في الأسابيع القليلة الماضية، شرعت إدارة ترامب في تنفيذ مشروع ذي شقين، أولهما تفكيك أذرع التلقين الأيديولوجي الإمبريالي الأميركي حول العالم باعتبارها غير ضرورية، وثانيهما الإصرار على أن تغرس الجامعات الأميركية التلقين الأيديولوجي الأميركي المحافظ داخل البلاد. هذه السياسات، كما سأوضح، مُتكاملة وليست متناقضة كما قد تبدو للوهلة الأولى.
من أهم المؤسسات التي قام ترامب بتفكيكها أخيرًا، هي «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» (USAID)، التي وصفها بـ«المنظمة الإجرامية». لقد تأسست الوكالة عام 1961 في عهد جون إف. كينيدي، الرئيس المحبوب لدى الليبراليين الأميركيين. وقد شكّلت هذه الوكالة إحدى أذرع السياسات الإمبريالية الأميركية للسيطرة على اقتصادات دول العالم الثالث، ومكافحة دولة الرفاه وما اعتبرته الولايات المتحدة آنذاك شيوعية واشتراكية، سواء أكانت سوفييتية أم غير سوفييتية. وقد صُممت الوكالة لتكون أداة رئيسية في عملية تلقين المثقفين والطبقات الوسطى الناشئة معاداة الشيوعية، ودعم الرأسمالية المؤيدة للولايات المتحدة.
وقد حلّت الوكالة بديلًا من «إدارة التعاون الدولي» التي أسسها الرئيس دوايت أيزنهاور، والتي كانت مهمتها أيضًا القضاء على النفوذ الشيوعي في جميع أنحاء العالم.
وقد شملت برامج «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» مجالات «التنمية الاجتماعية والاقتصادية» (أي تعزيز الدعم للاقتصاد الرأسمالي الكلاسيكي، ثم النيوليبرالي لاحقًا، ونشر الأيديولوجيا الليبرالية الأميركية البيضاء)، و«حماية البيئة» (وفقاً لمنطق السوق النيوليبرالي)، و«الحوكمة الديموقراطية والتعليم» (أي الترويج للاقتصاد الرأسمالي، والأيديولوجيا الليبرالية الأميركية البيضاء). وكانت الوكالة مسؤولة عن توزيع الجزء الأكبر من المساعدات الخارجية الأميركية للدول الأخرى. في الواقع، كانت «إدارة التعاون الدولي» رائدة في التلقين الأيديولوجي الأميركي عام 1953 في تشيلي، حيث أرسلت عشرات الطلاب التشيليين لدراسة الاقتصاد في الولايات المتحدة، وتحديدًا في قسم الاقتصاد النيوليبرالي بجامعة شيكاغو، حيث أرسى أساتذة هذا القسم مبادئ الرأسمالية النيوليبرالية، كأحد برامجها المبكرة. وقد تم فرض هذه المبادئ على تشيلي بعد الانقلاب الذي رعته الولايات المتحدة عام 1973 على الرئيس الاشتراكي المنتخب سلفادور أليندي.
في الوقت الذي عبّر فيه الإمبرياليون الأميركيون الليبراليون عن قلقهم من تفكيك «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية»، واصفين إياها بأنها «تساعد في مكافحة الجوع والفقر في الخارج»، كان مناهضو الإمبريالية يرون فيها دوماً أداة لنشر الجوع والفقر. وقد أوضح نعوم تشومسكي هذا الأمر في دراسته حول سياسات الوكالة في هايتي، التي أضحت واحدة من أفقر دول العالم، بفضل سياسات الولايات المتحدة والوكالة الأميركية للتنمية الدولية. كما كشف آخرون كيف أسهمت الوكالة في تدمير الزراعة المصرية منذ ثمانينيات القرن الماضي، ما أدى إلى اتساع رقعة الفقر في البلاد.
