البداية مدهشة ، تجلت في صباح يوم عادي جدا، يوم انتبهت لتجمع عدد لافت من الحمام، يجيد الهبوط أعلى صندوق جهاز التكييف المثبت بجوار الشرفة. منذ سنوات طويلة فعلها لمرة ولم يكف المحاولة حتى الآن. كان الحمام أول من استقبلني وعروسي لأعيش في تلك الشقة العلوبة، بعد أن هاجرت بيت الأسرة وحياة العزوبية، ابتسمت وزوجتى وقلت: فأل طيب، لم تبد العروس البكر حفاوتها ولا حتى ببسمة هينة..
فى حينه لم أجد تفسيرا، الآن ومع مشهد الطيور تتدافع فى غير اكتراث بوجودي، تتكاثر وتتعدد، لم تعد من الحمام فقط، شاركها اليمام والعصافير، كثر عددهم حتى ظننت أنها قررت احتلال واجهة المنزل ثم اقتحام شقتي واستبدال وجودي مع زوجتى وابنتى الوحيدة ببقايا الريش التى ستتبدله بغيره مع فيض من البراز الحمضى والقادر على اختراق الأغطية وكسوة المقاعد القماشية بل واختراق المصنوعات الخشبية وحتى الطلاء الخارجي لأجهزة الشقة المعدنية؟
لا قبل لي بطيور باتت الآن متمردة، تبدو شرسة على غير ما عرفتها من قبل، تخطط كي ترسو على مقربة من مرقدي، بل ربما فوقه بدلا عن جسدي.. ما آثار دهشتي أن أراها تعدل من طبائعها هكذا ﺇلى النقيض الغريب، ما كانت كذلك مع أمي، طوال سنوات مضت، لا أتذكر في طفولتي أن بدت هكذا شرسة معي.
شغلني السؤال عما كان يحاك بينها وبين أمي، لم تلقنه لي ولا علم بلغني عن أسراره .. كيف روضتها أمي وبأي لغة تحدثت ﺇليها؟
لسنوات مضت ما كنت أري هذي الطيور نفسها فرحة، لا تتردد في ضرب الهواء بجناحيها كلما لمحت ظلها بل وظلي، ما كان يدهششني كثيرا؟ لفترة طويلة مضت، ما كنت أسمع منها ﺇلا هديل فرح، ورفرفة أجنحة مبتهجة؟
الآن آراها على هيئتها الجديدة الغامضة.. متحفزة لأمر ما في رأسها، تتأهب ﻹحتلال حجرة نومي ومكتبتى،ـ لن أتساءل كيف؟ لو أخبروني أن الدنيا على شفا حفرة من الغموض والحيرة التامة لتفسير سلوك الطيور الغامض، فمن غريب الأمور أن يراها الناس بأعداد ما بعد العدد تحتل المدينة، وقد فاقت عدد رمال الصحراء فوق ربع مساحة قارات الدنيا كلها؟ تلك الهجمة الشرسة المستبدة بدأت بالفعل أمام ناظري الآن؟
أراها تقترب، كل زوجين من ذكر وأنثى يقتحمان الأجواء أمامي، مندفعة غير عابئة بشيء، أخالها تكاد ترشق حوائط الشقة الخارجية. ما أدهشني أن رأيت البعيد منها يقترب ويرسو باطمئنان عجيب، لا يهاب نظراتى ﺇليه ولا ذراعاي الممدودتان تهشان ما تستطيعان، حتى لا ترتطم بوجهي، على ضآلة المساحة التى حجبها جزء هين من جسدي ذلك الفراغ المحاط ببرواز الشرفة المعدني؟
فورا يبدأ المشهد، فأري ما يدهشني، وكل يوم يتجدد مع ﺇصرار عامض وغريب يتكرر، حتى طغت سمة جديدة.. رأيتها بدأت تتصارع معا، كل يسعي بقوة أن يجد لمخالب القدمين موضعا يرسو عليه ﺇلى جوار قارورتين فخارتين فارغتين مما احتوتها من قبل.
كنت حتى زمن قريب أشترى ما يشبعها من الأرز والذرة، ولما ﺇرتفعت الأسعار لم أعد حريصا على ﺇتمام اللعبة. للطيور رب يطعمها ويسقيها، أما أنا..؟ يا الله، باتت الطيور على حال المنافسة مع أمعائي؟
رويدا تابعت ﺇكمال اللعبة، لم أعد حريصا على الاستيقاظ مبكرا، أغسل القارورتين، أعيد ملأها بما أخزنة من وافر الأرز والذرة، ولا مانع بشىء من القمح والفول ﺇذ تناسبني أسعارها..
عفوا أو عمدا لم يغفل الحمام وبقية الطيور موضعها، آملين أن أغفل عن قراري بعدم توفير طعامها في القارورتين.. وعمدا لم أعد منتبها لسلوكها الذي كان يضحكني حينا ولا يبكيني أبدا، حتى غلبني الشجن الغامض وأنا أرجو أن يكفيني ولا تسقط الدمعات المعلقة فى المآقي.
