وكما قلنا من قبل أن الحالة الثورية التى حدثت بدءا من الخامس والعشرين من يناير، مرت بعدد من المراحل، فإن الكاتب قد جمع هنا الرؤية العامة للتجربة فى مرحلتها الرابعة، فى شكل القصة القصيرة، التى اعتمد فيها على السرد السلس، دون محسنات، إلا أنه اضمر الرؤية العامة بين ثنايا القص، لتقول فى سطور ما تم استخدامه فى أعمال روائية كثيرة.

في مدرسة البنات

حمدي البطران

 

بمجرد وصولي إلى مكتبي، رن التليفون، كان نائب المدير (الحكمدار)على الجانب الآخر، وأخبرني أن أستعد للانتقال صحبته إلى المدرسة الثانوية للبنات.

بعد دقيقه واحده كنت في فناء المديرية، ومعي زميل آخر في انتظار السيد نائب المدير، وسرعان ما وصل بملابسه المدنية، وخلفه الحراسة الخاصة به، ركب النائب سيارته، وركبت أنا مع زميلي في سيارة أخري، وتحركت السيارات.

توقف قول سيارات الشرطة عند باب المدرسة، ونزل النائب أولا، ونحن خلفه، وكنا جميعا نرتدي الملابس المدنية، كانت التعليمات تقضي بأن يرتدي جميع رجال الشرطة الملابس المدنية حتى لا يتعرف عليهم أفراد الجماعات الإرهابية. كما أن لوحات سيارات الشرطة المميزة تم رفعها من على السيارات، ووضعت مكانها لوحات أخري. لسبب غامض كان نائب المدير في أحسن حالاته.

ما أن شاهد فراش المدرسة السيارة الفخمة التي نزل منها النائب، وخلفه رجال حرسه، وهم شاهرون أسلحتهم الآلية، حتى أسرع نحو الباب، وفك السلسلة الحديدية بعجلة ملحوظة وسحبها، فأحدثت صريرا، ثم وضع كتفه في الباب الحديدي، وفتحه على مصراعيه، ثم هرول أمام الحكمدار إلى مكتب مديرة المدرسة، ونحن نسير خلفه.

ورأينا سيده تقف أمام باب الحجرة، أشار اليها الفراش وقال:

- ربنا يلطف.

لم تتكلم السيدة، وأسرعت إلى داخل مكتب المديرة، أطلت فيه بوجهها، وعلى الفور خرجت المديرة نشيطة وبدينه، سلمت على النائب. بعد أن عرفها زميلنا بشخصياتنا، وقادته، ونحن خلفه إلى مكتبها، ولكنه اختار الجلوس في الكرسي القريب من المكتب.

رفضت المديرة أن تجلس على مكتبها تأدبا، وجلست على كرسي قريب من كرسي النائب.

حاولت المديرة أن تتكلم، ولكن الكلمات لم تطاوعها وهربت منها، وكانت تلك هي المرة الأولى التي تجد نفسها فيها وجها لوجه مع لواء من الداخلية.

لم تجد مديرة المدرسة كلمة ملائمة تخاطبه بها، وكانت تعرف أنه ليس من اللائق أن تخاطبه بكلمة. يا أستاذ. شعرت بحيرة شديدة في كيفية إدارة حوار مع هذا الذي لا تعرف كيف تخاطبه.!

اقتربت سيدة من السيد النائب. وقدمتها المديرة على أنها ناظرة المدرسة.

استراحت المديرة وشعرت بأن حملا ثقيلا قد أنزاح عنها، وتنازلت للناظرة عن حق الكلام مع قيادات الشرطة.

حكت الناظرة ما حدث بالضبط، دون أن ترفع عينيها عن وجه النائب، كما أن النائب كان يستمع اليها بإنصات هائل، وكانت عيناه تطوفان بوجهها الأبيض المستدير، ثم توقفتا عند رقبتها التي بدت كقطعه من المرمر، وكانت الناظرة وهي تحكى تراقب حركة عينيه، وفى لحظة استقرار عينيه على رقبتها، كانت يدها تتحسس تلقائيا السلسلة التي تتدلى منها، وسحبتها لتتدلى في الفاصل المعتم بين نهديها.

لم يكن النائب في حاجه لشرح الناظرة عن تفاصيل الواقعة، ولا تأكيداتها بان التلميذة تريد أن تعكر الهدوء والأمن في المدرسة، فهو يعرف كل هذه التفاصيل ولكن الطريقة التي كانت تشرح بها الناظرة كانت جديدة ومثيره في آن واحد.