وفي بلدان أخرى، ساعدت الوكالة في الإطاحة بحكومات وقدمت قوائم بأسماء الشيوعيين المزعومين الذين قُتلوا فيما بعد، كما فعلت في إندونيسيا. في عام 1965، حيث «قدم عملاء وكالة المخابرات المركزية الأميركية الذين يعملون تحت غطاء الوكالة ... معلومات عن الانتماء السياسي للقرويين في الريف بينما ساعد مكتب السلامة العامة التابع للوكالة الأميركية للتنمية الدولية في تحديث وظائف حفظ السجلات عبر برامج تدريب الشرطة، ما ساعد في إنشاء القوائم السوداء». وقد قُتل سنتها في إندونيسيا أكثر من نصف مليون شخص اتهموا بالشيوعية. ربما كان ترامب على صواب في وصفه للوكالة على أنها «إجرامية».
ورغم ذلك، تُصرّ الصحافة الليبرالية على التركيز الحصري على مخاطر المجاعة المحتملة نتيجة تفكيك الوكالة، متجاهلة مصير برامج التلقين الأيديولوجي التي ترعاها الوكالة حول العالم. يكمن قلق مؤيدي الوكالة الإمبرياليين من أن يؤدي تفكيك هذه الذراع للإمبريالية الأميركية إلى فتح «نافذة للصين وروسيا». مشدّدين أيضًا على أن تفكيك الوكالة سيقود إلى «تضاؤل النفوذ الأميركي في أفريقيا وأميركا الجنوبية وآسيا، حيث تُلبّي الوكالة احتياجات متنوعة، من الرعاية الصحية إلى المياه النظيفة، إلى توزيع المساعدات على المنظمات غير الحكومية ووكالات الإغاثة والمنظمات غير الربحية. إضافة إلى ما تقدمه الوكالة من مساعدات عسكرية بملايين الدولارات لإسرائيل وأوكرانيا».
صحيح أن هؤلاء غير مخطئين في تقديرهم لأهمية المنظمة في تعزيز المصالح الإمبريالية الأميركية، إلا أن إصرارهم على الإشارة إلى المساعدات «الإنسانية» المزعومة التي تُقدّمها الوكالة، يتجاهل عمدًا دورها الأوسع نطاقًا في تدمير دولة الرفاه في دول العالم الثالث، وتوزيع الأسلحة وتأجيج الحروب، ناهيك عن دورها في التلقين الأيديولوجي عبر برامجها التعليمية والصحافية والإعلامية، وتقديم الرواتب المرتفعة للنخب المحلية من المفكرين والفنيين المُتعاقدة من الباطن لتطوير هذه البرامج في الدول التي تُهيمن عليها الولايات المتحدة. وتدرك إدارة ترامب أنها قادرة على توزيع الأسلحة و«المساعدات» الإمبريالية «الإنسانية» الضرورية من دون الحاجة إلى وكالة تنفق كثيرًا على التلقين الأيديولوجي الذي يروّج لأفكار تعارضها أصلًا إدارة ترامب والجناح المحافظ للإمبريالية الأميركية أو ترى أنها غير ضرورية.
وقد ضربت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت أمثلة على أنواع هذا التلقين الأيديولوجي للوكالة، واصفة إياها بـ«الأولويات المجنونة» وبأنها محض «هراء»، مشيرة إلى إنفاقها «1.5 مليون دولار لتعزيز برامج (التنوع والمساواة والضم) في أماكن العمل في صربيا، و70 ألف دولار لإنتاج مسرحية موسيقية عن (التنوع والمساواة والضم) في أيرلندا، و47 ألف دولار لإنتاج أوبرا للمتحولين جنسياً في كولومبيا، و32 ألف دولار لنشر كتاب تصويري عن المتحولين جنسياً في بيرو». وقد اقترحت إدارة ترامب إنشاء وكالة بديلة لا تعنى بالتلقين، بل يناط بها توزيع المساعدات «الإنسانية» فقط. وفي موازاة ذلك، تمضي إدارة ترامب في مسعاها إلى إغلاق أذرع التلقين الأيديولوجي للإمبريالية الأميركية المنتشرة في أصقاع العالم، وفي طليعتها «الوكالة الأميركية للإعلام العالمي»، التي تشرف على «إذاعة صوت أميركا»، و«إذاعة آسيا الحرة»، و«إذاعة أوروبا الحرة»، فضلاً عن تمويلها لـ«تلفزيون الحرة». وقد اختُصّت هذه المنصات، منذ نشأتها، بترويج الدعاية الإمبريالية الأميركية ضمن سياق الحرب الباردة والرأسمالية النيوليبرالية التوسعية.
