عيسى مخلوف هو من الأدباء القلائل الذين يخيل إليك أنك تسمعهم حين تقرأهم، ذلك لأن الكتابة عنده هي الحياة، كلماته ترجمان أنفاسه، وعباراته عصارة فكر يتغذى من نسغ شجرة تضرب جذورها عميقاً في ثقافة إنسانية لا تحدها حدود المكان والزمان، ترفع أغصانها عالياً في فضاء الروح، وتفرش أوراقها ظلاً لا يحجب بل يترك للضوء فسحات تبدد ظلمة العالم.
في كتابه الأخير الذي يُقرأ "من الجلدة إلى الجلدة" والصادر تحت عنوان "باريس التي عشت، دفتر يوميات"، يعيد ابتكار أدب الرحلة لأنه لا يكتب جغرافيا بل تاريخاً ما زال ينبض بالحياة. باريس التي يعيشها في يومياته ليست مجرد أبنية وشوارع وساحات وحدائق، وليست مجرد مدينة، بل كتاباً مفتوحاً لا يمل من قراءته وتقليب صفحاته التي خطّتها أقلام شعراء، وروائيين، وفلاسفة معاصرين من مشارب وثقافات مختلفة أتيحت له فرصة التعرف إليهم من قرب وإجراء حوارات ثرية معهم، أو أعلامٍ خالدين تركوا بصمتهم في تاريخ الأدب والفكر، يستحضرهم ويلقي على أعمالهم نظرة ثاقبة توائم بين الحس النقدي والحدس الشعري، فيتغير مفهوم النقد ليصبح بحق كتابة إبداعية. تتعدد الأسماء: آسيا جبار، مارسيل بروست، صلاح ستيتية، إيف بونفوا، بورخيس، جاكوتيه، أمجد ناصر، رولان بارت، إدمون المليح، إدوار سعيد، جان جينه وغيرهم، صورة متنوعة لإنسانية واحدة لا تزال تبحث عن خلاصها وسط هذا العالم الغارق في الظلم والعنف وانعدام المعنى.
تتحول النزهة في شوارع باريس أو التأمل من وراء زجاج مقاهيها إلى فرصة للقاء مفاجىء، هنا مرّ أبولينير، وهنا مسكن بروست، وهنا فندق نُقش على حجر في جدار واجهته اسم هذا الأديب أو ذاك الرسام، هكذا يصبح التجوال قراءة لذاكرة حيّة لمدينة كأنها النهر بروافد عديدة. مئات الوجوه تطل عليك لرسامين ونحاتين وموسيقيين لبنانيين وعرب وأوروبيين يمد عيسى مخلوف بذائقته الفنية جسوراً بينهم فتتحاور اللوحة والقصيدة، الريشة والإزميل، تعبيراً عن مفهوم راسخ لوحدة الفن. ولا نغالي إن قلنا إن عيسى مخلوف يبرهن مرة جديدة أنه ناقد فني مهم إضافة إلى أنه أديب وشاعر فذّ يتمتع بثقافة موسوعية. فهو قارىء نهم يغرف من ثقافات متنوعة، كما أنه يتمتع بفضول فكري وفني مكنه من متابعة الحراك الثقافي في مدينة الأنوار على مدى عقود، وهو قبل كل ذلك مفكّر إنسانوي يشهر سلاح الكلمة في مواجهة التوحش والبربرية الليذين يتجليان اليوم في أبشع صورهما على أرض غزة.
لكن: "ثمة كلمات تقتل وأخرى تُضمد الجروح. الصروح الأدبية المبنية من أحرف تساعد على التهرب من أهوال الواقع، تمسك بقرنيه وتحاول أن تلويهما لتجعل الحياة ممكنة ومحتملة". بهذه العبارات يقدم لنا هذا الكاتب والناقد والشاعر والمترجم، إجابةً على سؤال صار يطرح نفسه علينا: ما هو الأدب، وما هي غايته؟ ليثبت مرةً جديدة بأنه ضرورة إنسانية جوهرية.
أخيراً لا بدّ من الإشارة إلى أن الكاتب إنما يكتب ليُقرأ، وأن القارىء هو أيضاً وعلى طريقته قارىء لما يُكتب له ومن أجله. فالكتابة إن لم تكن فعل تواصل بل وصل، تفقد مبررها.
المدن