كانت التعليمات التي تلقاها النائب هي ملاحظة الحالة الأمنية، لأنه من المحتمل أن تصل عدوى هتافات التلميذات في الصباح إلى باقي المدارس المجاورة، خصوصا طالبات معهد الفتيات الأزهري الذي لا يقوم أصلا بتحية العلم.

قال النائب:

- المسالة بسيطة. أين التلميذة.؟

وفطنت مديرة المدرسة إلى أن البنت حتى تلك اللحظة لم يسأل عنها أحد، ولم يسألها أحد، وأشارت للناظرة أن تحضرها من الفصل، ولكنها لاحظت اندماج الناظرة مع النائب، وخافت أن تكرر عليها الكلام أو السؤال خصوصا وأنها تعرف عن الناظرة، أنه لا توجد قوه تمنعها من الاسترسال في الحديث مع رجل نال إعجابها.!

وفى تلك اللحظة وصل مدير مباحث المديرية.

أدى التحية للنائب، ثم تقدم منه وسلم عليه، وسلم على زميلي، وسلم على أنا، ولم يجد له مكان فجلس بجواري ونظر نحوي وقال:

- أين البنت.؟

قلت له:

- بنت من؟

نظر إلى بغيظ وقال:

- البنت اللي عملت المصيبة.

نظرت اليه أستفسر عما يريده منى بالضبط. فقال:

- أنت تشتغل إيه.؟

وكان من الواضح انه لا يعرفني. أو ربما نسيني. ورأيت أنه من الأصوب أن أتجاهله تماما. ولم أرد عليه. رمقني بنظره قاسيه، ولا شك أنه في تلك اللحظة كان يبحث في خياله عن طريقه يمسكني بها من ياقة قميصي ويسحبني خارج المكتب، ثم يأمر مخبريه أن يطرحوني أرضا ويوسعوني ضربا.

أشرت اليه أن يسأل مديرة المدرسة، ولم أكلمه، وقذفني بنظره نارية، ولم أهتم به، كان مدير المباحث يتصرف بطرقة فظة.

في تلك اللحظة دخل فراش المدرسة، وبين يديه صينية عليها زجاجات المرطبات الباردة، وأسرعت الناظرة وتناولت واحده، وانحنت أمام النائب، وابتسمت ابتسامه رقيقه وقدمتها له، أعتذر النائب، ولكنها أصرت وقالت:

- عشان خاطري.

ثم منحته ابتسامه خاصة، كانت أعم وأشمل من الأولى، ومد اللواء يده وتناول منها الزجاجة، وطاف علينا الفراش بالزجاجات واحدا بعد الآخر.

لم يتحدث مدير إدارة البحث مع المديرة عندما أشرت له عليها، وكان من الواضح أن ليست لديه أي معلومات عن البنت، وكان يرافقه ضابط صغير السن حاول الجلوس معنا ولم يجد مكانا بيننا فوقف خارج المكتب، أشار له مدير البحث، جاء الضابط واقترب من رئيسه، وسمعته وهو يطلب منه جمع المعلومات الكافية عن البنت وعنوان ولى أمرها وصناعته وعنوانه، وانصرف الضابط على الفور، وسأل أول من قابلته من المدرسات عند باب مكتب المديرة، سألها عن أسم التلميذة ومهنه ولى أمرها، قالت المدرسة بدلال:

- هيكون إيه يعنى؟

ولكنها تداركت وقالت:

- أسأل السكرتيرة.

لم تكن المدرسة ترغب في إنهاء حديثها مع الضابط ذي العيون الخضر، والذي كان يذوب خجلا وهو يتحدث مع المدرسة التي أضافت:

- أصل البنت في سن المراهقة، وأكيد وراها ولد.

وسألها الضابط عن علاقتها بالتلميذة، واعتبرت المعلمة أن هذا السؤال من جانب الضابط ينم عن رغبته في إطالة الحديث معها، وهو ما دعاها إلى مزيد من الكلام، وقالت:

- كل البنات تحكى لي على كل حاجه تحصل معها، وتسألني تعمل إيه مع الولد بتاعها.

وسألها الضابط:

- عندكم في الصعيد يحصل كده؟

أجابت المدرسة وهي تغمض إحدى عينيها:

- وأكتر.