أمّا «تلفزيون الحرة»، فقد أولى حيّزًا خاصًا لدعم إسرائيل وتلميع صورة الديكتاتوريات العربية المتحالفة مع واشنطن. واليوم، لا يزال جميع الطغاة العرب الباقين في سُدّة الحكم، دون استثناء، مجرّد وكلاء تابعين للولايات المتحدة، يخدمون مشروعها ويعكسون هيمنتها في المنطقة. هذه الأذرع الدعائية للإمبريالية الأميركية محظورة من البث بموجب القانون داخل الولايات المتحدة. وقد وصفت إدارة ترامب الدعاية التي تبثها هذه المنافذ بأنها «راديكالية» وأشارت إلى إذاعة «صوت أميركا» باعتبارها «صوت أميركا الراديكالي». ومع ذلك، فحتى الإمبرياليون الجمهوريون قد عبّروا عن تخوفهم من أن إغلاق هذه المنافذ الإعلامية قد يعني خسارة الولايات المتحدة لـ«الحرب الإعلامية».
لقد نجحت «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية»، منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، بشكل فعال في تحويل قطاعات واسعة من النخب، والطبقات المتوسطة، والمثقفين في دول العالم الثالث إلى أبواق دعائية تردد الأيديولوجيا الليبرالية الأميركية، وذلك عبر تمويلها ورعايتها للمنظمات غير الحكومية، والمشاريع التعليمية، والإعلامية. وفي ظل غياب نموذج سياسي وفكري بديل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أصبحت العقيدة الاقتصادية الليبرالية والسياسية الأميركية في منأى عن أي منافسة جدية. إلا أن هذه العقيدة، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، بدأت تتضمن أفكارًا ليبرالية بيضاء تتعلق بالتعددية الثقافية، والحقوق الجندرية، والحقوق الجنسية، وهي مفاهيم يرفضها المحافظون البيض في الولايات المتحدة، ما دفع إدارة ترامب إلى إلغاء البرنامج بأكمله.
في الواقع، أدرك ترامب أن الولايات المتحدة لم تعد بحاجة إلى تلقين النخب والطبقات المتوسطة في العالم الثالث أفكاراً مؤيدة للرأسمالية وسياسات مناهضة لبرامج الرعاية الاجتماعية، إذ إن هذه الفئات تتبنى بالفعل هذه التوجهات منذ نهاية الحرب الباردة. ولا سيّما أن مثل هذا التلقين بات يتطلب تمرير أفكار أميركية ليبرالية تعارضها إدارة ترامب بشدة. لقد خلصت الإدارة الأميركية، وهي محقّة في ذلك، إلى أن ما تحتاجه الولايات المتحدة اليوم هو القوة الصارمة لفرض إرادتها على العالم، دون الحاجة إلى استثمار كبير في أدوات «القوة الناعمة». في واقع الأمر، لقد امتدت حملة ترامب ضد الغسيل الأيديولوجي للأدمغة في الخارج إلى خطته الحالية لإغلاق العشرات من السفارات الأميركية في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك إلغاء «المكاتب التي تعمل على تغير المناخ، والدعم الإنساني للاجئين، والديموقراطية، وسياسة حقوق الإنسان».
وعلى النقيض من التزام ترامب بتفكيك أذرع التلقين الأيديولوجي على المستوى الدولي، تبدو إدارته أكثر اهتمامًا بالتلقين الأيديولوجي محليًا، أي داخل الولايات المتحدة نفسها. وهو ما يفسر الحرب التي تشنها الإدارة أخيرًا على الجامعات الأميركية. فبينما يدرك ترامب أنه قادر على استخدام القوة العسكرية والعقوبات الاقتصادية لمعاقبة الدول المتمردة، وإعادتها إلى حظيرة الولايات المتحدة، دون الحاجة إلى التلقين الأيديولوجي، فإن الحماية الدستورية والقوانين الأميركية تحد من استخدام الأدوات ذاتها داخل البلاد، ولو جزئيًا. ولكن هذا لا يعني بالطبع أن الشرطة الأميركية، التي تمت عسكرتها منذ أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، وباتت تجوب المدن الأميركية، لم تُحشد لأغراض القمع ــ فسجلها في هذا المجال حافل على مدار العقود الأخيرة في عهود بوش وأوباما وبايدن ــ غير أن الضغط الاقتصادي يمكن أن يتمم هذه المهمة بشكل أكثر فعالية. وهذا النهج هو ما لجأت إليه إدارة ترامب أخيرًا لدفع الجامعات الأميركية نحو التحول إلى مؤسسات للدعاية المحافظة، والتخلي عن التزامها المزعوم بالليبرالية.
