تجسيده". الروائية الظافرة بجائزة نوبل أكّدت شعورها بالتواطؤ مع مرتكبي الإبادة من دون أن تقولها بصيغة مباشرة: "الكتابة عنها أصبحت أمرًا تافهًا. الغزّيون أصبحوا اليوم يتمنّون الموت، لكن ليس في شكلِ أشلاءٍ مُتناثرة. واقعيًّا هو الموت، وليس الحياة". أرنو تحدّثت باسم العشرات من الكُتّاب باللغة الفرنسية (لم تقل الكُتّاب الفرنسيين) عن صحّة الأدلة التي تُثبِت الإبادة التي تتمّ على المباشر. إنها الإبادة التي تقضي على الحضارة الفلسطينية ــ كرّرت تقول ــ على إيقاع صمتٍ بدأ ينكسر، على حدّ تعبيرها. "أطالب بتوقّف الحرب بصفة نهائية، وعودة الرهائن الإسرائيليين، وإطلاق سراح الآلاف من المساجين الفلسطينيين في الضفة الغربية".

استطردت صاحبةُ جائزة نوبل قائلة: "يجب أن يتوقّف قمع الحركات المتضامنة مع فلسطين، ومُساءلة العنصرية حيال العرب"، مُستعينةً بقول الكاتبة والصحافية الفلسطينية الشابة نور العاصي: "إذا كان العالم يستطيعُ مُشاهدتنا ونحن نُمحى من دون أن يقومَ بأيِّ شيءٍ، فلا صحّة لما يدّعي الدفاع عنه".

 

عن (ضفة ثالثة)