ثم اخفت وجهها في ظهر زميلتها، التي كانت ترقب تصاعد الموقف الرومانسي بين المدرسة والضابط الشاب، وسألت الضابط:

- المدام تشتغل إيه؟

قال الضابط باستغراب:

- المدام. ؟ !

وعندما لاحظت المدرسة استغرابه قالت:

- خطيبتك؟

ولم تكن في أصابع الضابط ما يشير إلى ارتباطه، وعندما تأكدت المعلمة سالت:

- واحد سكر زيك مستني إيه؟

رأى الضابط أن الأمر خرج عن نطاق المأمورية المكلف بها، ولكنه رأى نظرات الإعجاب الصريحة من مدرسه شابه لم ترتبط، فضلا عن امتلاء صدرها وردفيها وضيق خصرها، وسألها عن أسمها، ابتسمت، وهو ما شجعه على إخراج بطاقة من جيبه فيها أسمه وتليفونه، وناولها للمدرسة.

قالت لها زميلتها التي كانت ترقب الموقف:

- يا بختنا بالحكومة.

انهمكت الناظرة في شرح عبارة كانت مكتوبة على لوحه معلقه على الحائط في مواجهه النائب مكتوب فيها " لا أحد أقوى منك على نفسك لإقناعها بالحب " , كانت تتحدث عن الجانب العاطفي , وقالت إن القلب بطبيعته يميل إلى التسامح والعفو والغفران . كان النائب معجبا على وجه الخصوص بطريقتها التي تتحدث بها، وكانت تتوافق مع حركة يديها، وكانت تهتز وهي تتحدث بانفعال وعاطفة لتدلل على قوة حجتها، وكان جسدها يهتز معها، ولاحظ النائب أن جسدها يتمتع بنوع خاص من اللدونة، وتذكر أيضا أن البنت لم يتم إحضارها...!

سأل الناظرة عنها، قالت:

- بسرعة تحضر يا باشا.

اضطربت المديرة، وخرجت تسأل عن البنت، وأحست أنها تورطت، وأن هناك من يتعمد إحراجها بعدم إحضار البنت للتحفظ عليها بمعرفة الشرطة.

كان النائب قد أنتقل ببصره إلى لوحه أخرى في حجرة المديرة، اللوحة لعامل قوى البنيه يرتدى ملابس العمال الزرقاء وفى يده المفتاح الشهير، وفى خلفية الصورة شلالات تنهمر منها المياه، وتعبر عن السد العالي الذي تمركز في قلب الصورة، ومكتوب تحتها " دقت ساعة العمل الثوري “.

عندما وصلت مدرسة التربية الرياضية لمكتب المديرة وجدتها تجلس عن يمين النائب والناظرة تجلس عن يساره، ترددت في الدخول، ووجدت نفسها في حيره من أمرها. هل تتكلم مع المديرة أو مع الناظرة؟

ولكنها تجاهلت الأخيرة، لأنها كانت مشغولة بالحديث مع النائب، واتجهت إلى المديرة وهمست في أذنها:

- البنت مش موجودة.

واعتدلت الناظرة التي كانت تسمع المدرسة وهي تهمس للمديرة، وأصدرت للمدرسة أمرا بالبحث عن التلميذة، ثم سألتها:

- البنت راحت فين؟

وكأنها تحملها المسئولية، وكانت تضغط على مخارج ألفاظها بحيث تحمل المديرة كل المسئولية عن الاختفاء الغامض للبنت.!

أحس النائب أن وجوده في المدرسة أستنفذ أغراضه، فقد أمضى فيها أكثر من ساعتين، ونهض واقفا وأشار إلى مدير المباحث قائلا:

- شوف أنت موضوع البنت.

عندما خرجنا من المدرسة، أخبرني النائب بأنه لا توجد مشكله، والموضوع بسيط للغاية ولا يستحق، كنت لا اعرف ما هو الموضوع بالضبط، ولكنني غيرت مجرى الحديث وقلت:

على فكره يا باشا الناظرة حلوه.

ضحك النائب وقال:

- أتأخرت عشرين سنه.

وسكت لحظة وقال ساهما:

- وفيها إيه لما البنت قالت في طابور الصباح " تحيا جمهورية مصر الإسلامية " بدلا من " تحيا جمهورية مصر العربية “. لازم الدنيا تتقلب ونروح المدرسة نراقب الموقف من بعيد؟

ثم مرت فترة، وبعدها وقال:

- عيلة وغلطت، لازم نكسر رقبتها؟