إن التمييز المزعوم ضد الرجال البيض و«نظرية الاستبدال» التي توظِف التراجع الديموغرافي لعدد السكان البيض في الولايات المتحدة كسبب رئيسي للقلق الذي يهدد تفوق العرق الأبيض هما الآن الأيديولوجيا السائدة. لقد أدركت إدارة ترامب، عن حق، أن الولايات المتحدة قادرة على قصف دول ومحوها من الوجود، دون الحاجة إلى غسل أدمغة شعوبها، ولكنها لا تستطيع فعل الشيء نفسه مع الرأي العام الأميركي، وهو ما يجعل من الأرخص والأكثر ضرورة بالنسبة إليها أن تتخلى عن الغسل الأيديولوجي في الخارج مقابل تعزيزه في الداخل. من هذا المنطلق، اعتُبرت الخطوة التي قامت بها بعض الجامعات العام الماضي، عندما استعانت بالشرطة لتفكيك الاعتصامات الطالبية المناهضة للإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة، وتواطؤ الولايات المتحدة والجامعات الأميركية مع هذه الإبادة الجماعية أمرًا جيدًا، بحسب ترامب، ولكنه غير كافٍ. فما تسعى إليه إدارة ترامب هو مساعدة الجامعات عبر دفعها إلى الأمام في الاتجاه الذي كانت تتجه إليه أصلًا قبل تولي ترامب منصبه. وفي واقع الأمر، اعترفت جامعة كولومبيا بهذا الواقع في ردها على مطالب الإدارة. لكن هارفارد، على النقيض من كولومبيا التي رضخت لإدارة ترامب صاغرة، ترغب في فرض هذه الإصلاحات على حرمها الجامعي دون شبهة الإكراه الحكومي.
كان المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي قد أدرك مبكرًا الدور المحوري للمؤسسات التعليمية في ترسيخ الهيمنة الأيديولوجية داخل المجتمعات الرأسمالية، لتقليل فرص التمرد والمعارضة. واليوم، بعد فشل تلك الهيمنة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لا سيما في ما يتعلق بالدعم الأميركي الأعمى لإسرائيل، التي ترتكب جرائم إبادة جماعية، بات من الضروري اتخاذ خطوات لإعادة فرضها. كان استخدام الشرطة هو الخطوة الأولى التي اتخذتها الجامعات. تسعى الحكومة إلى إقناع الجامعات بمواصلة هذه «الإصلاحات الضرورية» التي تبنتها بعض الجامعات طوعًا لتجنب تكرار ثورات الطلاب، وإكراه تلك الجامعات التي تتردد أو تعترض على تعسف الحكومة، عبر دفعها إلى الأمام على طول المسار الذي اختارته هي أصلًا.