كنت لو وقفت فى الشرفة وبان للحمام تلصصي عيانا بيانا، أفقد كل شىء.. لن تبقى المغازلة بالمنقارين لذكر وأنثى هناك، ولا صراع بالمنقارين أيضا بين ذكرين على أنثي تنتظر الفائز، يبدو أن اﻹناث يفضلن الأقوياء الطغاة.. منذ ذلك اليوم فقدت الثقة في ﺇناث العالم، أدركت سر خيانة من كانت حبيبتى؟!
لا يخلو المشهد من ﺇقتحام فرد حمام، ليس بأكبرهم حجما ولا منقارا، لكنه أكثرهم نزعة للسيطرة واﻹمتلاك، يغول على القارورة وحده، يزيح من رمى برأسه في فتحتها، يدفعه بجناحيه، يلتهم كل ما بداخلها وحده.. غلبني تفسير بسيط ومباشر وسهل لسلوك المنتفخ الأوداج محتقن البشرة رئيسي فى العمل؟!
شاءت الأقدار والظروف غير المواتية، أن أعيش لعبة جديدة مع الحمام.. كم تعلمت منها، ووصلتني الرسائل، تعلمت حيلة جديدة، أرصدها من خلف خصاص باب الشرفة، على أمل رؤيتها يفسرون لي أسرار الحياة كلها، حتى ولو كانوا لا يعنون ما يفعلون، وأنا من يفسر ما أراه معهم على هواي من غير علم عندي عن لغة الطيور، ولا حتى بالقدر الذي امتلكته أمي من قبل فى البيت القديم.
شاركتني الطيور أمل معاودة امتلاء القارورتين بالحبوب ثانية، لم يختفوا طوال الوقت، لم تغفل التلصص علي ومتابعتي.. تبعث بعدد منها للتجسس على القارورتين، لعلها تمتليء فتسرع وتجبر الأسراب المنتظرة؟
يبدو أنها على أمل امتلاء القارورتين، وأنا أشاركهم الأمل أتعشم، وحتى يغفروا لى قلة حيلتي. عزائي أن رأيتها مع النشاط والخفة قادرون على أن يحطوا فوق أي صندوق حديدي لجهاز تكييف آخر، وما أكثرها فى الحي كله، لن يعدموا وجود من هم أكرم مني، أعني من هم أيسر مني حالا.. لم يضعهم قى مواجهة مع ﺇحتياجات أمعاءه وأمعاء من يعول!
******
فلما اعتدت التلصص من خلف خصاص الشرفة، على أمل رؤية الحمام كما كانوا .. يتغازلون ويلعبون ويتصارعون، خبرت ما لم أدركه من قبل.
لمحت قلة أعداد الحمام القادم حتى القروراتين الفارغتين، وفهمت أنها المقدمة؟ كما مقدمات الجيوش المتحاربة للاستطلاع والتجسس! وﺇن بقيت بعضها ولا تبرح المكان لساعات، على أمل أن أنتبه ﺇليها وأعيد ملء القارورتين بحبوب الذرة والأرز.
سعدت لأنها لم تفقد الأمل، راهنت الزمان على صبري وصبرها، لعل الزمان يجود بما يرضيني ويرضى الحمام. لا أنكر أنني لعنتهم فور تكرار اختفاه عدد كبير من بينهم، ولكنني أقنعت رأسي بممارسة ما دعتني ﺇليه القلة التى داومت الحضور، مع هديل حائر لا ينقطع.
مداومة فرار الحمام واصرار البعض على البقاء ﺇلى جوار شرفتي، كانت له فتوحات
لم تخطر على بالي من قبل.. لم أكن أعلم أنه يُصدر أصواتا متنوعة، ليس الهديل فقط.. سمعته والشخير، لفت انتباهي بشدة صوت الصفير، للتواصل والتبليغ عن الخطر.. هذا ما تأكدت منه واكتشفته جليا، عندما رأيت الغراب يطارد مجموعة منها، وعندما سمعتها تنقر في أي شىء، يرجون حبة أرز من شدة الجوع، وأيضا عندما يتصارعون من أجل حبة شاردة ملقاة على أرضية الشرفة؟
أجزم، قد يصدر صوت خشن في حالات الخوف والتهديد.. ولرفرفة الأجنحة صوتها المتنوع، سريعا للدفاع عن النفس والاستغاثة، وهينا في زمن الغزل مع أنثاه. أصبحت خبيرا في أصوات الحمام، أهم ما وصلني وفهمته، خبرته حين التبليغ عن الخطر، كما التعبير عن المشاعر.. بينما الشخير يعبر عن الخوف والتوتر.