في حين أن جامعة هارفارد وجامعة كولومبيا، وهما المثالان البارزان حاليًا، تعترفان وتوافقان على الحاجة إلى عدد من هذه الإصلاحات التي تطالب بها الإدارة لتأديب طلابها وأعضاء هيئة التدريس واستعادة الهيمنة الأيديولوجية، فإن هارفارد، على النقيض من كولومبيا التي رضخت لإدارة ترامب صاغرة، ترغب في فرض هذه الإصلاحات على حرمها الجامعي دون شبهة الإكراه الحكومي. وتعكس هذه السياسة المزدوجة إدراك إدارة ترامب بأن التهديد الحقيقي لهيمنة النخبة الثرية في الولايات المتحدة لا يأتي من الخارج، بل من الداخل. وكما حاججت في مقالاتي منذ عام 2005 وأكدته منذ بضعة أشهر، فإن مسألة إسرائيل والفلسطينيين ليست سوى نقطة دخول لتقويض الحرية الأكاديمية وحرية التعبير في الجامعات الأميركية. نظراً إلى التوافق الأميركي الكامل والمنتشر في الثقافة السياسية الأميركية على دعم إسرائيل بشكل أعمى، وهو ما يتردد صداه في الصحافة السائدة واليمينية واليسارية، فإن مسألة إسرائيل والفلسطينيين تصبح نقطة الدخول الأسهل لمهاجمة الحرية الأكاديمية في الجامعات.
فإذا كانت شبكات «فوكس نيوز» و«سي إن إن» و«إيه بي سي نيوز» قادرة على الاتفاق على «الحقائق» التي تتعلق بإسرائيل وسياساتها، كما تفعل صحيفة «نيويورك تايمز»، وصحيفة «وول ستريت جورنال»، وصحيفة «ديلي نيوز»، وصحيفة «نيويورك بوست» كذلك، فإن الدراسات الأكاديمية النقدية حول هذه المسألة لن تجد أي دعم شعبي يذكر عندما يتم قمعها في الجامعات، وقد يتم إلغاؤها بالكامل. من شأن هذا أن يشكل سابقة وتأثيراً مخيفاً لاحقاً على أشكال أخرى، ربما أكثر خطورة، من المعارضة التي تحظى بدعم شعبي أوسع من قضية الفلسطينيين، والتي يريد ترامب والمحافظون البيض القضاء عليها، وخاصة البرامج الاجتماعية لدولة الرفاه، وحقوق الأقليات العرقية في الولايات المتحدة، وحقوق المهاجرين، وحقوق المرأة. إن التمييز المزعوم ضد الرجال البيض و«نظرية الاستبدال» التي توظِف التراجع الديموغرافي لعدد السكان البيض في الولايات المتحدة كسبب رئيسي للقلق الذي يهدد تفوق العرق الأبيض هما الآن الأيديولوجيا السائدة.
إن استخدام حقوق المرأة وحقها في الإجهاض لتفسير التراجع في عدد السكان البيض هو ما أدى إلى إلغاء هذه الحقوق بشكل متواصل منذ سنوات؛ كما إن استخدام الأقليات العرقية والمهاجرين كذرائع وكبش فداء يقدم على أنه السبب في التفاوت الاقتصادي في الولايات المتحدة، وخاصة بين البيض، الذين يشكلون غالبية الفقراء في البلاد. ولو لم تكن مثل هذه الكباش موجودة، لكان من المرجح الكشف عن حقيقة أن الطبقة البيضاء الثرية وسياساتها الاقتصادية هي السبب الرئيسي في الفقر والإفقار وزيادة التفاوت الاقتصادي بين الطبقات الأميركية منذ ثمانينيات القرن العشرين.
إن هدف الخطوة الذكية التي اتخذها ترامب على الصعيدين الدولي والمحلي هو تعزيز للإمبريالية الرأسمالية التي تقودها الولايات المتحدة والهيمنة الأيديولوجية داخل الولايات المتحدة وخارجها لتعزيز المصالح الإمبريالية الأميركية، وليس إضعافها، كما يخشى البعض. إن تركيز ترامب على القضاء على التهديد المحلي المتزايد ضد النخب الأميركية وهيمنتها الأيديولوجية أمر مفهوم جداً، كما هو الحال مع شعوره بالأمان من أن البلدان التي تقع في فلك الولايات المتحدة سوف تضطر إلى طاعة إملاءاته مهما كانت النتيجة. ويُعد سعي ترامب إلى خفض التكاليف في هذه العملية بمنزلة مكافأة إضافية. رغم قلق بعض النخب الليبرالية الإمبريالية — وحتى بعض المحافظين — في الولايات المتحدة من أن هذا النهج قد لا يكون النهج الأمثل للمضي قدمًا، فإن ترامب لا يرى طريقًا آخر.
* أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك
عن (الأخبار اللبنانية)