أكثر ما لفت انتباهي، أن تغلب صوت الصفير عليه خلال الفترة الأخيرة. أظنه قلقا، مع ذلك لم يغفل الدعوة للتزاوج وشد انتباه أنثاه بالصفير أيضا. ما آسفت له؛ فضولي لم يرشدني طريقة ما للتفرقة بين صفير القلق وصفير الرغبة واللذة.
خبراتي المتجددة جعلتني أجزم أن صوت الصفير أكثر الأصوات للتواصل مع رفاقه، بعد أن فقد طعامه من القارورتين طرفي، يبدو أنه يستشعر خطرا ما.. وأن الكلام عن صوت الحمام ليس من باب الفضفضة، كما قهمت من نبوءة الحمام لي؟
لعلها في زمن الرغد وتوافر مأكلها ومشربها كل صباح، صفيرها يحذرني، بدا وكأنه يخبرني أن أنتبه لخطر ما قادم ولا أدري هويته، ولا زمانه ومكانه، ولا شدته وقسوته؟ أربكني صفير الحمام الملعون، أثناء الرغد ومع قلة الحيلة؟
لعنتها، ولعنت قلة حيلتي.. عرفوني وقت الرغد ورفضوني وقت الضيق. أراها
تكيد لي كيدا مريرا؟
********
كان لزاما علي القراءة والفحص حول ذلك الكائن المدعو "حمام" وقد وضعوه رمزا للسلام والطمأنينة، بينما بسبب علاقتى معه كشفت السر كله، لم أره ولم أعرفه مسالما ولا يبعث الطمأنينة أبدا.. تاريخه كله معي منافسا لي حتى في طعامي.. أصبح ندا، ﺇما أوفر له طعامه فى القارورتين، ﺇما يتولانى بصفيره ونبؤته الملعونة!
تري كيف أتمكن منه، ماذا فعل الأجداد معه وضده؟
فورا خبرت حيلة جدي الأول، فرحت. هو اﻹنسان الأول الذى عاش على الفطرة وحياة البراح بلا جدران، فضل أن يتصارع مع كل الكائنات، حتى يملأ جوفه ويشبع، حتى ينال لذته مما يشتهي بلا عوائق تمنعه ولا محاذير.
ما كان يفعل ﺇلا أهون الهين مع الطيور، أن يتابعها في السماء، فور أن تهبط على الأرض في موقع ما، حتما سوف يجد ما يأكله من حيوان مقتول أو هلك منذ قليل، أو حتى شارف على الهلاك؟ لا يلبث يقتحم الغنيمة ويشارك الطيور مأكلها.. قبل أن يبرح المكان لا ينسى أن يرددها:
"شكرا يا طيور السماء.. نلتقي مرة أخرى غدا"
لما بلغت تلك المرحلة من التفكير ﺇبتسمت، عشت درجات الضجك كلها: التبسم، الإهلاس، الافترار والانكلال، الكتكتة، القهقهة، القرقرة، الكركرة، الاستغراب ثم الطخطخة والإهزاق حتى بلغت الزهزقة التى تماثل القهقهة!
عدت وتذكرت ما فعله رجال البريد القدامي ، سخروها لنقل رسائلهم وما خف حمله بين أطراف الممالك، حتى كان أول أوامر المنتصر المظفر الظاهر السلطان "بيبرس" فور فتح القدس وتحريرها، تشييد محطات تربية وتدريب الحمام بين القدس والقاهرة لنقل الأخبار وتبليغ الأوامر السلطانية..
فيما بعد فضلوه على موائدهم العامرة، الفقس الصغير المحشو بالأرز والفريك، والناضج المشوي مع الطواجن.. أخبرني جاري صاحب "الغية" كم كان له من مغامرات مع الحمام، صغيره وكبيره، فورا ورد السؤال والتساؤل:
ترى هل كثرة الحمام الوارد فى تلك الأيام المقفرة بسبب أن فك الصديق حوائط "الغية" التى كانت تضم الكثير والكثير من الحمام، حتى كاد يغزو شقتي. فورا رأيت الاحتمال المحتمل وعرفته، بلغه وجع ﺇرتفاع أسعار الحبوب.. عدت ﺇلى سابق عهدي مع مراحل الضحك كلها.
.. انتبهت، رأيت بعض الحمام بدأ يعاود مجيئه فرادى، يرسو فوق الصندوق الحديدى، لم يفقد الأمل بعد، يبقى الهنيهة وما يلبث أن يختفى. ما جعله يتوقف أحيانا وجعلني أنتبه، سمعت صوت صوصوة أشبه بالصراخ حتى يكف البوح بألمه.. كشفت عن وجهي توجهت برأسي أفحص ما خلف الصندوق الحديدي، فاذا بي التقط مشهد بقايا الزغب من الريش الهين لزغاليل قتلت منذ قليلّ، افترسها الحمام المسالم أبدا؟!